اجد صعوبة شديدة في الدخول في نقاش موضوعي مع السيد حسن بيان الذي عاد في رده المنشور في "قضايا النهار" الى تأكيد ما سبق وسطره من شعارات ومواقف في مقاله الاول المنشور في 17/7/2002 والذي هاجم فيه موقعي "اعلان شيعة العراق" وناب عن السلطة في بغداد، في توجيه شتى الاتهامات لهم. وصعوبة النقاش مع السيد بيان تقود الى امور عدة، اولها انه يسمح لنفسه بالدفاع عن سلطة لا تتمتع بشرعية شعبية بل تستمد شرعيتها وفق قدرتها على السيطرة على الحكم بدعم اميركي - بريطاني عام ،1968 وباعتمادها على ارضاخ الشعب بقبضة حديدية، وقمع لكل صوت معارض، وهي سلطة لا تعير اهتماما للانسان وكرامته وحرياته وسجل تعاطيها مع العراقيين على مدى اكثر من ثلاثة عقود يؤيد هذه الحقيقة التي يتجاهلها السيد حسن بيان بل ويدافع عن هذه الممارسات في شكل لا يترك اي قاعدة مشتركة للنقاش معه، ما دام تحول ناطقا باسم سلطة لا يختلف اثنان على دمويتها وبطشها وان اتفق البعض على ضرورة الحفاظ عليها انطلاقا من مصالحه.
ربما يفسر هذا الوضع، "الانفعال" الذي اتسم به ردنا الاول على مقال السيد بيان وكنت اتمنى ان يسأل نفسه: ما سر هذا الانفعال الذي تكرر في باقي الردود العراقية ايضا؟ والا يدل ذلك على وجود وجع دفين يقضي الانصاف، البحث عن مسبباته بدل الدفاع عن المسبب، ورمي المتألمين بشتى الاوصاف الذي عودنا عليها خطاب الاحزاب والانظمة الشمولية.
ومع ذلك اجدني مضطرا لتوضيح بعض ما جاء في رد السيد بيان، اجلاء للحقيقة، ليس له وانما للقراء الذين يتساءلون عن خلفية هذا النقاش والامور المثارة فيه.
يقول السيد بيان "ان الحرب التدميرية التي تقودها اميركا ضد العراق تعود اساسا الى الدور القومي الذي يضطلع به العراق، ولو لم يكن العراق في ظل نظامه السياسي القومي يشكل عائقا امام نفاذ الاستراتيجية الاميركية حيال المنطقة العربية لما ازدادت هذه الهجمة الاميركية - الاسرائيلية عليه".
ولنناقش هذه العبارة بالتفصيل:
يتحدث السيد بيان عن "الدور القومي الذي يضطلع به العراق" والمقصود هنا طبعا، الحكم في العراق، ولا مناص من استعراض اهم محطات هذا الموقف "القومي". ففي العام ،1979 احبط الرئيس العراقي محاولة للوحدة مع سوريا كانت قد اقتربت من النضج، بعد ان كان قد ازاح الرئيس السابق احمد حسن البكر وحل محله. كان مشروع الوحدة اثار انزعاجا اميركيا - اسرائيليا، كون اي تواصل سوري - عراقي يشكل خطا احمر يضر مصالح واشنطن وتل ابيب. يومها اعدم النظام ثلة من الكوادر الحزبية البعثية باسلوب استعراضي سجل على شريط فيديو وعمم على المنظمات الحزبية لاشاعة الرعب. وابرز ضحايا ذلك الانقلاب على مشروع الوحدة كان غانم عبد الجليل وعدنان الحمداني وغيرهما ممن اتهموا بـ"التآمر" مع سوريا. ولولا احباط مشروع الوحدة ذاك، لتجنب العراق ومعه العرب جميعا، كوارث حربي الخليج المدمرتين. ولكانت خسائر العراقيين البشرية في الاعدامات واثناء التعذيب اقل بكثير مما قدموه في ما بعد.
اما مسلسل الاعدامات والاغتيالات الذي طال رموز الحزب فقد شمل قائمة طويلة من هؤلاء، منهم سعدون غيدان وعزت مصطفى وعبد الخالق السامراني ومرتضى سعيد عبد الباقي ومرتضى الحديثي وعبد الكريم الشيخلي، وغيرهم مما لا يمكن ادراجهم في هذا المقال.
