أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - وديع العبيدي - آراء وانطباعات عن الثقافة الكردية















المزيد.....


آراء وانطباعات عن الثقافة الكردية


وديع العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 3295 - 2011 / 3 / 4 - 20:48
المحور: القضية الكردية
    


آراء وانطباعات عن الثقافة الكردية*
"إلى روح صديقي الراحل حافظ القاضي" في ذكرى رحيله السنوية الأولى!
(1)
مصطلح (ثقافة) ما زال جديدا في التداول الاجتماعي اليومي قياسا بالغرب. فمفهوم الثقافة الغربية أو ثقافة الغرب واضحة للمتلقي بأنها تعني خلاصة المنتج الحضاري لمجتمعات الغرب والتي تغطي كل مجالات الحياة بدء من المضمون الحضاري والقومي الاجتماعي إلى انعكاسات هذا المضمون على الحياة اليومية والآفاق الاستراتيجية والعلاقة بالذات والآخر. ورغم اقتصار القاموس الغربي (Terminoloy) على كلمة واحدة في هذا المجال (culture) التي تتسع دلالتها من تراث – ثقافة- إلى حضارة، فأن تعددية المصطلح في لغاتنا (العربية تحديدا هنا) لم تنفع بشئ في رفع قشرة الجمود أو التأخر الحضاري عن سيرورة العصر. فكلمة (ثقافة) أوسع أفقا في معناها من حصرها واختزالها في مجال المنتج الأدبي والأكاديمي الشائع حتى الآن. عليه أقترح وأرتأي فتح أفق شعار الملف ليشمل الثقافة الكردية وليس الأدب الكردي فحسب. وهو ما أميل إليه في هذه المداخلة..
*
(2)
عند ذكر (الشرق الأوسط) – وهو أمر كثير التردد على مستوى الاعلام-، فأنه يتضمن في جملة دلالاته الإشارة للكرد. فالكرد هم أحد المكونات الاجتماعية والثقافية العريقة والأساسية والحية في دائرة (الشرق الأوسط) أو (غرب جنوبي آسيا) أو (شرق البحر المتوسط) بحسب اختلاف وجهات النظر السياسية للأمر. وقد يختلف المؤرخون في مدى أقدمية الوجود الكردي أو زمن ظهورهم الأول، بشكل يتفاوت من الزمن السومري الأول إلى عهود أحدث نسبيا، لكن الثابت هو كونهم أحد الأمم التي شاركت بقوة في الحراك السياسي للعهد القديم ونجاحها في بناء أكثر من امبراطورية يومئذ. وقد امتدت حدود تلك الامبراطوريات من شرق المتوسط حتى حدود الهند، وهي الحدود التقليدية التي كانت امبراطوريات ما قبل الميلاد تتوارثها أو تتقاسمها عند تزامنها أحيانا. (انظر مقدمة سفر أستير/ التوراه) ويعتبر امتداد الوجود الكردي وثقافتهم حتى اليوم دليلا على قوة أصولهم الاجتماعية والثقافية عبر التاريخ وامتلاكهم المرونة والديناميكية التي تتيح لهم التكيف مع مستجدات الظروف، وتطويعها لصالحهم أو تقليل أضرارها على كيانهم وهويتهم بحسب الإمكان، وبالتالي استمرارهم في الوجود والرفد الحضاري. وبتوزع الكرد اليوم بين بلدان المنطقة وبنسب متفاوتة الكثافة من العالية مثل (تركيا- ايران- العراق- سوريا) –بحسب التدرج-، إلى البلاد المجاورة لها مثل (كويت- لبنان- الأردن- فلسطين- مصر).
