|
إشكالياتُ تحركات فبراير 2011
عبدالله خليفة
الحوار المتمدن-العدد: 3315 - 2011 / 3 / 24 - 16:56
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
عبر الحراك البحريني منذ الرابع عشر من فبراير 2011 عن قيام جمهورِ الريفِ العامل بتحريك الحياة السياسية والاجتماعية نحو نقلة سياسية كبيرة، عجزَ عن توصيلها للنصر.
علينا أن نراجعَ خلال قرون كيف تحملَ هذا الجمهور الريفي عذابات التحول والاضطهاد، من جانبي السلطة السياسية ومن جانب السلطة الدينية معاً.
إنها القرى الفقيرةُ التي أسستْ تاريخاً محورياً مهماً من البحرين مثلما أسستْ قبيلةُ عبدالقيس المهاجرةُ من الحجاز إلى الإحساء والقطيف بعد الإسلام القرى والمدنَ على ساحل الخليج الشرقي من البصرة حتى عُمان.
وهي المنطقةُ التي جعلتْ من الخوارج ومن الإماميات مرجعيات للمعارضة على مدى قرون، فيما الحجازُ يتشكلُ في الغنى والمقدسات المبجلة عند كل المسلمين.
هذا ما جعل شرق الجزيرة وجنوب العراق منتجين للحركات المعارضة المغيرة المنتشرة ثقافياً في العالم الإسلامي دون أن تشكلَ هذه الحركات ثقافةً ديمقراطية توحيدية تنتشرُ بين جموع المسلمين ككل وتنقلهم للحداثة.
وقد إنتشرتْ وتغلغلتْ القبائلُ السنيةُ كذلك وشكلت حياةً إجتماعية أخرى وقرى ومدناً، ولم يمتزج الجانبان إمتزاجاً توحيدياً كذلك.
وجاءت القبائلُ السنية الأخيرةُ في القرن الثامن عشر لتقفز على هذا الشريط الأخضر والأصفر إلى الثغور والسواحل، ولتحتل الشريطَ من الكويت حتى عُمان والقبائل الوحيدة التي دخلت في صراع ضار مع السكان الفلاحين هي قبائل العتوب المتكونة من عشائر صغيرة وسيطرت على جزر أوال المسماة بهذا الأسم في ذلك الوقت.
وبهذا فإن هذه القبائلَ حصرتْ نفسَها في هذا الشريط الجغرافي الضيق، وخاصة القبائل التي ظنتْ أن جزرَ أوال غنيمةً سهلةً وعظيمة وهي تبدو بعيونِها الكثيرة وبساتينها وموقعها الاستراتجي في قلب الخليج، لكنها كانت مصيدةً جغرافيةً تاريخية، ولؤلؤة حارقة لها على مدى السنين في العقود القادمة.
وعائلة آل سعود تماثلت مع هذه اللغة الصراعية حين قررت بالتحالف مع الدعوة الوهابية أن تستولي على خيرات الجزيرة العربية في دعوة متشددة عسكرية وأن تسيطر على عوالم الفلاحين المنتجين في المنطقة الشرقية خاصة.
إن قفزات القبائل السنية فوق الشريط السكاني الزراعي الواسع المتكون خلال قرون سوف تظهر خطورتها خلال الزمن الراهن خاصة.
ومثلتْ جزرُ أوال هذا التحول التاريخي المتناقض والمعقد بسرعة تاريخية أكبر من غيرها بسبب حجمها نفسه، وهو الذي ضاعف كذلك من التناقضات والحراك الاجتماعي.
الزمن المعاصر
وبهذا فإن جزر أوال الصغيرة في هذا المدى الجغرافي الرملي البحري الواسع، تعرضتْ لضغط تاريخي شديد، ولنمو نموذجي في المنطقة بسبب جمعها لمختلف التناقضات السائدة في الجزيرة العربية في حيز شديد الضيق.
ومن خلال إستبدالها اسمها الأول باسم البحرين تحول العملاق الصحراوي الزراعي إلى كائنٍ مضغوط في محارة نارية.
