(*)
حارث يوسف غنيمة
اتسم الحكم في العراق في العهد العثماني بالاستبداد والفساد والتخلف، ومن الامور التي اهملتها الدولة وفسحت المجال للاهلين والهيئات غير الحكومية للاضطلاع بها، الشؤون الثقافية والصحية والرعاية الاجتماعية. وبالنسبة الى التعليم، كانت المدارس التي نشأت في ذلك العهد حتى القرن التاسع عشر تقتصر مناهجها على القراءة والكتابة والعلوم الدينية والنزر اليسير من العلوم الاخرى، فكانت مدارس المسلمين تشيد ملحقة بالجوامع، وكانت مدارس النصارى واليهود تقام بجوار كنائسهم ومعابدهم. ولما كانت الدولة تعتبر التعليم من الامور المرتبطة بالاديان والمذاهب فقد منحت الطوائف المسيحية واليهودية حق تأسيس المدارس الخاصة بها وادارتها، وقد راحت هذه الطوائف تكافح من اجل تثقيف ابنائها وتعليمهم، اذ عملت على تطوير مدارسها الدينية وتحويلها معاهد تعليمية عصرية، وتغذية طلابها بثقافة لا بأس بها في تلك العصور لرفع مستواهم الثقافي ولكي يجابهوا الحياة بسلاح العلم والمعرفة، وكثيراً ما كانت المدارس الطائفية التي يرتبط القائمون بادارتها بعلاقات دينية مذهبية بالارساليات الدينية الاجنبية تقتبس مناهجها من تلك المؤسسات الاجنبية.
لقد أنشأت الطوائف المسيحية المختلفة مدارس خاصة بها في كل من الموصل وبغداد والبصرة، ومن اهم هذه المدارس مدرسة الاتفاق الكاثوليكي الشرقي، التي اسستها متفقة الطوائف الكاثوليكية الثلاث، وهي الكلدانية والسريانية والارمنية في بغداد عام .1877 وبقيت عاملة حتى .1894 كما اقامت الارساليات الدينية الكاثوليكية والبروتستنتية في هذه الولايات مدارس راقية من اشهرها معهد مار يوحنا الحبيب، لاعداد رجال الدين، والتي اسسها الاباء الدومينيكان في الموصل، ومدرسة القديس يوسف اللاتينية للآباء الكرمليين، ومدرسة راهبات التقدمية للبنات في بغداد، ومدرسة الاميركان في البصرة بادارة الارسالية العربية البروتستنتية. اما الطائفة اليهودية فقد أسست في هذه الولايات مدارس للبنين والبنات، كما ان جمعية الاتحاد الاسرائيلي أسست مدرسة عامرة في بغداد عام 1865 كانت الدراسة فيها منظمة على غرار المدارس الابتدائية الاوروبية.
إبان عهد الاحتلال قامت نظارة المعارف العمومية التي تأسست عام 1918 بمد يد المساعدة الى المدارس الاهلية وبالاخص مدارس الطوائف، اذ خصصت لها المنح والمساعدات المالية، ومن المدارس التي تلقت هذه المساعدات مدارس الطوائف المسيحية في الموصل التي ازداد عددها في ذلك العهد، ومدرسة الاميركان في البصرة، ومما يجدر ذكره ان نظارة المعارف العمومية في الموصل عقدت عام 1919 اتفاقا مع رؤساء الطوائف المسيحية يقضي باعتبار المدارس الخاصة بهم مدارس شبه حكومية. اذ يكون الاشراف عليها وصرف رواتب معلميها من جانب نظارة المعارف مع الاحتفاظ بنظامها الطائفي، وقد عرف هذا الاتفاق بـ"الكونكرداتو"، وقد ظل هذا الاتفاق ساري المفعول حتى بعد قيام الحكم الوطني، وشمل أيضاً مدارس السريان الارثوذكس والمدارس الاسرائيلية. في 1922 قامت وزارة المعارف بدراسة الاتفاق واتخذت الخطوات اللازمة لوقف العمل به. اذ خيّرت الطوائف بين ترك هذه المدارس لتصبح مدارس رسمية على ان يؤخذ رأيها في تعيين مدرسي الدين وتولي جميع مسؤولياتها ونفقاتها لتكون مدارس طائفية محضة. وافق السريان الارثوذكس ثم الكاثوليك على التخلي عن بعض المدارس وتحويلها مدارس رسمية منها شمعون الصفا، الطاهرة، التوماوية، مار توما، التهذيب الاولية الارثوذكس، قرقوش الاهلية، دهوك الاهلية، زاخو الاهلية، والسموأل الاسرائيلية. اما المدارس التي احتفظت بها الطوائف فمنها المدارس الكهنوتية، ومار عبد الاحد، ومار يوسف، ومار شيعا الاثورية في الموصل (1). ومن احصاء نشرته وزارة المعارف عن المدارس في العراق عام 1920 - 1921م تبين لنا ان عدد المدارس الاهلية كان 25 مدرسة للبنين و19 مدرسة للبنات موزعة بين الموصل ونواحيها وبغداد والبصرة والعمارة وأربيل وكركوك، اما المدارس الاسرائيلية فقد بلغ عددها عشر مدارس للبنين ومدرستين للبنات موزعة بين بغداد والبصرة والحي والحلة وكركوك، كما كان لليهود في الموصل مدرسة أولية ابتدائية (2).
