حيدر السعدي
الحوار المتمدن-العدد: 3299 - 2011 / 3 / 8 - 10:18
المحور:
المجتمع المدني
عندما تمر في ذهني ذكريات تلك الايام اجد من الصعوبة بمكان اطلاق تسمية "مدرسة" على تلك الزرايب الخربة , لاسباب عديدة -لا مجال لذكرها هنا- تنقلت في المرحلة الابتدائية بين اربعة مدارس و جميعها تقع في مناطق فقيرة في العاصمة بغداد , كان الصف الاول الابتدائي في منطقة الميكانيك و بصراحة لم اعد اذكر من تلك الفترة سوى مدرستنا الممتلئة الجسم ذات الوجه البشوش (و اثر النعمة) لانها كانت زوجة احد رجال الدولة و اذكر انها اكثر من مرة اشترت لنا جميعا العاب بسيطة و حلويات و قد كانت حصتي من الالعاب مطرقة و منشار مصنوعة من البلاستك المعاد و اذكر كيف كان طلاب بقية الشعب يبكون كي يدرسوا في صفنا لان المدرسة تعطي هدايا.
يأتي الصف الثاني الابتدائي و انتقل الى مدرسة اكثر بؤسا في احدى اكثر مناطق العراق فقرا و هي ابو دشير جنوب بغداد , امضيت في هذه المدرسة ثلاث سنوات اقل ما يقال عنها سوداء , المدرسة كانت من "البناء الجاهز" كما يسمى في العراق , رمادية الحيطان تفتقر الى زجاج النوافذ و لا توجد مقاعد للدراسة و لم نستلم الا القليل من بقايا الكتب و دفترين او ثلاثة من انتاج معمل التاجي سمر الصفحات لا تسر الناظرين و اقلام رصاص كان الاولى ان تسمى اغصان رصاص لانها لا تشبه القلم لا من بعيد و لا من قريب , صفي كان في الطابق الاول من جهة المرافق الغير صحية و لعدم وجود زجاج النوافذ كما اشرت سالفا فكنا "ننسطر" بروائح و كأنها صديد اهل الجحيم و في الصف كنا نفترش الارض ببرد الشتاء لا يقينا زمهرير الارضية الا بضع صفحات ممزقة مما كان كتابا يوما ما , و اذكر معاناة المدرسة مع الطبشور المتحجر الذي لا يكتب و الصبورة التي كانت اشبه بلوح لحمل الجنازة , الصف كان محشوا بما يقارب الستين طفلا و قد قلت "طفلا" مجازا فمن كان في ذلك الصف اقرب الى الهياكل العضمية منهم الى الاطفال , اضلاع بارزة و عيون جاحظة و الاغلبية صليعة الرأس اما تخوفا من القمل فحلق الاهل رؤوسهم او لعدم توفر النقود للحلاقة فكانت هذه الارخص , على حائط الصف المتشقق الجدران مكتوب تسقط الامبريالية , تسقط امريكا , و امامي كان يجلس احد طلاب الصف و قد ارتدى تيشيرت باله "ملابس غربية مستعملة" عليه شعار احد نوادي السلة الامريكية , و بعد ترديد ببغائي لجدول الضرب او احدى سور جزء عمة (و كأننا في كُتاب من العصر العثماني) تأتي الفرصة , فرصة لتستريح المعلمة من خنقة الصف و من روائح الافواه الجائعة و الثياب التي اتشحت بالسواد حزنا على مفارقة مساحيق الغسيل و فرصة لنا كي نهرب من برد الصف و ارضيته الشبيهة بارضية معسكرات الاعتقال الى دفئ كاسة اللبلبي لمن يقدر على شرائها , او الى ما كانت تبيعه "زايرة" تلك العجوز الضئيلة الجسم تجلس مع صواني الداطلي و الزلابيا سوداء اللون لتدري نوعية الطحين , كان الطلاب يداهروها بترديد عبارة "زايرة منين تبول ... عدها زرف بالدشبول" و ترد بدورها بصوت عجوز يكاد لا يسمع فقد افقدها الفقر و القهر حتى الطاقة على الصياح و تحول كلامها الى همس بعد فقدت شهيدا في معارك رعناء و فقدت اخر عندما عدموه