|
المعارضة الوطنية في الدولة العصرية
شاهر أحمد نصر
الحوار المتمدن-العدد: 3327 - 2011 / 4 / 5 - 22:51
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الدولة، كما هو معروف، نتاج التطور التاريخي للمجتمع والسلطة، تلك السلطة التي تنظم العلاقات الاجتماعية بين الناس في المجتمعات البشرية والتي تشكلت مع انتقال الناس من شكل الوجود في مجموعات إلى مجتمعات ذات سلطة. ويعيد علماء الاجتماع تاريخ وجود الشكل الجنيني من الدولة الحديثة إلى القرن التاسع عشر، واستكمال العناصر التي تكونها في القرن العشرين. فالدولة هي صيغة حديثة وشكل من أشكال تطور تنظيم المجتمعات.
ومن المعروف تاريخياً أنّ الصراع الفكري حول أنظمة الحكم والسلطة تركز بين مذهبين أساسيين:
ـ مذهب الحكم المطلق: الذي يرى في الحاكم استمراراً لسلطة الله على الأرض، ويستند في أيديولوجيته إلى العهد القديم من الكتاب المقدس، الذي أسس للنظام الأبوي البطريارخي Patriarchalism ، ووجد في السلطة الشمولية، والمطلقة استمراراً له.
ـ مذهب " العقد الاجتماعي Social Contract : الذي يفسر نشأة الدولة، والسلطة على أساس تعاقد بين الأفراد كجماعة، أو بينهم وبين الحكام... ويمثل ذلك نقلة نوعية باتجاه الحكم الديموقراطي، حكم الشعب الحر..
ومما لا شكّ فيه أن مذهب العقد الاجتماعي ثمرة من ثمار العلمانية، والعلمانية شرط ضروري لتحقيقه.
ولقد عانت المجتمعات البشرية تاريخياً قبل الوصول إلى الصيغة العصرية للدولة من جور السلطات المطلقة (الاستبدادية)، فأخذت تبحث عن صيغ جديدة للسلطة العادلة، ويزعم أنصار الدولة المعاصرة أنّها أفضل صيغة للسلطة العادلة، لأنّها تشرك مختلف شرائح المجتمع في بنيانها، سواء ضمن مؤسسات السلطة الحاكمة، أو من خلال سلطة المعارضة... ولتكون السلطة في الدولة العصرية شرعية يجب أن تمتاز بمجموعة من الصفات والميزات... وقبل التطرق إلى هذه الصفات سنتعرف إلى ميزات السلطة المطلقة، للمقارنة بين السلطتين، ومعرفة أفضلية الدولة العصرية.
السلطة المطلقة:
يرى كثيرون من المفكرين، والباحثين أن مختلف المجتمعات البشرية حُكِمَت في مراحل تاريخية مختلفة من قبل سلطات مطلقة (استبدادية)، وأن السلطة المطلقة هي التي هيمنت في مختلف بقاع العالم، ومراحل تطوره التاريخية، وقلما عرفت المجتمعات البشرية السلطة العادلة... فما هي ميزات السلطة المطلقة، وما هي عناصر قوتها، وهل هي مرتبطة بعرق، أو قومية، أو طائفة... وهل تستمد وجودها، وعناصر قوتها من طائفة، أو قومية معينة في المجتمع؟ وكيف السبيل لتنعم المجتمعات البشرية بالسلطة العادلة؟! وهل توجد سلطة عادلة وما هي ميزاتها؟
السلطة المطلقة نقيضة الحرية. إنّها تستغل كافة جوانب الحياة والنشاط الاجتماعي، والديني، والاقتصادي، والسياسي لتعزيز سطوتها؛ وهي مطلقة الصلاحيات، تكتسب، غالباً، عن طريق الانقلابات... يشمل العسف والظلم في ظل السلطة المطلقة جميع مجالات الحياة، الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، عن طريق توحيد القوى المستفيدة منها: السياسية، والاقتصادية، والمالية، والدينية والعسكرية، وتسخيرها لخدمتها، وحمايتها، وفي الوقت نفسه تشتيت وإضعاف القوى المعارضة لنهجها.
وتمر عملية بناء السلطة المطلقة بمراحل متعددة؛ تبدأ بالإجراءات المناهضة للحرية والديمقراطية، مثل إيقاف العمل بالدساتير الديمقراطية التعددية التداولية، وسن دساتير تلائم السلطة المطلقة، وحل الأحزاب، أو تحديد مجالات نشاطها، والهيمنة على وسائل الإعلام والصحافة.. وسن القوانين والأحكام التي تعزز هيمنتها القانونية، والتشريعية على المجتمع، والحكم بموجب قوانين استثنائية، في ظل مما يسمى بحالة الطوارئ، ويترافق ذلك مع إجراءات على الصعيدين السياسي، والاقتصادي تؤمن لها جميع وسائل الهيمنة، والتدخل في شؤون الاقتصاد والمجتمع، تساعدها في ذلك، غالباً، الهيمنة على قطاع الدولة، الذي يسمى في بعض البلدان بالقطاع العام، والذي يعزز قوة السلطة، ويجعل قبضتها، كما يقول خلدون النقيب تمتد "إلى تحديد أرزااق الناس، وماذا يأكلون ويشربون، حيث تصبح المواجهة بين الدولة، والمواطنين مواجهة معيشية يومية متصلة، وغير متكافئة"،. (خلدون حسن النقيب، "الدولة التسلطية في المشرق العربي"، ص202). و تلغي السلطة المطلقة، على الصعيد الاجتماعي، مؤسسات المجتمع التي قد تشكل خطراً عليها، وتبادر إلى تشكيل بنى اجتماعية، وجماهيرية، ونقابية، وتقيد نشاطها بالقيود، والقوانين، وآلية الانتخاب، التي تجعلها خاضعة باستمرار لمراقبتها، والحد من نشاطها... ولا تستثنى من ذلك المؤسسات الدينية، وكما يقول صادق جلال العظم؛ فإن كل نظام حكم عربي، لا تنقصه المؤسسة الإسلامية التي تفتي بأن سياسته تتفق مع الإسلام. (انظر: صادق جلال العظم، "نقد الفكر الديني" ـ بيروت: دار الطليعة، 1969، ص 45-46( .. وهكذا تبنى ما اصطلح على تسميتها "الدولة الأمنية" التي تقوم على القوة والعنف، وتستمد أسباب استمرارها من القوة... (د. طيب تيزيني ـ من ثلاثية الفساد إلى المجتمع المدني ـ دار جفرا دمشق ـ حمص ـ 2001)
وتمتاز المجتمعات التي تحكمها السلطات المطلقة بالركود، والأزمات الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والتفاوت الكبير في توزيع الدخل الوطني.. ووجود فئة طفيلية فاسدة قليلة تمتلك غالبية الثروات الوطنية من أراضٍ وعقارات، وأموال، مع الجاه، والسطوة، والنفوذ، وتتحالف مع السلطة السياسية...