تضمن الدستور العراقي عام 1925 مادة واحدة تتعلق بأمور التعليم تنص على ان للطوائف المختلفة حق تأسيس المدارس لتعليم افرادها بلغتها الخاصة، والاحتفاظ بها على ان يكون ذلك موافقاً للمناهج العامة، وقد وافق عليها المجلس التأسيسي بعدما طالب بعض النواب باقتصار هذه المدارس على المدارس الابتدائية واذا ما أعطيت الطوائف حق تأسيس المدارس الثانوية فيكون التدريس باللغة العربية. أولت الطوائف الدينية والرسالات الدينية الاجنبية أمور التعليم في عهد الحكم الملكي عناية خاصة، وانتشرت المدارس التي قامت بتأسيسها في مناطق سكني افرادها لتعليم البنين والبنات من مختلف الاديان على حد سواء، فقد كان للطوائف المسيحية وجمعياتها - كاثوليكية وبروتستنتية - مدارس خاصة بها كما كان للارساليات الاجنبية، كرسالة الآباء الكرمليين والدومينيكان واليسوعيين وراهبات المحبة والتقدمية والجمعية الخيرية الاميركية في جنوب العراق، والجمعية الخيرية الاميركية في شمال العراق والارسالية الاثورية الاميركية مدارس أيضاً، ومن اشهر المدارس في هذه الفترة كلية بغداد للآباء اليسوعيين ومدرسة راهبات التقدمية في الباب الشرقي، ومدرسة الاميركان للبنات (سميت في ما بعد بثانوية بغداد للبنات في المنصور)، العائدة لبعثة ما بين النهرين المتحدة الاميركية، ومدرسة الاميركان للبنين، ومدرستي الرجاء العالي للبنين والبنات في البصرة. اضافة الى الطوائف المسيحية فقد كان للطائفة الاسرائيلية مدارس خاصة بها. في 1956 افتتحت جامعة الحكمة للآباء اليسوعيين أبوابها للطلاب على مستوى جامعي أولي لدراستين، هما الاعمال الادارية وعلوم الهندسة، وقد حصلت على الاعتراف بالشهادات التي تمنحها من جانب الجامعة العراقية عام ،1960 ومن جانب وزارة التربية عام .1962
على توالي السنين اتبعت وزارة المعارف سياسة تعليمية تستهدف وحدة التعليم والاشراف على هذه المدارس وتفتيشها والتأكد من تطبيقها القوانين والاوامر والالتزام بها. وفي صورة عامة عاونت هذه المدارس وزارة المعارف على نشر الثقافة والتعليم، والمساهمة في نهضة البلاد الثقافية والاجتماعية في وقت كانت فيه موارد الحكومة محدودة لا تكفي لتلبية متطلبات الشعب على اختلاف اديانه ومذاهبه في هذا الحقل. وبعد تولي حزب البعث العربي الاشتراكي السلطة السياسية، أولت قيادة الحزب جهاز التربية والتعليم اهمية خاصة، ووضعت تحت تصرفه امكانات كبيرة لما له من دور فعال في خلق جيل قومي متحرر تقدمي قوي في بنيته واخلاقه، يعتز بشعبه ووطنه وتراثه ويتحسس بحقوق قوميّاته كافة، ويناضل ضد الفلسفة الرأسمالية والاستغلال والرجعية والصهيونية والاستعمار من اجل تحقيق الوحدة العربية والحرية والاشتراكية (المادة 28 من الدستور الموقت لعام 1970). وفي سنة 1975 اصدر مجلس قيادة الثورة قراره 284 (وقائع عدد 3451) القاضي باستملاك المدارس الاهلية بما فيها مدارس الطوائف الدينية والارساليات الدينية الاجنبية علماً بأن المدارس الاجنبية لم تعمل على تنمية الروح القومية التقدمية في طلابها وتم تعريقها عام .1968