*
(3)
يميز أرنولد توينبي بين الامبراطوريات التوسعية في كتابه الكبير (تاريخ البشرية) من خلال سياساتها في البلاد الخاضعة لها ودرجة قسوتها مع الأهلين. وبالتالي قدرة الشعوب المغلوبة على الاحتفاظ بهوياتها الثقافية ولغاتها ومعتقداتها. فرغم تعدد الامبراطوريات المتعاقبة في منطقة شرق المتوسط، استطاعت شعوب المنطقة الاحتفاظ والمحافظة على كياناتها الثقافية والاجتماعية، حتى تراجع النفوذ الفارسي والروماني في أواسط القرن السابع الميلادي وظهور عرب الجنوب وامتدادهم شمالا وغربا. اختلف الغزو الجنوبي عن سواه بأنه قام بتدمير الكيانات المحلية وهوياتها الثقافية واللغوية لصالح هوية الأسلمة ولغة الديانة الجديدة. ويختلف المؤرخون في أكثر من أمر من متعلقات الحكم الوافد، وطرق فرض ثقافته ولغته على ثقافات ولغات أكثر عراقة ورسوخا منها. وهو أمر لا يمكن أن يتحقق يومذاك وفي غياب تقنيات الاتصال الحديثة والأنترنت، بغير البطش والاستبداد التي هي سمات أساسية للنظام السياسي العربي حتى اليوم. فالبطش والاستبداد والغاء الآخر وازدراء الجماعة والاختلاف هي مقومات ثقافة قديمة تخذت مرجعية مقدسة بارتباطها بالنص الديني، وليست هي سمات شخصية أو حزبية طارئة تقترن بجهة دون سواها. ولقد سوّغت الثقافة والاعلام العربي ازدواجية فكرية غريبة على مدى قرون، عندما ربطت الاستبداد وامتهان البشر بشخصيات الحكام دون المساس بالأصول المتوارثة (المقدسة) للثقافة السياسية والاجتماعية للنظام الحاكم. واليوم إذ يخرج ملايين البشر مطالبين بالتغيير السياسي واحترام الانسان والكرامة، تبقى هذه الثورات (ناقصة)، طالما تستهدف أشخاص الحكام وجوانب من أنظمتهم، دون انتباه لأصول الفقه السياسي النابع من الفقه الديني السائد. ان عدم المساس بأصول الفقه الديني والسياسي هو السبب الرئيس لاستمرار الاستبداد عبر العصور بوجوه وصور مختلفة طالما يمتح من نفس المنابع والأصول السلفية.
*
(4)
يمكن تشخيص الحكم العربي في ثلاثة عناصر: الاستبداد السياسي/ الدين الواحد/ اللغة العربية. ويمكن القول أنه ما من فرد أو فئة نجت من أثر هاته العوامل جميعها أو بعض منها، ويبقى الاختلاف بالنسبة. ففي الجانب السياسي ما يزال الحكم محصورا بيد العرب، وفي جانب الدين فالاسلام هو دين الأغلبية بلا منازع، والأمر نفسه مع اللغة التي تدرجت من لغة السياسة والدين إلى لغة التداول اليومي. لكن الثقافة المتداولة والاعلام الرسمي لا يقبل بهذا الرأي، وطالما أكد العكس تماما. فالمروءة بدل البطش، والتسامح بدل الاستبداد، والحرية بدل الالغاء والاضطهاد. وليس هذا مجال الجدل، بقدر تعلقه بموضوع البحث. لكن الفاصل في الأمر، مهما اختلفت وجهات النظر، هو في الانعكاسات الطبيعية لسيادة تلك العناصر الرئيسة، وهاته تتمثل في الثقافة الاجتماعية والتربوية التي اخترقت الوحدات السكانية والثقافية المتعايشة في المنطقة حتى في حال احتفاظها باستقلالها اللغوي أو الديني.