السلطة في الدولة العصرية:
تطور مفهوم السلطة، وآلية الحكم في الدولة العصرية، وأصبحت السلطة تحتاج إلى مجموعة من الصفات، والشروط، كي يعترف بها، ولكي تمتاز بالشرعية، والديمومة، وتستطيع البقاء.. ومن أهم هذه الصفات: الرضا والقبول من أبناء المجتمع، والتداول السلمي لها، والمساواة القانونية والحرية، لتبنى دولة لجميع أبنائها، في بنية سياسية تعديدية وحرة. ويرى أحمد زكي بدوي أنّ السلطة "تأخذ طابعاً شرعياً في إطار الحياة الاجتماعية، والسلطة هي القوة الطبيعية، أو الحق الشرعي في التصرف، أو إصدار الأوامر في مجتمع معين، ويرتبط هذا الشكل من القوة بمركز اجتماعي يقبله أعضاء المجتمع بوصفه شرعياً، ومن ثم يخضعون لتوجيهاته، وأوامره وقراراته". (انظر:
Ahmed Zaki Badawi, A Dictionary of the social sciences English –
French – Arabic with an Arabic – English Glossary and a French – English Glossary (Beirut: Librairie du Liban, 1978)
في حقيقة المعارضة في المجتمعات البشرية
بينا أن من أهم صفات الدولة العصرية: رضا وقبول أبناء المجتمع بسلطتها، والتداول السلمي لها، والمساواة القانونية والحرية، في ظلّها لتبنى دولة لجميع أبنائها. ولمّا كانت التعددية والتداول السلمي للسلطة من الصفات الضرورية لوجود الدولة العصرية الحية القابلة للحياة والتجدد، فإنّ ذلك يتطلب بالضرورة وجود قوى وتنظيمات تتداول السلطة فيما بينها، وهذا يحتم، بدوره، وبالضرورة وجود قوى وطنية تستلم وتنظم السلطة، وقوى وطنية أخرى خارج السلطة تعارضها، والدولة العصرية تؤمن الحق للقوى المعارضة في الوصول إلى السلطة أيضاً...
و يتطلب تحقيق هذه الشروط وجود بنى وأحزاب سياسية متنوعة ومتعددة تضمن مراقبة عمل السلطة وتتبادل السلطة فيما بينها، كيلا تبقى حكراً على حزب واحد أو مجموعة من الأحزاب...ولكي تتم مراقبة عمل السلطة بشكل سليم لا بد حكماً وموضوعياً من وجود قوى معارضة تتمتع بكامل ميزات القوى الحاكمة من منابر إعلامية وحرية الاحتكاك بالشعب للتعرف إلى نبضه الحقيقي، ولها كامل الحق في استلام السلطة عبر وسائل انتخابية شفافة وقانونية سليمة، ويرتهن مستقبل أي مجتمع بدور، ونشاط ودينامية البنى، والتنظيمات والأحزاب، والمؤسسات، والأفكار التي تنسج بنيانه. كما أنّه من الضروري التجديد باستمرار في بنية، ووظائف هذه البنى، وفي الأفكار، والأهداف التي يسعى الناس لتحقيقها، كي يتطور المجتمع بشكل سليم، وغير مشوّه؛ فالمجتمعات ذات التنظيمات، والمؤسسات الراكدة المتخلفة المتكلسة، هي مجتمعات راكدة... وستحل الأزمة في البنى الراكدة عاجلاً، أم آجلاً، طالما لم تعالج أسباب ركودها، إذ أنّها تحمل في أحشائها، وتحت السطح قوى كامنة غير مرئية ثقتها مفقودة بالأشكال المحيطة بها من علاقات، ومؤسسات، وتنظيمات... فظهور المعارضة في المجتمعات البشرية مسألة موضوعية، لا يمنع وجودها عدم اعتراف الحكام وبطانيتهم بها وبالحقائق الموضوعية...
الويل لأمة لا تنمو فيها المعارضة بشكل ديمقراطي متحضر!
من الضروري التمييز بين الدولة والوطن، من جهة، وبين السلطة وأنظمة الحكم، من جهة ثانية. جميع أبناء الوطن، الذين يعملون لإعلاء شأنه، ورفعته، وسموه وحماية وجوده، هم وطنيون، بغض النظر عن موقفهم من أنظمة الحكم... لا يمكن وصف أي مواطن لمجرد معارضته لنظام الحكم بأنّه غير وطني.
