IBRAHIM WARDE
تشكل الصورة المثالية للأسواق المالية الأميركية جزءاً من الكلام المصطنع على الاقتصاد الجديد ونظام العولمة، فأصحاب الشركات "انتجوا القيم المادية" واستحقوا المكافأة في النتيجة. فرزمات الاسهم وأنظمة التقاعد ساوت بين مصالح الموظفين ومصالح أصحاب الأسهم، وسمح إضفاء الطابع الديموقراطي على الأعمال المالية ببسط منافع "إنتاج القيم" هذا لتطاول أكبر عدد ممكن. وما يضمن نزاهة الأسواق هي السلطات الرقيبة (القوانين والمحللون ومجالس الادارة والمفوضون الخاصون والصحافة) [2]
هذا العقد من النمو الاقتصادي، من آذار/مارس 1991 الى آذار/مارس 2001، قد سجل بعض الفضائح (قضايا احتيال أو مضاربات على المنتجات المشتقة في نوع خاص)، لكنه سجل على خانة بعض الناس غير المرغوب فيهم. وقد أطلقت الكلمة "روغ" rogue وهي تعني المارق في حالات التمرد والاختلاف. وهذه الأحداث في مجرى الأمور لم تطرح على بساط البحث الخطاب القائم لأنه كان فعلاً يشكل الاستثناء الذي يؤكد القاعدة ويبرهن عن قدرة النظام على تنظيم نفسه بنفسه. وفي كل مرة وبعد مرحلة وجيزة من التذبذب كانت الأسواق تعود الى الانطلاق بأفضل ما يكون.
وإذ ارتاح الزعماء الأميركيون الى صحة اقتصادهم والى أسواق البورصة التي خرقت كل قوانين الجاذبية، فإنهم راحوا يسرون تعليماتهم في آذان باقي أنحاء العالم على أنه بات من الملح اعتماد الطرق الأنكلوسكسونية، أي تفكيك قطاعات الدولة من أجل تحرير قوى السوق ووضع حد لـ"رأسمالية العرابين" التي تولد الفساد المنتشر. وراحت النخب المعولمة ومداحوها الجوالون يرددون التسبيحة نفسها، فنجد السيد آلان مينك (وقد خفت صوته هذه الأيام) يشرح:"إن نجاح الولايات المتحدة يفرض ضغطاً واسعاً ليجبرنا على محاربة ما عندنا من تصلب. فلنحيي المعجزة، ولنتقبل السر وفي نوع خاص فلنتخذ ذلك مثلاً” [3]
وكثيراً ما مُجدت هذه المعجزة واحتذي النموذج على نطاق واسع. وفي سجل التقليد الأعمى لم يصل احد الى ما وصل اليه السيد جان ماري ميسّيه الذي أراد ان يكون " الأكثر تأمركاً بين أرباب العمل الفرنسيين” وبعد نجاح محدود، شهد المصير نفسه الذي بلغه أرباب العمل "الرؤيويون" بعدما حرص على التقليد الأحمق لطرائقهم، فسقوط مجموعة فيفاندي في الجحيم تلازم مع انهيار العديد من رموز الاقتصاد العجائبي.
