فوزي بوبية
الحوار المتمدن-العدد: 3303 - 2011 / 3 / 12 - 00:24
المحور:
العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية
"ارحل". هذه هي الصرخةُ التي خرجت من الأعماق- صرخةُ الديمقراطية الحقيقة، وجوهرُها. إنها معجزةٌ من المعجزات. ليس هذا فحسب، بل إنها أمّ المعجزات كلها؛ لأنها تلخص، لوحدها، مفهوم الديمقراطية بكل معانيه، وتـتـيح الفرصة لإبداعِ مصطلح ينبثـق من أعماق ثقافتنا، وتطلعنا إلى الحرية.
ما هو، إذاً، مفهومُ الديمقراطية العصري الذي يمكن اختزاله في صرخة واحدة، أيْ في تلك الصرخة التي غزت قلوب المتعطشين إلى الحرية في العالم العربي، وفي العالم بأسره؟
لقد سبق لي أنْ كتبتُ في أوائل التسعينيات ، أي في الوقت الذي شعرت فيه بتسلط القدافي، ومبارك، وبن علي، وآخريـن على السلطة، بأنه لم نشهد، في الماضي، في عالمنا العربي أيَّ تناوب على الحكم، أو بعبارة أخرى، لم يتسن لنا، ولو لمرة واحدة، أن رحَّـلنا بواسطة انتخابات حرة ونزيهة وشفافة رئيسَ دولة ما، ذلك المتسلط على السلطة التنفيذية، سواء تسلطَ عليها بصفة مباشرة أو غير مباشرة.
مفهومُ الديمقراطية العصري كما صيغَ، مثلا، في الفلسفة العقلانية النقدية، يتلخص في جملة بسيطة: الديمقراطية هي إمكانُ تَنْحِيةِ صاحب السلطة التنفيذية بواسطة انتخابات حرة بعد فترة وجيزة من توليه الحكم. هذه الطريقة تُمَكِّنُ المجتمع المدني التعددي من محاسبته؛ فإما أنْ يجدد ثـقـته فيه لولاية ثانية وأخيرة، وإما أنْ يرحله بصفة نهائية ويختارَ مِنْ ثمَّ، شخصية أخرى مكانه. المسؤولية تعني، بالضرورة، الاستعدادَ لتحملها، ومحاسبةَ المسؤولينَ أمام القضاء إذا اقـتضى الأمر ذلك.
فعدم إمكانِ ترحيل صاحب السلطة، على مدى سنواتٍ وعقود بواسطة الانتخابات يؤدي، لا محالةَ، إلى انفجارٍ عام ينتزع من خلاله الشعبُ حقَّه في ترحيل الطاغية وإسقاطِ النظام.
"ارحل" هو معنى الديموقراطية الحقيقي، وشعارُها، ورمزُها أيضاً؛ فالشعب لم يكن في حاجة إلى تأملات نظرية وتخمينات فلسفية حتى يَصِلَ إلى هذه الخلاصة الحتمية، وينتهي به المطافُ إلى هذه الثورة المتحضرة التي لم يسبق لها مثيلٌ في تاريخ الثورات؛ فالشعب التونسي، والشعب المصري لم يطالبا بشيء آخرَ سوى بترحيل مغتصبِ الحرية ومُزور ِالنظام.