أقر الدستور الموقت لعام 1970 الحقوق المشروعة للاقليات كافة (ف.ب مادة 5) وبقرار مجلس قيادة الثورة الرقم 251 عام 1972م تم منح الحقوق الثقافية للمواطنين الناطقين اللغة السريانية من كلدان وسريان وآشوريين وهي التعليم بالسريانية في المدارس الابتدائية التي غالبية طلابها من الناطقين بهذه اللغة، وتدريس اللغة السريانية في المدارس المتوسطة والثانوية (الاعدادية) التي غالبية تلاميذها من الناطقين بها، وتدريسها في كلية الآداب بجامعة بغداد كاحدى اللغات القديمة (ف. أ. ب. ج. من المادة 1 من القرار)، وبث برامج خاصة بالسريانية من الاذاعة والتلفزيون، واصدار مجلة شهرية بالسريانية (ف. د، هـ. من المادة 1)، وانشاء جمعية للادباء والكتاب، وفتح نواد ثقافية للسريان ومساعدة المؤلفين والكتاب و"المترجمين الناطقين السريانية على طبع انتاجهم الثقافي والادبي (ف.و،ز، ح. من المادة 1). وبغية وضع هذا القرار موضع التنفيذ ولا سيما تطوير اللغة السريانية في ضوء العلوم والآداب والفنون المعاصرة، فقد شرع القانون الرقم 82 لعام 1972 مجمع اللغة السريانية، وقد ألغي هذا القانون بالقانون الرقم 163 لعام ،1978 القانون الذي أنشئ بموجبه المجمع العلمي العراقي الذي من اغراضه المحافظة على سلامة اللغة السريانية بالعمل على انمائها وحفظ التراث السرياني (ف.ج. من المادة2)، ومنه تنبثق هيئة اللغة السريانية، وهي تقوم مقام مجمع اللغة السريانية السابق في صورة افضل. وتصدر عن هذه الهيئة مجلة تضم البحوث والدراسات التي تعنى بالتراث السرياني، وحصيلة اعمال الهيئة، وتستهدف تعزيز أواصر القربى بين العربية والسريانية، وخدمة الوطن العربي. وتصدر مجلة أدبية ثقافية عن المكتب الثقافي السرياني في الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق باسم الاتحاد باللغتين العربية والسريانية، وقد تغير اسمها الى (الكاتب السرياني).
ومنذ أواخر القرن التاسع عشر أدى بعض الطوائف والارساليات الدينية والراهبات خدمات طبية للمواطنين، وانشأت عيادات ومستوصفات ومستشفيات ازداد عددها وتوسعت في اداء خدماتها إبان الحكم الملكي، نخص بالذكر منها مستشفى مير الياس في بغداد للطائفة الموسوية، وهو الآن مستشفى الشعب الحكومي. ومستشفى الارسالية العربية الاميركية في العمارة (1927 - 1958)، ويشغل ابنيته منذ 1959 المستشفى الجمهوري في العمارة، مستشفى دار السلام لطائفة الادفنتست السبتيين (1946 - 1959) الذي استملكته الحكومة واطلقت عليه اسم مستشفى السلام، ومستشفى سان رافائيل العائد لجمعية راهبات التقدمية في بغداد والذي لا يزال يستقبل مرضاه حتى الآن. وعملت هذه الطوائف على انشاء ملاجئ للعميان والعاجزين ودور أيتام وجمعيات خيرية لا يزال قسم منها قائماً. وتدار جميع هذه المؤسسات وفق القوانين النافذة ومن جانب الهيئات المنبثقة من تشكيلات الطوائف.
