فراس سعد
الحوار المتمدن-العدد: 989 - 2004 / 10 / 17 - 11:24
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يعترف المفكر الماركسي الكبير الأستاذ حسين مروة بأن الدين شكل من أشكال الوعي الأجتماعي و ذلك عند حديثه عن تيار الحنفاء الذي سبق الأسلام و يؤكد أن الأسلام جاء تطويراً لما سبقه و استجابة لحركة تطور المجتمع الجاهلي , أي أن الإسلام كان معبّراً عن الواقع العربي و لم يأت منفصلاً عنه , يقول " الإسلام في جوهره و محتواه الواقعي بل في شكله الديني و مفاهيمه الميتافيزيقية و المثالية كذلك كان استجابة موضوعية مباشرة حيناً و خفيّة حيناً لما كان يقتضيه مجتمع الجاهلية من تغيير تاريخي , و لما كان يعانيه من تناقضات حادة في مكان ( مكة مثلاً ) و غبر حادة في أكثر من مكان ( البيئات البدوية غير المستقرة ) " ( النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية, حسين مروة , الجزء الأول , دار الفارابي الطبعة الثالثة1980, ص 380 ) و لم يكن الإسلام كما يدّعي البعض مثل أديان أخرى تدعو للأستسلام و نبذ الثورة و الرضى بما يقسمه النظام الحاكم للأنسان و إنما قام بثورة اقتصادية اجتماعية في زمنه " أضاف الإسلام إلى مبادئ العقيدة شريعة ظهرت فيها الأنعكاسات الأجتماعية أكثر وضوحاً مما نراه في مبادئ العقيدة , فقد جاء التشريع ( الإسلامي ) بتحريم الربا و الأحتكار و كنز الذهب و الفضة و فرض ضريبة الزكاة على بعض المداخيل المادية للأغنياء و جعل عائدات هذه الضريبة حقاً لأصناف معينة من الفقراء الأكثر عوزاً و وضع بعض الحدود المنظمة للعلاقات الأنتاجية و الأجتماعية " ( المصدر السابق , ص 381 ) .
تحريم الربا و الكنز التي لجأ إليها الإسلام يعتبر أجراءً مشاعياً فطرياً سبق الشيوعية الأوروبية المعاصرة بألف و مئتي عام , و تحريم الربا و الكنز أساس من أسس التطور اللارأسمالي كما هو معروف , والإسلام في تجسده الأجتماعي السياسي تحوّل إلى حالات اسلامية متعددة – إذا جاز التعبير – نتيجة تعدد قراءات و أفهومات النص المقدس ( قرآن وحديث ) , لذلك فالأسلام دين مفتوح على اليسار كما على اليمين و الوسط , أليس النبي محمد من يقول " اختلاف أمتي رحمة " ؟
من أجل ذلك لا تجوز ألصاق صفة واحدة أو مفهوم واحد بالأسلام , على خلاف ما جرت عليه العادة تاريخيا و ما يحاول ارتكابه المتطرفون و الحرفيون الذين يريدون ألغاء التفكيرو التطوير في الأسلام ومن الأسلام مع أن المرجعية الأولى للمسلمين – القرآن – دعت إلى العقل و الحركية كما يقول العلاّمة الشهيد " إن الدين الجديد ظهر حاملاً لا بمضمونه الأجتماعي و الأيماني فحسب , بل كذلك بكثير من أشكاله الدينية و العقائد الإيمانية صفة التاريخية , أي كونه جاء تطويراً لما كان يتحرك في أحشاء المجتمع الجاهلي , من اتجاه اجتماعيا و دينيا و فكريا نحو تغيرات تاريخية , وقد كان الأسلام بالفعل معبّرا عن اشكال الوعي الأنساني التي كان يمكن أن يتطور إليها هذا الوعي في تلك المرحلة من التاريخ البشري ولا نقول التاريخ العربي فقط 00 " (النزعات المادية ,ص 457 ) و يتابع قائلاً " وجدنا في اهتمام القرآن والسنة بشأن العقل حتى في هذا النطاق المحدود ( أي " المعرفة الإيمانية الدينية ") موقفاً إيجابياً من حيث هو اعتراف بضرورة دعم العقل للعقائد الإيمانية " (م0س ص 383 ) ولقد أطلق الدين الإسلامي الإنسان في مسؤوليته وحريته لدرجة كبيرة مقارنة مع الأديان الأخرى لدرجة يشعر معها القارئ السطحي بتناقض المرجع الأول ( القرآن ) , فهو يصرّح علناً بحرية الإنسان في اتخاذ موقف من قضية خطيرة مثل قضية الإيمان تشكل جوهر الدين الإسلامي بل جوهر كل دين , نقرأ في سورة الكهف & فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر & ( آية 29 ) على الرغم من تحذيرات كثيرة من الكفر واغراءات كثيرة بالإيمان مع ذلك يطلق هذا الموقف الهام الذي لو فهمه المتدينون لاختلفت حالهم كثيراً 0