ولمعرفة وجاهة هذا المفهوم البسيطِ في عمقه، والعميقِ في بساطته، وحتى لا أُتْعِبَ القارئ بتمعناتٍ في الفلسفة السياسية، أود أن أستحضر مقابلة تلفزيونية طرحتْ فيها صحافية أوربية على العاهل المغربي الراحل، الحسن الثاني، السؤال التالي:
- أنتم ملكُ البلاد، وحاكمُها، وأميرُ المؤمنين، وقائدُ الجيش الملكي، في آنٍ واحد، وتترأسون جلساتِ الحكومة أيضاً الخ... ألاَ تتنافى كلُّ هذه السلطات التي يستحوذ عليها شخص واحد مع روح الديمقراطية كما نعرفها- نحنُ- في الغرب؟
فأجابها العاهل المغربي الذي كان ذكياً في المغالطات السياسية:
- لا يا سيدتي. أنت تعلمين جيدا أن الديمقراطية في السويد تختلف عن الديمقراطية في بريطانيا، والديموقراطية في بريطانيا تختلف عن الديمقراطية في فرنسا، والديمقراطية الفرنسية تختلف عن الديموقراطية الإسبانية. من الطبيعي، إذن، أنْ تختلفَ الديمقراطية المغربية عن الديمقراطيات الأخرى. إنَّ لدينا برلماناً، وتعدديةً حزبية، ونقابية، وإعلامية، ونُنظِّم ُانتخابات دورية؛ فللديموقراطية المغربية خصوصياتها مثلها مثل الديمقراطيات الأخرى.
يتجاهل العاهل المغربي في جوابِه هذا الفرقَ الجوهري بين ديمقراطيتهِ، ودستوره الممنوحيْن، والديمقراطيات الحقيقية، ألا وهو إمكانُ ترحيل صاحب السلطة إثر انتخابات حرة و نزيهة بعد فترة وجيزة من الحكم. فالتناقض الأساسي في نظامه هو هيمنته على الجهاز التنفيذي من جهة، واستحال محاسبته وزعزعته عن عرشه (عرش سلطوي لا رمزي) بواسطة الانتخابات من جهة أخرى. واستشهاده المتكرر بهذه الديمقراطيات إنما هو استفزاز لعقل المواطنين الأحرار، ومنطقهم، وشعورهم.
فالتنحية عبر الإقـتراع هي ما يميز مفهوم الترحيل في الديمقراطية العصرية. ولهذا أفضله على العديد من المفاهيم التي تداولت عبر العصور والتي يمكن التلاعب بها بسهولة. "إرحل" هي، إذاً، كلمةُ العصر بامتياز.
هذه الصرخة لم تفجر النظام فحسب، بل فجرت الطاقات الإبداعية العربية أيضاً. فميدان التحرير، حفظ الله اسمه لكل الأجيال المقبلة، حاضرٌ في الأقطار العربية كلِّها. إنه لم يعد ميداناً سياسياً، وديمقراطياً، وثوريا فحسب، بل أصبح، في الوقتِ نفسه، مثلَ ساحة جامع الفناء بمراكش، ساحةً للإحتفاءِ بأنغام الحرية، وفنِّ النكتة كما يتقنها إخواننا المصريون أيما إتقان.
هذا البعد الإبداعي الذي يتميّزُ به ميدانُ التحرير ألهمني مصطلحاً طالما بحثت عنه؛ فميدان التحرير الذي كسّر القيود قد مكننا من ابتكار مصطلح جديد نطالبُ عَبْرَهُ بالحرية والديمقراطية بِلغتنا العربية مع إشارة واضحة إلى ثقافتنا اليونانية.
فالكلمة الجديدة التي أقـترحها -" الإرحلوقراطية " – تتكون، بطبيعة الحال، من صيغة الأمر "ارحل"، ومن المصطلح الإغريقي "قراطاين" الذي يعني "سيادة" أو "حكم" أو "سلطة". إنها "سلطة الترحيل"، إذاًَ،- سُلطةٌ لا يمكن لأحدٍ، مهما استبدّ به طغيانُه، أن ينتزعها من الشعب؛ فسيادة الشعب، أي جوهر الديمقراطية في الفلسفة السياسية الحديثة منذ "جان جاك روسو"، تتجلى في سيطرته على السلطة ومنحِها، مؤقتاً، لمن أراد، وترحيلِه منها بواسطة إنتخابات حرة. هذه هي "الإرحلوقراطية".
#فوزي_بوبية (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