جواد بشارة
كاتب ومحلل سياسي وباحث علمي في مجال الكوسمولوجيا وناقد سينمائي وإعلامي
(Bashara Jawad)
الحوار المتمدن-العدد: 219 - 2002 / 8 / 14 - 01:09
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
باحث في مركز الدراسات العربي ـ الأوروبي
صدام الإسلام والحداثة
نظرة إعلامية غربية للتناقض بين العلمانية الغربية والأصولية الإسلامية السعودية
ظل الإسلام طيلة عقود طويلة في الغرب هدفاً للهجمات الحقودة التي توجه إليه الرماح والسهام ، ومحاصرا تصوب إليه الضربات والطعنات ، حتى قبل أن تحدث انفجارات الثلاثاء الأسود في الولايات المتحدة الأميركية .
فقبل عشر سنوات خرج المحلل الأميركي صاموئيل هنتنغتون بمقولة " صدام الحضارات " والتي قال فيها إن ما ستتمخض عنه نهاية الحرب الباردة هو ظهور خطوط تماس ومواجهة جديدة لن تكون عسكرية بقدر ما ستكون ثقافية ـ حضارية سينتج عنها " تصادم بين الحضارات" وقد قسّم هينتنغتون محاور الصراع المقبلة إلى خمسة أو ستة مناطق أو كتل جيو ـ استراتيجية كبرى تتعايش فيما بينها أحياناً لكنها لا تلتقي لأنه لاتمتلك قيماً مشتركة فيما بينها . ويتمخض عن وجهة النظر هذه نتيجتان : فمن جهة أدت النتيجة الأولى إلى حدوث هجمات الحادي من سبتمبر / أيلول الانتحارية والرد الأميركي سيكون لا محالة بمثابة بداية للصراع المسلح بين "الغرب"، وطليعته أميركا، وبين " الإسلام " ،وأحد رموزه أفغانستان في الوقت الحاضر ، ومن جهة أخرى فإن مفهوم " حقوق الإنسان " الذي يضفي عليه الغربيون طابعاً شمولياً وعالمياً لن يكون في نظر الكتل الأخرى ـ وخاصة التكتل الإسلامي ـ سوى تعبير عن الثقافة الغربية، ولايمكن تطيبقه على من لايتبنى نصوصه ولا يشاطر الأوروبيين والغربيين قيمه ومبادئه.
إن الذي يرفض هينتنغتون رؤيته هو إمكانية وجود حضارة عالمية شاملة ذات قيم كونية شاملة لاتتعارض مع القيم الحضارية الأخرى التي تتبناها وتمارسها الأدياتن والشعوب المختلفة كما قال ذلك الحاصل على جائزة نوبل للآداب نيبول في مقاله " الحضارة الكونية " وهو هندي الأصل ونشأ وترعرع في ترنيداد وكتب في مقاله المذكور إن القيم الغربية ليس فقط تهم جميع الثقافات فحسب ، بل إنه يدين بشهرته ونجاحه لكونه تخطى كافة الحواجز المزعومة التي وضعها أمثال هينتغنتون بين الحضارات .
وبعبارة أوسع وأوضح فإن الشمولية أو العالمية ممكنة لأن المحرك الأساسي للتاريخ الإنساني ولتطور العالم ليس التعدد الثقافي بل السعي نحو التقدم والعصرنة والتحديث الذي يتجسد في الديموقراطيات الليبرالية واقتصاد السوق . فالصراع الحالي لايمثل " تصادماً " بين الحضارات بالمعنى الذي أريد له أن يُشاع وينتشر أي بخصوص تقسيم العالم إلى مناطق وكتل ثقافية متباينة تحظى بنفس الأهمية تقريبا،ً أنه في حقيقة الأمر ليس أكثر من معركة تلفظ أنفاسها الأخيرة للحراس القدامى للهيكل الحضاري المتقادم والذين يشعرون بتهديد الحداثة والعصرنة لهم ولمكاسبهم ويخشون من الأبعاد الأخلاقية لمبادئ حقوق الإنسان التي تحظى بقبول كافة شعوب الأرض .
ومن الناحية العملية فإن جميع الحقوق الموجودة والمكتسبة عبر التاريخ تستند إلى إحدى السلطات الثلاث التي المتمثلة بـ :" الله ، والإنسان ، والطبيعة" . فمنذ بداية عصر الأنوار ،كانت فكرة" أن المصدر الأساسي والرئيسي للحقوق والقوانين والتشريعات هو الله وأديانه السماوية ورجال الدين"، فكرة مرفوضة في الغرب.الخطاب الثاني حول الحكومة والحكم لجون لوك بدأ بهجوم مطول ضد شرعية الحكم السماوي أو الحكم الإلهي الذي دافع عنه روبير فيلمر ، بعبارة أخرى فإن الطابع العلماني للمفهوم الغربي للحقوق هو الأساس في التقليد الليبرالي .
واليوم يبدو هذا الخلاف هو الخط الفاصل بين الإسلام والغرب فهناك الكثير من المسلمين يرفضون فكرة الدولة العلمانية المنفصلة عن الدين ولكن قبل الإنسياق وراء أطروحة " الصدام الحتمي بين الحضارات " علينا أن نفهم لماذا تطورت الليبرالية العلمانية المعاصرة أولاً في الغرب . فليس مصادفة إنتشار الأفكار الليبرالية في القرن السادس عشر والقرن السابع عشر في فترة كان المسيحيون يخوضون صراعاً دامياً بينهم في أوروبا مما عكس عجزهم على الحكم بالاستناد إلى وفاق ديني بينهم فتحرك مفكرون مثل هوبز ولوك ومونتسكيو إزاء البشاعات والفضائع والوحشية المرتكبة مثل حرب الثلاثين عاماً لإدانتها وقالوا أنه من أجل ضمان السلام المدني لابد من فصل الدين عن السياسة .
يواجه الإسلام في الوقت الحاضر تحدياً وخياراً مشابهاً كما يعتقد بعض المثقفين الغربيين. فالجهود المبذولة من قبل بعض الحكومات والحركات والأحزاب والجماعات الإسلامية للجمع بين الدين والسياسة وممارسة هذه الأخيرة باسم الإسلام تثير الإنقسام بين المسلمين كما سبق أن أحدثت الإنقسامات بين المسيحيين في أوروبا في القرون المنصرمة . فرجال السياسة اليوم في الغرب محقون وهم حاذقون بتأكيدهم بأن الصراع الحالي ليس مع الإسلام ، الذي يعتبرونه الدين المتباين الأشكال والولاءات والتيارات والطوائف إلى حد التنافر ، والذي لايعترف بأي سلطة دنيوية قائمة تحتكر لنفسها حق تفسير الشريعة السماوية وتفسيرالقرآن وقوانينه وتعاليمه . فالتعصب والتشدد والأصولية ليست سوى إحدى الخيارات الممكنة لدى المسلمين بمختلف أجناسهم وأعراقهم وأصولهم لأن الإسلام واجه دائماً وسيواجه باستمرار تحدي العلمانية وضرورة التسامح مع باقي الأديان وتقبلها والاعتراف بها وهذا ما يُشاهد اليوم من خلال النزعة الإصلاحية الأولية المتأججة في الدولة الثيوقراطية القائمة في إيران اليوم على حد تعبير فرنسيس فوكوياما.
المصدر الثاني للحقوق ـ حسب وجهة النظر الوضعية القائلة بأن الحقوق المعترف بها دستورياً قابلة للتطبيق عملياً ـ لايضمن حدوث تطور ليبرالي لأنه يقودنا باتجاه النسبية الثقافية . وإذا كانت الحقوق التي يُطالب بها في الغرب ناجمة عن الأزمة السياسية التي عصفت بالمسيحية في أوروبا بعد حركة الإصلاح فكيف يمكننا أن نمنع مجتمعات أخرى من الرجوع إلى تقاليدها الخاصة لإنكار هذه الحقوق أو الحكم على عدم أهليتها وعدم موائمتها ؟ والحكومة الصينية من المعتادين على مثل هذه الحجج والتبريرات والذرائع . المصدر الثالث للحقوق هو الطبيعة، فمبرر الحقوق الطبيعية الذي احتل مقدمة المشهد الفكري في القرن الثامن عشر في أميركا ، مازال يغلف الخطاب الخلقي والأخلاقي الغربي إلى يوم الناس هذا . فعندما يقول الغربيون إن الجنس أو العرق أو الثروة أو الجنس ليست صفات أساسية وهذا ينطوي على مبدأ الإنتماء البشري الذي يحق بموجبه لكل شخص أن تكون له حماية تجاه الانتهاكات والتجاوزات التي يمكن أن يرتكبها ضده جماعات أو دول . وهذا المفهوم يتعارض مع خاصية إعطاء موقع دوني لبعض الأقوام أو الأشخاص كالنساء على سبيل المثال وهذا ما يحصل في بعض الثقافات كالثقافة الشرقية . إن انتشار الديموقراطية خارج أوروبا في السنوات العشرة الأخيرة من القرن العشرين يشير بما لا يقبل الشك إلى أن الأوروبيون ليسوا وحدهم ممن يتقاسمون ويعتنقون هذا المفهوم .
وإذا كانت حقوق الإنسان كونية وشمولية أو عالمية فهل يحق للغربيين المطالبة بتطبيقها في كل مكان وكل زمان ؟وفي كتاب الأخلاق قال أرسطو إن القوانين والحقوق الطبيعية موجودة فعلاً لكنها تطبيقها هو الذي يتطلب بعض المرونة والحذر .وهذه النظرة مازالت صالحة إلى يومنا هذا . ينبغي إذن التمييز بين المفهوم النظري للعالمية أو الشمولية في حقوق الإنسان ، وتطبيقاته العملية لأن فهمه وإدراكه يختلف حسب الثقافات .