وقد بدأت السلسلة السوداء في 2 كانون الأول/ديسمبر عام 2001، مع السقوط المدوي لشركة أنرون. كانت هذه الشركة التكساسية قد ارتقت حتى احتلت المرتبة السابعة بين الشركات الأميركية لتبلغ مجمل مداخيلها اكثر من 100 مليار دولار. وقد رأى منظّرو عالم الأعمال أن زهرة الاقتصاد الجديد هذه باتت تمثل المستقبل. هذا السمسار الحديث الشكل، الذي لم يملك الا القليل من الموجودات الفعلية قد تمكن بفضل التركيبات المالية ألأكثر تعقيداً والمفاهيم الأكثر جرأة من إبداع "القيم" في كل مكان وعلى الدوام. وما من مدرسة اعمال business school الا مجدت نموذج أنرون في دروس الاستراتيجية أو المال أو الأخلاق. وقد ظلت شركة هوستن تفوز منذ العام 1996 الى العام 2001 بجائزة مجلة "فورتشون" للشركة الأكثر إبتكاراً. وفي العام 2000 اعتبرتها صحيفة "ذا فاينانشل تايمز" شركة "السنة لمجموعات الطاقة" في حين ان مجلة "الايكونوميست" وصفت رئيسها السيد كينيث لأي بـ"مسيح الطاقة”
وأنرون، "شركة المواطنية"، كانت كاملة العضوية ضمن التركيبة الحاكمة، تجود بالأموال والاكرامات واكاليل الغار. وصاحبها، السيد لاي، العراب المالي للسيد جورج دبليو بوش وصديقه الحميم منذ ما يزيد على عشرين عاماً، منحه (بصفة شخصية وعبر شركته)ما يزيد على مليوني دولار [4] . وبعدما كان مستشاراً مسموع الكلمة حين كان الرئيس الحالي حاكماً لولاية تكساس، فقد لعب دوراً من الدرجة الأولى في وضع سياسة الادارة الجديدة الخاصة بالطاقة. أما وزير القوات المسلحة، السيد توماس وايت، المدير السابق للشركة، فقد وعد منذ تعيينه بـ"تطبيق طرائق القطاع الخاص في القطاع العام”
وقبل شهر من سقوطها كان السيد آلن غريسبن وزير الخزانة الاتحادية يتلقى "جائزة انرون" التي تقدمها مؤسسة جايمس أ. بايكر الثالث ( James A. Baker III تحمل اسم وزير الخارجية السابق من عهد الرئيس جورج هـ. بوش) لكن شركة انرون التي تلعب دور البطولة في كل مجالات "إدارة المخاطر" كانت قد قامت بمجازفات كبيرة برعت في تمويهها بواسطة تركيبات مالية غامضة، فجاء السقوط مفاجئاً بقدر ما كان قاسياً [5] وقد زعزعت القضية أحد أسس عقيدة "الاقتصاد الجديد" وهو مبدأ "وين وين”(كل الناس تربح) فما بين العامين 1998 و2001 تضاعفت قيمة الاسهم ثلاث مرات مما ساهم في إغناء الزعماء والمساهمين والموظفين التي وظفت اموال تعويضاتهم كلها في أسهم الشركة. لكن الجميع لم يستمر في تحقيق الارباح حتى النهاية... وفي حين أنه خلال أشهر تلاشت 98 في المئة من "قيمة" أنرون" كالدخان فإن كبار الموظفين الأساسيين فيها منحوا أنفسهم علاوات باذخة قبل رحيلهم، بينما تخلص المساهمون الجدد من أسهمهم ليكتشف الموظفون قانوناً داخلياً يمنعهم من بيع أسهمهم.
وإثر ذلك انهارت شركة آرثور اندرسون العملاقة للمحاسبة، والتي كانت قد لعبت دوراً ناشطاً في وضع التركيبات المالية المشبوهة وخصوصاً في إتلاف الوثائق المزورة. ثم جاءت قضية تيكو وغلوبال غلوسنغ وكويست وآدلفيا كومونيكايشن وميرك وهاليبورتون (التي لم يكن رئيسها لدى القيام بأعمال تزوير الحسابات سوى نائب الرئيس الحالي ديك تشيني) في كل مكان سلب الزعماء شركاتهم بالتواطؤ الايجابي من "السلطات الرقيبة" المفترضة. وكلما انكشفت قضية كان يتبين ان عملية الاحتيال تناولت مبالغ أكبر، فشركة أنرون لم تتكتم "الا على ٢ مليار دولار من الديون، واغفلت شركة وورلد كوم احتساب 3.85 مليار دولار من أسعار الكلفة، وزادت شركة كزيروكس من رقم مبيعاتها 6 مليار دولار، أما شركة ميرك فقد احتسبت مجموع مبيعاتها وهمياً بقيمة 12.4 مليار دولار.
وما بين هذه الشركات الكثير من الخصائص المشتركة. فأولا هناك رؤساؤها الذين يحظون بتغطية إعلامية عالية، والخطاب الذي يتقن تماماً الكلام على الابتكار واحتضان الشركة والمناقبية والمسؤولية. وسياسة تواصل "مثيرة" تفرض نفسها في الواقع، فأسعار الأسهم في البورصة هي وحدها التي تعكس القيمة التي أبدعها المديرون (ومكافأتهم وقف على ذلك)، فكان من المفروض إذاً التمكن من "إدارة" هذه الأسهم عبر المثابرة على إطعام الصحافة والمحليين، وليس كثيراً القول إن الصحافيين قد تجاوبوا...