إنّ الغيورين على شعوبهم ومستقبل أبنائهم لا يفكرون في اللحظة الراهنة فقط، بل يخططون لمستقبل الأجيال القادمة... ولما كانت الأجيال المقبلة ستعيش في ظروف غير الظروف الحالية، فمن المنطقي أن نهيأ لها إمكانية ظهور بنى غير البنى السائدة حالياً تنسجم مع متطلبات المرحلة المقبلة... ومن غير المقبول أن يهيمن فكر سياسي ومفرزاته التنظيمية لمدة تزيد عن قرنٍ من الزمن.. هذه حقيقة عرفها الأولون، ولخصها علي بن أبي طالب في قوله المأثور: لا تربوا أولادكم على ما نشأتم عليه، لأنهم ولدوا لزمن غير زمانكم... فإبقاء الفكر نفسه، والبنى ذاتها جاثمة على صدر الشعوب لأجيال وأجيال، يلعب دوراً معرقلاً في تطورها، ويقود تلك المجتمعات إلى حالة مرضية غير سليمة، يمكن معاينتها من خلال آثارها التي تنخر المجتمع، وأهمها:
ـ الركود في البنى، والأحزاب، والمؤسسات الاجتماعية؛ ويتجلى ذلك في الانحطاط، والبيروقراطية على صعيد الجهاز العام، والتوقف عن تحقيق الوظائف الأولية، وظهور البنى الموازية للتعويض عن عدم فاعلية تلك البنى الرسمية، واستشراء الفساد في التنظيمات السياسية...
ـ تهميش غالبية أبناء المجتمع ولا سيما الشباب سياسياً واقتصادياً واجتماعيا...
ـ يقود ضعف مراقبة المؤسسات الاجتماعية إلى عدم محاسبة منتهكي القواعد الاجتماعية، والتنظيمية، والقانون، وبالتالي إلى الحالة العامة من اللامسؤولية..
ـ وينعكس الضعف الوظيفي للأحزاب، والمؤسسات الاجتماعية المترهلة والمعمرة لفترة طويلة دون تجديد في بنيانها، وفكرها، على المناخ المعنوي في التنظيمات، وفي المجتمع.
ـ يحدث تشوه المؤسسات، وركودها توتراً اجتماعياً نظراً لانسداد الأفق، وانعدام أي مجال للأمل.
وتولد هذه الحالة رغبة، ونزوعاً، وميلاً في المجتمع لاستبدال البنى، والتنظيمات، والعلاقات القائمة بأخرى غير رسمية، تأخذ أحياناً طابعاً دفيناً، وقد تتصف باللاايجابية.
ويؤدي الركود في المجتمعات التي تهيمن فيها قطاعات الدولة غير الديناميكية إلى سلسلة من التغيرات في سلوك الناس، يتجلى أهمها فيما يلي: أولاً: استشراء الفساد، ونهب الملكية العامة، وملكية الدولة بمختلف الطرق، والأساليب، بما فيها الاستغلال الفظ لقصور القوانين، والالتفاف عليها، واستخدام الثغرات فيها لتبرير هذا النهب... ويترافق ذلك مع تراقص القادة النقابيين، والحزبيين، وجهاز المراقبة حول الإدارات لتغطية سلوكها بما يضمن المكاسب، والمصالح الشخصية...
ثانياً: الشراء المباشر للمناصب، وللوجوه التي تستطيع بمختلف السبل الحصول على مكاسب، وانتشار حالة الرشى، والاستخدام غير النزيه للسلطة.
ثالثاً: البحث عن قنوات أخرى لتحسين الوضع المادي: منها شغل منصب مربح، وهنا تأخذ تلمع بلون باهر علاقات القرابة، والعائلة، والوساطة والمعارف المربحة، وأفضلية الانتساب العشائري... مما يسعّر الخلافات في المجتمع.
رابعاً: يلجأ كثير من المواطنين إلى القيام بأعمال إضافية بطرق قانونية وغير قانونية، مما يرفع مداخيل جزء من المواطنين، وفي الوقت نفسه يؤدي إلى زيادة حدة التشوهات الاجتماعية، والفروقات في مستوى حياة الناس، ويثير عدم الرضى، والغضب، والحسد انتشار المكائد، والدسائس، وتنتشر السرقات، والجريمة، وتتدنى وتنحط الأخلاق، وينتشر الإدمان على المخدرات، وغيرها من الآفات الاجتماعية...
ـ القضاء على أية بوادر معارضة للفساد الحقيقي الذي يبتلع خيرات البلاد، بحجة حالة الطوارئ التي تعيشها البلاد، مما يراكم الأمراض، ويوهن القوى الوطنية الغيورة... ويقود غياب المعارضة إلى آثار كارثية على المجتمعات البشرية، وقبل التطرق إلى تلك الآثار سنلقي نظر على طبيعة المعارضة في ظل السلطات التي لا تعترف بوجودها.
كيف يمكن التعرف إلى حجم المعارضة؟
في المجتمعات التي تمنع فيها أشكال الدفاع عن الحقوق، ودفع الظلم، كالتظاهر، والإضراب.. تبدع الشعوب أشكال إضرابها المختلفة، والتي تتجلى بمواقفها العملية في مختلف ميادين الممارسة اليومية، والعكوف عن تنفيذ الأوامر... فالمعارضة الحقيقية إذا لم يتح لها الإعلان عن نفسها بشكل ديمقراطي متحضر، تكمن في أعماق المجتمع والشعب، الذي تتحول غالبيته إلى معارضة تعبّر عن ذاتها بأشكال متنوعة دفينة، وتتحين الفرصة المناسبة لرفع العبء الثقيل عن كاهل الشعب... ماذا يطلق في مجتمع لا تصل فيه نسبة الاقتراع في أية انتخابات، على الرغم من مختلف أشكال الترغيب، والترهيب، عن 15ـ20% ، (ماذا يطلق) على النسبة المتبقية والتي تزيد عن 75% من الشعب؟!