في كثير من المجتمعات التقليدية التي تكون فيها الخيارات الحياتية والفرص محدودة فإن وجهة النظر الغربية والفردية للحقوق غير مرغوب فيها لأن المفهوم الغربي مرتبط بالحداثة الغربية وعدم الاعتراف بهذه الحقيقة يعني كما لو إننا نضع العربة قبل الحصان . فالالتزام بالبعد العالمي لحقوق الإنسان يندرج في سياق معقد لحضارة ذات طابع عالمي تتضمن عوامل أخرى نعثر عليها في المجتمعات المتطورة والحديثة والتي لايمكن الفصل بينها كالعدالة الاقتصادية والديموقراطية السياسية .إن هذا الفهم الشائع في الغرب وخاصة بين مثقفيه ليس متجانساً فقد تغيرت الكثير من مسلماته الراسخة خاصة ممكن يساهمون في التنظير له في وسائل الإعلام .
البتروـ دولار وجذور الإسلام السياسي ونشوء ظاهرة " الإرهاب الديني"
في أعقاب إخفاق الأيديولوجية القومية وفشل الأيديولوجية الماركسية العلمانيتين في تعبئة الشعوب العربية خاصة بعد نكسة حزيران 1967 ، صارت الأجيال الشابة في العالم العربي تبحث عن ملجأ أيديولوجي ـ نفسي تحتمي به من هوة الضياع وصار المثقفون يجلدون أنفسهم وكأنهم المسؤولون عن هذا الانهيار النفسي الذي ولد بعد الهزيمة كما عبر عن ذلك المفكر العربي الدكتور صادق جلال العظم في كتاب " النقد الذاتي بعد الهزيمة " أفضل تعبير .
من هنا يمكننا أن نربط بصورة منطقية بين تنامي التيار الديني كرد على إفلاس الأيديولوجيات العلمانية ونشوء ظاهرة العنف المسلح من جهة وتبلور ما سمي فيما بعد بـ ( الإرهاب الدولي ) خاصة بعد انبثاق المقاومة الفلسطينية وتبنيها لأسلوب الكفاح المسلح ونشوء الخلط بين المقاومة الوطنية المشروعة كما يفهما العالم الثالث والشعوب المقهورة ، والإرهاب كما تعرّفه الدلو الغربية وإسرائيل وتدمغ به كل عمل عسكري تقوم به مجموعات المقاومة الوطنية من أجل التحرير ومقارعة الاستعمار والاحتلال . ومن هنا نشأ أكبر سوء تفاهم في القرن المنصرم وبالأخص في العقود الثلاثة الأخيرة منه بين الغرب والعالم العربي ـ والإسلامي . ومن سوء التفاهم والفهم المتبادل هذا نشأت بذور الصراع الذي سيتخذ أشكالاً متنوعة فيما بعد وخاصة بعد عام 1973 . وهو عام حرب أكتوبر / تشرين أول بين العرب وإسرائيل واستخدام النفط كسلاح وظهور ما سمي فيما بعد بـ " البترو ـ إسلام " حسب التسمية الغربية .فقد نمت عن الغربيين عقد الانتقام والرد الحاسم والمناسب في الوقت المناسب لتلقين العرب درساً لن ينسوه على جرأتهم في تهديد الغرب بقطع إمدادات النفط عنه واستخدامها كسلاح لتحقيق مواقف " وابتزاز الغربيين " على حد تعبير هنري كيسنجر .
كانت حرب أكتوبر/تشرين أول 1973 بمثابة إنعطافة هامة في تاريخ العلاقات العربية ـ الغربية . فالمغامرة العسكرية العربية لغسل عار الهزيمة السابقة في سنة 1967 وكسر شوكة إسرائيل وإنهاء أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لايقهر كانت من الأهمية بمكان أن الغرب أخذ يدرس من خلالها كافة الاحتمالات والتصورات والسيناريوهات المستقبلية . صحيح أن العرب لم يحققوا انتصاراً حاسماً وينهوا إسرائيل من الوجود ـ وهو لم يكن هدف تلك الحرب على الإطلاق فقد كانت حرب تحريك وليست حرب تحرير " إلاّ أنها مع ذلك كانت مصيرية بسبب تبعاتها . فقد نهض الغرب وعلى رأسه أميركا لمساعدة إسرائيل ودعمها بقوة بجسر جوي لم يشهد له التاريخ مثيلاً وحققت الدولة العبرية هجوماً مضاداً كاسحاً على الجبهتين المصرية والسورية لكنها اضطرت إلى التوقف على مسافة 101 كيلو متر عن القاهرة على طريق السويس بسبب إعلان الحظر النفطي من جانب الدول العربية المنتجة للنفط على الغرب الذي مارس ضغوطاً قوية على إسرائيل لتتوقف وتقبل بالتفاوض على وقف إطلاق النار والهدنة . وهكذا تحول النصر إلى انتصار رمزي ـ وسيكولوجي وأتاحت للأنظمة القومية ـ العلمانية في دول المواجهة أن تدعي الشرعية والوطنية لفترة من الزمن كما زادت هذه الظروف من الدخل المالي للدول النفطية إثر ارتفاع أسعار النفط بصورة هائلة مما حقق للدول المنتجة للنفط مواقع مهمة ومهيمن في العالم الإسلامي .وأتاحت هذه المعطيات الجديد للمملكة العربية السعودي بالذات أن ترتفع إلى مستوى طموحاتها القديمة بقيادة العالم الإسلامي وفرض رؤيتها الإسلامية المحافظة النابعة من المذهب الوهابي وتنظيرات إبن تيمية ومحمد عبد الوهاب من خلال شبكة من المساعدات المالية للجماعات الإسلامية التي ازدهرت خلال سنوات السبعينات والثمانينات وحملة لبناء المساجد وتأسيس الجمعيات الإسلامية الخيرية في كل مكان من العالم الإسلامي وحيث يتواجد المسلمون بما في ذلك في أوروبا وأميركا فضلاً عن دول آسيا الوسطى الإسلامية .وانتشرت " الحركة السلفية " التي تطورت إلى " حركة أممية أو دولية إسلامية " وتقاربت جمعيات سابقة كجماعات الأخوان المسلمين والجماعات الإسلامية في الباكستان والهند وتركيا وأفريقيا وفي السودان وأفغانستان خاصة في مواسم الحج للتنسيق فيما بينها والمباشرة بحملة تبشيرية لتأصيل الإسلام التقليدي في المجتمعات الإسلامية من القاعدة الشعبية فيها ودحر الفكر العلماني ونمط الحياة الغربي وجعل الإسلام العامل الأول في حياة الشعوب الإسلامية ومنحه دوراً فاعلاً ومؤثراً على المسرح الدولي . والوصول إلى المسلمين المهاجرين في دول الغرب لتوصيل " الإسلام السعودي بصيغته الوهابية" إلى مسلمي المهجر على حد تعبير جيل كبيل في كتابه " الجهاد توسع وانحسار الإسلام السياسي " .
ومن نتائج هذه المتغيرات نشوء ظاهرة " الأفغان العرب " عبر تجربة طويلة وشاقة تميزت بالشدة والدموية أحياناً وامتدت آثارها إلى جميع الدول العربية والإسلامية وحليفاتها الغربية .وكانت هذه الظاهرة الخطيرة قد نشأت نتيجة خطأ وسوء في التقدير والحسابات الخاطئة لعدد من أجهزة المخابرات العربية والإسلامية والغربية وتنظيمات ومؤسسات ورجال أعمال ورجال دين وسياسيين ساهموا بشكل أو بآخر في تشكيل وتعزيز هذه الظاهرة من خلال تشجيع وتسهيل ودعم وتمويل هجرة الحركيين الإسلامويين النشطاء وترحيلهم إلى أفغانستان لمحاربة الغزو السوفيتي والتدرب على فنون القتال لكنهم دفعوا فيما بعد ثمناً باهظاً لهذه الإستراتيجية ذات الحدين وكانت العواقب وخيمة على الجميع على المستويات العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية والعقائدية ولم تدفع " العلمانية " وحدها الثمن بل الفكر الإسلامي برمته لأن " الأفغان العرب" أعلنوا تكفير الجميع وبالذات رجال الدين والهيئات الدينية الرسمية والعلماء الذين يعملون في فلك السلطات السياسية الحاكمة .لقد فات الأوان ولم يعد يفيد شيء مهما بلغت قوة وجبروت الآلة العسكرية الغربية التي تقف في مواجهة " إرهاب الأفغان العرب " فتفجير المدمرة كول والسفارات الأميركية وأخذ الرهائن الغربيين وتفجير مركز التجارة الدولي ووزارة الدفاع الأميركية وغيرها من الأعمال ما هي سوى انعكاسات ظاهرة وجلية لمدى تغلغل هذه الظاهرة التي تستند إلى كتابات تنظيرية لمفكرين إسلاميين قدماء ومعاصرين ، أمثال شيخ الإسلام إبن تيمية ، ومحمد عبد الوهاب ، وأبو الأعلى المودودي وسيد قطب والإمام الخميني ومحمد عبد السلام فرج وعمر عبد الرحمن وايمن الظاهري واسامة بن لادن ،و شكري مصطفى وحسن الترابي وعلي بلحاج وعباس مدني الخ .. اجتمع أغلبهم في أفغانستان ومنها انتشروا في بقاع الأرض المختلفة ليفرضوا قوانينهم ورؤيتهم بلغة الحديد والنار والعنف والقتل والتدمير . ولم تتمكن اعتقالات وسجون ومحاكمات وإعدامات الأنظمة العربية والإسلامية المناوئة لأفكارهم أن تستأصلهم أوتبيدهم. فهؤلاء العائدون من أفغانستان اكتسبوا الخبرة والمناعة والحسم والتصميم وقدرة المواجهة مهما كان الثمن المطلوب دفعه ولو كان بأرواحهم ، فأغلبهم ذو نزعة انتحارية وقد برهنوا على ذلك في مناسبات سابقة كاغتيال الرئيس المصري أنور السادات في 6 أكتوبر / تشرين أول 1981 واحتلال الحرم المكي الشريف الخ .. وكلهم خرج من رحم جماعة الأخوان السلمين التي أسسها حسن البنا في عشرينات القرن المنصرم وتألق نجمهم بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 ، وامتازوا بميزة العداء للغرب وحضارته وقيمه الأخلاقية والأيديولوجية فضلاً عن عدائهم الشديد للشيوعية باعتبارها من صميم الفكر الغربي الغريب عن الإسلام .