-2-
لقد وقف العقل الغربي المتأثر بحركة التنوير والثورة الفرنسية , وقف هذا العقل في تجليه البرجوازي الرأسمالي من ناحية والاشتراكي والماركسي من ناحية ثانية , وقف من الدين موقفاً سلبياً وخلط بين الله وبين رجال الدين وبين الإيمان في موقف إيديولوجي متعصّب متسّرع , ولم يفرّق دعاة التنوير ولا الماركسية بين الإيمان الميتافيزيقي وبين الدين كحالة اجتماعية سياسية , متأثرين بالحالة المسيحية التي ليس فيها كما الإسلام الدين والسياسة متماهيان على الرغم من أن أنجلس مثلاً " كتب " تاريخ المسيحية المبكرة " وتناول الفلاحين في ألمانيا في القرن 16 في كتابه " حرب الفلاحين " ولذلك أعطى أنجلز موثوقية النضال الطبقي الناجز المكتمل لحرب الفلاحين ذات الإيديولوجية المسيحية " (مدارات صوفية , هادي العلوي , ص 121 ) ويخطّئ هادي العلوي هجوم " حركة التنوير " على الأديان ويقارنها مع " التنوير الإسلامي " يقول " إن التنوير الفرنسي للقرن الثامن عشر هو فصل أمام فصول التنوير الإسلامية والصينية ومقابل روسو وفولتير ومونتسكيو يوجد من يكافئهم في الشرق عدداً وقوة , لكن الغربيين لم يفهموا الروحانية إلاّ من خلال الدين ومن هنا كانت ثورة بعضهم على الدين فرزاً بينه وبين الروحانية , فالتدين لا يشترط الزهد وكان سلاطين المسلمين بعد علي بن أبي طالب متدينين ربما أكثر من علي 00 وكانوا لذائذيين في نفس الوقت " (م0س ص 219 ) أي لم يكونوا زهاداً مثل علي بن أبي طالب , وهادي العلوي كما حسين مروّة من المفكرين الماركسيين الذين فهموا الدين – الإسلامي خصوصاً- حقّ فهمه وبينوا إيجابياته الكثيرة إلى جانب سلبياته , على خلاف الأدبيات الماركسية الغربية أو السوفيتية مثلاً التي أنكرت الله ( كمسألة فوق طبيعية أو ميتافيزيقية ) وكذلك الإيمان بحجّة أن الدين أساء إلى الناس عن طريق استغلاله من قِبَل رجال الدين – فما ذنب الدين في ذلك ؟
-3-
في اعتقادنا ليس من الضروري أن يكون كل رجال الدين مؤمنين بالله حق الأيمان أو بالدين الذي ينتمون إليه , وهنا لا بد لنا من التمييز بين الدين والإيمان باختصار :
فالإيمان حالة شخصية أما الدين فظاهرة جماعية بالضرورة
الإيمان معنى بلا مؤسسة الدين سلوك وله مؤسسات عديدة
الإيمان شعور غير نفعي الدين ولاء اجتماعي لجماعة الدين
الإيمان ولاء لقوة غير إنسانية ونص مقدّس الدين ولاء لمرجعيات إنسانية00 إلخ
وهناك فرق بين المؤمن والمنتمي إلى دين دون إيمان , فالمؤمن لا يمكن أن يستغل إيمانه لاستغلال شخص ما من دينه أو غير دينه بينما يمكن لشخص " دنيوي " أو منتمي لدين أن يستغل الدين لمنافع مادية شخصية 0