هكذا كان عليها أن تغيرَ جلدَها الزراعي الحِرفي بسرعة مخيفة، وكان على الفلاحين والبحارة وأنواع من الحرفيين لا تحصى تكونوا في خلال قرون بصبر أن يغيروا مهنَهم وهي تضيع في غمرة إنهمار السلع الأجنبية المتدفقة، دون أن تتسع البلد للذهاب لمناطق أخرى، أو أن يحصلوا على بديل مجزٍ لسلعهم المتبخرة في الهواء بسبب (دولة) تتقصدُ فتحَ الأبواب وخلق تراكم بدائي لمعروضٍ كبيرٍ من الإيدي العاملة الرخيصة المعروضة على أولِ شركة نفط في القسم العربي من الخليج، فكان الفلاحون وهم يدفنون جثثَ النخيلِ والأشجار يخرجون بمعاولِهم ليَمهدوا الأرضَ لمعمل التكرير ومرافق شحن البترول وتصديره بحراً.
كانت معاملُ بناءِ السفن الخشبية، وأدواتُ النسيج، وصناعة الحصر، والعباءات والثياب، هي الضحايا الأُول لهجوم(الحداثة الاستعمارية) وأخلتْ البلداتَ والقرى من أولى أحجار التماسك الاجتماعي تجاه الأعاصير، حيث بقيت بساتين النخيل المدافعة الأشد عن تربةِ الريف القوية، ولكن اللامبالاة الحكومية تجاه هذا الطوفان المُجتّث للجذور ليست منفصلة عن الصراعات الاجتماعية والسياسية لسلبِ الأراضي على مدى عقود وإبعاد الريف عن السياسة، بمختلف أدوات القهر من عسف وسخرة وإستغلال.
القفز على هذه التضاريس وإمتلاك الأراضي جعلت من شيوخ القبائل قوى مكرسةً للصراع الطائفي بالضرورة، ومغذيةً لفئات غنية صغيرة داخل الريف وخارجة لمواجهة أغلبية من مذهب آخر.
وكان شيوخُ الدين في الطائفة مستمرين في المحافظة على نصوص وشعائر العادات الدينية، وعبرها يتكرسون كسلطة دينية مهيمنة، ويعبرون عن معاناة الجمهور من خلال التراث الحزين وتصعيده في رموزٍ غيبية تنفصل عن الواقع دون أن يطرحوا قراءته أو مواجهته، وتركزت الصراعات على العسف الاجتماعي والسياسي من قبل شيوخ الأرض والسلطة.
الحداثة الوطنية تشكلت من خلال الثقافة الأدبية والتجمعات الفكرية والسياسية خلال قرن من المخاض والجهود، عبر ظروف المدن وقوى الإنتاج القديمة والحديثة التي جمعت الناس من مختلف المشارب، لينفصلوا عن الإرث الديني في تجمعاتهم السياسية ويشكلوا حركات التحرر والتغيير، ويجعلوا الريفَ في علاقة تحديثية بسيطة.
وإستطاعت هذه الثقافة التحديثية السياسية أن تصنع ثمار الاستقلال، مناضلةً من أجل تغيير ظروف العاملين، وهو الزمن الذي صنعَ الحريةَ الوطنية، ولكنه أعطى شيوخَ السلطة مفاتيحَ صناديق الثروة التي حددوا كيفيةَ توظيفها، مثلما أعطى شيوخَ الدين إستمرار الهيمنة الروحية على الجمهور، فلم يكن بإمكان الحركات السياسية أن تكون قوى تحليل ثم تغيير عميقة، بحكم أدواتها الفكرية الشعارية، فلا قدرة لها على تحليل الإقطاع بشكله السياسي المهيمن والذي قبضَ على أدواتِ الدولة ومؤسسات القطاع العام ليكرسَّ جزءً كبيراً منها لمصلحته الخاصة فكّون الشركات الخاصة والممتلكات من باطن الدولة (الوطنية)، ولا تحليل الإقطاع الديني وهو يهيمن بجزئيه السني والشيعي على(الثروة) الروحية.
وقد بدأ رجالُ الدين يكبرون منذ زمن الثروة النفطية، وراحوا يوسعون من المراكز الدينية وإنتشارها، وكان التحالفُ بين شيوخ السلطة وشيوخ الدين في زمن سطوة الشعارات اليسارية قوياً، حيث تهدد العاصفة بإقتلاع الفئتين، لكن ثراء شيوخ السلطة لا يقارن ببساطة وتواضع ثروة شيوخ الدين، وكان العمل المشترك بينهم، يغذي إنتشار رجال الدين الشيعة خاصة في الشبكات الاجتماعية الدينية، فقد غدوا قوة جماهيرية كبيرة. وهو أمرٌ جعلَ الدولة والسعودية تغذيان(الخصم) المقابل وتوسعان شبكة أنديته وجمعياته الدينية، وفي ذات الوقت كان التذويب لليسار عبر السجون والمنافي وإزالة مراكز تأثيره من برلمان وخلايا وثقافة أدبية وعلمية.
