ها نحن نلتقي امام ظرف عصيب وعلى مشارف لحظة من اللحظات التي يمكن ان يترتب عليها انقلاب شامل في الاوضاع العربية والعراقية ولا اريد ان ابدو مهتما بالمبالغات او بترويج السيناريوات المتداولة هنا او في الصحافة العالمية، ولست افضل الانسياقات المعروفة التي تجعل مما يكتب في الصحافة العالمية والمعادية حقائق ماثلة. فالمشاريع السوداء ومخططات تمزيق المنطقة وتفتيتها ماثلة وموضوعة في جدول اعمال القوى المعادية، وانا متحدث منحاز ميال للبحث عن مواطن الارادة المضادة الكامنة في روح شعوبنا ضد الهيمنة وكل صنوف السيطرة التي تعاني منها منطقتنا والعديد من امم المعمورة وشعوبها.
وبصفتي هذه فانني ارجو ان لا يداخل احد التباس ما حول اغراض وخلفيات ما سأقوله، فنحن هنا بصدد توجيه الافكار نحو ما يساعدنا على مقاومة عدوان وشيك ومخاطر محدقة شبه اكيدة وجلنا ولا بد يهمه ان يجد مخرجا لما نحن فيه، وكلنا مهما قيل في العلن يعلم بأن مثل هذا المخرج غير متوفر وان الوضع العربي العام سيئ للغاية وامكان مجابهة المخاطر التي تلوح في الافق ضئيل جدا وضيق الى ابعد الحدود.
وهذا ليس سرا نذيعه وهو مُقر حتى لدى اولئك الذين يردون عليه بالقول بأن لا طريق امامنا اليوم غير قبول المجابهة بما هو متاح ومتوفر بين ايدينا، مع كل ما يخفيه باطن هذا النداء من ملامح اليأس والعجز، وما ينطوي عليه من فقدان للفعالية والابداع المطلوب من الشعوب والامم في مثل هذه الحالات.
وبالمقارنة بوقائع تاريخية مستمدة من تجربة عالمنا العربي الحديث ادعوكم لأن تشتركوا معي في تفحص حقيقة وضعنا الحالي بالعودة لمجابهات فاصلة ومحطات كبرى مر بها عالمنا العربي الحديث والمعاصر وانتم تعلمون ان عالمنا العربي قد شهد محطة اولى من محاولات النهضة وحملات الغرب المجهضة لها.
- حدث ذلك مع تجربة محمد علي في مصر في القرن التاسع عشر.
- وحدث من ثم ابان تجربة عبد الناصر في الخمسينات والستينات.
ولا داعي لأن اتحدث عن التجربة الحالية او المجابهة الراهنة لأضيفها الى المحطتين المذكورين دون ان ابين اولا بعض الخاصيات التي رافقت التجربتين المذكورتين واتصلت بهما من ناحية توفر طاقة الاستمرارية والرغبة في التجاوز.
- ففي التجربة الاولى ترافقت الهزيمة مع تطور وصعود افكار النهضة الحديثة الاسلامية الاصلاحية والعلمانية، مما اتاح نوعا من احتمالية الرد على التحدي.
- وفي التجربة الثانية ظهرت حركة سياسية فكرية تنحو الى الاقرار بالهزيمة والى تحميل الجهة التي قادت المعركة في حينه المسؤولية مع اعلان الشك في قدرتها وفي جدارتها بأن تكون قيادة قومية مؤهلة وقادرة على نوال النصر وذهبت قوى كانت محسوبة على تلك القيادة الى تحليل بنية المشروع القومي والشك في صلاحيته كما كان متحققا آنذاك فأعلت وقتها من قيمة التغيير الشامل وضرورته لصالح دور اكبر للحركة الجماهيرية.
وكانت التطورات والاطر التاريخية العالمية التي رافقت التجربتين المذكورتين تنطوي على كل ما هو لازم حتى يطلق عليهما تقدير يجعلهما جديرتين بموقع الاحداث الكبرى والفاصلة. فلقد ترافق الحدث الاول ونتائجه مع طلائع الاستعمار القديم، وما كان يطرأ على اوروبا الحديثة وثورتها المعارضة من تحولات تعزز هذا المظهر، بينما التقت التجربة الثانية مع بداية انحسار حركة التحرر العالمية وتوطد ظاهرة الاستعمار الجديد على المستوى العالمي.
