هايل نصر
الحوار المتمدن-العدد: 3327 - 2011 / 4 / 5 - 15:24
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
إصلاحات ربع الساعة الأخيرة التي رددها ويرددها الطغاة هنا وهناك, حين الترنح قبيل السقوط, لم تمنع ولا تمنع القدر المحتوم الذي تنزله الشعوب بهم عاجلا أو آجلا.
اطل بن علي, قبيل الرحيل, من شرفة احد قصوره, مخفيا قدر المستطاع اضطرابه, ليعلن أنه فهم الجميع: المحتاج والمريض والفقير والسياسي والعاطل عن العمل .. بعد 23 عاما من الحكم شرح الله صدر بن علي وأزال الغشاوة عن بصره وبصيرته فرأى وفهم ـ الفهم البطيء خاصية مشتركة عند الزعماء العرب ــ وقدم حزمة من الوعود بالتغيرات والإصلاحات, منها استحداث مئات آلاف الوظائف .. وصولا إلى الحريات المطلقة, أين منها الحريات في سويسرا !!!, ونادى بصوت فيه, رغم كل شيء, تقرير وجزم ترافقه وتؤكده حركات من يده: " لا رئاسة مدى الحياة, لا رئاسة مدى الحياة" رافضا توسل شعبه الذي يريد إبقاءه رغما عنه رئيسا مدى الحياة !!!. إصلاحات لم يكن لديه الوقت ليفكر بها طيلة سنوات حكمه الطويلة, ولم يفكر بها قبيل أيامه الأخيرة في السلطة حين وصف الشباب الثائر من التونسيين المطالبين بالإصلاحات بأنهم عصابات ملثمة مدسوسة من الخارج للتآمر وإثارة الفتنة !!!, ـ ياله من توارد خواطر في أذهان المستبدين في مشرق الوطن العربي ومغربه شعوبهم متآمرة تثير الفتن وأية تهم !!! ــ فكر بالإصلاح فقط في الدقائق الأخيرة التي سبقت الرحيل أو الهروب. " أمضيت 50 عاما من عمري في خدمة الشعب التونسي", خدمة استحق عليها عشرات المليارات من الدولارات. وعليه, لا مساءلة ولا محاكمة, كسب الرجل أجره بعرق جبينه, وقد يطالب بتعويضات ومستحقات متأخرة له ولزوجته وعائلتها, وبتقاعد مجز يليق بالرؤساء, أو قد يتسامح بذلك لمن أفقرهم من أبناء شعبه. لقد أفقر شعبا كاملا ليعش عمره رئيسا, وأي رئيس.
في موقف مشابه, في ظروف مشابهة, لزعيم مشابه ــ وفي ليل العرب يتشابه الزعماء ــ فهم حسني مبارك أيضا ما لم يكن قد فهمه طيلة 32 عاما, ووعد في أيامه الأخيرة في السلطة بإصلاحات وإصلاحات .. منها تغيير مستشارين ووزراء ضللوه وحالوا بينه وبين فهم الشعب ومطالبه, وعين نائبا للرئيس مخلصا للرئيس, أين منه إخلاص الرئيس نفسه لنفسه, ووعد بعدم الترشح للرئاسة من جديد بعد هذا العمر المديد, و بتخليه عن حقه في توريث مصر أم الدنيا وشعبها العظيم لابنه النجيب جمال كونه أيضا مثل أبيه مبارك من السماء . وفي خطاب أراده استدرارا لعطف الشعب المصري صرح بأنه أفنى عمره في خدمة هذا الشعب وكسب حروب وحروب !!! ــ كسبها غيره ونسبها لنفسه. رحم الله بطل مصر سعد الدين الشاذلي البطل الحقيقي لحرب 1973 ــ كسب الرجل وكسبت معه زوجته وأبناءه والمقربين منه مليارات ومليارات من عرق الجبين وخدمة مصر والتضحية من اجلها. طرح مخلصا في الوقت الضائع قبيل لفظ أنفاسه السلطوية الأخيرة, حزمة من الإصلاحات وليس ذنبه إن رفضها الشعب. إصلاحات تضمنت ترتيبات وتسويات وإعفاءات وخروج آمن في الخفاء, دون مساءلة وملاحقات قانونية وفضائح ومحاكمات فتاريخ الرئيس ثقيل وثقيل.