هكذا قربت الدولةُ (السنيةُ) الطائفةَ الشيعيةَ نحو مراكزِ ثقافتها التي لم تنقطعْ أبداً عنها حتى في أحلك الظروف، فتوسعتْ العلاقاتُ بين الطائفة ومراكز إنتاج الوعي المذهبي في الخارج، واستمر منتجو النصوصية الحَرفية، ومكرسو الشعائر ومغذو إستعادة المناسبات الدينية وتوسيع حضورها في الحياة اليومية للطائفة، حتى غدتْ الطائفة تتنفسُ التراثَ العتيقَ وتستحضرُ عذابات الأئمة وهي بين الحاراتِ المخنوقةِ فقراً وتلوثاً والمزدحمةِ بالسكان المواطنين وبمنافسة حشود العمال الأجانب النازفين للأمكنة، والطائفة وهي كذلك في القرى المتوسعة بشراً بسبب الولادات الكثيفة وهي التعبة من فقدان المرافق والبؤس ومن المزارع المتهالكة والحقول الميتة، ومن البحر الهارب من أيدي الصيادين وشباكهم، والمسروقةِ(حظورهم)، ومن الدفان وتهالك وسائل الصيد وحشود المصانع الملوثة التي تخصص بعضها قرب قراهم.
البلدُ الصغير يعطي سرعةً للتفاعل، سواءً ببث المواد الدينية ونشرها، أم بفعالية التجمعات العبادية الساخنة، وبمقارنة الفقر من جهة وتفاقمه والغنى وبذخه وغروره من جهة أخرى، وبازدياد التفاوت بين الطائفتين، إحداهما تلتصق بأجهزة الدولة العسكرية والمدنية، والأخرى تلتصق به قليلاً فيما قواعدها تنتشر في العوز وقلة الإمكانيات.
زمن مصارعة الشيوخ الدنيويين والدينيين لليسار كانت ذروتها عند مقتل الصحفي عبدالله المدني من قبل المخابرات العراقية عبر سفارتها في ذلك الحين، حيث تم سحل هذا اليسار بقسوة، وبعدها جاءت الضربات المتتالية حتى أصبح خارج التاريخ الفعلي.
الزمن الاجتماعي البحريني منذ نهاية السبعينيات أصبح دينياً، فالشعائرُ والرموزُ تغلغتْ في كل مكان، والرأسماليةُ الحكومية المنتفخةُ بأمتيازاتِها وسرقاتها الواسعة من المال العام أنتشتْ من هذه الشراكة (المقدسة)، جامعةً بين الصلوات السطحية للإسلام وفتح البنوك(الربوية) وفنادق السياحة وجلب الجواري الحديثات، حتى إنتهت السكرة ولم تأتِ الفكرة بعد الثورة الإيرانية، فأستيقظتْ على كابوسٍ سياسي رهيب.
الزمنُ الديني السعيد الذي أتسمَّ بعدمِ مطالعةِ الفروق الدينية بدقة وعدم تكريس الاختلاف بقسوة، تفجرَ فجأة مع هذه الكتائب الجديدة التي لا تتوقف مستعيدةً نموذج التنظيمات الإيرانية والعراقية الدينية والتي تسربها للأزقة المُشبَّعةِ بالفقرِ وأحلام الأئمة الطاهرين، فأصبحتْ تلك الجموع التي تحتفي بالمناسبات الدينية خطراً بعد أن كانت صديقةً في محاربة الشيوعية(الكافرة)!
التوظيف الذي كان يسري بقوة لجموع الطائفة في الأجهزة العسكرية وخاصة قوة الدفاع توقف، وُوضعت الطائفةُ في القائمة السوداء السياسية، وبدأت ماكينة الطائفية الحكومية تضخُ نفسَ المادة القديمة عن الروافض وجماعات الزيغ، وتبحث عن الليبراليين المنطفئين واليسار الذي أختنقَ في السجون، لتشكل شيئاً من توازن فُقد خلال عقدين.