*
(5)
ولغرض تشخيص الآثار المباشرة والانعكاسات غير المباشرة؛ من المفيد اتباع التصنيف السكاني القديم للشعوب من العائلة السامية والشعوب من خارج العائلة السامية. فتبعية العائلة السامية تعني اجتماع لغات شعوب العائلة في شجرة قرابة لغوية. وكان التأثير اللغوي على أشدّه إلى درجة الاكتساح والاختزال شبه التام، وصارت العربية هي اللغة الرئيسية والأولى لتلك الجماعات. ويجدر أن التاثير اللغوي هو أقوى التأثيرات المباشرة والواضحة في هذا المجال. وحتى بالنسبة للفئات المحدودة التي استطاعت الاحتفاظ بمعتقدها الديني والمرتبط أصلا بلغة قومية قديمة، اضطرت بمرور الزمن إلى التنازل عن لغة العبادة الأصلية لصالح العربية، ولاسيما في ظل سياسات التعريب للأنظمة السياسية المعاصرة. أما بالنسبة للشعوب من خارج العائلة السامية، ومنهم الكرد والترك والفرس والاسبان، فقد تعرضت لغاتهم القومية إلى اختراق كاسح جعل المفردات العربية تشكل نسبة تزيد عن نصف القاموس اللغوي لها. ولا تقتصر هاته المفردات على لغة العبادة والتدين وانما تتجاوزها وذلك لشدة اقتران الديني بالاجتماعي اليومي. والسؤال الوارد بعد هذا التمهيد هو: إلى أي حدّ يمكن الحديث عن لغة وثقافة كردية؟.. وما هي الخصائص والمميزات الذاتية والقومية لهما؟..
*
(6)
رغم كونهم الفئة الأكثر اندماجا في النظام العربي (على الأصعدة السياسية والدينية والاجتماعية)، يتميز الكرد بقدر عالِ من الحصانة الذاتية والمحافظة على الخصائص القومية واللغوية والثقافية والاجتماعية بعد عشرات القرون من المعايشة والتبعية السياسية والدينية للنفوذ العروبي. بيد أن استقصاء أبعاد هاته الحصانة، ما يفتأ يقودنا إلى جانب آخر على درجة من الأهمية، إلا هو أصل الكرد تاريخيا كجزء من عائلة الشعوب الآرية أو الايرانية. ففي حين تجتمع الشخصية والثقافة الكردية بطائفة من سمات أصيلة مشتركة داخل العائلة الايرانية، استطاعت كل عائلة نووية الاحتفاظ والمحافظة على حدود معينة من الاستقلال الذاتي عن شقيقتها، وبما لا يثلم صلتها بالعائلة الأم والسمات المشتركة. ففي حدود ايران الاقليمية كما في شبه جزيرة تركيا، يعيش ملايين الكرد في جوّ يوازن بين الاندماج والحصانة الذاتية، ويجعل لهم نكهة خاصة في مشهد الفسيفساء الاجتماعي لذلك البلد.
*
(7)
تتحدد تجربتي الشخصية في حدود العراق، حيث ولدت وعشت طفولتي الأولى في مدينة تعددية الثقافة واللغة، مدينة جلولاء (قره غان) من أعمال محافظة ديالى الحدودية مع ايران وإلى الشرق من بغداد العاصمة. وقد أتاحت لي التجربة التعرف إلى المكون الكردي ونسغه الثقافي عن قرب، بحيث شكل أحد عوامل تكويني الأساسية.
الحياة اليومية للشخصية أو العائلة الكردية قد لا تختلف تماما من الخارج، عن أندادها من المكونات الثقافية الأخرى، ولكنها تتميز عنها في التفاصيل. ولاختصار القول أحاول رسم صورة سيميائية لذلك تكفي عن الاستطراد.