المجالس الروحية (المحاكم الدينية) والاحوال الشخصية
في أواخر العهد العثماني كان في العراق للطوائف الدينية المذكورة أدناه مجالس روحية في المدن الآتية:
- الارمن الارثوذكس والسريان الكاثوليك واللاتين والموسويون في بغداد والبصرة والموصل.
- الكلدان في بغداد والموصل والبصرة وكركوك والعمادية وزاخو والعقر.
- السريان الارثوذكس في الموصل.
- الروم الكاثوليك والارمن الكاثوليك في بغداد. وبعدما أحتل البريطانيون بغداد اصدروا بيان المحاكم عام ،1917 المتضمن اعادة تأسيس المحاكم فيها. وجاء في المادة 11 منه أن المحاكم المدنية تنظر في الدعاوى المتعلقة بالنكاح والطلاق والوصية والمناسبات العائلية والحجر والارث والهبة والوقف وما أشبه ذلك باستثناء ما كان من اختصاص المحاكم الشرعية، وقد عدلت احكام هذه المادة بالمادة 22 من نظام المحاكم المدنية لعام 1918 المعدل التي نصت على ما يأتي:
اختصاص المحاكم المسيحية والموسوية:
22- ليس للمحاكم ان تقبل الدعاوى التي تحدث بين الرعايا العثمانيين من المسيحيين او الموسويين في ما يتعلق بالنكاح والمهر والطلاق ونفقة الزوج لزوجته، مما كانت تنظر فيه الى الآن سلطاتهم الروحية، وذلك الى ان أصدر أمر آخر بهذا الشأن وبصرف النظر عن احكام المادة (11) من بيان المحاكم. والقرارات القطعية التي تصدرها المحاكم الدينية الموسوية والمسيحية في الدعاوى المتعلقة بالمواد المبينة في الفقرة السابقة مما يحدث بين الاشخاص الذين يكون لها صلاحية عليهم، تنفذها المحاكم مثلما تنفذ قراراتها.
وقضت المادة 23 من نظام المحاكم بتطبيق احكام الشريعة الاسلامية في ما يخص الارث والوصية على المسيحيين والموسويين الى حين صدور قوانين خاصة. وهذا هو نص مادة وراثة المسيحيين والموسويين.
23- يحكم في المسائل المتعلقة بوراثة من توفي عن غير وصية من الرعايا العثمانيين المسيحيين والموسويين المقيمين في ولاية بغداد وفقاً للاحكام التي كانت تطبقها عليها الحكومة العثمانية، وهي احكام الشرع الاسلامي وذلك الى صدور قوانين مخصوصة في هذا الشأن، وكذلك المقدار من التركة الذي يمكن المسيحي او الموسوي المقيم في ولاية بغداد ان يتصرف فيه بوصيته يبقى مقيداً كما في السابق بنصوص الشرع الاسلامي.
ولا بد لي من ان أذكر بأن بيان المحاكم لعام 1917 ألزم المحكمة المدنية عند النظر في قضايا الاحوال الشخصية ان تطبق القانون الشخصي او العرف المرعي للمتقاضين (المادة 13)، وأجاز لها إما ان تستمزج رأي احد العلماء الروحانيين واما ان تحيل القضية للبت فيها (المادة 16)، والرأي الذي يعطيه العالم في الحالة الاولى على المحكمة ان تقبل به وتصدر حكمها استناداً اليه، وعليها في الحالة الثانية ان تصدق قراره للعمل به (المادة 17).
كانت المحاكم الدينية في العهد الملكي تنقسم الى قسمين:
1- المحاكم الشرعية وهي تختص بالنظر في دعاوى الاحوال الشخصية للمسلمين وادارة اوقافهم وفقاً للاحكام الشرعية الخاصة بكل مذهب من المذاهب الاسلامية (المواد 75 و76 و77 من القانون الاساسي العراقي).