لقد أخفق الأخوان المسلمون السنة في الوصول إلى السلطة في مصر والجزائر وسوريا لأنهم لم يستقطبوا كافة فئات الشعب وطبقاته وخاصة الطبقة الوسطى إلى جانب قضيتهم بينما نجح في ذلك التيار الديني الشيعي بقيادة آية الله العظمى الإمام الخميني الذي جمع تحت لوائه البرجوازية الصغيرة المتدينة والبازار التجاري والطبقة الوسطى والفقراء والفلاحين والعمال والطلاب والكوادر المتعلمة (موظفين و مهندسين ومحامين وقضاة وأطباء وتقنيين إلى جانب الفئات المسحوقة ، تحت شعار" الثأر المستضعفين وأخذ حقوقهم " وتطبيق برنامج " ولاية الفقيه " وتأسيس جمهورية إسلامية تطبق الشريعة والعدل والمساواة بين الناس تحمي استقلال إيران وتشيع الديموقراطية والتعددية بين أبنائها .واستخدم خطاباً توحيدياً يخلق تلاحماً جماهيرياً منقطع النظير بين جميع طبقات الشعب الدينية والعلمانية، في مواجهة نظام الحكم التعسفي الذي يفرضه شاه إيران على الشعب بقوة الحديد والنار وبتشجيع الدوائر الغربية والأميركية بصفة خاصة وكان للثورة الإسلامية في إيران تداعيات خطيرة على الشارع الإسلامي والعربي حيث أصبح الإسلام ـ السياسي ، أو التيار الإسلاموي قوة هائلة في المجتمعات الإسلامية وحفّزت الحركات الإسلامية ـ السياسية الداعية لتطبيق الإسلام السياسي إلى التحرك بشتى الوسائل والطرق بما فيها الإرهاب المسلح لكنها لم تنجح في أي مكان آخر عدا إيران ..
إن هذا الموقف الغربي ـ الأميركي إلى جانب " الطغاة" والدكتاتوريين والعسكريين المستبدين على رأس الأنظمة الموالية لهم هو الذي خلق جذور الكره والحقد على الغرب وعلى أميركا والذي تفاقم أكثر فأكثر بسبب الإنحياز الأعمى إلى جانب إسرائيل ضد المصالح العربي والإسلامية وعلى مدى سنوات طويلة تمتد منذ وعد بلفور لليهود بوطن قومي في فلسطين سنة 1917 إلى يوم الناس هذا في 2001 حيث تقوم إسرائيل بتدنيس المقدسات الإسلامية وذبح الفلسطينيين العزل وامتهان كرامتهم وتجويعهم وتطويقهم بالدبابات والحواجز الأمنية خاصة بعد إندلاع انتفاضة القدس الثانية وإنهيار سيرورة أوسلو السلمية .
هذا هو الواقع المؤلم الذي عاشته الأجيال الإسلامية الشابة من المحيط إلى الخليج في العالم العربي وفي معظم الدول الإسلامية كما في أفغانستان والشيشان والكوسوفو والبوسنة والهرسك وفي تركيا حيث يتعرض الإسلاميون إلى القمع والسجون والملاحقة والمطاردة والقتل مما دفعها إلى الثورة المسلحة واستخدام أساليب الكفاح المسلح وحرب عصابات المدن وعمليات الكاميكاز الانتحارية ضد قوى الظلم والطغيان من أتباع الشيطان على حد تعبير منظّري الحركات الإسلامية الراديكالية .فاستدار " الثوار المجاهدون " بالأمس القريب ضد الغزو السوفيتي واليوم ضد الهيمنة الغربية ـ الأميركية على العالم وحولوا بنادقهم إلى صدور حكامهم المتواطئين بنظرهم مع العدو الغربي الذي يحارب الإسلام والقيم الإسلامية كما يفهمونها هم ،( اغتيال السادات ، طرد الشاه ، تمرد حماه المسلح ضد السلطة البعثية العلمانية في سوريا الخ ) .
كان إنتصار الإمام الخميني في طهران عام 1979 قد غير موازين القوى في العالم الإسلامي المعاصر الذي كان يسير تحت جناح المملكة العربية السعودية الموضوعة بدورها تحت مظلة الحماية العسكرية الغربية ـ الأميركية ، خاصة بعد تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي عام 1969 وانتصار " البترول ـ إسلام " عام 1973 كما يسميه جيل كبيل في كتابه السالف الذكر . كان الجميع يتوقع تفاعلاً وانقلاباً جماهيرياً مماثلاً في الملكة العربية السعودية آنذاك . فقد صرح أحد المقربين من الإمام الخميني وهو في منفاه في ضاحية نوفل لو شاتو الباريسية " إصبر لترى ماذا سيحدث للسعوديين بعد عودتنا لطهران بستة أشهر لا اكثر " . وبالفعل بعد تسعة أشهر من انتصار الثورة الإيرانية |، وفي فجر يوم 20 نوفمبر / تشرين الثاني سنة 1979 وهو اليوم الأول من القرن الخامس عشر للتقويم الهجري تعرض الحرم المكي الشريف لهجوم مسلح وإحتلال من قبل بضعة مئات من المعارضين الإسلامويين المتطرفين كخطوة أولى نحو انتفاضة شعبية كان مقدراً لها إطاحة عرش المملكة وتحويله إلى جمهورية إسلامية على غرار الجمهورية الإسلامية الإيرانية بطبعتها السنية .( والتي قدر لها أن تتحقق بمساعدة سعودية بعد عشرون خمسة عشر عاماً وبظروف مختلفة تماماً في أفغانستان بوصول الطالبان للسلطة وتطبيق الشريعة الإسلامية في جمهورية إسلامية سنية ـ وهابية) ودام إحتلال الحرم المكي إسبوعين ولم يكن للمهاجمين أي إتصال أو تنسيق مع السلطة الإيرانية وكتان ذلك الحدث بمثابة أخطر تهديد يتعرض له بنيان المملكة والصرح الذي شيّده آل سعود منذ سنوات طويلة لأن شرعيتهم الإسلامية تعرضت للاهتزاز والخلخلة والطعن بصورة استعراضية ملفتة للأنظار وداخل أقدس الأراضي الإسلامية بالرغم مما قدمته السعودية من تمويل ومساعدات لجميع الحركات الإسلامية السنية في العالم بغية تحييدها واحتوائها والسيطرة عليها وتجييرها إلى صفها من خلال نشاط وعمل رابطة العالم الإسلامي الدؤوب ، وفي نفس الوقت تطويق آثار صيغة " الثورة الإسلامية " المدمرة التي تجسد كافة أنواع للأخطار المحدقة بالمملكة لأن إيران كانت تحاول طمس هويتها الشيعية للتقرب هي الأخرى من الحركات الإسلامية ـ السياسية النشطة في العالم الإسلامي والسنية المذهب على غرار 80% من مسلمي العالم الإسلامي وتقديم العون والمساعدة لعدو إيران اللدود صدام حسين في حربه العدوانية على إيران بغية إضعاف هذه الأخيرة وإبعادها عن ساحة المنافسة . وقد نجحت المملكة بعد بضعة أعوام في تطبيع علاقاتها مع خصمها اللدود إيران والتنسيق معها والتعاون معها في كافة المجالات الإسلامية المشتركة .
ومن منظور هذه الرؤية المتقولبة دأبت وسائل الإعلام والدوائر الفكرية والجامعية والإعلامية على التعاطي مع الإسلام من وجهة نظر أحادية الجانب ومشبعة بالأفكار المسبقة والنوايا المغرضة التي عززتها الأحداث الأخيرة.
فمنذ اليوم الأول من المنعطف الأسود 11 سبتمبر 2001 ،قامت وسائل الإعلام من الفضائيات والإذاعات والصحف بحملة لم بسبق لها مثيل في إطار موقفها العدائي المستمر تجاه الإسلام ... وفي هذا المقام ، أخترنا نماذج من الهوس الإعلامي ، الذي يظهر ما تخفيه الصدور،من بين مئات الأمثلة والحالات .. وركزنا على ثلاث صحف فرنسية هي "لوموند" و"لو نوفيل أوبسرفاتور" و"لوبوان". أما الأولى ، فقد خصصت للإسلام ملفا ضخما في يوم السادس من أكتوبر تضمن اثنا عشر عنوانا ثم وسعت الملف في العدد الشهري الخاص المسمى "لوموند 2" .. عنوان العدد "الأزمة ، الفعل الثاني" وهو العدد 11 ، تناولت المجلة القضية الإسلامية في96 صفحة .
وأما الثانية فهي "لو نوفيل أوبسرفاتور" فقد عنونت ملفها الخاص بقولها: "الإسلام ، زمن النقد الذاتي" .. اشتمل الملف على 8عناوين ومعجم خاص ، صدر العدد 1926 يوم 4 أكتوبر 2001 .
وأما الثالثة "لوبوان" ليوم الجمعة 5 أكتوبر 2001 فقد أطلقت على ملفها اسم "الحقيقة عن الإسلام في فرنسا" وبتقديمها في 11 صفحة .
ونسوق للقراء الكرام بعض النماذج مما نُشر في الصحف الثلاث المذكورة:
حاورت صحيفة "لوموند" الكاتب اليهودي "ماكسيم رودنسون" المتخصص في تاريخ الديانات .. وقد سئل هذا الرجل عن ضرورة الفصل بين من يصف الإسلام بالتسامح ومن ينسب إليه العنف .. فما كان جوابه إلا أن قال: "إن النص القرآني يتضمن كثيرا من المتناقضات .. في أقدم الآيات يبيح القرآن شرب الخمر ، لكن آيات أخرى جاءت فيما بعد فحرمته ، لذلك التجأت الكتب القديمة للمسلمين إلى تأسيس نظرية الناسخ والمنسوخ .. هل هذا تناقض؟ أجل ، لأن الله غيّر رأيه".بعد أن استشهدت "جوزيت آليا" بوصف "رودنسون" للإسلام بكونه دينا غريبا مخيفا يرهب العالم والحداثة ، دعت بكل حرارة في خلاصة مقالها إلى تحالف دولي يضم كل المثقفين المسلمين المعتدلين ، ليقاتلوا القرآن كافة كما يقاتل العالم الأفغان كافة ، وقالت بالحرف: "عليهم أن يظهروا كيف يزكي القرآن العنف، عليهم أن يعتبروا أن النص القرآني ما هو إلا إنتاج بشري يحتوي على أخطاء جسيمة في الأخلاق والتاريخ والعلوم ، إنه نص بني على مبادئ متجاوزة" .. (لونوفيل أوبسرفاتور) .