غير ان الملاحظ في ما يخص عالمنا العربي انه كان قد ظل في حالة تفاعل مع تحديات العصر على مر تلك العقود والتجارب وانه قد اجاب بحدود ما على الانكسارات والهزائم، فكريا في الحالة الاولى، وسياسيا بالدرجة الاولى في الحالة الثانية، وهذا ويا للاسف ما قد تراجع واختفى من المشهد العربي الفكري والسياسي في الوقت الحالي.
وربما ظن البعض ان المقاربة بين ما نواجهه اليوم وما واجهناه في المناسبتين الآنفتي الذكر غير جائزة ولا ممكنة وهنالك في هذا الخصوص قدر كبير من الاختلاف ومن غياب الاجماع على تقويم اللحظة الحالية وتحديد مكانتها. وهذا يعود لأسباب كثيرة ومتداخلة مصدر بعضها نابع من التقويم الذي يمكن اعتماده في تشخيص طبيعة النظام او الجهة التي يفترض بها الوقوف في المكان الذي كان يحتله تباعا كل من محمد علي وعبد الناصر، وهذه المشكلة التي تجابهنا منذ عقد من الزمن واكثر على المستويين النظري والسياسي، قد يمكن حلها بالاستعاضة عن التركيز (طبيعة المركز القيادي المفترض) بمحاولة تشريح الحالة العامة.
فهذا الاتجاه يكفي لمنحنا ما نحتاجه من عناصر التقويم ولا يمكن احدا ان يتطلع اليوم الى اللوحة العربية والعالمية كما هي معاشة وكما تتطور تباعا، دون ان يداخله احساس قاطع بأن ما نعيشه هو لحظة حاسمة من لحظات التاريخ ولست اظن ان احدا يشك في تواتر واتساق آليات المواجهة الجديدة مع الامبريالية كما هي مجسدة ثم يذهب الى الاعتقاد بأن النذر والتهديدات التي تمهد للعدوان الاميركي على العراق هي مجرد قضية عارضة وعابرة. انني اصادف اشخاصا عديدين يرددون مثل هذه الامنيات التي تنسى ان تضع ما يجري حاليا في السياق المحكم بعملية اعادة الهيمنة وفق الشروط الجديدة على منطقتنا واجد، ومعي آخرون، ان مثل تلك الآراء هي من مظاهر غياب الفعالية وتراجع الدينامية القومية والوطنية اللذين يميزان هذا الطور من تاريخنا العربي.
ولنحاول اختصارا وتركيزا ان نتفحص هذا الطور حسب ما تجلى امامنا خلال العقد الاخير من تاريخنا ولننظر للمجابهة الشاملة الدامية والرهيبة المفروضة علينا من زاوية انعكاساتها في مجال الوعي لدى النخب العربية وبين ممثلي الافكار في العراق والعالم العربي، ثم لنضع لها عنوانا او تعريفا يميزها عما كان قد سبقها ابان القرنين المنصرمين وخلالهما وقد سبق وقلت بأن المناسبة والتجربة الاولى قد احيطتا او اتبعتا بتطلع بديل كانت تحمله افكار النهضة، وان المناسبة الثانية قد استثارت طموحات ومشاريع بديلة. اما في الطور الحالي فان اهم ما يلحظ هو غياب الفعالية الفكرية والسياسية وتوقف الافكار والمشاريع التي تمثل نوعا من التطلع البعيد والرغبة في الرد على التحديات.
واول ما يطالعنا الآن هو هيمنة منطقين سيطرا على عموم الوعي العربي خلال العقد الماضي، فمن جهة هنالك مصادرة تقوم بها قوى العدوان والهيمنة منتزعة شعارات الجماهير ومشوهة مغزاها وطبيعتها بينما هناك في المقابل هيمنة مضادة يمارسها سلوك الهزيمة والعجز وخطابهما ونموذجهما. فالولايات المتحدة تصادر شعار الديموقراطية وتحوله الى سلاح يبرر بموجبه العدوان باسم حقوق الانسان والسلطات وفي مقدمتها السلطة العراقية التي ترفض مناقشة السبل والوسائل الضرورية الفضلى لخوض المعركة الشاملة والمديدة والكارثية.
وبين هذا وذاك تتضاءل كل قدرة على اعلاء صوت الحقيقة ويغيب من اللوحة احتمال هو الاكثر اتفاقا مع مواصلة التطلعات التي تحاكي رغبتنا جميعا بالحفاظ على دفع العملية الحضارية في منطقتنا وتتفق ومعظم التحديات التي افرزتها آخر التحولات العالمية المعاشة اليوم.