2- المجالس الروحية الطائفية للموسويين والمسيحيين، وتنظر في بعض القضايا الخاصة بأحوالهم الشخصية كما بينها المواد 80،79.78 من القانون الاساسي التي نصت على ما يأتي:
المادة الثامنة والسبعون
تشمل المجالس الروحية الطائفية، المجالس الروحية الموسوية والمجالس الروحية المسيحية، وتؤسس تلك المجالس وتخول سلطة القضاء بقانون خاص.
المادة التاسعة والسبعون
تنظر المجالس الروحية:
1- في المواد المتعلقة بالنكاح والصداق والطلاق والتفريق والنفقة الزوجية وتصديق الوصيات ما لم تكن مصدقة من الكاتب العدل في الامور الداخلة ضمن اختصاص المحاكم المدنية في ما يخص افراد الطائفة عدا الاجانب منهم".
2- في غير ذلك من مواد الاحوال الشخصية المتعلقة بأفراد الطوائف عند موافقة المتقاضين.
المادة الثمانون
تعين اصول المحاكمات في المجالس الروحية الطائفية والرسوم التي تؤخذ منها بقانون خاص. وتعين ايضاً، بقانون الوراثة وحرية الوصية وغير ذلك من مواد الاحوال الشخصية التي ليست من اختصاص المجالس الروحية الطائفية.
وفي سبيل تطبيق احكام المواد المذكورة اعلاه من الدستور طلبت وزارة العدل من الطوائف بيان المجالس الروحية الموجودة في العراق، وكيفية تشكيلها ودرجتها وصلاحياتها وأصول المحاكمات فيها كما طلبت منهم معلومات تفصيلية عن الدعاوى التي في هذه المجالس والسماح لمفتشي العدلية اجراء التفتيش وبهذا المعنى وجهت كتابين الى بطريرك الكلدان عام ،1926 فيما يأتي اوجز رد البطريرك عليهما:
أ- تنقسم المواد الشخصية عند الكاثوليك قسمين:
1- الزواج وتفرعاته ومحاكمة رجال الدين والامور المتعلقة بالاوقاف، وتعتبر هذه القضايا من المقدسات والحكم فيها على اختلاف درجاتها يعود حصراً الى رجال الدين، ولا يجوز مطلقاً ان يتدخل فيها احد من غير الروحيين.
2- الحضانة والعصابة والارث الخ، وهذه القضايا لا تعتبر من أمور الدين المحضة ولكن لمساسها بشرائع المسيحيين فقد ارتأت الحكومات الاسلامية ان تكون من اختصاص المجالس الروحية ولذا فمن الجائز لغير رجال الدين التدخل والحكم فيها.
ب- درجات المحاكم عند الكاثوليك كما يأتي:
1- مجلس المطران ينعقد برئاسته او برئاسة من ينوب عنه من القسوس المفوضين من البطريرك او المطران، مع عضوين من القسوس، وتجري المحاكمات في هذا المجلس بداية، وينظر هذا المجلس في الدعاوى الناشئة ضمن ابرشية المطران، ويكون مجلس النواب البطريركيين بحكم مجلس المطران.
2- مجلس البطريرك، وينعقد برئاسته او من ينوب عنه، وتستأنف لديه الاحكام الصادرة من مجلس المطران، ويكون حكمه قطعياً لكل الدعاوى باستثناء القضايا المدرجة تحت (أ-1) فيجوز تمييزها.
3- البابا (الكرسي الرسولي) تميز لديه القضايا القابلة للتمييز.
ج- اختصاص المجالس الروحية ما يأتي:
الخطبة والزواج والصداقة والفراق والنفقة الزوجية والتبني والرضاعة والحضانة والولاية والوصاية والنظارة على الوصي والوقفية وادارة الاوقاف والوصية والهبة وتقسيم التركة وادارة اموال الصغير والمحجوز ومحاكمة رجال الدين ومعاقبتهم، وغير ذلك من المواد الشخصية.