أما الكاتب والفيلسوف "جان بيار فرايسيف" فقد قال في مناظرة بعنوان "القرآن والعنف" عن الجناة الذين قاموا بالتفجيرات في مانهاتن وواشنطن: أهم منافقون وخارجون عن الدين وتصرفوا خلافا للتوجيهات القرآنية؟ .. أم هم مؤمنون صالحون يفعلون ما يؤمرون؟ ثم وضع السؤال بطريقة أخرى فقال: "هل القرآن
يتناقض مع روح حقوق الإنسان؟ والجواب هو: نعم ، لأنه يبني أنواعا من الفروق والتمييز بين الناس: فالمؤمنون يستحقون الحياة وللكافرين القتل والهلاك ، كما للنساء الهجر والضرب ، في القرآن حوالي 700 كلمة تدور حول العقاب والعذاب والتدمير".
ويركز الإعلام الغربي الآن على المؤسسات التربوية التي يتعلم فيها المسلمون القرآن حفظا ودراسة .. ولذلك تقوم المخابرات الأمريكية والغربية بمسح إحصائي شامل عن هذه المؤسسات أينما كانت ، وهذا جزء من الخطة الشاملة في رأيهم للقضاء على الإرهاب أينما كان .. وستعرف الأيام القادمة ضغوطا أمريكية على الدول الإسلامية والغربية بإغلاق هذه المدارس القرآنية والجمعيات وربماوصل الأمر إلى الكتاتيب القرآنية.
وفي هذا السياق يأتي تهجم "مالك شبل" في "لونوفيل أوبسرفاتور" على المدارس القرآنية في مقال له تحت عنوان "لقد استعبدوا الله"يتهكم هذا الرجل على طريقة تحفيظ القرآن الكريم ،ويقول: "المدرسة القرآنية حيث يتم تفتيت السور والآيات طوال اليوم ، صور كاريكاتورية ناطقة" ومن ثم فلابد من إغلاق هذه المدارس والشروع فورا في ثورة ثقافية ، تجدد الدين ، وتعصره عصرا حتى يصبح مقبولاً من قبل الأجيال الجديدة التي تعيش تحديات العصر .
الزعماء السعوديون بين مأزق الضغوط الجماهيرية والمطالب الأميركية
وعندما سعت المملكة العربية السعودية إلى إحتواء هؤلاء الحركيين النشطاء في الحركة الإسلامية العالمية أو " الدولية الإسلامية " أستخدمت سلاح المال وشراء سكوت المتطرفين منهم وتسهيل مهمة المعتدلين ي إطار شبكة عالمية من نظام تقديم المساعدات عبر مؤسسات محددة لهذه الغاية كرابطة العالم الإسلامي ، وجمعية الإغاثة الإسلامية العالمية الخ وكان شخص الأمير تركي الفيصل من الأسماء التي تحوم حولها الأنظار لعلاقته الخاصة بنظام طالبان في أفغانستان حيث يوجد معظم " الأفغان العرب " وعلى رأسهم اسامة بن لادن ولكن بعد أحداث الحادي عشر من أيلول / سبتمبر وإقالة الأمير تركي الفيصل من منصبه كرئيس للمخابرات السعودية خرج عن صمته وخاطب أسامة بن لادن قا~لً :".. إنك لا تستحق أن تحمل إسم أبيك رحمه الله ، وحديثك عن الإسلام والمسلمين ليس سوى أكاذيب ولاتمت بصلة للإسلام وتخالف تعاليم الله ونبيه الأكرم . والإسلام بريء من أفعالك وأقوالك " . إن هذا الكلام الذي وجهه أحد أمراء العائلة المالكة السعودية لأسامة بن لادن وهو الأمير تركي الفيصل. يعتبر بمثابة مبادرة نادرة في المملكة، بل لم يسبق لها مثيل .فقد وجه الأمير الذي كان يشغل منصب رئيس جهاز المخابرات السعودي وأقيل قبل أسبوعين من عمليات الحادي عشر من سبتمبر / أيلول، وقد وجه هجومه على اسامة بن لادن من خلال صحيفة الشرق الأوسط السعودية ـ الدولية . كان ذلك في 9 أكتوبر / تشرين أول ، يعني بعد حديث بن لادن التلفزيوني على قناة الجزيرة القطرية الذي توعد فيه الولايات المتحدة الأميركية بالهلاك وحمل فيه راية الدفاع عن فلسطين والعراق.
كان الأمير تركي الفيصل يعتبر قبل وقت ليس بالطويل أهم حلقة اتصال رسمي بين السعودية ونظام الطالبان . ولعب دوراً رئيسياً في تمويل المجاهدين في أفغانستان في فترة الغزو السوفيتي .و سواءً كان يريد تصفية حساباته مع بن لادن الذي كان يجند المجاهدين العرب في ذلك الوقت ، أو كان يقول الحقيقة ، فإن الأمير تركي الفيصل لا يتوانى عن وصف أسامة بن لادن بالجبان عندما يقول له : " عندما كنت تدعي الجهاد إلى جانب المجاهدين ، كنّا نلقبك برجل الكهوف لأنك كنت تختبئ كلما دارت المعارك، واليوم مازلت مختبئاً " . ويفند الأمير تركي الفيصل إدعاء أسامة بن لادن في الدفاع عن فلسطين في الوقت الذي " لم يقتل فيه إسرائيلياً واحداً ، ولم يقدم فيه دولاراً واحداً لتجهيز ودعم الذين يموتون من أجل فلسطين " ثم طرح التساؤل التالي : " وفيما يتعلق بالعراق ، ما ذا فعلت لأطفاله ، وماذا قدمت للشعب الأفغاني غير الخراب ؟ " .
رسمياً ، أقيل الأمير تركي الفيصل من منصبه بناءاً على طلبه هو ( حيث جرت العادة على أنه لايستطيع الأمراء أنفسهم تقديم استقالاتهم ) . ولكن الشائعات حول السباب الحقيقية لاستقالته كثيرة منها وجود صراع داخلي في العائلة المالكة ، أو بسبب فشل أجهزة المخابرات السعودية في الوقاية من وقوع بعض الأعمال الإرهابية في المملكة ، أو بفعل فشل شخصي في أداء مهمته الأفغانية ، أو أخيراً ، ما يفترضه البعض من تماديه في الصداقة مع أجهزة المخابرات المركزية الأميركية . بما أن المملكة العربية السعودية غامضة ( ثقب أسود ، حسب قول المعارضين ) فإنه من الصعب معرفة السبب الحقيقي للإقالة ـ الإستقالة .
ويصعب أيضاً اليوم معرفة الأحوال الحقيقية الداخلية ( وتقصد كاتبة المقال معرفة الوضع الحقيقي داخل العائلة المالكة ) . الشيء الأكيد ، هو أن رأي الأمير تركي الفيصل يعكس رأي العائلة المالكة التي يتهمها أسامة بن لادن بالفساد ويحملها مسؤولية تواجد الجيوش الأميركية في مهد الإسلام وعلى أراضي الحرمين الشريفين . ومن المؤكد أيضاً ، وبناءاً على مصادر موثوقة ، فإن جزءاً من الرأي العام السعودي يعتبر الأكثر عداءاً للغرب ولواشنطن من بين جميع الآراء العامة العربية . لا شك في أن استمرارية التواجد العسكري الأميركي الكثيف يغذي الشعور بالعداء للولايات المتحدة الأميركية . ليس من المدهش ، والحال هذا ، وقوع انفجارين خلال الأيام القليلة الماضية ضد الرعايا الأجانب أديا إلى سقوط قتيلين وأربعة جرحى .و يتسم الغربيون بناءاً على أقوال أحد رجال الأعمال ، بالحذر الشديد . يقول الذين يعرفون المملكة منذ زمن طويل بأنهم يلاحظون نوعاً من الانطواء الطائفي تحت تأثير زعماء الدين المتطرفين الذين برزوا خلال الفترة الأخيرة ، وعلى وجه الخصوص في مقاطعات عسير في الجنوب وقصيم في الشمال الغربي . هكذا ، أصدر الشيخ حمود بن عقلة الشويبي فتوى على جهاز الأنترنت مفادها أن " الولايات المتحدة الأميركية دولة كافرة وعدوة للإسلام والمسلمين " ودعا إلى " مساندة الأخوة الطالبان " .
إنها ليست المرة الأولى في دولة الإسلام الوهابي التي تشغل فيها الشريعة مكان الدستور والتي لم يتوقف فيها المطوعون ، أي البوليس الديني ، عن العمل ، وليست المرة الأولى التي تواجه فيها العائلة المالكة معارضة إسلامية . هذه المعارضة التي لم تتوقف عن التنامي خلال السنوات الأخيرة ، وتشتد اليوم حدة ، خصوصاً منذ بداية الهجوم الأميركي على أفغانستان . لهذا يجد الزعماء السعوديون أنفسهم في وضع غير مريح بين الضغوط الجماهيرية وطلبات الحليف الأميركي الحيوي لضمان أمن المملكة وإستمرارية النظام.