إنتاج إنتفاضة مذهبية
صعود النموذج الإيراني أشاع الغرورَ السياسي لدى جموع الشباب المتحمس في خلايا ولايةِ الفقيه، وظهرُ حلمُ إستعادة أقليم البحرين الشيعي بملايينه في شرق الجزيرة المتناسج عبر القرون مع مركز الطائفة في قم والنجف، وقد كان متوارياً في تلافيف العقيدة وهي تبكي الأئمة، وتستحضرُهم في مؤسسات العبادة، وفي نصوصٍ محافظةٍ عبادية، سحرية، لا تعترفُ بتضاريسِ الزمانِ والمكان، ولا بمواصفاتِ الطبقات وقوانين الإنتاج والتطور ولا بظهورِ الدول القومية والوطنية، فالتراثُ الكربلائي يوميٌّ، ويزيدٌ حاضرٌ في الحكام، والحسينُ شهادةٌ لكلِ من يضحي، وتكفي هذه الحكايات لتصنع ثورةً وتؤسس نظاماً.
كانت البلدُ حينئذٍ يخيمُ عليها قانونُ أمن الدولة ورئاسة الوزراء سعيدة بحل المجلس الوطني الذي كان قد بدأ في مراقبتها، وكانت أسعارُ النفط المتصاعدة تغريها بإسدال الستائر الكثيفة على المال العام.
وكانت سنواتُ الفورةِ هذه تخفف من طبيعة الاحتجاجات، لكن حجم الإنتاج النفطي البحريني وضخامة الفساد وجلب العمالة الأجنبية بشكل واسع وهو الذي ضرب العمال البحرينيين خاصة، (وكانت أغلبية الطائفة من العمال)، فكان تدفق العمال الأجانب لمصلحة الطبقة الحاكمة والطبقة الغنية عامة مثله مثل مختلف الظواهر الاقتصادية الكبيرة من مشروعات حكومية ومؤسسات إقتصادية كبيرة.
وبهذا فإن الدكتاتوريةَ وضعتْ الموادَ المتفجرة بقربِ بعضِها البعض، فثمة وضعٌ يزدادُ تأزماً، والموادُ الفكريةُ والسياسية تتسلل إلى طلائع هذا الجمهور، فكانت معارض الكتاب تجلبُ مواداً هائلة من الكتبِ الدينية العتيقة التي يندفع لها هذا الجمهور المتعطش، فغدا ظهور التنظيمات والتحركات الجزئية التصادمية أموراً عادية خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين.
لن تختلفَ جوهرياً التحركاتُ السياسيةُ لأجسام الطائفة البارزة، فهي ستقوم بالانعزال عن الطائفة الأخرى، وتتحرك في أجسام خاصة بها، وقد أنقسمتْ حسب المرجعيات الدينية لكل منها، فالشيرازيون لا يستطيعون أن يكونوا سياسياً في جسم واحد مع جماعة الشيخ عيسى قاسم، وتكّونُ هذه الأجسام السياسية يعتمد على أهمية المرجع الاجتماعية؛ أي مدى التأييد له والقبول به وعلى نشاط الجماعات.
ولكن أحداث التسعينيات تمتاز بأنها طلعت من زمن أمن الدولة الذي كان مكروهاً مقيتاً من قبل الشعب، وحاولت بذورٌ صغيرةٌ سياسية علمانية في المدن الخروج منه غير أنها لم تمتلكْ الأجسامَ الاجتماعية التي توظفها للتحرك السياسي الواسع.
كانت الأحداث الإيرانية ألقتْ بظلالِها على التباين بين الطائفتين وازدهرَ تشغيلَ الطائفية السنية بصورة أكبر في المؤسسات العسكرية والأمنية المتفاقمة الظهور، وفي الوزارات، مما أحدث خللاً توظيفياً وطنياً عاماً، وعجزاً في بُنى البؤر الصغيرة من اليسار في المدن التي إنصرفتْ عنها هذه الجموعُ المسيَّسة مذهبياً بشكل حكومي مسيطر أم بشكل شيعي معارض.