توجد معارضة وطنية جدية معترف بها في كل مجتمع سليم معافى، ولها كامل الحق في الوصول إلى الحكم بالوسائل القانونية الشرعية والديمقراطية.. والنظم السليمة تفتخر بمعارضتها... وتبقى المعارضة التي تعلن عن نفسها في الأنظمة الشمولية، في غالب الأحيان، ونتيجة تشوه مختلف جوانب الحياة في المجتمع متأثرة بالمناخ العام السائد، وتتشابه أحياناً، بل تتماهى مع أنظمة الحكم، ليصبح الحكم وبعض المعارضة وجهين لعملة واحدة، بل تجد أحياناً قوى في المعارضة أكثر تخلفاً وهزالاً من الأنظمة الحاكمة، ويصب ذلك كله في مجال إضعاف المجتمع وخدمة أعدائه. وتتجلى المعارضة في الاتجاهات التالية:
آ ـ الاتجاه الديني:
مع حظر السلطات الحاكمة لمختلف أنواع المعارضة، وعدم السماح لوجودها السليم والصحي، ومع هيمنة التربة المناسبة لضعف وتائر النمو الاقتصادي، واستشراء الفساد... يضطر الناس في هذه المجتمعات للبحث عن وسائل المناعة، فلا يجد بعضهم سبيلاً إلاّ المجال الديني... فتنمو تيارات من المعارضة في الأوساط الدينية متبعة أساليب التقية... وتدفع هذه السلطات شعوبها إلى أحضان مختلف التيارات الدينية، وتوهم نفسها أنّها تسيطر عليها من خلال بعض المخبرين الذين تدسهم في صفوفها... في الوقت الذي تأخذ فيه تلك التنظيمات تتعامل بذكاء مع السلطات الحاكمة متحينة الفرصة المناسبة التي يخلقها التراكم الاجتماعي لتتبوأ المكانة التي تصبو إليها، بل تجدها تحقق الكثير من أهدافها في ظل هذه الأنظمة، من خلال بعض أشكال حكومات الظل.. ومن محاسن بعض ممثلي هذا الاتجاه تبنيهم النهج السلمي في المعارضة، ونبذه للعنف... وهذا لا ينفي احتمال وجود من يؤمن بالخيارات الأخرى في الأوساط المتدينة... ويلعب تطور الوضع الاقتصادي، والسياسي دوره في التطورات اللاحقة لهذا الاتجاه..
ب ـ الاتجاه العلماني:
تعبر عن الاتجاه العلماني المعارض، غالباً، قوى وتنظيمات انفصلت عن الأحزاب الحاكمة، ولم يسمح لها أن تمارس نشاطها بشكل قانوني وعلني، ولم تستطع أن تتواجد في الوسط الاجتماعي بالشكل الصحيح لأسباب مختلفة، فضلاً عن وجود شخصيات ضمن الأحزاب الحاكمة تطرح، وتطالب ببعض القضايا التي تتبناها المعارضة، كالدعوة إلى التغيير والإصلاح السياسي، ومحاربة الفساد، وإطلاق سراح سجناء الرأي، وإلغاء حالة الطوارئ، وإصدار القانون الديمقراطي لتشكل الأحزاب... يضاف إلى ذلك عشرات المثقفين والباحثين الغيورين على مصلحة البلاد، الذين يقدمون الدراسات، والاقتراحات لمعالجة الأزمات الاقتصادية، والسياسية المعيقة لتطور بلادهم السليم، كما توجد الرغبة في الإصلاح والتغيير لدى بعض المهتمين من رجال الأعمال، ومن له مصالح اقتصادية في معالجة أسباب ضعف النمو الاقتصادي، والتشوه الحاصل في البنية الاقتصادية الاجتماعية نتيجة استشراء الفساد...
جـ : المعارضة الكامنة:
تبدع الشعوب، كما بينا، أشكال إضرابها ومعارضتها الخاصة بها، والتي تتجلى بمواقفها العملية في مختلف ميادين الممارسة اليومية، فالمعارضة الحقيقية إذا لم يتح لها الإعلان عن نفسها بشكل ديمقراطي متحضر، تكمن في أعماق المجتمع والشعب، الذي تتحول غالبيته إلى معارضة تعبر عن ذاتها بأشكال متنوعة دفينة، وتتحين الفرصة المناسبة لرفع العبء الثقيل عن كاهل الشعب... وكما تبين التجربة: إذا أردتم معرفة حقيقة المعارضة، فانصتوا إلى أنات الشعوب في لحظات الصفاء الوجدانية..
في نشاط المعارضة:
ومن الطبيعي أن تحصل أخطاء في عمل ونشاط المعارضة، خاصة إذا لم يسمح لها أن تعمل بشكل قانوني سليم، فتظهر الآراء المتطرفة، والصبيانية، بل تعلو أصوات هؤلاء، ويستغل المتضررون من وجود معارضة بناءة هذه الأجواء كي يشوهوا سمعة المعارضة، ويألبوا السلطات للانقضاض عليها..
ومن المعروف أنّه في الأجواء التي يدجن فيها العمل السياسي السليم، ينكفئ أبناء المجتمع بشكل عام عن العمل السياسي، ويزداد انكفاؤهم، مع استمرار الظروف السابقة نفسها، ومع تسعير الحملة على المعارضة، ومضايقتها، وزج بعض أعضائها في السجن... فسبب انكفاء الشارع عن المعارضة في أية دولة، لا يكمن في المعارضة نفسها، بل في آلية التعامل مع العمل السياسي في تلك الدولة، والخوف من وجود المعارضة بشكل عام. وهنا يتبادر إلى الذهب سؤال: من يخاف من المعارضة، ولماذا؟!
مع الإقرار بحتمية وجود خلل وضعف في عمل أية معارضة، لا بدّ من الاعتراف بأن طبيعة بعض أنظمة الحكم، وغياب قوانين العمل السياسي الديمقراطي مسئولة أيضاً عن الثغرات في عمل المعارضة.. ولمعالجة هذه المسألة، من الضروري إصدار القوانين اللازمة التي تحكم عمل المعارضة والحكومة، وليس التشفي وإلغاء المعارضة، وزج بعض أعضائها في السجون..