وفي يوم الخميس الموافق 18 أكتوبر / تشرين أول طلب وزير الداخلية السعودي الأمير نايف بن عبد العزيز من جهاز المخابرات والأمن أن يكون صارماً ومتصلباً : " في مواجهة أولئك الذين ينوون الإضرار بالأمن باسم الإسلام " ، بينما حرّم ومنع زميله وزير الشؤون الدينية على العلماء حق إصدار الفتاوي وإعلان الجهاد . تؤكد المعارضة السعودية أنه تم اعتقال عدد من المعارضين . وفي نفس الوقت قطعت الرياض علاقاتها الديبلوماسية مع الطالبان بعد أن أدانت بشدة عمليات نيويورك وواشنطن الانتحارية ، لكنها وقفت موقفاً معارضاً لقصف أفغانستان وكررت بأنها لن تسمح باستخدام القواعد الأميركية المتواجدة على أراضيها . كما ألغت الرياض زيارة كان مقرراً أن يقوم بها رئيس الوزراء البريطاني توني بلير ، والأمر الأهم في ذلك الموقف هو أن المملكة أعلنت موقفها صراحة وعلى الملأ على أمل تهدئة " رعيتها " . ووعدت بأنها سوف تتشدد بشأن تبييض وغسل الأموال وتحويل الاعتمادات والمساعدات والأموال " غير الشرعية" أو اللاقانونية . لكنها أكدت بأنها بحاجة إلى إثباتات ودلائل بشأن تمويل الإرهاب . ولايمكنها بأي حال من الأحوال ، خوفاً من مفاقمة وضعها السيئ أصلاً في نظر الإسلاميين ، منع تقديم الزكاة ( الضريبة الدينية ) التي هي إحدى الأركان الخمسة للإسلام .وهذا هو ما يسمى " بالبهلوانيات " .
ويلوم الزعماء السعوديون الإدارة الأميركية على مساهمتها بإضعافهم من خلال تبني مواقف متحيزة جداً وموالية لإسرائيل في صراعها ضد الفلسطينيين . وفي ثلاث مناسبات ، أستخدمت في إحداها عبارات لاذعة وشديدة القسوة ، حسب مصدر مطلع ، حذّر ولي العهد السعودي الأمير عبد الله واشنطن من خطورة مثل هذا الموقف لهذا رفض تلبية دعوة لزيارة الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش منذ الربيع الماضي كما ألغى رئيس الأركان السعودي زيارة كانت مقررة في 9 أيلول / سبتمبر إلى واشنطن .
واليوم تتهم الصحافة الأميركية الرياض ـ التي تدافع عن نفسها وتنفي هذه التهمة بشدة وقوة ـ على " تسامحها ، وتهاونها " مع الإرهاب ، وبالأخص في مجال التمويل ولعدم تعاونها الكافي في التحقيق بشأن تفجيرات نيويورك وواشنطن الإنتحارية . وقد اعترضت إدارة بوش على هذه الاتهامات وأعربت عن إدراكها للصعوبة التي يواجهها زعماء بلد يمتلك 25% من إحتياطي النفط العالمي ويمثل 12% من إنتاج النفط العالمي وثلث إنتاج منظمة أوبيك .
(المخابرات الغربية تجد صعوبة بالتعامل مع الامن السعودي بعد استقالة الامير تركي الفيصل
يعاني المراقبون الامريكيون من مسألة تتعلق بالتكهن بما يحدث داخل المملكة السعودية، وجزء من مشكلة امريكا تنبع، كما اشار باحث غربي في الشأن السعودي، تتعلق بما يســــمي صراع الاجنحة داخل العائلة المالكة. وفي غياب اي اشارة او مصدر يمكن الاستناد عليه في تحليل الاوضاع القائمة في السعودية فان المراقبين الغربيــــين يحاولون دائما القراءة بين السطور حول تطور الاحداث ويعتمدون علي تقارير وكالة الانباء الرسمية في السعودية، حيث يحاولون بناء صورة ما عن الاوضاع في البلد من خلال اسماء الامراء الذين ترد اسماؤهم في قائمة الاخبار الرسمية واعمارهم وعلاقتهم بالنظام السياسي وبالتالي بامكانية التغيير.
وضمن هذا السياق يقول سيمون هيندرسون الذي يدير موقعا علي الانترنت مكرسا للسعودية، والف كتابا حول ما بعد الملك فهد: مسألة الخلافة في السعودية والصادر عام 5991 في مقال نشرته الصحيفة اليمينية الامريكية وول ستريت جورنال ان المهتمين بالشأن السعودي عبروا عن دهشتهم حينما اعلن وزير الداخلية السعودي الامير نايف بن عبد العزيز عن تعيين مدير جديدة لوكالة المخابرات السعودية خلفا للامير تركي الفيصل.
وجاء في اعلان الامير نايف في حينه ان الامير تركي قدم استقالته بناء علي رغبة منه. واستغرب المراقبون الغربيون هذه الاستقالة لسبب بسيط ان الامير تركي شغل منصب مدير المخابرات لاكثر من عشرين عاما، وكان نقطة الاتصال الوحيدة مع وكالات المخابرات الغربية، خاصة الامريكية والبريطانية.
ومنذ عام 9791 تسلم ملف افغانستان والذي قام من خلاله بعدد من الاتصالات مع قادة المجاهدين حتي طالبان، وكذا مع المعارض السعودي اسامة بن لادن.
وقد ادت استقالة الامير تركي في الفترة التي وقعت فيها الهجمات علي امريكا في 11 ايلول (سبتمبر) لأزمة للنظام السعودي كان يجب ان يتم حلها من خلال توضيب ملف يتحدث عن الصراع القائم بين اكثر من 03 عضوا في العائلة المالكة، والعلاقة بين السعودية وطالبان، وبين الرياض والولايات المتحدة الامريكية.
وعلي هذه الخلفية، يقول هيندرسون ان مسألة صراع الاجنحة ومسألة الخلافة التي بدأت في عام 5991 بعد ان تبين ان الملك فهد مريض، تم لعبها وتمثيلها علي خلفية استقالة تركي الفيصل. وبناء علي هذا فان الامير تركي والذي كان تابعا بشكل نظري لسلطة عمه وزير الداخلية الامير نايف، حاول الحفاظ علي نوع من الاستقلالية في ادارة شؤون دائرته، مع الاشارة الي ان نوعا من التوتر ساد العلاقة والتي وصلت الي التأزم عام 6991 بعد عملية الخبر.
وجاء الخلاف بين تركي وعمه علي ارضية التعاون مع المخابرات المركزية الامريكية ومكتب التحقيقات الفيدرالي، فالاول طالــــب بتعـــاون كامل مع الوكالتين الامريكيتين، فيما رفض الامير نايف التعاون في التحقيقات لاعتقاده ان هذا التعاون يمس بالسيادة السعودية، حسب هيندرسون.
كما ان الطريقة التي تعامل فيها الامير تركي مع الملف الافغاني تعرضت للانتقاد، خاصة ان علاقة طالبان مع بن لادن، بدأت تؤثر علي المصالح السعودية. ومن هنا قرر الامير نايف عرض الامر علي الملك فهد وولي العهد الامير عبدالله ووزير الدفاع الامير سلطان. وقرر الفريق الرباعي، الموافقة علي الوساطة التي اقترحها الامير عبدالله وهي انهاء علاقة الامير تركي بالدائرة، وبدلا من ذلك تعيين شخصية موثوقة بالنسبة للامير عبدالله وهو الامير نواف. ويقول هيندرسون ان تنحية الامير فيصل اثرت علي طبيعة العلاقة القائمة بين المؤسسات الامنية الغربية والمخابرات السعودية سابقا، اذ وجد الامريكيون ان عليهم التعامل مع الامير نايف الذي لا يريد التعاون والامير نواف الذي لا يمتلك خبرة سلفه.
ويري هيندرسون ان مثال المخابرات السعودية صورة عن الطريقة التي تدير فيها العائلة السعودية شؤونها، فهي وان ابدت حساسية تجاه الاخرين الا انها قادرة علي بناء نفسها، وضمن هذا السياق لا يعتقد هيندرسون ان العائلة المالكة علي شفا الهاوية. وتحليل هيندرسون لا يأخذ بالاعتبار التقارير الاخري التي تتحدث عن قلق الشبان السعوديين من الاوضاع، فهم وحسب تقرير نشر في نفس الصحيفة التي نشر فيها هيندرسون مقاله لا يعملون شيئا سوي تدخين الشيشة ومشاهدة التلفاز .
ونتيجة للحرمان والتجاهل فان بن لادن تحول لبطل في اعين الكثيرين منهم، وحسب احد المسؤولين الدينيين فان اكثر من 3 آلاف سعودي قطعوا الحدود بين السعودية والبحرين في طريقهم للمشاركة في الجهاد ضد الحملة الامريكية، وهذا التقرير غير مؤكد اذ سبق ان اشارت السلطات السعودية انها ضد اية مشاركة سعودية في الحرب الحالية.
وبالرغم من ذلك مازالت الولايات المتحدة تشدد على أن الرياض أهم أركان التحالف. وقد علّقت وسائل الإعلام الفرنسية على زيارة وزير الخارجية الفرنسي هيوبير فيدرين الذي أستقبله يوم السبت الماضي في الرياض العاهل السعودي الملك فهد بن عبد العزيز وولي العهد الأمير عبد الله ووزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل، قوله : " أن زيارة الرياض أصبحت اليوم أمراً ضرورياً ". فمنذ الحادي عشر من أيلول / سبتمبر ، تشكل المملكة العربية السعودية مركز الانتفاضة العالمية . حيث يتوافد عليها الزعماء والمبعوثون للتشاور حول مستقبل أفغانستان. ذلك لأن الكثير من المصادر تشير إلى أن الحملة العسكرية قد تغير من طبيعتها في الوقت الذي تتسارع فيه الحملة الديبلوماسية . وتعتقد هذه المصادر أن الحملة العسكرية الأرضية أصبحت أمراً محتوماً ووشيكاً لأن استمرار القصف الجوي قد يؤدي إلى تمزق التحالف الذي تعتبر المملكة العربية السعودية أحد أهم أركانه .
فوزير الخارجية الفرنسي يزور الرياض للتشاور حول " الإجراءات السياسية التي من المفترض أن تؤدي إلى سلطة انتقالية وحكومة يقبلها جميع الأفغان"، وقد وجد السفير الفرنسي نفسه في العاصمة السعودية في نفس اليوم الذي زارها فيه الجنرال تومي فرانكس قائد العمليات العسكرية الأميركية الذي استقبله ، هو أيضاً العاهل السعودي الملك فهد وولي عهده الأمير عبد الله ووزير الدفاع السعودي الأمير سلطان. وفي اليوم السابق ، وصل إلى العاصمة السعودية المبعوث الخاص للأمم المتحدة الأخضر الإبراهيمي وأمير قطر ، وذلك في انتظار وصول رئيس وزراء بريطانيا توني بلير إلى الرياض يوم الأربعاء 31 أكتوبر/ تشرين أول .
