|
تعاقب النظام والفوضى على المشهد العربي
زهير الخويلدي
الحوار المتمدن-العدد: 3325 - 2011 / 4 / 3 - 06:14
المحور:
المجتمع المدني
زهير الخويلدي "ان فضيلة التعقيد هي ادانة ميتافيزيقا النظام" تمر المنطقة العربية زمن الثورة الشعبية العارمة بأحداث هامة ولامتوقعة وفترات حرجة واهتزازات عنيفة ومتعاقبة غيرت نظرتهم الى الحياة وموقعهم في العالم وبدلت نظرة العالم اليهم وتمثلت في اللجوء الى القمع واستخدام القوة الشديدة من طرف الدولة ولجوء الأفراد والجماعات المنتفضة الى أسلوب الحرق والسلب والتخريب، واذا كان مبرر الطرف الأول الدفاع عن مؤسسات السلطة والمحافظة على الأمن العام فإن مبرر الطرف الثاني هو الاعتراض على الظلم ومقاومة الفساد والتصدي للهيمنة والتعديات. غير أن حجر الزاوية في الأمر وأصل المشكلة لا يتعلق بطبيعة العلاقة المتوترة أصلا بين الدولة والمجتمع المدني وانعدام الثقة بينهما وتربص كل منهما بالآخر بقدر ما يتمثل في سوء فهم للحرية وهروب من تحمل المسؤولية والافراط في الاستخفاف بالهوية وارادة احتكار الشرعية والسلطة. من هذا المنظور يمكن التعبير عن هذه المشكلة بالاحتراز الاشكالي من ثنائية النظام والفوضى في الأنا نفسه من طرف قوى الشعب الثائرة ومن الممسكين الجدد بمقاليد الحكم، فالنظام الصارم يؤدي الى الاستبداد والمجتمع ذي البعد الواحد، أما الفوضى العارمة فتؤدي الى خراب العمران وارتكاب الرذائل. بيد أن المشكلة تطرح على هذا النحو: اما فرض النظام مع سلطة مطلقة وطاعة تامة واستقرار اقتصادي واما تمتع بالحرية والمحافظة على الثورة مع فوضى تدميرية وانفلات أمني وتسيب أخلاقي وتنازع اجتماعي واختلال في التوازن وتقلبات اقتصادية وكوارث صحية وانفلات الأفعال من مقاصد الذوات. كما أن مواصلة الثورة يؤدي الى انخرام النظام القديم وفقدانه لأسسه وبروز الفراغ والوقوع في الفوضى، أما التحلي بالحكمة والتعقل وفتور الثورة فإنه يؤدي الى لملمة بقايا النظام صفوفهم واعادة انتاج نفس المنظومة وعودة الأساليب القديمة في القمع والدفاع عن مصالح الطبقة الحاكمة بالردع والقانون. فما نعني بالنظام؟ وكيف يتسبب في تشكل سلطة شمولية؟ وما المقصود بالفوضى؟ وماهي النتائج التي تترتب عن اندلاعها في الفضاء العمومي؟ وما العمل للخروج من هذه الامية المقلقة؟ ومتى نحصل على نظام بلا استبداد وحرية بلا فوضى؟ وهل توجد شروط معقولة لتأمين الانتقال العقلاني من حالة الثورة الى الدولة؟ ولماذا يؤدي هاجس الخوف من سرقة الثورة الى العودة الى الاحتجاجات والعصيان المدني؟ وكيف يمكن المرور من النزعة الأحادية البعد التي تميز البيروقراطية الى نزعة متعددة الأبعاد تميز الديمقراطية وتقيم علاقات تكاملية بين القوى المتصارعة وتحسن التعامل مع التضامنات المعيشة؟ اننا دخلنا الى الحقبة الحقيقية للثورة المنظوماتية العميقة ربما أكثر جذرية من الثورات السابقة واننا نعيش اليوم داخل هذه الثورة المتفجرة في صراعات صعبة جدا لا يمكن أن تتوقف الا حينما يلتهم الجديد القديم. النظام هو ايجاد روابط وتصنيفات بين عدة عناصر واحداث ترتيب بين عدة حدود وقضايا وأشياء وقيم في الزمان والمكان والعقل وتأتي في شكل قوانين ودرجات ومعايير وسلاسل وأسباب وغايات وأنواع وأجناس ولذلك احتوى العقل على ترتيب وتسير الطبيعة وفق نظام ويخضع المجتمع لجملة من النواميس وقد جاء في السياسة أن النظام الاجتماعي هو مجموع القواعد التي ينبغي يتطابق معها المواطنين ليصبحوا أحرارا وسعداء وفي هذا قال كونت : ان التقدم هو تنمية النظام ولكن النظام الأخلاقي يظل هو النظام الحقيقي والثابت لأنه يعبر عن علاقات الكمال ويدفع الجماعة السياسية الى الانصهار