كان لا بد من واجهة(وطنية) لهذه التحركات، فكان ما سُمي بجماعة العريضة، لكن العريضة والتواقيع عليها وضحت تباين الأحجام بين العلمانيين والدينيين الشيعة، وقدرة الأخيرين على الحشد بعد أن هيأتْ لهم الدولةُ كلَ المواد الاجتماعية اللازمة وكذلك أتاحت لهم إختطاف المشروع السياسي للعريضة وجسم الطائفة والانفراد بمغامرة سياسية في التسعينيات ساد فيها العنف والخسائر على الجانبين الشيعي والحكومي معاً.
لقد ظهرت في هذه الأجسام السياسية المذهبية الهلامية الشيعية سلطةٌ عبرت هيمنة المراجع الذين تحولوا لسلطتين سياسية وفقهية مهيمنتين.
إن وعي الجماعات المذهبية السياسية الشيعية هنا يمتلئُ بالموروث الديني للطائفة المسحوب من فضاءِ العصر الوسيط لتطبيقهِ على الواقع السياسي المعاصر، فخلفيته هي هذه المادة الموروثة، يُضاف إليها مطالبٌ سياسية معينة في كل فترة تصعيدية لجسمِ الطائفةِ الموَّحد بدكتاتوريتهِ الدينية، لكن لا يتم الانشغال بالحفر فيما وراء هذه المطالب أو مراجعة تخلف الطائفة وتطويرها الديمقراطي، أو أن ينمو الوعيُّ باتجاه تحليل الواقع: تاريخه، وطبقاته، ونموه الوطني المُعاق ، وتشابكات الطوائف والطبقات ومصالحها المشتركة.
فالمادةُ الفقهيةُ تبقى مهيمنةً على الفضاءِ العام، حيث لا يجوز الخروج من هيمنةِ الذكور على النساء، وضرورة تحجيم الحراك النسائي في أقلِ المستويات الممكنة، ويتم تغييب قضايا الصراع الاجتماعي لدى الفلاحين كسرقةِ الأراضي منهم وغياب أي إصلاح إجتماعي لهم، ويتم تحجيم الحريات الخاصة للمواطن فيما يتعلق بحريةِ جسدهِ وروحه، ويتم مصادرة الأشكال الفكرية الحديثة من قراءات سببية للظروف والطبيعة، وبالتالي فإن هذه المادةَ الموروثة من العصر الإقطاعي يتم تأبيدها وتكريسها، وقطع صلة الجمهور التابع عن الحداثة،(وهذا لا يغاير مذهبية السنة المحافظين كذلك)، فيما يغذي رجالُ الدين المهيمنين هؤلاء عملياتَ الصراعِ السياسيةِ مع النظام في الحدود التي يطرحونها في كل فترة.
ومن هنا فإن التحالف مع (العلمانيين) و(اليساريين) هو سياسي تبعي محض للأهداف التي يطرحها رجالُ الدين، في كل مرحلة والتي تتم بشكلٍ عفوي وعاطفي في كثير من الأحيان من قِبلهم، دون أن يقدروا على خلق أشكال مستقلة مؤثرة، خاصة مع سلبيتهم الفكرية المستمرة وكسلهم السياسي.
وحين يحدث التقاطع بين ما هو حداثي وسياسي، بين حرية النساء ومشروع تصعيد الفقيه، فإن الجسمَ الجماهيري الديني يتم تحريكه ضد النساء، أو حين يُرفض إدخالهن في قوائم ترشيح جمعية الوفاق في الانتخابات المتعددة، برلماناً وبلدية، فيما يقدر السنة المستقلون على القيام بذلك، وهنا يحدثُ تفاوتٌ بين القرية وأقسام مدنية.
وهكذا فإن الجسمَ الشيعيَّ الجماهيري يجب أن يبقى خاضعاً للعلاقات الإقطاعية من جهة، وتابعاً للإرادة السياسية من جهة أخرى، فهو يكرسُ علاقاتٍ ماضويةً متجمدة، ويصعدُ بنية (ديمقراطية) مفترضة، لكنها ليست ديمقراطية بل هي هيمنةٌ محسوبة، وأساسها أن لا تقوم العلاقات السياسية الصاعدة بتفكيك العلاقات الاقطاعية (الدينية).