إذا كانت المملكة العربية السعودية تشكل مركز الاهتمام العالمي، فذلك أولاً لأهميتها الاستراتيجية : فهي محطة رئيسة لتزويد العالم بالوقود ، وتعتبر قوة إسلامية لأن عاهلها هو خادم الحرمين الشريفين. ولكن ايضاً ، لأن غالبية الإنتحاريين الذين نفذوا عمليات نيويورك وواشنطن من أصل سعودي وولدوا في هذه البلاد ( حسب المصادر الأميركية ) التي كانت تعتبر من أهم مساندي الطالبان وأهم مصادر تمويل الحركات الإسلامية سواءً كان ذلك في البلقان أو كشمير أو الشيشان أو " القاعدة " . يمكن القول ، إذن أن المملكة العربية السعودية تشكل أهم معطيات المعادلة السياسية العسكرية العالمية الحالية . يقول خبير غربي : " تعرف المملكة العربية السعودية الطالبان معرفة جيدة" . وهي أيضاً على علاقة وثيقة مع الباكستان وتؤكد على " ضرورة مساهمتها في البحث عن حل سياسي للأزمة لأن مفتاح الحل للأزمة الأفغانية حسب المملكة العربية السعودية موجود في الباكستان"وتعتقد المملكة كذلك " أن استمرار القصف الجوي والعمليات العسكرية لفترة طويلة يهدد الجنرال برويز مشرف " .
كجميع الزعماء العرب، يتمنى الزعماء السعوديون أن تتوقف عمليات القصف الجوي وما يصاحبها من سقوط ضحايا مدنيين بأسرع وقت ممكن لأنها تلقي الزيت على النار لتأجيج مشاعر الجماهير العربية التي يتزايد عداؤها لواشنطن بشكل لم يسبق له مثيل . فعلى سبيل المثال ، نشرت صحيفة عرب نيوز الصادرة في الرياض باللغة الانجليزية كاريكاتوراً يظهر فيه أميركي أعمى يقوده كلب حرب ويلقي القنابل القاتلة على أفغانستان. ورفض الأمير سلطان رفضاً قاطعاً أن " تستخدم القوات الأجنبية أراضي بلاده لمهاجمة العرب والمسلمين " . ولكن صحيفة لبيراسيون الفرنسية تعتمد على زيارة الجنرال فرانكس للرياض لتؤكد أن الطرفين قد توصّلا إلى اتفاقات ضمنية " تستطيع بموجبها القوات الأميركية استخدام القواعد العسكرية التي تمتلكها في المملكة منذ حرب الخليج .
أثناء زيارة هيوبير فيدرين ، لم يصدر عن الزعماء السعوديين أي احتجاج على العمليات العسكرية الأميركية ضد أفغانستان، بل أكدوا على رغبتهم في أن تؤدي هذه العمليات إلى " تدمير الشبكات الإرهابية " . اتهم الأمير سعود الفيصل الطالبان بأنهم " المسؤولون الرئيسيون عن مآسي الشعب الأفغاني " ، ثم أكد أن العلاقات السعودية الأميركية قوية، وتاريخية ، صلبة ، ودائمة .
ويعلق خبير غربي قائلاً : " العلاقة بين الولايات المتحدة الأميركية والعائلة المالكة السعودية التي تعتمد على مبدأ البترول مقابل الأمن ، ما زالت قائمة ، وليست التوترات سوى حالة سطحية مؤقتة ، ولم يحدث أي تغيير جذري " .
أساسات المملكة العربية السعودية تهتز :
تشهد دكتاتورية العائلة الحاكمة " آل سعود " في المملكة العربية السعودية الساعات الأشد اضطراباً وهيجاناً منذ إنشاء وتأسيس المملكة . ففي المساجد تدين وتندد المواعظ الدينية الأكثر تأثيراً التحالف مع أميركا والتمرد في بلد عبد الوهاب يستعر وهو على تخوم الانتفاضة أو الثورة الشعبية كما تقدر بعض الدوائـر الغربية المهتمة بالشأن السعودي.
فحتى لو حرص مكتب الأمير عبد الله على عدم السماح بتسرب أية معلومات لم تفلح العائلة الحاكمة في السعودية في سحق وإسكات المعارضين داخل البلاد . فلم تعد المعارضة مقتصرة على جماعات متمركزة في محافظات الجنوب والمهمشة من قبل السلطة المركزية . فمنذ 10 أيام تقريباً ، فإن الخطابات الراجمة تنتشر كبقع الزيت في الرياض ومكة ، واستغلها واستخدمها علماء دين مؤثرون يدينون في خطبهم ومواعظهم " التحالف الإجرامي لبعض الدول العربية مع المعتدي الأميركي " وهذا تهجم واضح ومباشر ضد نظام آل سعود ، لم يكن وارداً قبل أو ممكناً قبل بضعة أسابيع ، لاسيما وإن بعض هذه الانتقادات صارت تتناقلها أفراد من عائلة " الشيخ " وريثة المرشد الديني محمد عبد الوهاب ، والماسكة لكافة المناصب الرئيسية للسلطة الدينية والشؤون العبادية .وتبدو الأوساط الأصولية ـ السلفية السعودية المتشددة بمثابة مفتاح لهذه الأزمة .
ثلاثة عشر إنتحارياً في العمليات ضد مركز التجارة العالمي في نيويورك والبنتاغون في واشنطن ينحدرون من خلال أسمائهم إلى مناطق وقرى في جنوب البلاد ، من بينهم ستة أسماء تهم المحققين والدبلوماسيين : الشهري ، أحمد ، السقامي ، الغمدي ، العمري ، الحانزي ، وأغلبهم ينحدر من منطقة عسير وينتمون لعشيرتين متنفذتين هما الحامدي ، والشراهني . وهاتين المجموعتين تمثلان أرضية الحركات الراديكالية الوهابية المتطرفة المعادية للعائلة المالكة التي تتهمها بتطبيق إسلام ضال . وهم المنبع والأصل لانبثاق " حركة الانبعاث الإسلامي " التي يقودها عالمين شابين هما : صفر الحوالي ، الأستاذ في جامعة أم القرى في مكة ، وسلمان العودة ، رجل دين يمارس مهامه في مدينة البريدة ، المعروفان بتأييدهما ودعمهما لمنظمة القاعدة وتم سجن هذين العالمين في سبتمبر / أيلول 1994 وأطلق سراحهما في حزيران / يونيو 1999 بفعل ضغوط دينية مورست على العائلة المالكة .وينتمي الانتحاريون الثلاثة عشر السعوديون إلى تيار وافكار هذين العالمين الدينيين المعارضين .
والجدير بالذكر إن حركة الانبعاث الإسلامي قد موّلت عدة رحلات في أفغانستان لأعضاء في كوماندوس 11 سبتمبر / أيلول الانتحاريين وتكفل بهم هناك معسكر " الفاروق " في منطقة كابول حيث يجري تأطير المجندين السعوديين .
وقد علّقت الصحافة الفرنسية بمناسبة زيارة الوزير الفرنسية على موضوع العلاقات بين المملكة العربية السعودية وحلفائها الغربيين وبالأخص الولايات المتحدة الأميركية قائلة : " لم تشهد العلاقات بين الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية منذ نشأتها قبل سنوات طويلة جداً مثل هذه الدرجة من التدهور والاستياء التي تشهدها في الوقت الحاضر، بالرغم من أن زعماء الدولتين يحرصون على نفي هذا الواقع ويعتبرونه مجرد إشاعات . لكن المراقبين الدوليين يعتقدون أن الأزمة بدأت بوادرها بين البلدين تتفاقم في أعقاب هجمات الحادي عشر من ايلول / سبتمبر. وقد كانت وسائلأ الإعلام الأميركية الصهيونية الميول والتوجهات هي التي بدأت الهجمة الإعلامية على المملكة ووجهت إليها مجموعة من الإتهامات " . ومن الواضيع التي ركزت عليها الصحافة الأميركية ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة الأخرى أن المملكة العربية السعودية ليست نموذجاً يحتذى للديموقراطية ، وأن الثروة النفطية والمصالح الاستراتيجية تخفي ورائها حقائق اقتصادية وإجتماعية سيئة ، وأن العلاقة بين السعودية وأميركا ليست أكثر من مصالح متبادلة ( النفط مقابل الأمن ) ، وأن الأيديولوجية الوهابية ـ الدينية هي أكثر التيارات تطرفاً في الإسلام المعاصر ، وإن العائلة المالكة تواجه تطرفاً متزايداً من الداخل والخارج معاً . وكانت المملكة بنظر وسائل الإعلام ذاتها دولة معتدلة لكنها تجولت فجأة بعد الحادي عشر من أيلول / سبتمبر إلى دولة متطرفة ومناصرة للإرهاب .
وبالرغم من ردود فعل وإجابات الزعماء السعوديين على إتهامات الصحافة الغربية نادرة ، ويتركون المعلقين السياسيين يتكهنون ويقولون مايريدون دون أن يولوا ذلك إهتماماً ، إلاّ أن ولي العهد السعودي الأمير عبد الله كسر جدار الصمت مؤخراً لنفي هذه الإتهامات الظالمة ضد بلاده ، وهو الذي يدير شؤونها عملياً منذ مرض الملك فهد قائلاً :" إن التهجمات العنيفة والمغرضة التي تتعرض لها المملكة العربية السعودية من قبل وسائل الإعلام الغربية تندرج في إطار حقد قديم على الإسلام وعلى ارتباط المملكة بالإسلام وتطبيقه . وإن المملكة لا تقبل أي إبتزاز عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن ديننا وشعبنا " .
كما نفى الأمير أحمد بن عبد العزيز ، نائب وزير الداخلية ، الإتهامات بالخمول في محاربة الإرهاب وتحدى أي طرف أن يثبت أن المملكة رفضت في أي يوم من الأيام التعاون مع أي طرف في مجال محاربة الإرهاب وهي إحدى ضحاياه " وحذّر وزير الداخلية السعودي الأمير نايف بن عبد العزيز من أن الحكومة قد تطلب من جميع المواطنين السعوديين المتواجدين في الولايات المتحدة الأميركية ( وعددهم كبير جداً ) العودة إلى بلادهم أو الذهاب إلى أماكن أخرى إذا استمرت السلطات الأميركية في ملاحقتهم ومضايقتهم بلا أي ذنب يرتكبوه " .