والميزة الأخرى المشتركة بين هذه الشركات الفاسدة هي أنها استعانت في الغالب بكبريات المكاتب الاستشارية (وفي نوع خاص ماكنزي، الأكثر تميزاً بينها) وأنها كافأت بسخاء، وبمختلف الذرائع، جهابذة الادارة والاقتصاديين الأكثر شهرة، والغاية كانت تصوير سياسات الهروب الى الأمام على انها "استراتيجيات مبتكرة" وتقديم بعض مرضى العظمة على أنهم من "أصحاب الرؤى”
فهل لا يزال في الامكان الزعم بأن الفضائح ليست الا من فعل بعض المغضوب عليهم؟ فحتى الذين كانوا في الأمس القريب يترنمون بمديح الشركات المنهارة، يتحدثون عن "الفساد المعمم" وعن "أزمة في النظام” [6] وهناك قطاعات بأكملها (الانترنت والاتصالات) وبعض المهن (المحللون ومدققو الحسابات والمستشارون والصحافة المالية وجهابذة الادارة) قد وجدوا ان دورهم الطليعي بات متورطاً في أعمال الخداع هذه.
فكيف وصلت الأمور الى هذا الحد؟ فعلى مدى القرن المنصرم تسارعت الليبيرالية الاقتصادية وسقطت كل الاشكال الاحترازية وتقلصت صلاحيات سلطات الوصاية وتمويلاتها، وذلك لصالح نوع من القوننة الخاضعة لاقتصاد السوق، قائمة على الرقابة الداخلية وعلى "أصول المسلك القويم” وقد بدأ النظام بالتحول عندما، باسم المنافسة الحرة والتآزر المفترض، انهار "جدار الصين”(ما بين أعمال الاستشارة والمحاسبة لصالح شركات التدقيق، وما بين مصارف الودائع والأعمال لصالح المؤسسات المالية)
وبعض المهن التي كانت حتى الآن تطبق بجدية اصول أدبياتها تحولت "مراكز نفعية” ففي اوساط المحاسبين الذين كانوا في ما مضى يحرصون على صدق الحسابات، أصبح الخيال هو سيد الموقف، "فالأساليب المثيرة" التي تلامس الوضع القانوني قد ضللت المبادئ القائمة. وبمساعدة بعض المحللين الذين ترقوا الى مصاف المروّجين الدعائيين، موّلت المصارف عمليات دمج وتملك بين الشركات المحكومة بالفشل، لكن كان يمكن ان تحقق ارباحاً طائلة. أما بالنسبة الى الودائع الاختيارية؟؟؟ التي طالما امتدحت فإنها، في زمن سيادة المال، قد ساهمت في تضخيم المنافع على المدى القصير وفي تزوير الحسابات [7]
في كانون الأول/ديسمبر عام 1999، اوضح السيد ميشال بون، رئيس مجلس إدارة فرانس تلكوم الحالي، لمجلة "كابيتال" الشهرية:"في 20 أيلول/سبتمبر عام 1997 أصبحت فرانس تلكوم شركة مثمنة. فقد اشترى أسهمها اربعة ملايين فرنسي وثلاثة ارباع موظفيها. وهذا يعتبر اكثر من حدث في حد ذاته، إنه رمز كونه اعترافاً بأن اقتصاد السوق أصبح أفضل وسيلة لخدمة زبائنه (ومنذ عشر سنين كان يقال المرتفقون به) آمل أن يشمل هذا الواقع سريعاً الخدمات غير التجارية، مثل التعليم والصحة." لكن فورة السيد بون لم تعد موضع رهان، ولا حتى آماله!"
--------------------------------------------------------------------------------
[1] باحث في جامعة هارفرد (بوسطن، الولايات المتحدة) ، مؤلف كتاب:
Islamic finance in the global economy (Edinburgh University Press, 2000.)
[2] راجع مثلاً:
Thomas Friedman, The Lexus and the Olive Tree, Farrar, Straus and Giroux, New York 1999
[3] راجع:
Richard Farnetti et Ibrahim Warde, Le modèle anglo-saxon en question, Economica 1997
[4] راجع:
Charles Lewis, The Buying of the President 2000, Avon Books, ville à compléter, 2000.
[5] راجع:
Tom Frank, ?Enron aux mille et une escroqueries?, Le Monde diplomatique, février 2002.
[6] Business Week, ?How Corrupt is Wall Street??, 12 mai 2002, Fortune, ?System Failure?, 24 juin 2002.
[7] راجع:
?Dow Jones: plus dure sera la chute?, Le Monde diplomatique, octobre 1999.
جميع الحقوق محفوظة 2001© , العالم الدبلوماسي و مفهوم