عقيد اليمن أيضا, وهو في أيامه الأخيرة, بهلواني إصلاح, طرح , ويطرح يوميا دون كلل, وبعد 32 عاما حزما من الإصلاحات تتبعها حزم وحزم, لم تقبل بها المعارضة وهذا ليس ذنبه. أعلن أخيرا من ضمن إصلاحاته القبول بترك السلطة , ولكن بعد أن تنتهي مدة رئاسته, أو قد يتركها الآن ليسلمها سلميا لأيد أمينه. لقد حفظها هو بأمانة طيلة فترة حكمه ويخاف, بدافع الإخلاص الصادق للوطن, أن تقع بعده بأيد غير أمينة لا ترقى إلى نظافة وأمانة يد ابنه , مثلا !!!. ولا يدري لماذا بعد هذا العمر المديد من الأمانة بدأ يشك الشعب بأمانته هو ونظافة يده. وإذا ما رُفضت كل مشاريع إصلاحاته يتمنى عندها أن يكون تسليم السلطة سلميا يحفظ له كرامته كرئيس مهيب, وان لا تتم مساءلته أو مساءلته ابنائه وأخوته وأقربائه عن شيء, وخاصة عن ثمرة شقاء عمره وأعمارهم في توفير المليارات المتحصل عليها كسبا حلالا ثمنا لخدمة اليمن وأهله, ومن خدمات أخرى شاقة قدمها لأسياده الأمريكان في حروبه الداخلية على الشعب اليمني و"لتصديه" للإرهاب وللقاعدة. برع عبد الله بالمناورات ولكن شباب اليمن يجيبه على من تقرأ مزاميرك يا عبد الله. يخاطب عبد الله شباب اليمن قائلا بان القطار فاتهم !!! وكأنّ القطار يخلف خلفه شباب في مقتبل العمر أمل البلاد ومستقبلها, ويُقلع فقط بمن شاخ وأصبح من مخلفات ماضي غير مشرّف !!!.
ومع ذلك بقي من لم يفهم ولا يحاول الفهم وحتى في اللحظات الأخيرة, انه العقيد الليبي النموذج الفريد. لم يفهم مظاهرات واحتجاج شباب يتعاطى حبوب الهلوسة وتسيره الامبريالية. لم يفهم كيف يمكن أن ينقلب شعب, دون حبوب هلوسة, على عقيده وصاحب الفضل في وجوده ووجود ليبيا نفسها في المحافل الدولية. لم يفهم العقيد ولم يتنازل لطرح إصلاحات الربع ساعة الأخيرة, وإنما قرر شن حملة تأديبية "لشد الجرذان" (وعفوا من الشعب الليبي لتكرار الكلمة البذيئة, فهو شعب عظيم اثبت للعالم أجمع بأنه سليل عمر المختار ولا ينتسب بشيء للقذافي وأخلاقه وأدبياته وثقافته وتصرفاته ومفرداته. وهذا ما بينته بطولات وأدبيات الثوار ) وملاحقتهم مع الملايين الزاحفة من الداخل والخارج. قتل الآلاف وتدمير البلد واقتصاده وجيشه ومحاولة تقسيم قبلي لليبيا هو أسهل عند العقيد من مجرد تفكير بإصلاحات وتعديلات على نظريته العالمية الثالثة الصالحة لكل زمان ومكان. بقي العقيد إلى اليوم خارج دائرة كل وعي وفهم رغم تضييق الخناق عليه, يعيش زنقته الحقيقة. لم يعد عقيدا, ولا حتى جنديا أو مدنيا شريفا, وإنما مجرما تطارده دماء الأبرياء وتنتظره المحاكم الوطنية والدولية.