يقود عدم السماح للمعارضة أن تتشكل في المجتمع بشكل قانوني سليم، إلى ظهور معارضات بعضها مشوه في الداخل، وفي الخارج.. وتمنح هذه الحالة عناصر القوة للقوى المعادية خاصة الخارجية منها، وتساعدها في أن تجد أوساطاً تتغلغل من خلاها لتحقيق مآربها المبيتة... فالمسئول الأول عن وجود المعارضة المشوهة في الداخل والخارج، هو أنظمة الحكم، والبنية السياسية التي لا تسمح بالتطور، والنمو السليم والقانوني للمجتمع بمختلف تلويناته الموالية، والمعارضة.. أجل إنّ أنظمة الحكم تتحمل قسطاً أساسياً من المسئولة عن الشكل البائس الذي تظهر فيه المعارضة. وفضلاً على ذلك فقد بينت التجربة التاريخية أن قمع المعارضة وعدم السماح لها بالتشكل السليم يحمل مخاطر حقيقية على المجتمعات البشرية وعلى وجود الدول واستمرارها.
أخطار حظر المعارضة، وأثر ذلك في انهيار الدول
عرفت البشرية نماذج مختلفة من أنظمة الحكم التي لم تعترف بالمعارضة، بل قمعت كل صوت ينتقد السلطات الحاكمة، بغض النظر عن مبعث ودوافع هذا الصوت.. من هذه النماذج الاستبدادية، على سبيل المثال، النظام الاستبدادي القيصري في روسيا، ونظم الحكم التي أطلق على الدولة فيها لقب الدولة لكل الشعب State of Whole people.. الذي شمل أنظمة الحكم خاصة في الاتحاد السوفيتي سابقاً وألمانيا، وإيطاليا، وأنظمة الحكم الديموقراطية الشعبية في أوروبا الشرقية، على سبيل المثال، بالإضافة إلى بعض أنظمة الحكم التي انتهجت نظام حكم نفسه، ومن حذا حذوها على سبيل المثال، حيث تماهت الدولة مع السلطة ونظام الحكم، وابتلع الجهاز الحاكم، باسم الحزب القائد ـ الذي هو أحد ضحايا هذا الجهاز ـ جميع مؤسسات الدولة.. وعد أي شكل من أشكال المعارضة خيانة، جرى قمعها بكافة السبل، وتمت تصفية قادتها، أو زج بهم في السجون...
تحطم الأنظمة الاستبدادية، والأنظمة الشمولية المعارضة، وبدلاً من التمعن ملياً في الواقع الموضوعي الذي يعبر عن أزمتها وأزمة المجتمع، تنظر إلى نفسها عبر مرآة المعارضة المهشمة والمشوهة، فترى قوة لا بديل لها...
قد تستطيع هذه الأنظمة ـ التي لا تعترف بوجود المعارضة في مجتمعاتها، بل تقمعها وتعمل جاهدة على إلغائها ـ تحقيق إنجازات معينة في فترة تاريخية محددة، وهذا ما حصل فعلاً في مراحل تاريخية محددة في روسيا القيصرية التي حصل فيها بعض التطور، كما استطاع النظام السوفيتي أن ينقل روسيا من دولة إقطاعية متخلفة، إلى دولة صناعية عظمى نافست أعظم الدول على سطح الكرة الأرضية في تطوير، وامتلاك الأسلحة المتطورة، وغزو الفضاء... كما أحدثت بعض بلدان الديمقراطية الشعبية تطورات مهمة في بلدانها في مجال البنية التحتية والتعليمية.. ولكن السؤال الكبير والمصيري يبقى دائماً هو:
ما مستقبل هذه الأنظمة، والبلدان والشعوب المحكومة من قبلها؟
ما الذي يحصل لهذه البلدان وشعوبها، في حال تعرضها لصدمات، وهزات عنيفة تضطرها، في ظل تطورات دولية معينة، أن تغير من نهجها وأسلوب حكمها؟!
في محاولة للتعرف إلى مصير هذه الدول وشعوبها، سندرس ثلاث حالات في تطور الدول التي اعتمدت نهج تحطيم المعارضة، وإلغاء أي دور سليم لها في حياة المجتمع، ونظام الحكم؛ هي:
ـ الحكم الاستبدادي المطلق ـ روسيا القيصرية كمثال،
ـ حكم الحزب الواحد ـ الدول الاشتراكية وفي طليعتها الاتحاد السوفيتي كمثال،
ـ بعض نماذج الحكم الديمقراطية الشعبية التي لم تعترف بالمعارضة..
غاية هذا البحث تبيان الوقائع للاستفادة منها، وليس النيل من هذا الحزب، أو ذاك.. وسترد بعض الانتقادات لكثير من الماركسيين، وهذا لا يعني مناهضة الفكر الاشتراكي، وإنما الدعوة إلى النظرة النقدية الضرورية لتلمس الطريق السليم نحو خروج مجتمعاتنا، من أزماتها ومآسيها، التي قد تودي بها إلى التهلكة، مع التأكيد على أنّ طريق المجتمعات البشرية للخروج من مآسيها ـ في رأينا ـ هو الديمقراطية والاشتراكية الإنسانية...