وهكذا فإن النصوصَ (الإسلامية) الموروثةَ يَتمُ حجزها في هذا القالب المحافظ، وبالتالي لا يجري فهم الإسلام كثورةٍ مؤَّسِسةٍ، بل يجري إستعادة هيمنة الأسر الإقطاعية على المسلمين وإنتاجها للدول الاستبدادية وزمنية إنتاج الطوائف بعد قرنين وأكثر من ظهور الإسلام، لكن يُنظر إلى هذا بأنه الإسلام المؤَّسِس وليس الإسلام المذهبي المحافظ مُفتت المسلمين، وهذا يجري في حراكٍ(ديمقراطي) مُفترض، مما يؤدي إلى التناقضِ مع بقيةِ الطوائفِ التي لها حراكٌ تاريخي أيديولوجي مختلف، وهو أمرٌ تستفيدُ منه أي سلطة. فتجري العودة للإقطاع وليس للحداثة والديمقراطية. والسلطة من جانبها عبر هذا الخوف من الأغلبية الشيعية وحراكها تملأ البلد بالقوى العاملة الأجنبية وبعملياتِ تفقيرٍ تترافقُ مع الفساد والعجز عن التحكم في البُنية الاجتماعية فتزيد المشكلات الطائفية والصراع الطبقي بشكل مذهبي!
وبدلاً من قيام المذهبيين السياسيين الشيعة بتصعيد تطور الفئات الوسطى وتحالفاتها مع العمال والنساء وتنمية أشكال الحداثة وتوحيد المسلمين وبناء(الدولة المدنية) يتم العودة لسيناريوهات ماضوية تعجزُ عن التصدي لسلطة شمولية تستغل التفتت والتخلف في الهيمنة.
ومن هنا فإن هذه الأيديولوجية المحافظة المتخلفة وهي تريدُ القيامَ بثورة لجماهير مطحونة تغدو قاهرةً ومقهورةً معاً، متحركة قليلاً إلى الإمام وتقودُ الجماهيرَ للخلف، تريدُ أن تكونَ وطنيةً وهي طائفية. تريدُ صنعَ إنتفاضةٍ وهي تحبسُ الجماهيرَ الوطنية في قمقم، تريد الحرية الذكورية وإستعباد النساء ومنع العلمانية وصنع الديمقراطية كذلك!
إنها تصارعُ الشيوخَ من موقعِ الشيوخ، وتريدُ النضالَ من موقع التخلف.
وهكذا فإن الرؤيةَ المسيطرةَ على شيوخ الدين الشيعة وهم يحاولون التعبير عن شقاء أهل الريف والبحرين ككل، يريدونها أن تكون ضمن المناخ المحافظ، وأن يكون المسيسين المعبرين عن هذه الرؤية من خلال ترشيحهم هم، لا أن يتركوا الجماعاتَ السياسيةَ الشيعيةَ والوطنية هي التي تقررُ المرشحين والبرامجَ والجداول السياسية عامة، فإضافة إلى الهيمنة المحافظة على الشرع العائلي، يشكلون هيمنةً على الحياة السياسية كذلك.
وتكون سيطرتهم من جوانب عدة أقسى من الحكم، الذي يترك العديدَ من الجوانب السياسية والفقهية الأسرية ضمن جوانب الاختيار والحرية، فيما هو مهيمن بقوة على الرأسمالية الحكومية وتوجهاتها الاقتصادية والسياسية، غير تارك للشعب أن يراقب ويهيمن على الثروة العامة.
وهم الثورة
هكذا استمر وهمُ الثورةِ مسيطراً على هذا الوعي الديني المحافظ، مستلهمين الحراك الثوري الإيراني حين فجرها الشعبُ هناك في لحظتها المؤسسة، دون أن يدركوا بأن الثورة صنعها الشعبُ قبل تدخل الدينيين ثم خطفوها بعد أن عملت القوى الأجنبيةُ على دفع الأمور باتجاه الدينيين الذين رأوا بأنهم أقل خطراً من اليسار الإيراني!
ثم تأسس النظامُ الدكتاتوري على الشعب الإيراني وشعوب المنطقة، فكان الاستلهام الثوري غير ممكن، فالنظام لم يقم بتوحيدٍ إسلامي، يجعل المذاهب الإسلامية – القوميات متساوية، ولا قَبلَ بالنظام العلماني بفصل الدين عن الدولة، بل شكل دكتاتورية للوعي المحافظ من المذهب الشيعي وليس لكل تيارات المذهب الشيعي الواسع الثراء، وبالتالي يغدو نقل مثل هذه الطبعة للبحرين المتوجهة للحداثة مشكلة كبيرة!