ما عدا قضايا الزواج ومحاكمة رجال الدين وادارة الاوقاف التي تعتبر من المقدسات لم يكن هناك مانع من اقامة الدعاوى في القضايا المذكورة اعلاه في المحاكم المدنية ولكن متى أقيمت في المجلس الروحاني فالحكم الصادر منه والمكتسب الدرجة القطعية يصبح واجب التنفيذ من جانب دوائر الاجراء (التنفيذ).
بالنظر الى ما تقدم فقد رفض البطريرك اجراء التفتيش رفضاً باتاً كما انه شجب فكرة تمييز احكام هذه المجالس لدى محكمة التمييز (3).
ظلت المجالس الروحية الطائفية عاملة في العراق كما كانت في العهد العثماني وباستثناء قانون طائفة الارمن الارثوذكس الرقم 70 لعام ،1931 وقانون الطائفة الاسرائيلية الرقم 77 للعام 1931 وتعديلاتهما، والانظمة الصادرة بموجبهما فلم يصدر قانون وفقاً لاحكام المادة 78 من الدستور حتى عام 1947 الذي شرع فيه قانون تنظيم المحاكم الدينية للطوائف المسيحية والموسوية الرقم 32 للعام 1947 الذي تقرر بموجبه انشاء محكمة طائفية من الطوائف المدرجة اسماؤها ادناه، تؤلف من ثلاثة اعضاء ومجلس تمييز يكون اعتيادياً برئاسة الرئيس الديني ان كان قد نصب بارادة ملكية وعضوين، وقد قضى القانون ان يكون الاعضاء من رجال الدين المنتمين الى الطائفة المخصصة لها المحكمة مع جواز تعيين خبراء قانونيين من غير رجال الدين من بين اعضاء المحكمة، وحدد القانون اختصاص هذه المحاكم والمجالس بالنظر في دعاوى النكاح والصداق والطلاق والتفريق والنفقة الزوجية التي هي ليست من اختصاص المحاكم المدنية وتطبق فيها قواعد اصول المحاكمات الشرعية الى ان يصدر قانون خاص. وبموجب القرارات والتعليمات الصادرة بموجب القانون تقرر ان يكون لهذه الطوائف محاكم في الاماكن الآتية:
1- الكاثوليك على مختلف فرقهم وهم الكلدان والسريان واللاتين والروم الارمن. تكون لهم محاكم في بغداد والبصرة والموصل.
2- الارمن الارثوذكس تكون لهم محكمة في بغداد
3- اليعاقبة (السريان) الارثوذكس تكون لهم محكمة في بغداد.
4- الاسرائيليون تكون لهم محاكم في بغداد والبصرة والموصل.
اما في ما يخص قضايا الاحوال الشخصية الخاصة بالمنتمين الى الطوائف غير الاسلامية الاخرى، فقد قضى القانون ان تكون من اختصاص المحاكم المدنية وفقاً للاحكام المقررة في بيان المحاكم لعام ،1917 كما جوّز لوزير العدل ان يحيل الدعاوى التي توكل النظر فيها المحاكم الطائفية الى المحاكم المدنية. وقد طالب القانون الطوائف المشمولة به تدوين الاحكام والقواعد الفقهية باللغة العربية التي تطبق على الدعاوى المنصوص عليها به. وألغى القانون المحاكم الدينية للارمن الارثوذكس والاسرائيليين المشكلة بموجب القانون الخاص بهما للعام .1931
عند وضع هذا القانون موضع التنفيذ رفضت المحاكم ومجلس التمييز للطوائف الكاثوليكية النظر في الدعاوى المشمولة بأحكامه، لأنه تضمن احكاماً تتعارض مع المقدسات الدينية مثل جواز تعيين اعضاء في المحاكم من غير رجال الدين واحتمال قيام المفتشين باجراء التفتيش، ولذلك قرر وزير العدل عام 1948 الغاء هذه المحاكم وايداع اعمالها المحاكم المدنية وتطبيق الاحكام المقررة في بيان المحاكم. اما بقية الطوائف (الارمن الارثوذكس والسريان الارثوذكس والاسرائيليين) فقد طبقوا القانون ونشروا الاحكام الفقهية الخاصة بهم (الاحكام الفقهية للموسويين - الوقائع العدد 2689 في عام 1949) و(الاحكام الفقهية للسريان الارثوذكس - الوقائع العدد 2855 في 1950). وفي 1951 شرع قانون اصول المحاكمات للطوائف المسيحية والموسوية الرقم 10 للعام 1950 الذي الغى القانون الرقم 39 لعام 1945 الخاص بتعديل قانون الطائفة الاسرائيلية الرقم 77 للعام 1931م، وذلك كما جاء في المادة 80 لتعيين الوراثة وحرية الوصية لافراد الطوائف المسيحية والموسوية كما جاء في الشق الثاني من هذه المادة بل ظلت تسري على هذه القضايا الاحكام الشرعية وفقاً للمذهب السني، وثم طبق بحق جميع العراقيين في ما يخص الوصية في القانون المدني العراقي.