ولا ادري هل يرف للسيد بيان جفن على هؤلاء القادة، ام يتبنى موقف الرئيس العراقي بانهم خونة لانهم ارادوا الوحدة مع سوريا، وهي وحدة جناحي الحزب فضلا عن انها وحدة بلدين عربيين. فأين "القومية" من هذا، السلوك؟ هل "السلطة القومية" هي التي تحبط مشاريع وحدة طوعية ام ان السلوك القومي وفق منطق السيد حسن بيان ورفاقه هو اسلوب الاجتياح والاحتلال والضم بالقوة - كما جرى للكويتيين عام ،1990 والذي يشكل احد معالم "الدور القومي" للقيادة العراقية وفق هذا المنطق.
وقبل ذلك كانت الحرب ضد ايران الخارجة لتوها من المعكسر الاميركي - الاسرائيلي المعادي للعرب، الى المعسكر العربي الاسلامي، بادئة بتحويل سفارة اسرائيل في طهران الى اول سفارة لـ"دولة فلسطين". اهذا هو الدور القومي؟! ام ان القومية تعني عند السيد بيان، كما عند السلطة العراقية، ضرب الاحزاب والتنظيمات القومية وقتل رموزها واعتقالهم ونفيهم، كما فعلت في اوائل السبعينات، مع رموز التيار القومي الناصري في العراق مثل عبد الاله النصراوي، واحمد الحبوبي وعبد الرحمن البزاز وغيرهم كثيرون (هنا احيل السيد بيان والمتهمين بهذا الانحياز "القومي" الى كتاب "ليلة الهرير" للسياسي القومي احمد الحبوبي الذي يروي مشاهداته اثناء الاعتقال على ايدي الاستخبارات العراقية).
اين كل هذا، وغيره من "القومية" التي يتحدث عنها السيد بيان، واين صبت كل هذه الخطوات؟ الم تكن في مصلحة اسرائيل والولايات المتحدة؟ ثم اليس من حق العراقيين ان يكرهوا "القومية" ما دامت كل هذه الخطوات التدميرية للعراق والامة العربية تمت باسمها؟
الغريب ان السيد حسن بيان ينكر عليّ التعبير عن نبض الشارع العراقي في هذا الخصوص، وانا ابن هذا الشعب، بينما يعطي لنفسه الحق في التعبير عن "نبض الشارع" العراقي عندما يقول "المزاج الشعبي في العراق يعتبر صراعه مع اميركا، صراعا لاجل حماية وحدة الشعب والارض والمؤسسات ولصون استقلاله السياسي". ولا ادري عن اي "مؤسسات" يتحدث السيد حسن بيان في ظل نظام استبدادي لا وجود فيه الا لاجهزة القمع العديدة والواسعة.
يتهمني السيد بيان بانني اعبر عن مواقف "عينة من الشعوبيين"، وهنا نقف على مفهوم للسلطة "القومية" حسب رأي السيد بيان، كان احد اهم عوامل مصائبنا في العراق، فـ"الشعوبيون" في الخطاب القومي العراقي، صفة تطلق على الشيعة العراقيين الذين يشكلون الغالبية العربية في العراق. وهدفها، تجريد الشيعة هؤلاء من انتمائهم العربي ووضعهم في خانة الفرس. لكن السيد بيان ونظراءه في الفكر الطائفي يغفلون امرين مهمين. اولهما ان اعتبار الشيعة العراقيين فرسا، سيسقط عن العراق هويته العربية، لانه يشكلون ما لا يقل عن 65 في المئة من الشعب العراقي، فضلا عن حوالى 18 في المئة من الشعب العراقي من الاكراد العراقيين، فكيف يمكن اعتبار العراق والحالة هذه بلدا عربيا، ثم اننا لم نسمع ان للفرس قبائل تسمى بني تميم والجبور وخزاعه والركابي وخفاجة ومدحج، وهي القبائل العربية، ذات الامتدادات في الجزيرة العربية، والتي ينتمي اليها شيعة العراق. وهنا ارى لزاما علي تقديم الشكر للسيد حسن بيان، لانه اكد للقراء مدى الطائفية التي تتعامل بها السلطة في العراق مع شعبها والذي كان من نتائجها، تهجير جماعي طال نصف مليون عربي عراقي الى ايران بدءا من العام ،1980 لتحضير للحرب، وما زال هؤلاء يعيشون في ايران في اوضاع مأساوية، لا يعرف احد عنهم شيئا، ولا يثير قضيتهم احد من المتباكين على الشعب العراقي. علما ان عملية التهجير، تضمنت الاستيلاء على وثائقهم وبطاقات هوياتهم فضلا عن املاكهم، فيما أبقى على ابنائهم رهن الاعتقال ولا يعرف عن مصيرهم شيء حتى اليوم.