وقد بينتْ أحداثُ التسعينيات خطورة ذلك على سكان القرى بدرجة خاصة، دون أن يكون لتلك الأحداث تغيرات مفيدة أو قفزة ديمقراطية.
ومرة أخرى حاولوا ذلك لكن من خلال الحراك العربي العاصف في هذه السنة(2011) ولكن داخل مناخ الحياة العربية.
وعلينا معرفة أسباب هذا الاندفاع المفاجئ.
كانت المشاركة المذهبية الشيعية في البرلمان على كل سلبياتها مفيدة، لكن الشمولية السياسية تركت آثارها على مستوى الكتل المنبثقة منها، ومحدودية فهمها ونشاطها، ثم تبين بشكل غائر عجز الكتل المذهبية من داخل وخارج البرلمان عن إنتاج تغيير في حياة الأغلبية الشعبية بشكل كبير، رغم الجوانب الايجابية التي حدثت في التطور السياسي العام.
كتلة الوفاق داخل البرلمان حدث إنتقاد لها بصور مستمرة من قبل نفس الجمهور الريفي الذي لاحظ غياب الفاعلية وعدم إنتاج تحول وكانت قوى الفساد الحكومية تعمل من أجل ذلك أيضاً، وبدا اضحاً أن (الكوادر) التي انتجتهم الحركة الوفاقية ذوي مستوى سياسي بسيط، وعجزوا عن كشف مناورات الحكومة وتبيان إستغلالها وتقديم مشروعات تحويلية تتطلب تصعيد الثقافة الوطنية الديمقراطية في النضال العام، مثلما جسدوا قبل ذلك تواضع إنشاءاتهم التعبيرية والتحليلية النقدية حول قضايا الجمهور والوطن.
وقد ظهرتْ حركةُ (حق) في لحظة إنشقاقٍٍ أوليةٍ لتكونِ جمعية الوفاق، ففيما كانت الوفاق تشكلُ بدايةَ خطٍ (وطني) يندمج في البُـنية الاجتماعية البحرينية ويحاول تغييرها من الداخل، دون أن يراكم تجربة ثقافية عميقة وتجربة سياسية كبيرة، فإن(حق) رفضت عملية الاندماج مع الواقع البحريني الخاص، المستقل ذي القوانين الاجتماعية السببية المختلفة عن البنية الإجتماعية الإيرانية، وقامت بالاستيراد الكامل لموادها، فدخلت في عمليات مراهقة سياسية كبيرة وواصلت العنف والتحريض الطائفي فحرضت قواعد شعبية بسيطة على نقد الوفاق وتجاوزها، ولهذا فإن إعلانها تحقيق(الجمهورية) في الأحداث الأخيرة ليس سوى تتويج لهذا المسار.
فيما أن الوفاق راحت تجاملُ (حق) وتسكتُ عن شعاراتها الخطرة وتقوم بالدفاع عنها في لحظات العنف والتخريب!
وهكذا فإن البنية السياسية لهذه الجماعات لم يكتسب شيئاً من التطور الداخلي، ولم تعترف بكم الثروة النقدية والتحليلية لهذه الممارسات التي أُنتجت من قبل القوى الوطنية، بل بقيت في قوقعتها المذهبية، حيث أن المرجعية المسيطرة تبقى نائية عن هذه(المواد الأرضية) جاثمة في عليائها، فلا تحليل ولا غربلة ولا مناقشة.
ولهذا فإن إجتماع هذه الكتل البحرينية المذهبية المختلفة فجأة في العاصفة العربية التي وحدت الشعوب العربية شعباً شعباً، ونقلتها إلى مستوى جديد من الحراك السياسي التحديثي، كانت لحظة أشبه بلحظةٍ إلهاميةٍ وجدانية صوفية تمتْ عبر الأجهزة الارسالية الحديثة.
لقد قررتْ فجأة نقلَ نمط الثورات فوق ذلك الحطام البحريني السياسي وغياب التراكم الوطني الديمقراطي وبإستمرار وتصعيد ولاية الفقيه عبر (حق) خاصة، وكانت مغامرة جديدة في تاريخ مغامراتها الذي لم ينقطع ولم يتطور.
لقد قرأت هذه الكتلُ المتلاقيةُ المختلفةُ الشكلَ الخارجي للتجربة المصرية: ميدان، ومظاهرات عاصفة، وإهتزازات إجتماعية قوية، وسقف عال من المطالب، ثم يجيء سقوط النظام مثل ثمرة ناضجة!