ظلت المحاكم والمجالس التمييزية للطوائف الثلاث تمارس اعمالها، ولما فقدت الطائفة الموسوية صفتها ألغيت محاكمها، ومجلس التمييز، واودعت اعمالها المحاكم المدنية وذلك في 1951 ثم صدر قانون ادارة طائفة الارمن الارثوذكس الرقم (87) لعام 1962 الذي قضى بأن المحاكم المدنية تختص بالنظر في دعاوى الاحوال الشخصية الخاصة بأبناء طائفة الارمن الارثوذكس كما سبق ان ذكرت، وكذلك صدر أمر من وزير العدل بتاريخ 1963 بالغاء المحكمة ومجلس التمييز الطائفي للسريان الارثوذكس (4)، وايداع اعمالها المحاكم المدنية، وبذلك تم الغاء جميع المحاكم والمجالس الطائفية وأصبحت المحاكم المدنية مختصة بالنظر في دعاوى الاحوال الشخصية لابناء الطوائف المسيحية والموسوية. وكانت محاكم الحكام المنفردين هي المختصة بالنظر في مثل هذه الدعاوى وفقاً لاحكام المادة 4 من نظام المحاكم لعام 1918 الى ان صدر قانون السلطة القضائية الرقم 26 للعام 1963 الذي قضى بتأسيس محكمة شرعية في كل مكان توجد فيه محكمة البداءة. واعتبر الحاكم المسلم قاضياً للمحكمة الشرعية كما اعتبر حاكم البداءة حاكماً للمواد الشخصية لغير المسلمين (المادة 2). وبالقانون الرقم 60 للعام ،1979 قانون التنظيم القضائي ألغيت المحاكم الشرعية وحلت محلها محاكم الاحوال الشخصية، واعتبر القاضي المسلم في محكمة البداءة قاضياً لمحكمة الاحوال الشخصية للمسلمين، كما اعتبر قضاة محكمة البداءة سواء أكانوا من المسلمين أم من غير المسلمين لهم اختصاص في النظر في قضايا الاحوال الشخصية لغير المسلمين.
إن محاكم الاحوال الشخصية تطبق على غير المسلمين الاحكام الفقهية المتعلقة بهم استناداً الى احكام المادة 13 من بيان المحاكم للعام .1917 وباعتبارهم مشمولين بالاستثناء المنصوص عليه في الفقرة (أ) من المادة الثانية من قانون الاحوال الشخصية الرقم 188 للعام 1959 المعدل الذي لا تسري احكامه عليهم ما عدا احكم الوصاية والمواريث التي تطبق بحق جميع العراقيين مسلمين وغير مسلمين.