هذه عينة من الزعماء العرب هتفت لها شعوبها بالروح بالدم, نماذج وضعت نفسها فوق البشر بدرجات وتحت الألوهية بالكاد. "زعماء" اعتبروا الشعوب رعايا من الدهماء. لا يترعون عن إفناء شعوبهم على أن يحدثوا إصلاحات جذرية في أنظمتهم القمعية الفاسدة, التي لم يعرف التاريخ لها مثيلا في الاستبداد والعنجهية وانتهاك حقوق الإنسان, وسرقة المال العام. استخدموا مناورات أكسبتهم إياها خبرة عقود. لكنها لم تفلح هذه المرة فسقط نتيجة غيه من سقط وينتظر السقوط آخرون مشابهون.
المناورات الإصلاحية في الوقت الضائع أزهقت أرواح الآلاف, ودمرت وتدمر اقتصاد البلدان المنكوبة بهذه النوعية من الطغاة المصابين بسعار السلطة, الساعين من اجل الاحتفاظ بها والاستمرار باغتصابها لشق الوحدة الوطنية للشعوب, باللعب بأوراق التمايز الاجتماعي والتنوع الفكري, والحساسيات الدينية والطائفية, وإخراج أتباعهم للنيل من طلاب الحرية والتغيير والتنديد بالفساد وإسقاط الدكتاتورية. غير مكترثين بما يتركه هذا من آثار آنية ومستقبلية على الشعوب والأوطان لا تمحى بسهولة.
لم يلاحق احد ممن أسقطتهم الشعوب, إلى الآن, من قبل المحاكم لتقول العدالة كلمتها بجرائمهم المرتكبة خلال عقود. ولتجعل منهم عبرة لغيرهم من الطغاة الحالين الذين يعلمون سلفا, نتيجة ترتيبات داخلية وخارجية, وتراجعات وتسويات قبلية وعشائرية على الطريقة العربية, وتهديدات بالفتن, أن يد القضاء الداخلي والدولي لا تطالهم حتى بعد السقوط.
إطلالات من تبقى من "الزعماء" , مسبوقة أو متبوعة بإطلالات أتباعهم, ليقدموا الوعود نفسها بالإصلاحات نفسها, وكيل الاتهامات نفسها, تحت الإحساس بقرب الرحيل, لا تطيل عمرا ولا تصلح أمرا, فهي ليست بطبيعة الحال إلا مناورات لمنع تأخير ساعة السقوط, أو للتلطف فيه حين يحل كالقدر المحتوم.
طالب الشباب الطغاة السابقين الساقطين, ويطالبون المترنح منهم للسقوط, بالكف عن الحديث الخشبي غير المنتهي والمخادع عن الإصلاح. طالبوهم بما لم يجرأ آباؤهم وأجدادهم على المطالبة به, طالبوهم بالرحيل وفورا. فهم لم يعودا من أبناء عصرهم, ولا ينتمون فكريا لقرنهم, لقد "هرموا" وأصبحوا ليس فقط عبئا على الضمان الصحي في بلدانهم, ولا على أخلاق العصر وقيمه وثقافته وتطوره, وإنما كذلك على مستقبل الوطن الذي دمروا ماضيه وحاضره ولم يتركوا له مستقبلا. دمروه ليُرسّخوا على أنقاضه زعاماتهم الفاسدة الساعية للتوريث. شوهوا تركيبة الأجيال نفسيا وثقافيا, وقتلوا أحلامهم في الحياة الحرة الكريمة التي لم تعد قائمة في بلدانهم, فسعى من استطاع لينشدها في بلدان الآخرين في الأرجاء الواسعة في ارض العم سام وغيره, وليس بأي حال في أوطانهم هم وبين أهلهم .
هل يستطيع أحد, على سبيل المثال, أن يُحصي أعداد الجزائريين والمغاربة والتونسيين ممن اضطروا لهجر بلدانهم إلى الغرب وحده؟ أو أعداد المنتظرين الرحيل المترصدين سنوح الفرص و جهوزية زوارق الموت؟. أو أعداد العراقيين والسوريين واللبنانيين في أمريكا اللاتينية وأفريقيا واستراليا وكندا وغيرها ..؟. هل يستطيع أحد أن يعرف إعداد المغتربين وأبنائهم وأحفادهم ممن ذابوا في مجتمعات الاغتراب؟. وهل كان زعماء هذه البلدان يقومون بإصلاحات أو يعدون جديا بها طيلة عقود من حكمهم لإبقاء ملايين المهاجرين بين أهلهم وذويهم في بلدانهم؟. هل كانت مهامهم بناء أوطان؟. ألم تقتصر على تشييد زعامات وطواويس تختال كبرا وزهوا؟.