إن الأدبيات الماركسية القديمة وبعض الحديثة لا تراعي ولا تفرّق ما بين إيمان وإله ودين ورجال دين ومتدينين ومؤمنين , إنها تجمع الكل في حلقة واحدة وتصب عليهم جام غضبها وتعصّبها , ومن بعض الإصدارات الماركسية الحديثة التي سارت على نحو لا يفرّق بين الإيمان والدين والله 00إلخ كُتيّب بعنوان " الماركسية باختصار " ( العدد الرابع من " سلسلة المعرفة العلمية "00 دون ذكر للمؤلف أو دار النشر ) وبعد أن يصول المؤلف ويجول معبراً عن عدم إيمانه بالله –رغم أنه يكتب ذلك ضمن فصلٍ يتحدث عن الدين – يعود ليعبر عن موقفه المؤيد للدين " إن الطبقة العاملة لا تعادي الدين لأنها لا تعادي الشعب فهي الشعب ذاته , وتحمل الطبقة العاملة أكبر آيات الاحترام إزاء العواطف الدينية النظيفة الصادرة عن القلب , والصافية المقدسة الموجودة عند الشعب ملاذاً له من الأعباء الثقيلة وملجأ من كل أشكال القهر والظلم في الحياة " ويتابع الكاتب – أو الكتيب- قائلاً : " إن الماركسية التي هي منهج الطبقة العاملة في فهمها للعالم تستلهم الطبقة العاملة بجميع فئاتها , كما تستلهم جماهير الشعب والفلاحين في موقفها من الدين ,وهي تتعاطف مع أولئك الذين يعانون من الأزمات الداخلية والصعوبات 0 والنظرة البروليتارية تعرف جيداً أن الطريق الوحيد لوضع حد لتجارة الدين التي يمارسها الرجعيون والمحافظون في سبيل الإبقاء على استغلالهم للشعب واستعبادهم له , هو تخليص جماهير الشعب من الضيق والاستغلال والعبودية 00 " ( " الماركسية باختصار " ص 66 و 67 )0
-4-
ومن الماركسيين الغربيين الذين ينظرون إلى الدين – الإسلام خصوصاً- نظرة إيجابية ولا يعتبره متعارضاً مع الماركسية المفكر الفرنسي روجيه غارودي – المطرود من الحزب الشيوعي الفرنسي – يقول " الإسلام لا يتعارض مع الماركسية لأنه لا علاقة بين الدين والوسيلة للفهم 00 فنحن لم نفهم العالم إلا من خلال ماركس ولهذا فأنا متمسك بأفكاري الماركسية وأيضاً المسيحية و هذا ما دعاني للأتفاق مع الأفكار البوذية التي لم تتحدث عن الله بل عن فعل الأنسان , فقد أكون مسلما جيدا و لكنني جراح فاشل , فلا داعي للخلط " . لقد أنشأ غارودي متحفا اسلاميا في قرطبة " كي أثبت أن الأسلام هو الدين الذي نقل منه الغرب كل العلوم و الفكر " و لغارودي عدد من الكتب و الحوارات عن الأسلام ,
بعد كل ذلك نقرأ لبعض الحاقدين على الأسلام و المسيحية أو الجهلة نصوصا أقرب إلى التفاهة منها إلى أي شئ آخر نصوص أقل شئ فيها أنها تخلط بين الأسلام كعقيدة و أنشاء قيمي فكري و بين المسلمين كبشر يفهموا النص و الفكر الأسلامي وفق أهوائهم و مصالحهم , فيشتم هؤلاء الكتبة الفريسيّون الأسلام بينما من يستحق الشتم هم بعض المسلمون الذين هم أبعد عن الأسلام من كثير من المسيحيين و البوذيين و سواهم , كما أن بعض الكتبة الحاقدون أو المصنوعة أفكارهم من قبل أجهزة الأعلام الغربية و الأنتاج الأستشراقي الغربي الذي يعود في أصوله الفكرية إلى التوراة و تعاليم التلموديين القدامى و الجدد , بعض هؤلاء الكتبة يستغل الحركات المسلحة ذات الصبغة الوهابية الأرهابية التي أسستها المخابرات الأمريكية الأسرائيلية للأساءة للمسلمين و الأسلام ,
في كل الحالات يبقى الأسلام دين عالمي لكل البشر فإذا ما كان مسلموا اليوم في درك دنوي و لم يفهموا عظمة الدين الذي يدّعون فهمه و يكفرون بعضهم البعض لأدنى الشبهات و الأختلافات , فلا بد أن يأتي على الأسلام أقوام و جماعات و أمم أخرى غير أمة العرب يعتنقوا الأسلام و يستغلوا كل مبادئه لهزيمة العرب المسلمين كما يؤكد على ذلك بعض رجال الدين المسلمين , فالأسلام ليس لناس دون سواهم و ليس لأمة دون سواها و هذا عدل كوني لا يدرك أعماقه سوى الحكماء ...؟!
* ملاحظة :
هذا المقال مستل من بحث أوسع غير منشور بعنوان " علمنة الدين , نظرة علمية إلى الدين "
#فراس_سعد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