واستناداً إلى ما ورد في الصحف السعودية ، يواجه آلاف السعوديين منذ وقوع الهجمات الإنتحارية في 11 أيلول / سبتمبر أوضاعاً مأساوية وظروفاً قاسية وقد أستجوب المحققون الأميركيون في مكتب التحقيقات الفيدرالي مئات السعوديين ومازالت السلطات الأميركية تحتجز العشرات منهم . ويؤكد صحافي سعودي أن هذه التحقيقات والشبهات صدمت السعوديين على كافة المستويات لأنها تشوه سمعتهم . وبصفة عامة ، يعتقد الكثيرون في المملكة العربية السعودية أن القضية الأفغانية كانت الشرارة التي أشعلت أحقاداً كامنة ومتراكمة منذ زمن بعيد . من الواضح كما تعتقد بعض الصحف الفرنسية ، أن المملكة العربية السعودية تدفع اليوم ثمن تميزها وابتعادها نوعاً ما عن السياسة الأميركية خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية وأزمة الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي الدائرة على خلفية دموية اليوم . بل أن هذا الأمر يمثل بالفعل أحد أهم الإتهامات التي توجهها واشنطن للرياض ، وللقاهرة أيضاً . يشعر الكثير من العرب والمسلمين بالاستياء من تصريحات السيناتور ماك كن الذي وصف الرياض بأنها " تلعب لعبة مزدوجة " عندما تربط تعاونها في محاربة الإرهاب بحل القضية الفلسطينية .
وهذا ليس الإتهام الوحيد ، ففي يوم الثلاثاء المصادف 30 أكتوبر الماضي عاود السنتاور توماس فريدمان هجومه للمرة الثالثة في غضون عشرة ايام وكتب في تلك الصحيفة قائلاً : " في ذلك اليوم الكارثي ( أي 11 سبتمبر / أيلول / ، تعلمنا ما لم نكن نعرفه من قبل فيما يتعلق بالمملكة العربية السعودية ، وهي أنها مرتع للتطرف ومن أهم ممولي الطالبان، وأن خمسة عشر من منفذي العمليات الإنتحارية مواطنين سعوديين، وأن السعودية تسمح بجمع التبرعات لأسامة بن لادن ما دام لا يستخدم تلك الأموال لمهاجمة النظام الحاكم في السعودية " . ويهاجم فريدمان كذلك ، النظام التربوي والتعليمي السعودي الذي يدعي إفتراءً أن السعودية ، وبفضل التلفزيون والانترنت ، تدعو المسلمين إلى اعتبار أتباع الديانات الأخرى أعداء للإسلام والمسلمين " .
وفي منتصف شهر أكتوبر : تشرين أول الماضي ، إتهمت صحيفة نيويورك تايمز المملكة العربية السعودية بأنها قدمت الأموال والتأهيل والتدريب والتعليم والدبلوماسيين لمساعدة الطالبان من أجل السيطرة الكاملة على افغانستان " وبأنها " ساندت المدارس الدينية المتطرفة في باكستان ، وسمحت لمؤسسات إنسانية بتمويل شبكات تنظيم القاعدة الإرهابي " . وكتبت الصحيفة أيضاً أن الرياض ترفض تجميد أموال بن لادن وشركائه، وترفض التعاون في التحقيقات المتعلقة بالسعوديين الذين شاركوا في التفجيرات الانتحارية ، كما ترفض السعودية السماح للأميركيين باستخدام قواعدهم العسكرية الموجودة في السعودية لمهاجمة أفغانستان".
أما صحيفة نيويوركر، فإنها أكثر شراسة، حيث أكدت هذه الصحيفة الصهيونية أن عمليات التصنت التي قامت بها أجهزة الأمن الأميركية منذ عام 1994 أظهرت أن النظام السعودي يزداد فساداً ، وأن القطيعة بينه وبين الشعب تزداد حدة " واستنتجت الصحيفة من ذلك أن النظام ضعيف وخائف وأنه يدفع مقابل بقائه في سدة الحكم ، ملايين الدولارات للحركات المتطرفة التي تهدده . وتضيف : " ان هذه الأموال تخدم بشكل مباشر ومنذ سنة 1996 شبكات تنظم القاعدة والمنظمات الأفغانية المتطرفة الأخرى .
والسؤال المطروح هو : إذا كانت هذه الاتهامات معروفة ومطروحة منذ سنوات كما تدعي الصحف ووسائل الإعلام الأميركية ، فلماذا لم تظهر إلآّ بعد وقوع العمليات الإنتحارية ، ولماذا لم تؤثر قبل هذا التاريخ على خصوصية وطبيعة العلاقات الأميركية ـ السعودية ، وما الغرض من هذه الحملة الظالمة هل هي القطيعة بين الإدارة الأميركية وعائلة آل سعود أم هناك أمور الأخرى خافية يجهلها الرأي العام ؟ .
واليوم تجد المملكة العربية السعودية نفسها في موقف الحائر والمضطرب الذي لايجد تفسيراً أو رداً على هذه الظاهرة التي باتت تشكل تهديداً وتحدياً لها ولشرعيتها الدينية خاصة إذا علمنا إن أشخاص مثل اسامة بن لادن ورغم ما وصفته به وسائل الإعلام الدولية من أوصاف شائنة إلاّ أنه يتمتع بشعبية كبيرة بين أوساط السعوديين .
كلما تعرض العالم الغربي لهزة وجدانية يكون مصدرها العالم العربي والإسلامي تثار بقوة تكهنات وسيناريوهات كارثية عن مستقبل العلاقة بين العالم الإسلامي والعالم الغربي ونقترب أكثر فأكثر من التصور الفلسفي الذي صاغه قبل سنوات قليلة صاموئيل هينتنغتون في كتابه " صدام الحضارات " وتكهن فيه بحتمية الصدام الحضاري بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية لتنافرهما الجوهري ، والذي قابله الرئيس الإيراني بمقولة " حوار الحضارات " التي لم يتحمس لها العالم الغربي بجدية . وهذا ما حصل قبل فترة قصيرة في أعقاب التفجيرات الانتحارية التي حدثت في نيويورك وواشنطن ، وقبل ذلك، إبّان عمليات التفجير التي وقعت في فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية .وانعكس ذلك سلباً على المسلمين المقيمين في مختلف الدول الغربية حيث تحولوا إلى كبش فداء دفع ضريبة سوء الفهم السائد في الغرب عن الإسلام والمسلمين .
لم يستطع الرأي العام الغربي هضم الوجود الإسلامي بين ظهرانيه ، ولم يحاول إدراك خصوصيته وفهم جوهره وطبيعته إستعداداً لتقبله أسوة بباقي الأديان السماوية الأخرى ، عدا استثناءات نخبوية قليلة ، بل نادرة ، من بين أوساط بعض المثقفين المتنورين ، أو من بعض المتخصصين بالشؤون الإسلامية من أساتذة جامعات ومثقفين كوزموبوليتيين وصحافيين مستعربين ، ومن بين هؤلاء ، توجد شرذمة غير منصفة تجاه الإسلام تردد كليشيهات ممجوجة ومتداولة في الأوساط الشعبية الساذجة التي تشكل النسيج الإجتماعي الغالب في الغرب .
لقد اختلطت في ذهن المواطن الغربي صورة الإسلام وأرتجّت، وتفاقم هذا الغموض والتشوش من جراء ما تقدمه وسائل الإعلام ( المرئية والمسموعة والمكتوبة ) ، من صور مشوهة مقترنة بالإرهاب والعنف والقتل و " الجهاد المقدس " والتي ترى ان الإسلام الغريب هو الذي يفرق بين الجنسين ويظلم المرأة ويحارب العقل والعقلانية والتطور والحداثة والتقدم ، ( ويساعدها في ذلك بعض السلوكيات والتصرفات التي تقوم بها مجموعات محسوبة على الإسلام في أعلى مراكز الدولة كما كان الحال مع جماعة الطالبان في أفغانستان ) وبذلك يتحول الدين في الغرب إلى عامل من عوامل الصراع الإجتماعي الدامي .
كما تساهم المناهج الرسمية المقررة في المدارس الفرنسية في ترسيخ هذه الصورة السلبية في ذهن الناشئة والأجيال الجديدة من تلامذة وطلاب في المدارس الإبتدائية والثانوية والكليات ، بمن فيهم أبناء المسلمين أنفسهم من الجيل الثاني والثالث ، المولودين داخل الأراضي الغربية ، ويتقنون ثقافات ولغات وعادات وتاريخ البلدان التي ولدوا وترعرعوا في أحضانها ، بينما يجهل جلّهم لغتهم الأصلية وثقافة وتاريخ أوطان آباءهم وأجدادهم ، ويجهلون تعاليم وتراث وتقاليد أسلافهم وأهلهم وأصولهم الاثنية والعرقية العربية والإسلامية ، ولا يعرفون الشيء الكثير من تراثهم الأصيل .