مناورات التلويح بالإصلاحات قبيل الرحيل, وتلك الموعود تنزيلها بمكرمات وهبات, لا يمكنها منع رحيل الطغاة, إلا إذا تحققت على ايديهم وفيهم المعجزات مثل:
ـ استطاعتهم تغيير اتجاه التاريخ. ومسيرته.
ـ استطاعتهم خلق العطار الذي يعيد الهرم منهم جسديا ونفسيا لصباه, ويصلح فيهم ما أفسده الدهر.
ـ استطاعة مفاهيم العصر دخول رؤوس تجاوزها العصر.
ـ نقل الثياب العصرية لمرتديها أدمغة حضارية.
ـ ازدهار الاقتصاد المبني على الفساد.
ـ نجاح التبعية للطائفية والعشائرية والعائلية وعبادة الشخصية كبديل للمواطنية.
ـ تحول المستبد منهم لمعلم وطيد من معالم الحرية, والجلاد مناضلا من اجل حقوق الإنسان والمبادئ الإنسانية, والغارق في أوهام العظمة متواضعا واقعيا..
ـ اعادة الأرواح المزهقة على أيديهم لأصحابها.
ـ اعادة النضارة والصحة والحيوية وحب الحياة للمساجين السياسيين, بعد قضائهم في الزنازين سنين وسنين.
ـ اعادة المفقودون لمن فقدوهم.
ـ عودة الآلاف من المنافي الإجبارية والطوعية لأوطانهم بكرامة وحرية.
ـ جعل الأمن أمنا للوطن والمواطن.
ـ توفر العمل ولقمة العيش الكريم لملايين المعدمين.
ـ مفارقة السيادة جسد الزعيم لتعود لروح وكيان الشعب مصدر الشرعية.
ـ أن يصبح التعبير حرا وبكل الوسائل, باستثناء حرية التصفيق والتلويح بالصور وعبارات الولاء والفداء ورفع الزعماء لمراتب الأنبياء.
ـ أن يصبح الزعيم أصغر من الوطن, وتحت القانون, قابل لتبديله, قابل لعزله, قابل للعيش مواطنا عاديا مساو لغيره بعد انتهاء مهمته.
عندها وعندها فقط سيصدّق الجميع جدوى بقاء الزعماء وجدوى المزعوم من إصلاحات, فيقلعون عن النضال من اجل الرحيل والإسقاط والتغيير, ويصغي الجميع للفلسفات التركية لاوردغان المقدم الينا بطلا من هذا الزمان.
العصر الحالي, أيها السادة, يستعصي على إدراككم, على مفاهيمكم, ولا يلائمه تكوينكم. فهو ليس عصر بهلوانيات وتهريج ومعجزات. انه عصر الشباب الحقيقي جسدا وروحا, فكرا وثقافة, علما وعملا, أملا مستقبلا. عصر دولة القانون وحقوق الإنسان والحريات العامة والفردية, والمساواة, عصر الديمقراطيات والمؤسسات, والانفتاح والتواصل والاتصالات, عصر كنس تقديس الأفراد وعبادة الأصنام.
هل يدخل بعض من هذا في عقول أصنامنا (يخرط مشطهم كما يقال في العامية السورية)؟, فيكفوا عن طرح إصلاحات لم يطرحوها حين كانوا بعد أنصاف أصنام؟. فما بالنا وقد تكلسوا وبلغوا بامتياز الصنمية في عصورها الجاهلية .
الإصلاح الوحيد الذي لا إصلاح بدونه هو رحيل الطغاة, هذا المطلب المدوي الذي تردده ملايين الحناجر في الميادين, في الساحات, في الشوارع, في كل مكان: "ارحلوا". الزمان لم يعد زمانكم ولا المكان مكانكم. فالشعب يطالب بـ "إسقاط النظام".
#هايل_نصر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