قد تعرف الكرد مبتدأ من ثيابهم التقليدية، والمهم فيها ألوانها التي تعكس الفرح والحيوية والانطلاق أو الانفتاح. ولاسيما في ثياب البنات والنساء التي تعكس انطباعا كرنفاليا دائما. يرتبط بالحيوية والانطلاق، خفة الحركة ونبذ الجمود وأفضل صورها في الرقصات الشعبية الزاهية، وهي رقصات جماعية تقليدية أو فلكلورية مختلطة، وتنسجم طبيعة الأزياء الكردية الفضفاضة وألوانها الزاهية مع نمط الحركات السريعة في رسم صورة حية للربيع حتى في صلب الشتاء، ورسم صورة كرنفال حيوي فرح مهما كانت قسوة الحزن والأسى المحيط بهم. والمعروف أن تاريخ الكرد سيما المعاصر منه هو أدنى إلى سلسلة من المآسي الجماعية منه إلى حياة الأمن والاستقرار والرفاه، ومع ذلك بقيت الشخصية الكردية تصدر عن الفرح ولا تستسلم للحزن والأسى، وبما يذكر بمقولة طاغور شاعر الهند الكبير، أن السعادة الحقيقية تسكن في الروح.
بعيدا عن الجمود، بعيدا عن الحزن، بعيدا عن الانغلاق. الكردي شخص معتد بذاته، ولكنه غير مغرور. ينظر للآخر باحترام واستعداد تام للاستماع والتعلم والتبادل الثقافي والاجتماعي. وأعتقد أن الانفتاح الاجتماعي ونظرة الاحترام والتكافؤ وراء الشعبية الواسعة –المقبولية الاجتماعية- للشخصية الكردية وتكيفها مع المحيط الكائنة فيه. يضاف لذلك عنصر المبادرة. فالكردي غالبا ما يبادر للتقدم والتعاطي مع الآخر، وهو ما يختصر كثيرا من الجهد والوقت في تحقيق خطوات كبيرة للأمام في أي مجال.
*
(8)
الحزن الكردي الشفيف..
ما من شخص بلا حزن أو مشكلة. والواقع الكردي والشرق متوسطي المعاصر، يؤسس لأكثر من حضارة حزينة. وتشتهر الشخصية العراقية بالحزن والتشاؤم. ينعكس الحزن وينث من كل حركة أو كلمة أو لمحة وجه. لكن الكردي يختلف في ذلك أنه لا يستسلم للحزن، ولا يتركه يستطيل ويسرق منه مساحة نهاره أو ليله أو رحابة صدره وروحه. يعمل الكردي على تحويل طاقة الحزن إلى فعل أو نص، نكتة أو أغنية. شخصيا أعتقد أن كل كردي وكردية يحبون الغناء إلى درجة العشق، ناهيك عن الرقص. وتتراوح موضوعات الأغنية الكردية من الغزل أساسا إلى الحزن والوطنية. وهي نفس المحاور التي تسم الشعر الكردي إلى جانب شعر الطبيعة والانسانية والشعر الصوفي. ويتضمن الكالندر (روزنامه) الكردية مناسبات احتفالية عديدة تتضمن أنواع الفنون والآداب الكردية من موسيقى وغناء ورقص ومسرح وشعر وقصص.
فالشخصية الكردية لا تستسلم للحزن وانما توظفه لغرض ابداعي. على عكس الشخصية العراقية أو الجنوبية التي تستسلم للحزن واليأس والقنوط، إلى درجة أنها استنبطت احتفالات وكرنفالات سوداء للطم والعويل وشعر المآسي والمراثي وتمني الموت. ويمكن القول أن الشخصية العراقية كلما اتجهت جنوبا زادت حزنا وجمودا وانغلاقا؛ وكلما اتجهت شمالا- حيث كردستان- ازدات بهجة وحيوية وانفتاحا. ولعل من ملامح هذا كثرة حركة الكرد في الجنوب، مقابل ندرة وصول أهل الجنوب إلى المنطقة الشمالية من العراق.
ان ارادة الحياة أقوى من الموت، وحاجة الانسان للفرح والحركة والتغيير أكبر، لكن الملاحظ، بطء التفاعلية الديناميكية في النسيج الاجتماعي العراقي بين الشمال والجنوب، وذلك بفعل الطبيعة السكونية الجنوبية وعوامل الحزن والانغلاق.