دور الحكم المطلق، الذي يلغي المعارضة، في وصول أقلية المعارضة إلى الحكم:
نتيجة الحكم القيصري الاستبدادي المطلق، الذي قمع المعارضة في روسيا لم تعرف هذه البلاد التعددية السياسية، ومع تفاقم الوضع الداخلي، وعدم انسجام بنية النظام القيصري الإقطاعي المتخلف مع متطلبات النمو، والتطور الاقتصادي، والسياسي، والاجتماعي، داخل روسيا وخارجها، في بداية القرن العشرين، وترافق هذا التفاقم مع الهزائم أمام ألمانيا في الحرب، كان لا بد من حصول تغير في السلطة، وانتقالها إلى قوى جديدة تعبر عن مصالح وضرورات التطور السليم... إلاّ أنّ الحكم المطلق الذي لم يسمح بتشكل المعارضة بشكل سليم، جعل الوضع داخل روسيا شديد التعقيد.. فانهار البنيان القديم، وانتقلت السلطة في شباط (فبراير) من عام 1917 إلى الحكومة المؤقتة التي لم تكن منسجمة فيما بينها، ولم تمتلك الخبرة الكافية لمعالجة التحديات الماثلة أمامها، ولم تسمح الحالة الموروثة عن نظام القمع والاستبداد بالانتقال الهادئ والسلمي للسلطة، ونتيجة الصراع في صفوف الجيش، وداخل الأحزاب التي تنفست الصعداء للتو، كالاشتراكيين الثوريين، والكاديت، والمناشفة، والبلاشفة، ونتيجة لغياب التقاليد الديمقراطية أخذ قادة بعض الأحزاب يعتقدون أنّهم الوحيدون الجديرون باستلام السلطة، ويعبرون عن مدى خيانة الآخرين لمصالح الشعب، والوطن.. أسفر هذا الصراع، البعيد عن التقاليد الديمقراطية، إلى استيلاء البلاشفة على الحكم في تشرين الأول (أكتوبر) من عام 1917، ومن المعروف أنّ البلاشفة لم يشكلوا أغلبية في المجتمع الروسي عند استلامهم السلطة، بل إنّ الانتخابات إلى الجمعية التأسيسية التي جرت في عام 1918، بعد استلامهم السلطة، بينت أنّهم يشكلون أقلية في هذه الجمعية، وبالتالي في المجتمع الروسي.. كما كان للبلاشفة نظرتهم الخاصة إلى الديمقراطية، وبنوا حزبهم على أسس الديمقراطية المركزية، هذه الأسس التي نقلوها لاحقاً إلى البنيان الاجتماعي الاقتصادي...
وساعد في الوصول إلى هذه الحالة أنّ الطبقة العاملة الروسية ـ نتيجة الحكم القيصري الاستبدادي المطلق ـ لم تعرف منذ ولادتها الحياة الديمقراطية، بل سارت أولى خطواتها في ظروف الحكم الاستبدادي، كمثال لأعتى الدول تسلطية لم تسمح لأية معارضة أن تتشكل بشكل سليم، فتمرّست المعارضة البلشفية في مدرسة الاضرابات المحظورة بقوة القانون، وفي الحلقات السرية، والمطالب المحقة غير المعترف بها قانونياً، والصدام مع الشرطة ووحدات الجيش.. ولعل الظروف والمناخ السياسي الذي نشأت فيه البلشفية في روسيا، لعب دوراً في كيفية وصول البلاشفة إلى الحكم، والأسلوب الذي اتبعوه لاحقاً في إلغاء العمل السياسي، ونشاط الأحزاب السياسية المعارضة في روسيا، والآثار الكارثية التي نجمت عن ذلك، وفي ذلك دلالة على الأثر الفظيع الذي يتركه عدم وجود معارضة تعمل بشكل قانوني سليم في أية دولة... ساعد نظام الحكم القيصري المطلق في روسيا الذي قمع المعارضة، ومنع تشكلها بشكل سليم، (ساعد) في وصول معارضة من نوع خاص إلى الحكم هم البلاشفة الذين لم يشكلوا، في حينه، الأغلبية في المجتمع، ولم يعبروا عن تطلعات أغلب الفئات السياسية في المجتمع الروسي.. مما أوصل روسيا، نتيجة شكل الحكم الذي طبقوه، إلى طريق مسدود..
دور نظام حكم الحزب الواحد الذي يلغي المعارضة، في انهيار أسس الدولة:
ومن المؤسف الاستنتاج بأن ذلك النظام الاشتراكي الحلم في الاتحاد السوفيتي حمل منذ ولادته مقدمات وبذوراً تشكل خطراً حقيقياً على مستقبله، يكمن في أساسها قمع المعارضة الوطنية وإلغاؤها... ولا يمكن تفسير ما جرى لاحقاً من انهيار بنية الدولة في الاتحاد السوفييتي، وفرط عقده بمعزل عن تلك المقدمات... فنظام حكم الحزب الواحد الذي يلغي المعارضة، يلعب دوراً كبيراً في انهيار أسس الدول، في اللحظات التاريخية الحرجة.
بينت التجربة أنّ البنية المغلقة، تقود إلى انعزال البلاد وتخلفها عن ركب التطور العالمي، ويعم الركود جميع مفاصل الاقتصاد والمجتمع... ويصل الوضع الاجتماعي ـ السياسي إلى حالة الأزمة الشبيهة بما يعرف بالوضع الثوري؛ حيث "لا البنية الفوقية تستطيع الاستمرار بالحكم وفق الطرق التقليدية القديمة، ولا البنية التحتية تستطيع الاستمرار بالعيش وفق الآليات القديمة"، إلاّ أنّ غياب عوامل القوة الذاتية بالنسبة للقوى الجديدة حاملة التغيير، نتيجة قمع وغياب المعارضة، يزيد عملية الخروج من الأزمة صعوبة، ويهيمن الركود، ويجد الجميع أنفسهم يسبحون في التيار نفسه لعقود، وتلعب البنية الفوقية الحاكمة في الوقت الضائع طويلاً.. فتصبح الدولة مهيأة للانهيار في أية لحظة تحت تأثير التناقضات الداخلية، أو نتيجة أي فعل خارجي مباشر.. وهذا ما حصل في دول أوربا الشرقية... وفي العراق إذ أنّ ذلك النظام قدم كل المسوغات لاجتياح البلاد وتهديم بنية الدولة، وعلى الرغم من المسيرات الحاشدة التي كان يجبر الملايين من السكان على المشاركة فيها للتعبير عن دعمهم له، إلاّ أنّ هذه الملايين التي خرجت لتأييده تحت الحراب، لم تخرج، بعد أيام معدودات من زمن القيام بتلك التظاهرات الحاشدة، للدفاع عنه في اللحظة الحرجة، وفي الوقت نفسه، ونظراً لعدم وجود معارضة منظمة على أرض الوطن، لم يوجد بديل لنظام الحكم في تلك اللحظة التاريخية الحرجة مما قاد إلى انهيار الدولة...