اهل الخاكي مثلما كنا نسميهم , الفرصة قد تطول احيانا اذا زار المدرسة احد حزبيي الفرقة حيث يجمع المعلمين و يبدأ درس الترهيب اما نحن فكنا نستغل الفرصة للعب "حصوة القدم" لعدم وجود كرة في المدرسة و لعدم مقدرتنا على شراء احدى كرات البلاستك المعاد فكنا نلعب بحصوة متوسطة الحجم و في احد المرات كدت ان اكسر كاحلي عندما تصديت لضربة قوية , و كان لدينا طلاب محترفون في لعب "البلوع" و هي تمرير نواة ثمرة "النبك" على حفر غطاء البالوعة و بقواعد لم اعد اذكرها , مع العلم ان المدرسة كانت تحتوي غطائين فقط للبلاليع و الاخرى مكشوفة و اذكر كيف سقط احد الطلاب مرة في البالوعة و هو يركض و لم ينتبه و انتهى به الامر متسخا "بالسيان" من رأسه الى قدميه , مرت ثلاث سنوات في ذلك المعتقل المسمى "مدرسة قائد الشعب" ثم انتقلت بعدها الى معتقل اخر اسوء حالا سمي "توكلنا على الله" كان المكان اتعس من سابقه لصغر ساحة اللعب لان حارس المدرسة اقتطع نصف المساحة لزرع الخضروات و تربية الدجاج و اقتطع جزء اخر حيث بنا غرفتين "بلوك" و زوج ابنه الاكبر الذي يعمل بائع نفط و العربة و الحصان في المدرسة طبعا , في هذا المعتقل و لاول مرة استلمت كتاب جديد !! مرت سنة كئيبة كونت خلالها صداقات لحد الان موجودة , كان نظام الدوام في المدرسة ثلاثي لكثرة الطلاب و قلة المدارس فكانت كل وجبة تدرس ثلاث ساعات فقط و كان هناك سبب اخر للتقسيم هو انه كان كل معلم حزبي يريد ان يصبح مديرا للمدرسة "حتى يلفط" و ساعد هذا التقسيم على تكوين ثلاث مدارس في مبنى واحد كي يجدوا مكانا لثلاث مدراء , بعد بناء معتقل جديد ليس ببعيد تم نقلنا اجباريا اليه و اكملت فيه الصف السادس الابتدائي.
جائت نتائج امتحانات الصف السادس الابتدائي اكثر من مرضية فقد كنت الاول على المدرسة و بمعدل 98 بالمئة و كان حلمي ان ادخل متوسطة و اعدادية المتميزين او اعدادية كلية بغداد , لكن لضعف الحال الاقتصادي و خشية علي من الاحباط و الانكسار النفسي اذا ما خالطت في تلك المدارس ابناء الطبقة المترفة من ابناء مهندسي التصنيع العسكري و اعضاء ديوان الرئاسة و ابناء قيادات الفرق الحزبية فكان الحل الوسط هو ما عرف في العراق بمدارس "الجذب الجيد" حيث قام والدي ببذل جهد جهيد لجمع مبلغ القسط السنوي للمدرسة البالغ 10 دولارات! حيث لم نكن نملكها لان مرتب والدي زمن البعث لم يتجاوز الثلاث دولارات!
كانت المدرسة بالنسبة للمعتقلات السابقة اكثر من جيدة , صفوف نضيفة و مقاعد دراسية و مبردة لكل صف و صبورات حقيقية و لاول مرة رأيت بعيني كمبيوتر , و كان في المتوسطة حديقة زهور و المنطقة ايضا كانت جميلة و هادئة , ازدادت شهيتي للدراسة و العلاقة مع المدرسين كانت طيبة حيث كان اكثرهم من الجيل الجميل حتى ان مدرس الفيزياء الانيق دائما كنا نسمع همسا انه كان شيوعي سابق و لم نفهم ماذا يعني شيوعي؟ سألنا الشاب المسؤول عن "تثقيف" الطلبة بمبادئ حزب البعث عن هذه الكلمة و اذكر حالة الارتباك و الخوف التي بدت عليه و بدأ يتأتئ و يتلكأ في الكلام و قال بان الشيوعيين هم ناس سيئون لا يؤمنون "بالله" و الحمد لله انه "القائد الله يحفظه" خلص العراق منهم و من امثالهم.