والتوحد. أما الفوضى فهي ترمز أوليا الى الكاوس الأصلي والعماء الذي كان عليه الكون قبل تشكل الحياة ووجود الموجودات وبعبارة أخرى تشير الى الفراغ الغامض والذي لا حدود له الذي سبق حالة الكون الراهنة. لكن الفوضى يمكن أن تعني الخلط بين العناصر المتنافرة والتلفيق بين المبادئ المتغايرة بغية خلع النظام واحداث الصدمة والذهول بالنسبة الى الرأي السائد وبناء مغالطات وحيل لغوية وقوة تنظيمية تؤثر في المتلقين وتفرض عليه السيطرة وتعمل على توجيههم نحو تحقيق أغراض لا تخصهم وتنفع غيرهم. المعنى الثالث هو مجموع غير منظم ومختل التوازن ويعاني من قصور ذاتي ومهدد بالعطالة والتفكك والاختفاء والانفصال شأن الأجسام المريضة والأنفس الممزقة والمجتمعات المتناحرة والشركات المفلسة. " تطفو البشرية على فوضى قد تؤدي الى تحطيمها، وتعني الفوضى هنا الوحدة غير الواضحة بين الخلق والتدمير. لا نعرف ما الذي يحصل، لكننا نعرف أن هناك هدرا ضخما جدا وسيكون على أية حال في المستقبل، في الطاقات ، وفي النوايا الحسنة، والحياة." ان النظام هو الواقع الذي لا يمكن تحمله من طرف المواطنين خاصة اذا ما فرضته ارادة التحكم وكان هرميا فوقيا ولم ينبع من ارادة الشعب ولم يكن محل اجماع وموضع اقناع ومارس البطش والعنجهية، لكن تفكك النظام قد يؤدي الى تخبط الناس في الفوضى والى حدوث صراعات وتناقضات بين الملل والنحل والجهات وتتوسع الشروخ بين الجماعات وتحد التضاربات في الأفكار وبين العلمانيين والايمانيين وتنتصر قوى الموت على قوى الحياة وارادة التحطيم على ارادة البناء والرغبة في الافناء على الرغبة في الابقاء وتنبثق مشاعر الكراهية والحقد والاحتقار في قلوب الناس وتشتعل الحروب المسلحة والنزاعات. ان فرض النظام يتطلب اخضاع الأفراد الى المراقبة المستمرة والحد من حرياتهم وتحويل المجتمع باسره الى الة سجن نفسية وجعل الحماية والأمن والاستقرار تغطي جميع ميادين الحياة بالنسبة للمجتمع. ان النظام يكرس آلة ضخمة مستعبدة وشمولية ويحدث تدرج صارم في الهيمنة والسيطرة ويقوم بادماج صارم وتعسفي للأفراد والفئات ويراقبهم بطرق وطقوس متعددة ويمارس عليهم ضغوط كبيرة عن طريق العقلنة والوظيفة وينتج عن ذلك ضعف في التواصل وانحسار في الحريات وغياب تام للحقوق. الغريب أن الفوضى قد تعني الاعتداء والجنون والمبادرة والحرية في نفس الوقت ولذلك "يتوافق مع الغلو في تطبيق النظام الذي يفرضه جاهز الدولة من خلال الحظر والممنوعات ازدياد في الفوضى..." وأن النظام قد يعني الشمولية والانغلاق والاستقرار والازدهار في الآن نفسه وهو ما يجعل الفكر في كماشة ولا يرجح طرف على طرف. لكن كيف السبيل الى التخلص من هاتين الرذيلتين: النظام والفوضى؟ في الواقع "لا يمكن لمجتمع انساني أن يخضع تماما لنظام آلي مبرمج" غني عن البيان أن خلاصنا من الكارثة يظل متوقفا على تجنب الوقوع في الفوضى في الوقت المناسب وذلك باحداث تحول حقيقي من الاستقرار الى الاختلال ومن الاختلال الى النظام من جديد وتحقيق التقدم في ظل الموت. كما أن "السلطة المطلقة بحاجة الى ترياق يحد منها ويديمها في الوقت نفسه". علاوة على تجنب وقوعنا في التنظيم العفوي المشترك وجنون الدولة المهيمنة ووحش الاستبداد وآلتها الدعائية الوقحة والقطع مع تحكم الفرد الشمولي وذلك احترام النواة القديمة في التنظم وبناء نوع من التآزر الواقعي بين القوى والتحالف مع الشعب والسير نحو مجتمع عادل وهوية انسانية. ان الدرس الذي يمكن استفادته من الثورة العربية أن الشباب حولوا الفوضى الى مجال للخلق والابداع وابتعدوا بها عن التحطيم والجنون وأنها عطلوا النظام الشمولي وشطبوا الديكتاتورية ولكنهم أثبتوا قدرة على