*
(9)
الطبيعة.. المرأة.. الفرح..
هاذه هي العناصر أو المحاور الرئيسة التي تشكل (تشغل) ماكنة الروح الكردية، وهنا مكمن الابداع.
الطبيعة الكردية تتمثل بالجبل والهضبة.. بالمطر والنبع والزهور.. ويشكل الجبل كتضريس طبيعي وعر وشاهق مركز قوة الكردي وحصن منعته، وبالتالي نجاحه في البقاء والانتصار. وعندما يحتفل الكرد أو يخرجون للنزهة فأن طريقهم يتجه نحو الجبل.. حيث تزدان السفوح بالجماهير والألوان البهيجة وأصداء الموسيقى والأغاني ناهيك عن صور النار والدخان المنبعث من حرق العجلات المطاطية على قمم الجبال في واحدة من ملامح الاحتفال والتواصل مع حفلات الجبال القريبة.
تلعب الاحتفالات الجماهيرية دوراً في التعارف وزيادة الروابط والاتصالات بين الأفراد والعوائل والجماعات واجتماعها في روابط وصلات أخوية وعائلية تكافلية. وتتمتع الفتاة –في الأغلب- بنفس المكانة والأهمية، الحرية والحركة المتاحة للشاب، وهو ما يميزها عن وضعية الفتاة العربية المحكومة بأغلال من عادات وتقاليد متوارثة يحكمها الخوف والشك والقسوة.
ويمكن من خلال ما سبق تأشير عوامل ثلاثة تدعم متانة كيان الفرد الكردي..
قوة العلاقة مع الأرض / قوة الرابطة العائلية والقبلية / قوة الارتباط بالثقافة القومية واللغة.
*
(10)
عند الحديث عن النتاج الأدبي والثقافي للكرد، لابدّ من جدارة اعتبار الأدب العربي الصادر من أدباء كرد أو ذوي أصول كردية قدموا عصارة أفكارهم وقرائحهم باللغة العربية، بغض النظر عن الأسباب. ان وجود هذا الأدب والذي يحتل مكانة رئيسة وأهمية لا يستعاض عنها، تعكس عمق الصلة بين الانسان الكردي أو الثقافة الكردية وثقافة المحيط، ناهيك عن مدى التلاقح والشعور بالالتزام والمسؤولية الأخلاقية والتاريخية لكل شخص بحسب المكان الذي هو فيه. ففي مجال الأدب يقف في صدارة المبدعين أحمد شوقي ومحمود سامي البارودي ومعروف الرصافي ومكي عزيز وحسين مردان ومحي الدين زنكنه وجليل القيسي وسليم بركات في سبيل الذكر لا الحصر. ولهذا الأدب من المكانة والأهمية في الحياة الثقافية والعامة ما لا يمكن إغفاله أو بخسه. ولا تنحصر هاته الأهمية في مجال اللسانيات، وانما تتعداها إلى الجانب السياسي والوطني. مثل هاته الأهمية تعالج النقص أو القصور الذي ينسبه البعض لبعض منهم جراء غياب الاشارة إلى المسألة المحلية أو تغييب السياسي القومي. فالثابت أن الانتماء للانسانية شامل لكل الانتماءات القومية والأطياف المحلية. وإذا نجحت البشرية في صناعة عالم تسوده قيم الانسانية والمحبة السامية والتكافؤ والتعاون في الصالح العام، فسوف يجد كل جماعة وفرد أحلامه وتطلعاته وكرامته النبيلة في فضاء الانتماء الانساني الأشمل. ومن هذا المنظور كان أولئك روادا في قيادة الخطى الانسانية، وما تزال تتردد صرخة شوقي العميقة..
ما ضرّ لو جعلوا العلاقة في غدِ.. بين الشعوبِ مودّةً وإخاءَ
وما أحوج البشرية اليوم لهذا الغد، أكثر من أي وقت مضى!.