فقبل عشر سنوات ، وبالتحديد في أكتوبر عام 1989 انفجرت في فرنسا ، وبعدها في كل أنحاء أوروبا تقريباً ، ولكن بحدة أقل، " قضية الحجاب الإسلامي " أو غطاء الرأس في المدارس الفرنسية المسمى " الفولار " . وكشفت تلك القضية عن حالة الكدر والضيق غير المعلن داخل المجتمع الفرنسي تجاه الإسلام والموقف منه بسبب تواجد بضعة ملايين مسلم ، أغلبهم من المهاجرين القادمين من المستعمرات الفرنسية السابقة من شمال أفريقيا ووسطها ، داخل الأراضي الفرنسية . وظهور أجيال جديدة من الشباب المسلم المنظّم والمثقف ممن يحملون الجنسية الفرنسية مما شكل في نظر بعض العنصريين " تهديداً لأسس العلمانية " بل و " زعزعة لوحدة البلاد " ومن ثم طغى شبح العزلة الطائفية والتكتلات الجماعاتية المتعددة الولاءات الأمر الذي يهدد الجمهورية باعتقاد هؤلاء اليمنيين . وتجسدت على أرض الواقع من الناحية السيكولوجية البحتة مقولة " حرب الحضارات " وساد الخوف والارتياب والانزعاج من رؤية راية الإسلام ترفرف فوق ربوع أوروبا خاصة بعد صدور تصريحات غير مسؤولة من قبل قياديين مسلمين بهذا الشأن حول أسلمة المجتمعات الغربية . فلجأت القوى السياسية المتطرفة إلى التلويح بخطر الارهاب ضمن موجة من الهلع والتخويف والتشويه والمبالغة بخطر الاسلام لم يسبقها مثيل غذتها وسائل الإعلام في رؤوس وأذهان الرأي العام الخائف . الذي بات مقتنعاً أن الإسلام نقيض للحداثة والتطور والعلمانية والديموقراطية وحرية التعبير وحقوق الانسان والتسامح الديني . بعبارة أخرى أن الإسلام كما فهمه المواطن الأوروبي والفرنسي خاصة هو عدو " الانسانية العلمانية " . ومن المفارقات المدهشة أن يتصدى مفكر علماني ماركسي كان من أهم المنتقدين للفكر الديني هو الدكتور صادق جلال العظم لهذه الموجه العاتية ضد الإسلام في ايلول / سيبتمبر 1999 بمقال نشره في صحيفة لوموند ديبلوماتيك دافع فيه عن الإسلام وقابليته على التطور والتكيف مع متطلبات العصر والتطور التقني وكان عنوان مقاله : " الإسلام والعلمانية والغرب " واعتبر الإسلام دين قادر على التجدد وضرب لذلك مثلاً بالتجربة الإيرانية وكيف اختارت الجمهورية بديلاً للخلافة والملكية نظاماً جمهورياً لها والدستور الفرنسي نموذجاً تشريعياً وضعياً والاقتراع الانتخابي الشعبي وسيلة واسلوباً لاختيار الرئيس والبرلمان والمجلس الدستوري الأعلى وباقي المؤسسات الديموقراطية وحرية النشر والنقد الخ .. ولكن هل تغيرت نظرة أوروبا للإسلام ونحن على أعقاب الألفية الثالثة هذا ما نشك به وللأسف الشديد.
بالرغم من ذلك ظهرت في الآونة الأخيرة بعض المؤشرات الإيجابية في مجال التعامل الرسمي ( وليس الشعبي ) مع الأقليات الإسلامية في البلدان الغربية من خلال بعض الإجراءات ذات الدلالة الرمزية الإيجابية ، كالإعتراف الرسمي بالدين الإسلامي في ألمانيا ، وتصريحات وخطوات ومبادرات قام بها وزير الداخلية الفرنسي الأسبق جون بيير شيفنموه بغية تنظيم العلاقات الرسمية للإسلام مع السلطات العامة الفرنسية ، بعد أن بقي هذا الموضوع طيلة سنوات من المواضيع المهملة ، والتي تقف حجر عثرة أمام الكثير من الملفات العالقة ذات الصلة بالشأن الإسلامي في فرنسا ، خاصة مع غياب الناطق والمتحدث الرسمي بإسم المسلمين ، يكون موضع ثقة الجميع ويحظى بإعتراف الحكومة الفرنسية وبإعتراف الجالية الإسلامية المتنوعة والمعقدة التركيب ، في آن واحد .
ففي الأعوام الماضية طغى طابع الوصاية والسيطرة الرسمية على الشؤون العامة للمسلمين في فرنسا ومحاولة توجيه وضبط ومراقبة تنظيماتهم ونشاطاتهم ، حتى العبادية منها .
ومن الجدير بالذكر أن التجربة الفرنسية في تعاطيها مع الإسلام تحظى بفرادة وخصوصية وتميّز داخل الاتحاد الأوروبي في تعاملها مع الملف الإسلامي . فالتجربة الفرنسية ، على عكس التجربة الأميركية والبريطانية والألمانية ، والهولندية والإيطالية والأسبانية ، تتميز بالحدّية والتصلب . فقد كانت فرنسا تفضل صيغتها الخاصة المتمثلة بالإندماج والإنصهار إلى حد التذويب ، للمسلمين داخل المجتمع الفرنسي ، وإذا تعذر ذلك في الوقت الحاضر ، فعلى الأقل محاولة فرض ما تسميه السلطات الفرنسية العامة بـ " الإسلام الفرنسي ، أو الإسلام على الطريقة الفرنسية " وهو إسلام اقرب للعلمانية الغربية منه للثيولوجية الشرقية ولايحتفظ من العقيدة الدينية سوى بالإسم وبعض الشكليات والطقوس الفولكلورية ، خاصة فيما يتعلق بموضوع العلاقة بين الدين والدولة ، وبين الدين والسياسة ، وهو موضوع بالغ الحساسية بالنسبة للفرنسيين في إطار النظام السياسي القائم على العلمانية المتطرفة على النمط الفرنسي .وقد صرّح وزير الداخلية الأسبق جون بيير شيفنموه بهذا الصد قائلاً : " حان الوقت لجلب الإسلام إلى مائدة الجمهورية " وألح على ضروة اتفاق المسلمين فيما بينهم بمختلف مشاربهم وأصولهم العرقية والقومية لتشكيل هيئة تمثيلية رسمية للمسلمين تتحدث بإسم الإسلام مع السلطات الفرنسية وتقوم بتنظيم شؤون هذا الدين في فرنسا بدون حدوث تعارض أو تصادم مع مباديء الجمهورية الفرنسية العلمانية . وتشجيع الحوار والتشاور والتنسيق الدائم أسوة ببقية الطوائف والأديان الأخرى ... وطالب الوزير المشاركين في ندوة أقيمت لهذا الغرض،أن يعلنوا على الملأ وبصورة صريحة وعلنية أن تقاليد العبادة الإسلامية لاتتعارض مع علمانية الدولة الفرنسية وعدم وجود خلاف بين تقاليد العبادة من جهة وتنظيم أمور وممارسة الشعائر الدينية في فرنسا من جهة أخرى، فالعلمانية في فرنسا هي إحدى القيم الأساسية التي يتفق حولها الجميع ، وهي بمثابة مبعث للحرية وضمانة لكل فرد في اختياراته العقيدية والإيمانية والانتماء الديني والمذهبي وحماية مثل هذه الاختيارات .وهي ايضاً مصدر للتسامح تجاه كافة الأديان ومعاملتها على قدم المساواة على حد تعبير شيفنموه.
.والجدير ذكره إن المؤتمر التأسيسي لهذه الهئية التمثيلية كان مقرراً عقدفي شهر آيار/ مايو 2002 لكن ظروف الإنتخابات الرئاسية الفرنسية حالت دون ذلك وتم تأجيله إلى نهاية شهر حزيران/ يونيو القادم بعد الإنتهاء من الإنتخابات التشريعية الفرنسية.
ومع كل نقاش يُثار حول الدين يجد المسلمون المقيمون في الغرب أنفسهم في مواجهة وابل من التساؤلات والإتهامات من قبيل : ما موقف الإسلام من حقوق الفرد المدنية ، وعلى رأسها حقه في التعبير عن نفسه وأفكاره وآرائه ومعتقداته بل والإرتداد عنها إذا شاء ذلك؟ . وما موقف الإسلام من حقوق المرأة في وقتنا الحاضر ؟. وما موقف الإسلام من حقوق الإنسان من منظورها الغربي؟ . وما موقف الإسلام من الديموقراطية والعلمانية والحداثة الخ ... ؟
يتعرض المسلم البسيط ( العامل المهاجر مثلاً ) الذي يعيش في الغرب للإحراج وغياب الأجوبة اللازمة على مثل هذه التساؤلات التي تحمل طابع الاتهام فهو لا يملك بالضرورة الوعي الكافي لتقديم الأجوبة الصحيحة على مثل هذه التساؤلات الجوهرية . وغالباً ما يؤدي ذلك إلى خلق ردات فعل معاكسة ورافضة للآخر الغربي ، لأنه بالضرورة معادي ومغرض بتساؤلاته . ويقود هذا الصراع الفكري إلى نوع من الإنعزال والقوقعة والشك والريبة في نوايا المقابل الحالم للأفكار المسبقة ، والمشبع بصور تمتد جذورها إلى ماضي استعماري بغيض حيث لايمكن نسيان التأثير السلبي للذاكرة الإستعمارية الجمعية لدى الجانبين الغربي والإسلامي.
يتساءل البعض هل يمكن في يوم من الأيام ظهور " إسلام غربي " يختلف عن الإسلام العربي ، والإسلام الأفريقي، أو الإسلام الآسيوي ؟ ...
ويتساءلون أيضاً ، كيف يتعاطى المسلمون في الغرب مع مفاهيم مثل العلمانية بمختلف نماذجها وتعريفاتها وصورها وتطبيقاتها . وهل يدرك المسلمون في الغرب ماهيّة هذه " العلمانية " وما هي أسسها ومبادئها ، وهل يمكن لهذه العلمانية الغربية أن تغير من مفهوم المسلمين ورؤيتهم للعالم والمجتمع والعصرنة والحداثة والتطور العلمي والتكنولوجي ، خاصة في مجال الاستنساخ والهندسة الوراثية الخ ...؟
وهل سيساهم المسلمون في الغرب ، من موقعهم واحتكاكهم بالحضارة الغربية، في إحداث إصلاح جوهري في صميم العقيدة الإسلامية وجوهر الإسلام بعد مرور ألف وخمسمائة عام على ظهوره ؟ هذه هي التساؤلات العميقة والتأسيسية التي تحكم تطور العلاقات المستقبلية بين الإسلام والغرب بالرغم مما يعتريها من عقبات ومحطات توتر وصدام .
وهكذا تظل مسألة الإسلام في الغرب حيّة ومتأججة بانتظار قبول القارتين الأوروبية والأميركية بالأمر الواقع واعتبار الإسلام أحد االأديان الرسمية كما هو حال الديانتين الكبيرتين المسيحية واليهودية .فعدم الاعتراف به هو الذي يتسبب في انبثاق المشاكل والأزمات.
#جواد_بشارة (هاشتاغ)
Bashara_Jawad#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