تم الإنسحاب من البرلمان، ثم تقديم إستقالات أعضاء كتلة، ثم جرت المطالبة بتكوين جمعية تأسيسية مُسيطر عليها من قبل هذه الكتل تشرع بصياغة دستور جديد!
لا جيشَ معها، ولا حتى جيش محايد، بل كتلاً عسكرية متعددة ضدها تماماً!
وارتكبت الدولةُ أخطاء جسيمة وقتلت أفراداً من متظاهرين مسالمين في البداية، ثم غيرت إيقاعها بسرعة تاركة هذه الكتل تندفع في مسيراتها وتحديها ومحاصرتها لمبنى الحكومة!
مرت فترة طويلة خاصةً بمقاييس الهبات تركتها تفعل في الشارع ما تشاء، وهي تنتظرُ قدومَها لحوار طرحه ولي العهد وبسقف مرتفع تُراجع فيه وجود غرفة للشورى معيقة للبرلمان ويكون خالياً منها، وتظهر وزارة تداولية!
خطوط عريضة مهمة لتحول البلد وهذه الجماعات تمانع!
من يمانع حقيقة؟ من العقبة؟ هل هي رعونة حق أم جمود الشيخ عيسى قاسم أم برود الوفاق؟
بالنسبة لي أظن أن صعود هذه الجماعات المذهبية السياسية لمثل هذه المؤسسات المصيرية سوف يصعدُ الأزمة بشكل أوسع وأعمق دون أن يحل قضايا الشعب، فهذه الكتل المحافظة سوف تتصارع مع كتل فاسدة أو بيروقراطية في السلطة بشكل موسع، وسيتوجه كل منها لهزيمة الآخر وليس للتلاقي على حل ثالث. وعلى تكوين بلد تنأى بالمذاهب وبالتحكم الأسري الخليفي جانباً ومعاً.
كذلك إن عدم التقدم للحوار وإبداء المرونة الكبيرة الضرورية الملحة هنا، والإنسياق لتطرفِ أقسامٍ من الشارع المراهق، وعدم نقدها والحسم معها عبر السنوات السابقة والراهنة، أعطى فرصةً كبيرة للجناح المتشدد في السلطة أن يفرض الحل الأمني الخطير الهادم لإنجازات وتحولات كثيرة والذي كلفنا وضع حد للمد السياسي وأسال الدم وكلف أرواحاً.
قامت الأحداث بتعليم الناس، وبطرح علاقات جديدة وطنية، وعبرت عن تداخلات نضالية مهمة، وكشفت إبداعاً ثورياً عند الناس لم يصل بعد إلى الالتحام وتشكيل البنية الوطنية النضالية المشتركة.
#عبدالله_خليفة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أسبابُ الحراكِ العربي
-
إصلاحات ضرورية
-
إشكاليات فكرية لما بعد الثورة
-
ديمقراطية غير علمانية .. أهي ممكنة؟
-
عبدالله خليفة في حوار استثنائي مفتوح حول: الحراك الاجتماعي ف
...
-
الأزمة العميقة في البحرين
-
الثورية الزائفة لمحطة الجزيرة
-
إلى أين قادتهم ولاية الفقيه؟
-
العمال وتطوير الرأسمالية
-
انتصار للحداثة
-
تونس الجميلة
-
الرأسمالياتُ الحكومية العربية في طور الأزمة
-
مذاهب تتباين وتتكامل
-
لكل بلدٍ خرابه الخاص
-
الخروجُ الأيديولوجي من الطوائف
-
حيرة عمالية
-
حين يأكل النقدُ الجيوبَ
-
البذخ الشرقي
-
علمانية لتطورِ الدين
-
ويكيليكس: حرية الإعلام
المزيد.....
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
-
مؤتمر«أسر الصحفيين المحبوسين» الحبس الاحتياطي عقوبة.. أشرف ع
...
-
رسالة ليلى سويف إلى «أسر الصحفيين المحبوسين» في يومها الـ 51
...
-
العمال يترقبون نتائج جلسة “المفاوضة الجماعية” في وزارة العمل
...
-
أعضاء يساريون في مجلس الشيوخ الأمريكي يفشلون في وقف صفقة بيع
...
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|