*
(11)
الأدب والحياة..
الحياة عند الكردي قيمة احتفالية وعملية لا ينافسها شيء، ويمكن تشخيص المقصود بقيمة الحياة بكونها فلسفة غايتها المتعة والفرح. ويبذل الكردي كلّ ما يسعه للاحتفاظ بالحياة والاستمتاع بما تتيحه من فرص وامكانيات. الكردي شخص واقعي، يعيش حياته المباشرة، ولا يتردد في التقدم والتعلم من أجل توسيع دائرة حياته ومعارفه ومتعه. وقد كان لهذا العامل دور أساس في تطوير الشخصية الكردية والحياة اليومية للكرد بشكل شهد اضطرادا نوعيا. ومن صور الواقعية الكردية عدم الاستسلام للظروف والميل للمراثي والنكد والفقدان. ان سرّ القوة في عدم الاستسلام للظروف، يكمن في التطلع للأمام والبحث عن طريق يمكن الخروج إليه من هذا الواقع المرّ.
لقد عانى الكرد من أنواع الاهمال والتهميش والاضطهاد من مكان لآخر وبحسب الظروف، لكنهم لم يصلوا للقطيعة الكاملة مع المركز، رغم تلويحهم الواضح بالعكس، مما أجبر المركز على الاعتراف بهم والنزول عند مستوى من التعاون. ويشكل الكرد أحد أطياف الهجرة الرئيسة والمبكرة نحو الغرب، لأغراض سياسية غالبا. والمغتربون الكرد في مقدمة جماعات المغتربين في برامج الاندماج والتفاعل مع الثقافة الجديدة، وقد نقل كثيرون منهم صورة الثقافة الجديدة وملامحها إلى بلده الأم لاحقا. فالتطلع للحياة والسعادة والواقعية سمات أساسية فاعلة في تطور الثقافة الكردية وتمييزهم عن غيرهم.
*
(12)
موضوعات الأدب الكردي..
أصول الكرد تعود إلى القرية والقبيلة – على غرار المجتمعات الآسيوية-، ويشكل الدين مهمازا ملغزا في صلته بالزعامة القروية والقبلية. ويبدو أن تداخل الدين في الثقافة الاجتماعية، أو ذوبان الفكر والطقس الديني في سحابة الحياة اليومية للفرد والجماعة ذو أصول قديمة. وهو أمر انعكس على موقف الشعوب الشمالية –ومنهم الكرد- وعلاقتهم بالدين الاسلامي. حيث تداخلت الثقافة الاجتماعية التقليدية مع طقوس الدين الجديد. واختزال الدين إلى طقوس يسهل تسويغه وتطبيعه في محيط جديد. لذلك ارتبط الاسلام الكردي بظاهرة التصوف وطقوس المتصوفة – يتعارف عليهم بالدراويش-. فالاشراق والنور وعقيدة التجلي هي من أصول العقيدة الكردية القديمة، المنعكسة في إطار اسلامي لاحق، وليس العكس. وهي ظاهرة تنعدم في أصل الاسلام وتطبيقاته في الجماعات الأخرى غير الكردية ومن اتصل بهم عن قرب. وقد كان شيوخ التصوف أوائل الأدباء أو الشعراء الكرد، والنصوص الشعرية واحدة من حاجات حلقات الذكر والغناء الديني. ويتعارف عليها أحيانا بالملاحم الدينية. والفكر الديني في هاته الملاحم أو النصوص أقرب لفلسفة اللاهوت المسيحي أو مزامير داود منه إلى النص الاسلامي الذي يحتفظ بمسافة معلومة بين الله والعبد مستحيلة الاختزال. فالتصوف الكردي في وقت مبكر من القرن الحادي عشر والثاني عشر الميلادي شكل بادرة للاهتمام باللغة والقواعد الكردية. من المفيد هنا عدم اغفال الأدب الفارسي في هذا المجال ولنفس الفترة. ان الزحف العروبي والاسلامي شكل حافزا لدى بعض الشعوب لتوطيد الاهتمام بلغاتها وثقافاتها المحلية خشية الانجراف والذوبان في مياه فاشية. هذا الشعر الصوفي الملحمي يختلف كليا من حيث الاتجاه والمضمون والمسحة عن الشعر الملحمي السوداوي الذي ظهر في جنوب العراق، والذي يعدّ استدراجا لغرض الرثاء من أغراض الشعر العربي المتعارفة. إضافة لشعر التصوف والجهد اللغوي، كان للمرأة والعشق مكانة مميزة في الشعر الكردي سرعان ما قدّمت أروع مباهجها في ملحمة نالي الشهيرة (مم وزين)، والتي تجاوزت السابق واللاحق وتكون جزء من التراث الكردي الحي على مدى الزمن. أما العصر الحديث فقد تميز بشعر الطبيعة والشعر السياسي والوطني بجدارة، وهو الذي طبع الأغنية والذاكرة الكردية على حد سواء، إضافة لشعر الغزل طبعا.