من كل ما تقدم يتبين الدور الخاطئ بحق الأوطان الذي تلعبه سياسة قمع المعارضة ومنعها من التشكل بشكل قانوني سليم، فقمع المعارضة، وإلغاء وجودها من المجتمع والحياة السياسية في البلاد، يقود إلى وجود معارضة ضعيفة مريضة، لها تصوراتها الخاصة والمحدودة حيال قيادة الدولة والمجتمع، التي تتشكل في ظروف غير طبيعية، وقد يعلن بعضها تبنيه الأساليب الديمقراطية، إلاّ أنّ الممارسة العملية التي يعيشها في ظل القمع ستضعف كثيراً من صحة وحقيقة فهمه وممارسته للديمقراطية، ويفقد الدولة من القوى التي يمكن أن تنقذها في اللحظات الحرجة...
المخاطر المحدقة بالمعارضة
من الملفت للانتباه، ومن دواعي الاستغراب، أن يظننّ أحد، أو تنظيم، أو تجمع، أو قوة ما أنّها تمثل جميع قوى المجتمع... لا يمكن حصر قوى المجتمع بفئة، أو تجمع، أو جبهة ما... ومن الضروري اعتماد منهج التحليل الموضوعي عند تحديد مواقف مختلف قوى المجتمع، وإقامة الجسور معها... ومن بين هذه القوى الأحزاب الحاكمة وحلفاؤها...
وتوجد، أحياناً، أخطار في بنية المعارضة ذاتها تهدد وجودها وتطورها السليم... فمن أخطاء المعارضة، شعار من لا يتبعنا ولا ينفذ أوامرنا فهو ضدنا! وإعطاء بعض قادة ومفكري المعارضة الصكوك في الوطنية، والتخوين، فتنتشر في صفوف بعض القوى المعارضة نظرية المؤامرة والتخوين، تخوين كل ما لا ينسجم مع طروحاتها، أو لا يأتمر بأمرها، عندما كانوا يصنفون هذا عميلاً تيتوياً، أو ماوياً، أو تروتسكياً تحريفياً، وذاك عميل للسفارة الأمريكية، وثالث للبريطانية...إلخ، وها هي اللوحة تتكرر.. أي نشاط لا ينسجم مع إرادة بعضهم، فهو موجه ومرتبط وعميل...
ويصبح كل مهتم بالشأن العام يحتاج إلى براءة تثبت وطنيته، وعدم ارتباطه وعدم وضعه في صفوف الخونة الأعداء يحصل عليها ممن ينصبون أنفسهم وكلاء "جميع قوى المجتمع".
إن دلت هذه الظاهرة على شيء، فهي تدل على ضيق الأفق الفظيع، فضلاً عن ضحالة معرفية وعملية كبيرة، تنذر بكثير من المخاوف على مصير الوطن في حال وصولهم إلى مفاصل ما في بنيانه، قبل إجرائهم مراجعة نقدية لفكرهم، ووعيهم، وآليات عملهم.
يتطلب العمل السياسي السليم البحث عن نقاط الاتفاق، والبحث عن مصادر القوة في جميع القوى الديمقراطية، وجعلها قوة مساندة للوطن والشعب، لا أن نختلق الخلافات معها... والعمل على أن تنصب كافة الجهود لتحقيق الهدف الأساسي... من الضروري البحث عن السبل التي تساعد وتسمح للفكر الديمقراطي بالانتشار في صفوف المجتمع. كيف يتم ذلك؟ أيتم من خلال الأوامر. هل تستطيع قوة ما وحدها القيام بذلك؟ إنّ ضيقي الأفق لا يستطيعون نهج سياسة بعيدة المدى...
ومن آثار ضعف المعارضة، ومن الأمثلة التي تدل على ضعف النضج الفكري والنظري في صفوف بعض القوى السياسية، بما فيها المعارضة، تبني بعض الشيوعيين، والماركسيين السابقين من أبناء الطبقات الكادحة، على سبيل المثال، الفكر الليبرالي الجديد، وتأسيس تنظيمات ليبرالية، دون دراية في أبعاد الليبرالية، والليبرالية الحديثة... إن سيادة علاقات السوق الرأسمالية تحتم وجود التنظيمات الليبرالية، ومن حق رجال الأعمال، وأصحاب الرساميل أن يكون لهم تنظيماتهم السياسية التي تعبر عن مصالحهم، ومع تأييدنا لضرورة وجود مثل هذه التنظيمات في المجتمع السياسي، بما فيها الليبرالية، نستغرب أن يقوم أبناء الطبقات الكادحة ببناء هذه التنظيمات، وأن يتطوعوا ليكونوا وقوداً للدعوات التي ستسحقهم مع أبناء طبقتهم...
كيلا تتحول بعض قوى المعارضة إلى حامية للفساد؟!
ويوجد خطر جدي يكمن في ركوب بعض قوى الفساد موجة المعارضة... على المعارضة أن تنتبه جيداً إلى ذلك، إذ تصل بعض الأوساط من خلال العلاقات الشخصية إلى قيادة وإدارة بعض الجمعيات، أو المنظمات المعارضة، وتثير مسائل تحتاج إلى دراسة وتدقيق... من الضروري الحذر الشديد من وقوع المعارضة فريسة سهلة في يد هذه الجهة الفاسدة أو تلك. ومن مظاهر الفساد التي قد تقع فيها بعض فئات المعارضة، تطلعها إلى النشاطات التي تقيمها بعض المنظمات الدولية كمكاسب لها... المعارضة بحاجة دائمة إلى المراجعة النقدية لسلوكها، وشعاراتها، وتجربتها، وبرامجها، كما قلنا، ولا سيما المعارضة التي تنمو في ظروف فاسدة مشوهة...
ومن أشد الأخطار التي تضعف المعارضة تماهيها مع أنظمة الحكم في جميع المواقف..