التنظم الذاتي والتعويل على النفس وسمحوا بولادات جديدة في المجتمع المدني ما بعد الثورة. ان الخروج من هذه الامية المقيتة رهين توافق جميع القوى الفاعلة والأطراف المدنية على ضرورة تشكل مشروع مجتمعي يمهد الطريق نحو قيام دولة ديمقراطية تحكمها مؤسسات مستقلة وعادلة يسيرها مواطنون أحرار خالية من كل تمييز أو تفاوت طبقي أو جهوي أو اثني. ان المطلوب هو ترجمة هذا التوافق في توقيع صحيفة الصداقة السياسية تترجم الاجماع الشعبي على الانتصار الى قيم الثورة. أضف الى ذلك ينبغي أن تكون الانتقالات على المستوى الاداري والمؤسساتي خال من العنف وتجد مشاكل الحريات وحقوق الانسان حلولا جذرية وأن تشهد العلاقات الانسانية والاجتماعية تغييرات عميقة تمس الأسس والأفعال والآفاق. لكن هل الدعوة الى التصافي والتسامح الفعلي هي انقاذ للنظام البائد من جرثومة الفوضى؟ والى أي مدى يكون النظام سبب الجمود والفوضى مصدر خلق وتجديد؟ " مع أننا نعلم أن كل الأحداث الهامة في التاريخ العالمي أو في حياتنا هي أحداث لا متوقعة بشكل كلي، الا أننا نستمر في التصرف كما لو أنه لا شيء لامتوقع بإمكانه أن يحدث." فهل نبرر جنوح الجموع الى الفوضى اذا ما كانت تعني حرية ومبادرة وابداعا أيضا؟ وكيف نعمل على ألا تكون ولادة الدولة من رحم الثورة حدثا فجائيا لامتوقعا؟ ومتى يكون دخول العرب الى المدنية هو الأمر الذي ينبغي أن يحدث؟ المراجع: إدغار موران، الفكر والمستقبل، مدخل الى الفكر المركب، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2004، أدغار موران ، النهج، إنسانية البشرية، الهوية البشرية. ترجمة هناء صبحي، منشورات كلمة، أبو ظبي، الطبعة الأولى، 2009، كاتب فلسفي
#زهير_الخويلدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
طبيعة التحولات المعاصرة
-
الحذر الفلسفي من سطوة الخطاب القانوني
-
الاسلام المستنير وأهمية العمل السياسي
-
فهم الظاهرة الشمولية
-
فصل المقال بين السياسة والدين
-
المد الثوري العربي واستحقاقات المرحلة
-
الارادة الشعبية سر انتصار الثورات العربية
-
سيكولوجيا الشعوب والعقل الجمهوري
-
الحرية للأفراد والسيادة للشعوب
-
فلسفة الثورة التونسية
-
المعقول واللامعقول عند جوليان فروند
-
الارتقاء بأخلاق المهنة
-
أولية السؤال عن الآخر على السؤال عن الوجود عند لفيناس
-
واقع المرأة بين الدين والعولمة
-
الإنسان في الأشكال الثقافية عند أرنست كاسرر
-
هوية الشخص وثقافة الآخر
-
مشكلات هرمينوطيقية
-
السوسيولوجيا من منظور فلسفي
-
أبو القاسم الشابي بين الوطن والأمة
-
الذات بين التفكك والتحقق
المزيد.....
-
الجنائية الدولية تصدر أوامر اعتقال ضد نتنياهو وجالانت لارتكا
...
-
الجنائية الدولية تصدر أمر اعتقال بحق قائد كتائب القسام محمد
...
-
حيثيات تاريخية لإصدار أمر اعتقال نتنياهو وجالانت لارتكاب جرا
...
-
وزيرة إسرائيلية تصف مذكرات الاعتقال الدولية الصادرة ضد نتنيا
...
-
بن غفير يدعو إلى فرض السيادة على الضفة الغربية ردا على مذكرا
...
-
قيادي لدى حماس: مذكرات اعتقال نتنياهو وجالانت تؤكد أن العدال
...
-
المحكمة الجنائية الدولية تصدر مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغال
...
-
المحكمة الجنائية الدولية تصدر مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو ويوآ
...
-
المحكمة الجنائية الدولية تصدر مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغال
...
-
الجنائية الدولية: توجيه تهم ارتكاب جرائم حرب وضد الإنسانية ل
...
المزيد.....
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
-
فراعنة فى الدنمارك
/ محيى الدين غريب
المزيد.....
|