هذا التعاطي الطائفي مع شيعة العراق، والعنصري مع اكراده، كانا وراء نفور الشارع العراقي من القومية كمشروع سياسي شوفيني طائفي، دون التخلي عن الانتماء الحضاري العروبي بل حتى القومي، لكن وفق مشروع عبد الرحمن الكواكبي القومي النابع من الخصوصية الحضارية العربية وليس وفق مشروع ساطع الحصري المستنسخ من المشروع الغربي والغريب عن واقعنا والذي لم ينتج في الغالب سوى الاستبداد وسحق الانسان العربي باسم الوحدة و"المعركة الكبرى" وغيرها.
ويقدم السيد بيان تأكيدا لذلك عندما يعتبر ان قمع المعارضة داخل العراق هو امر طبيعي في عملية "الصراع على السلطة" ولا يبدو انه يرى اسلوبا آخر للصراع السياسي سوى النموذج الاستبدادي القمعي، واتمنى ان يطلع السيد حسن بيان - وهو المحامي - على تجارب الدول الديموقراطية واساليب التنافس السياسي فيها بل اتساءل: في اي خانة يضع السيد بيان النظام اللبناني الذي لا يزيح المعارضة ولا يلغي الاحزاب ويتفرد في الحكم، وهل يعتبره شذوذا عن الفكر السياسي الذي يتبناه؟
اما عن الكرم العراقي الذي اعتبرني السيد بيان مغتاظا منه فاؤكد له بان كرم الضيافة هو من شيمنا نحن العراقيين بغالبيتنا "الشعوبية" حسب تعبير حسن بيان، الذي يحاول المزايدة على عروبتي عندما يقول "الكرم صفة لا يدرك كنهها الا العرب الاقحاح" لكنني هنا اميز بين كرم الضيافة، وانفاق اموال الشعب على شراء الذمم والضمائر من خارج الحدود لتكون عونا للظالم ضد الشعب الذي يدفع الثمن كما ان الدعم الذي تقدمه السلطة العراقية الى الانتفاضة الفلسطينية، والذي يذكرني به السيد بيان يجعلني اتساءل: كيف يمكن الجمع بين دعم الفلسطينيين واغتيال قادتهم بواسطة ادوات فلسطينية مرتبطة بالعراق؟ وهل السيد حسن بيان في حاجة الى تذكيره باغتيال العديد من رموز منظمة التحرير الفلسطينية.
اما قصة "غلاء دم العراقيين" على السيد حسن بيان ورفاقه فيشهد عليه سكوتهم، بل وتأييدهم لعمليات اعدام الآلاف من العراقيين من بعثيين وقوميين واسلاميين، لان المنطق الذي يعتمده هؤلاء يقول ان من يخالف الحزب الحاكم ليس عراقيا ولا عربيا، بل هو يستحق كل البطش الذي تمارسه السلطة كحق مشروع مستمد من قوتها ووجودها بالقوة في الحكم.
اكتفي بهذا لان الرد على كل ما جاء في مقال السيد بيان، يحتاج الى الاف الصفحات، لان كل عبارة اوردها، تثير لدى العراقيين وجعا عميقا. لكنني اريد التأكيد مختتما باننا نشترك مع السيد بيان في هواجسنا من المشروع الاميركي ليس للعراق فحسب بل للمنطقة كلها، لكننا نختلف معه في تشخيص من هو الذي يخدم المخططات الاميركية.
سالم مشكور |