لقد ارتفع بعد عام 1967 صوت النقد للتجربة الناصرية وقيل ان النهج الاحادي والديكتاتوري والنظم التي تحجب الفعالية الشعبية لن تستطيع قيادة المواجهة مع الامبريالية، وقد جاء "حزب البعث العربي الاشتراكي" الى السلطة في العراق عام 1968 حاملا تلك التصورات فعمد منذ ايامه الاولى الى اطلاق سراح السجناء السياسيين واعتمد نهجا جبهويا في التعامل مع الاحزاب والقوى الوطنية، ولقد كنت واحدا ممن اطلق سراحهم وقتها. وفي عام 1972 عندما اراد حزب "البعث" ان يؤمم النفط قام بالاتصال بـ"الحزب الشيوعي العراقي" وطلب اليه، رغم عدم التوصل الى الاتفاق الجبهوي وقتها، ان يشترك في الحكومة بوزيرين، ثم قامت الجبهة الوطنية والقومية التقدمية بعد ذلك التاريخ بعام، وقبل هذا وذاك سعى النظام في حينه للاتفاق مع الاكراد وحقق اتفاق آذار. وفي الفترة التي كان فيها هذا النهج قائما تحققت اكبر الانجازات في ميادين التنمية وآخرها ما عرف بخطة التنمية الانفجارية لعام ،1978 وهو العام الذي تم عنده التراجع عن ذلك النهج ليدخل العراق تاريخا متواصلا من الحروب التي تعرفون مآلها وما انتهت اليه.
ولم يتمكن الشعب العراقي خلال تاريخه الحديث برمته من تحقيق اي نصر وطني او اي انجاز حقيقي دون ان تكون قواه الحية موحدة وارادة مكوناته الاساسية حرة، وليس هذا وحسب بل ان المواجهة الاخيرة نفسها عام ،1991 اثبتت هذه الحقيقة وعادت فأنهت بصورة كلية اي تردد بخصوص الاسس التي ينبغي اعتمادها من اجل تحسين شروط المواجهة واولى تلك الشروط العمل على احياء دور الحركة الوطنية العراقية في المواجهة واعتماد نهج التحول الوطني نحو الديموقراطية واقامة نمط من الديموقراطية المقاتلة.
على مدى الفترة المنصرمة منذ وقوع العدوان على العراق كانت هناك قوى واصوات وطنية عراقية تتبنى هذا الطريق وتسعى في ظروف قاهرة من اجل الخروج من منطق الاصرار على اعتماد وسائل وبنى تمت تجربتها وانتهت الى هزيمة منكرة، وهذه القوى والاصوات تعلم بأنها كانت ولا تزال ضحية الهيمنة المتبادلة لمنطق المصادرة الاميركية ومن يدعمها من قوى المعارضة المرتبطة بقوى العدوان ومنطق تكريس وسائل الهزيمة وهم يعلمون بأن الاجواء العامة الفكرية والسياسية في العالم العربي لا تساعد على حضور صوتهم او على تحول دعوتهم الى حقيقة ماثلة والى مشروع يجري تبنيه عربيا. الا انهم لا يملكون الا ان يواصلوا مرة اخرى وعلى وقع احتمالات العدوان الاميركي دعوتهم ذاتها منبهين الى المخاطر الكبرى والكارثية التي تنتظر المنطقة برمتها وتنتظر بلدانا منها خصوصا من دول الجوار الاقرب.
لسنا هنا في صدد فحص مواقف الاردنيين شعبا ومسؤولين، فالوقائع كثيرة وكافية وهي تشهد بأن المسألة العراقية شأن اردني داخلي ومصيري، ولسنا في وارد التقليل من قيمة الدعم الشعبي الاردني ونحن بلا ادنى ريب نريد لهذا الدعم ان يتعزز ويقوى ويتصاعد، غير اننا نريد ايضا الاشارة الى احتمالات وجود اشكال اخرى من الدعم لم تستعمل ولم يجر التفكير بها، ومن ذلك اعلاء صوت المطالبة بالانفتاح العاجل من جانب النظام في العراق على القوى الوطنية، حتى وان جاء مثل هذا النداء متأخرا وليكن الجميع على اقتناع بأن اعتماد الوسائل نفسها التي اختبرت سابقا في المواجهة لن ينجم عنه سوى الخسارة. فما جُرّب في 1991 لن ينتهي لحصيلة مغايرة لما انتهى به اول مرة. هذا والعراق اليوم منهك ومدمر والعالم العربي اسوأ حال والولايات المتحدة في ذروة الشراسة والعربدة. |