إن مبدأ تطبيق الاحكام الفقهية للطائفة غير الاسلامية على أبنائها في قضايا الاحوال الشخصية أقرته محكمة التمييز في قراراتها ومنها قرارها رقم 323/شخصية/ للعام 1979 اذ جاء فيه ما يأتي: وجد ان الوقائع الثابتة من الدعاوى ان المدعي قد تزوج من المدعى عليها بموجب عقد صادر من كنيسة... وفقا لأحكام الكنيسة الشرقية (النسطورية) وطلب المدعي في عريضة دعواه التفريق بينه وبين المدعى عليها بحجة عدم انسجامهما، وحصول التفريق الجسماني بينهما، وذلك وفقاً لتعاليم الكنيسة الشرقية. ولمعرفة القانون الواجب التطبيق على الوقائع المتقدمة يتعين ملاحظة بعض النصوص القانونية، فقد نصت المادة 13 من بيان المحاكم للعام 1917 على انه في كل نزاع يعرض على المحكمة المدنية بموجب البيان المذكور، ويكون طرفاه من منتسبي إحدى الطوائف غير الاسلامية تقضي المحكمة وفقاً لتعاليم تلك الطائفة، ولما كانت الأحكام والقواعد الفقهية لطائفة الكنيسة الشرقية (النسطورية) لم تنشر وفقاً لأحكام المادة 19 من قانون تنظيم المحاكم الدينية للطوائف المسيحية والموسوية الرقم 22 للعام 1947 فقد بقيت التعاليم الدينية لهذه الطوائف تطبق على كل نزاع يعرض امام المحكمة المختصة على النحو المبين في البيان الصادر عام 1917 واستمرت الحال على هذا المنوال حتى بعد تشريع قانون الاحوال الشخصية الرقم 188 للعام 1959 المعدل حيث شملهم الاستثناء المنصوص عليه في الفقرة الاولى من المادة الثانية منه والتي تنص على انه (تسري أحكام هذا القانون على العراقيين إلا من استثني منهم بقانون خاص)، وان البيان عام 1917 يعتبر قانونا خاصا، وان الأحكام المتعلقة بغير المسلمين فيه لم تلغ عند صدور قانون الأحوال الشخصية وبقيت تطبق عليهم حتى الان... (مجموعة الأحكام العدلية للعام 1979 ص68) ان هذا القرار وان كان واضحا لا لبس فيه لكن حبذا لو اتخذت السلطات المختصة الاجراءات لتعديل قانون الاحوال الشخصية، وضمنته أحكام المادة 13 من بيان المحاكم لسنة 1917 التي تقضي بأنه في كل نزاع يعرض على المحكمة المدنية يتعلق بإحدى المواد الشخصية (تحدد هذه المواد كالزواج والطلاق والتفريق) ويكون طرفاه من منتسبي احدى الطوائف غير الاسلامية تحكم المحكمة وفقا لتعاليم تلك الطائفة.
الخلاصة انه لظروف سياسية ودينية واجتماعية منح السلاطين العثمانيون رؤساء الطوائف الدينية الفرمانات التي تخولهم صلاحيات واسعة على شؤون رعاياها في حين ان هؤلاء الرعايا ذاقوا الأمرين من العثمانيين، وان الدول الاستعمارية عملت على ترسيخ الطائفية واستغلالها لمصلحتها بحجة حماية الاقليات في مراحل ومناسبات عديدة، وان القوانين في العراق منذ انفصاله عن الدولة العثمانية وحتى اليوم حدت من صلاحيات رؤساء الطوائف، وألغت عدداً من مؤسساتها ومجالسها الروحانية بصفتها محاكم مدنية انسجاما مع مستلزمات العصر ومع نمو الشعور القومي، وان نظام رعاية الطوائف الدينية الرقم 32 للعام 1981 تسري احكامه على كل الطوائف باستثناء الأحكام المتعلقة بالشؤون القضائية والعدلية، وان نصوصا ذات طابع ديني توجد في القوانين والدساتير العراقية، والدوافع لمثل هذه النصوص كما يرى الاستاذ شبلي العيسمي في كتابه المرسوم العلمانية والدولة الدينية (ص 41) هو المسايرة لمشاعر الجماهير المتدينة او لامتصاص الضغوط التي تمارسها الحركات الدينية.
(1) غانم سعيد العبيدي - التعليم الأهلي في العراق - مطبعة الإدارة المحلية، بغداد، 1970م، ص76-.80
(2) عبد الرزاق الهلالي - تاريخ التعليم في العراق - مطبعة المعارف - بغداد، 1975م، ص256-.257
(3) مجلة النجم، 1929 م، حول قانون الأحوال الشخصية في العراق، ص 141-.146
(4) المطران صليبا شمعون - تاريخ أبرشية الموصل السريانية - مطبعة شفيق، بغداد، 1984م، ص .61
* عن "النشرة" - دورية تصدر عن المعهد الملكي للدراسات الدينية (عمان) العدد 21 (شتاء 2002). |