|
العقلانية.. طريقة حياة
حميد زناز
الحوار المتمدن-العدد: 3327 - 2011 / 4 / 5 - 03:39
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يمكن أن يقول المرء في العقلانية ما يشاء، ويبدع من المفاهيم ما لذّ وطاب، ويبحر في محيطات الكتب ويذكر من أسماء الأعلام ما قرأ وما لم يقرأ. كما يمكن أن يتفلسف ويختار عقلانية ما لبلده أو للوطن العربي برمّته، ويمكن حتى إقناعنا لفظيا بأنّ هناك عقلانيات متعدّدة لا عقلانية واحدة. ولكن هل ذاك ينفع الناس ويؤسّس لشيء ما؟ هل يقطع التنظير وكثرة الكلام مع اللاعقلانية التي تنخر حياة الناس وتعطّل حياتهم وتقف حجر عثرة أمام دخولهم في العصر؟ ولئن وجدنا تمجيدا نظريا معيّنا للعقلانية في الوطن العربي، فإننا لا نجد لذلك ترجمة سلوكية على أرض الواقع. فهل تكفي دروس في العقلانية ما لم تعزّز بسلوك عقلانيّ حاسم؟ ما هو أخطر هو محاولة عقلنة اللامعقول إذ كثيرا ما يعكّر ذلك صفو العقل ويحوّل الإنسان إلى كائن مستلب، ممزّق تتنازع في داخله العلوم العقلية التي تلقى منهجيا والعقائد التي ورث من الآباء تلقائيا. فلا هو يعيش وفقا للموروث كليا ولا هو تبنّى منطق الحداثة العقلانية. وهكذا يبقى الفرد المسلم في منزلة بين منزلتين إذ لم يحسم الصراع بين العقل والنقل، بل لا يريد أن يحسمه أصلا مستنجدا بابن رشد الفيلسوف. ألم يوفّق جدّه أبو الوليد بينهما؟
ولكن ينسى المسلم الأخير أنّ هذه المحاولة اليائسة هي التي حرمت العرب من الخروج من أسر الإيديولوجية الإسلامية وأغلقت باب الحداثة في وجوههم. فمحنة العقلانية العربية جاءت من ذلك الوهم القائل بإمكانية الجمع بين العقلانية واللاعقلانية. ما موقف الإنسان البسيط حينما يرى مهندسين وأطباء وأساتذة فلسفة.. يرتادون المساجد ويسبّحون ويحمدلون ويقبّلون حجرا أسود؟ هل يقدم المتعلّم العربي المثال الذي يحتذى به؟ كيف لا يتشبّث البسطاء من الناس بالغيب حينما يرون النخبة تؤمن بالدعاء وترفع الأيدي متضرّعة للسماء؟ بتعبير شوبنهاور، أليسوا كهؤلاء العمالقة الذين ينتعلون أحذية أقزام؟ ألم يحن الوقت للاعتراف أنّ العقلانية لم تكن سوى شطحات عابرة في الفكر الإسلامي قديمه وحديثه وأن اللاعقلانية هي جوهره ومنهجه ومبتغاه؟
ستصبح الدعوة للعقلانية مجرّد ثرثرة إن لم تقرن بتصرّفات يومية ملموسة تعطي مع الوقت تراكما عقلانيا قد ينتج وثبة نوعية يمكن أن تغيّر ذهنية الفرد والمجتمع بشكل عامّ. العقلانية هي ما بعد اللاهوت، هي أوّلا وقبل كل شيء تحرّر من قبضة الفقه وهيمنة التقليد وسلطة المقدّس. تكمن معضلة العقلانية العربية في المعادلة المفقودة التالية : لا يعيش "العقلانيون" كما يفكرون. فكأنهم يفرضون على أنفسهم العيش في سرية أبدية وكان الأحرى بهم أن يعيشوا كما يفكرون، ولو فعلوا لكانوا قد خرجوا من حالة الفصام المزمنة ودخلوا مملكة العقلانية ولكانوا جرّوا معهم الكثير من مواطنيهم. هل يبقى عقلانيا من يمارس همجية الختان على ابنه إرضاء لوالديه ومحيطه وهو يعرف أنها عادة بدائية مشينة؟ وهل من العقلانية في شيء أن تصبّ أغلبية حاملي الأقلام جام نقدها على ختان البنات بينما لا تنبس ضدّ ختان الأولاد ببنت شفة؟ هل هي انتليجنسيا تلك "النخبة" المتمسّكة تمسّكا مرضيا بتقاليد ونصوص فاق عمرها الـ 15 قرنا؟ ما علاقة العقلانية بتلك الزوائد الدودية في خطاب القوم المتعقلنين : إن شاء الله، بقدرة الله، بنصر الله، باسم الله..؟ هل هو عقلاني، بيطري يشرف على ذبح بربريٍّ للحيوانات؟ هل هو عقلانيّ من يقبل أن تذبح دون تخدير ولا يتأثّر بألمها والخنجر يسري في أعناقها وهي حيّة تتعذّب بدعوى أنّ الإسلام يأمر بذلك؟ وربما نفس الشخص يتحفك بخطبة عصماء حول دين الرحمة والعقل! هل يمتّ إلى العقلانية بصلة ذلك الامتناع الذي لا مبرّر له عن الأكل والشرب نهارا مدّة شهر كامل؟ وهل يبقى طبيبا من لا يجد في ذلك ضررا ولا يرى في ذلك العنف الممارس على الجسد والنفس ابتعادا عن العلم والعقل؟ هل من العقل أن تفرض جماعة دينية حدادا على أفرادها كل عام وتمارس الجلد الذاتي العنيف دون أدنى اعتبار لبراءة الأطفال الذين يشاهدون؟ كيف يمكن الجمع بين عقلانية متبجّح بها ومعتقدات مستحيلة رياضيا ومقززة أخلاقيا؟
مثلها مثل الحرية والديمقراطية، للعقلانية ثمن أيضا.. إذ من الواضح أنه من الأريح للإنسان أن يكون لا عقلانيا في البلدان العربية الحالية، بل من الأسهل أن يكون حتى أصوليا متزمتا. وحده العقلاني يقاوم، أفقيا وعموديا. يتصارع مع السلطة القائمة والثقافة اللاعقلانية السائدة وأسسها الرمزية ومرجعياتها المقدسة.. وعليه أن يدفع الثمن. وربما ذلك هو الطريق الوحيد الكفيل ببناء أمن عقلانيّ عربيّ يخرجنا من عصر"إبطال الفلسفة وفساد منتحليها". * عن موقع الأوان / من أجل ثقافة عقلانية علمانية تنويرية
#حميد_زناز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ربيع الشعوب..خريف الطغاة !
-
و إذا تكلم موسى..فإليه لا تنصتون!
-
جامعة عربية أم نقابة رؤساء و ملوك عرب؟
-
دعاء النجاة من شر الثورات
-
متى تنتفض الأنوثة العربية في وجه الذكورة الإسلامية الغاشمة؟
-
أدباء و شحاذون
-
ستولد ليبيا الحديثة كالعنقاء من تحت رمادك يا نيرون..
-
الجماهير من ورائكم والمحاكم الدولية أمامكم!
-
رسالة إلى المجرم معمر القذافي
-
موسم الهجرة إلى الإعلام الانتهازي
-
لا ترحل يا سيدي.. لا ترحل!
-
ليلة سقوط جابر عصفور
-
في الاستثناء التونسي
-
أندري غورس : العشق والانتحار في الزمن الرأسمالي..
-
متى تخرج المرأة العربية من معتقل القِوامة؟
-
لقائي مع الفيلسوف سيوران
-
هل وجد محمد عبده الإسلام في الغرب حقا؟
-
أكذوبة العلمانية المنفتحة
-
العلمانية أو الطوفان
-
كل عام وكباشكم سمينة وسكاكينكم مسنونة!
المزيد.....
-
الرئاسة المصرية تكشف تفاصيل لقاء السيسي ورئيس الكونغرس اليهو
...
-
السيسي يؤكد لرئيس الكونغرس اليهودي العالمي على عدم تهجير غزة
...
-
السيسي لرئيس الكونغرس اليهودي العالمي: مصر تعد -خطة متكاملة-
...
-
الإفتاء الأردني: لا يجوز هجرة الفلسطينيين وإخلاء الأرض المقد
...
-
تونس.. معرض -القرآن في عيون الآخرين- يستكشف التبادل الثقافي
...
-
باولا وايت -الأم الروحية- لترامب
-
-أشهر من الإذلال والتعذيب-.. فلسطيني مفرج عنه يروي لـCNN ما
...
-
كيف الخلاص من ثنائية العلمانية والإسلام السياسي؟
-
مصر.. العثور على جمجمة بشرية في أحد المساجد
-
“خلي ولادك يبسطوا” شغّل المحتوي الخاص بالأطفال علي تردد قناة
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|