استمرت المعاناة و لكن بشكل اخر و اعمق , بدأت اكتسب الوعي في تلك الفترة و بدأت اتألم لواقعنا المعيشي و حالة الفقر المدقع التي كنا نمر بها و اكثر ما كان يقتلني هو عدم وجود بصيص للامل في الافق و في مرحلة الثالث المتوسط فجأة و في احد الايام دخل افراد البعث الى المتوسطة باعداد غير مسبوقة و بدأوا يخرجونا الى الشارع و كانت تقف باصات و شاحنات مختلفة الحجم و تم حشر الطلاب كالماشية في الشاحنات و اتضح انه ستكون هنالك مسيرة وسط بغداد لتأييد "قائد الامة و علمها" و اذكر كيف هرب احد الطلاب من السياج يريد الذهاب الى البيت فامسك به اعضاء الحزب و انهالوا عليه ضربا بالعصي و "الصوندات" و انفه ينزف من الضرب و هو لم يتجاوز الخامسة عشرة و تم استدعاء والده للتحقيق لعدم تربيته له على حب "القائد" , تم انزالنا في شارع 14 رمضان و كان هنالك الالاف من الطلاب اكثرهم لم يأكل شيئا منذ خروجه من البيت و بدأ التلويح من قبل اعضاء البعث بالعصي فمن لم ينادي بحب "القائد" و "بروح بالدم" و "نعم نعم" كان يضرب كي تتنشط ذاكرته و يستعيد كلمات الهوسات , في نهاية مسيرة القطيع هذه وجدت نفسي مجبرا على العودة الى المنزل مشيا على الاقدام من 14 رمضان الى اخر منطقة في جنوب بغداد حيث وصلت مع مغيب الشمس خائر القوى اشعر بجوع شديد و اهلي ينتظرون في الشارع دخلت البيت و الاكل البعثي كان بانتظاري "البيض و البتيتة" و استكان جاي اشبه بالسخام مع الماء مر الطعم.
بدأت الحرب و اسقط البعث و استبشرنا خيرا و قلنا جاء الفرج و ما هي الا اشهر حتى فهمنا ان الوضع كما كان و ربما اسوء في بعض النواحي , لا زلت اذكر الشعور بالذل عندما جاء الامريكان الى الاعدادية و وزعوا علينا حقائب ال"USAID" و كأننا سكان اوغندا او الكونغو مع احترامي لهذه الشعوب و لكني قلت ذلك قاصدا الثروة التي نملكها و لا يملكوها هم.
بدأت في هذه المرحلة الفرقة الطائفية بين الطلبة و كم من عمر و كم من علي قتلوا من مدرستنا لا لشيء الا لانهم حملوا اسماءا مات اصحابها منذ 14 قرنا! و جاء اليوم الذي سافرت فيه من العراق بقلب جريح و عين تدمع على حلم راودني كلمح البصر , على امنيات احترقت بنار السراق الجدد , مضت السنين و هذا هو عامي الخامس و انا في بلاد البرد و الامر من كل شيء هو عدم احساسي بالرغبة للعودة حيث لا اذكر من الوطن سوى سواد الارامل و بكاء اليتامى.
يا حكام المزبلة الخضراء كفاكم سرقة لحلم هذا الشعب المسكين!
كفاكم مصا لدماء اليتامى فلم يبقى سوى الجلد على العظم!
لا تظلمن اذا ما كنت مقتدرا فالظلم يفضي اليك بالندم
تنام عيناك و المظلوم منتبه يدعو عليك و عين الله لم تنم
#حيدر_السعدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