من كل ما تقدم يتبين أنّ:
المعارضة عنوان الأوطان ومصدر قوتها في دولة القانون العصرية
لما كان الشعب هو مصدر السلطة، في الدولة العصرية، تصبح مسألة تنظيم السلطة من قبل الشعب، شرطاً ضرورياً من شروط شرعية السلطة، واستقرار الدولة، وتطورها. فالسلطة لا تبنى من أجل القمع فقط، بل هي سبيل لإحقاق الحقوق الإنسانية، والحرية. ويتم ذلك عبر بنى ومؤسسات اجتماعية يختارها الشعب، ويحقق مشاريعه وتطلعاته من خلالها. ولماّ كانت ّ مسألة تداول الحكم، أهم ميزة من ميزات السلطة في الدولة القانونية، كما بيّنا أعلاه، فالمواطن (الناخب) الذي اختار سلطة ما، في وقت، وظرف معين، له كامل الحق في تغيير رأيه، مع تغير الظروف، وتطور الأحداث... فيتم تداول الحكم، والتناوب السلمي للسلطة، في النظم السياسية الديمقراطية، ومفهوم تداول السلطة مرتبط بوجود قوى مؤيدة للحكومة، وقوى معارضة لها. فمن تكون بيده السلطة اليوم، قد يصبح في المعارضة، يوماً ما، والعكس صحيح... وتحمي هذه الآلية الدولة من احتكار، واستئثار بعض السياسيين بالسلطة فيها، تحت أية ذريعة، وتزيدها قوة ومنعة، بل يمكن أن تقوم المعارضة في دولة القانون بتشكيل حكومة ظل تراقب عمل الحكومة القائمة، وتمنعها من الانحراف في مستنقع الفساد، وتكون مستعدة للحلول محلها إذا أصبحت إرادة الأغلبية الانتخابية في صالحها.. ويحمي القانون هذه العملية الديمقراطية. فالمعارضة شرط ضروري لبناء الدولة الديمقراطية بشكل سليم، وهي مصدر قوة لها تعطيها المناعة اللازمة أمام مختلف أنواع التحديات. والأمم التي لا تعرف المعارضة الداخلية أمم بائسة.
إنّ أنظمة الحكم الديمقراطية العصرية السليمة تفتخر بمعارضتها، فالمعارضة عنوان الأوطان، والدول التي لا تسمح للمعارضة فيها بالتشكل والوجود فيها بشكل صحيح وسليم، تبقى عاجزة عن التعامل السليم مع متطلبات هذا العصر، والاستفادة من كل إمكانياته في صالح شعوبها..
إنّ التباهي والتصريح من قبل البعض بأن عدد أعضاء المعارضة لا يتجاوز عدة أنفار، وبالتالي لا حاجة للالتفات إليهم، يسيء إلى الشعب والوطن، ولا يساعد في معالجة التحديات التي تجابهها البلاد...وكما يحق للشعوب دعم حكوماتها التي تعبر عن مصالحها والتباهي بها، يحق لها أيضاً أن تدعم معارضتها الغيورة على مصلحة الوطن، وتتباهى بها ضمانة للمستقبل...
الوطن غالٍ وعزته فوق كل مصلحة، ومن الضروري مواجهة التحديات، والتهديدات التي يتعرض لها، وتتم مواجهتها من قبل أبنائه جميعاً، حكاماً ومعارضة، فوجود المعارضة ضرورة موضوعية ليس لتبيان، السلبيات، والنواقص التي تضعف البنيان الاجتماعي، وتضعف الوطن ومعالجتها فحسب، بل ولتحصين الوطن واليقظة الدائمة على مصيره ومستقبله ونجدته في وأحللك جميع الظروف...
طرطوس آذار 2011 شاهر أحمد نصر [email protected] (نص المحاضرة التي ألقيت في فرع اتحاد الكتاب العرب في طرطوس بتاريخ 3/4/2011)
#شاهر_أحمد_نصر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السلطة العلمانية
-
ولادة التاريخ
-
جولة في الأدب الروسي في بداية الألفية الثالثة
-
الحزب الشيوعي السوري بين الأحلام الرومانسية والجمود الكلاسيك
...
-
تحتاج روسيا إلى أناس عظماء
-
من المستفيد من التفجيرات في روسيا؟!
-
رسالة إلى كل الأمهات في عيد المرأة العالمي وعيد الأم
-
بلا معنى
-
المبدعون الروس والنبي العربي
-
تحية إلى الصديق الأديب مالك صقور في يوم تكريمه
-
سعد الله ونوس مبدع مسرح المستقبل
-
رواية: (على صدري) تحية لحماة، وللحبّ، والحياة
-
أفضل خمسين كتاباً روسياً في القرن العشرين
-
ضرورة إدخال المبادئ الاشتراكية ضمن شرائع الأمم المتحدة
-
في -السور والعتبات- علم الدين عبد اللطيف يعرف ماذا يريد
-
صداقة الشعب الروسي في صالح العرب والروس معاً!
-
الشعب الروسي يستحق المحبة والمساندة
-
شعاع قبل الفجر مذكرات أحمد نهاد السياف
-
الجواب الاشتراكي على العولمة الليبرالية
-
ثمن الحماقة الاحتلال.. والثمن الذي تدفعه إسرائيل
المزيد.....
-
فوضى في كوريا الجنوبية بعد فرض الأحكام العرفية.. ومراسل CNN
...
-
فرض الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية.. من هو يون سوك يول صا
...
-
لقطات مثيرة لاطلاق صاروخ -أونيكس- من ساحل البحر الأبيض المتو
...
-
المينا الهندي: الطائر الرومنسي الشرير، يهدد الجزائر ولبنان و
...
-
الشرطة تشتبك مع المحتجين عقب الإعلان عن فرض الأحكام العرفية
...
-
أمريكا تدعم بحثا يكشف عن ترحيل روسيا للأطفال الأوكرانيين قسر
...
-
-هي الدنيا سايبة-؟.. مسلسل تلفزيوني يتناول قصة نيرة أشرف الت
...
-
رئيس كوريا الجنوبية يفرض الأحكام العرفية: -سأقضي على القوى ا
...
-
يوتيوبر عربي ينهي حياته -شنقا- في الأردن
-
نائب أمين عام الجامعة العربية يلتقي بمسؤولين رفيعي المستوى ف
...
المزيد.....
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
المزيد.....
|