*
(13)
الثقافة عامة يجري تصنيفها إلى صنفين: ثقافة شعبية، وثقافة رسمية. وثمة تصنيفات أخرى ممكنة لا مجال لها هنا. حتى الآن كان الحديث يتعلق بالثقافة الشعبية، وهي ثقافة نابعة من الشعب وإلى الشعب، في مغزاها وغايتها. وأهم مميزاتها أنها حرة الانطلاق ملونة بتلاوين النفس جارية مجرى السليقة، يدفعها هوى النفس وتلعب بها رياح الأيام. ثقافة الناس في حياتهم اليومية وأحاديثهم الودية وخوفهم المتربص من المجهول. تقودني الذاكرة هنا إلى بيت أهل (أحه)أحمد وأخته آمنة ووالديهما العجوزين. ترك خالي الصغير دراسته المتوسطة والتحق بالجبل في صفوف مقاتلي الـ(بيش مركَه) إلى جانب أحمد وعدنان وداود. وكنت أمضي يوميا إلى بيت أهل (أحه) – هكذا كانوا يدعونه- للسؤال عن أية أخبار من الجبل. كان (أحه) وهو لم يكمل المدرسة مثل خالي الصغير، خطاطا، وقد تعلم منه خالي الخط أيضا، وكنت أراهما يتمرنان ويتجادلان ويغنيان سوية عند زياراتهما المفاجئة للمنزل وقبل ان يختفيا مع المساء. في أيام نوروز يخطون كمية من اللافتات على حيطان الحوش وذلك باستخدام (قلمين) لانتاج خط مزدوج مفرغ، ثم يقومان بتعبئة الفراغ باللون. وكنت أساعد أحيانا في الاملاء. موضوع الخط يذكرني بالخطاط والمؤرخ محمد طاهر الكردي في تاريخ الخط والخطاطين وغيره من الكرد وأبناء الأقليات المؤسلمة، وهو نشاط آخر يضاف إلى مجال التصوف الديني الذي اشتهر عند الكرد. والملاحظ هنا ان فن الخط تحديدا والتصوف عامة، تركز في شمالي العراق وجنوبي تركيا، واستمر حتى اليوم، ملمحين بارزين ضاربين بجذورهما في بيئة ولاية الموصل الاجتماعية والثقافية. فن الخط يقوم على عنصرين: فكري وعضلي (يدوي). ويبدو التصوف هنا بمثابة همزة وصل بين الفكر والصنعة اليدوية. ولعل من الطريف أن لفظة (شيخ) المستخدمة في وصف الخطاطين كثيرا، ذات إحالة دينية واضحة، ناهيك عن مادة الخط المحصورة في النصوص الدينية غالبا. وإلى جانب الخط برع فنانون كرد في الرسم والنحت والبناء. ويشتهر الكرد بالمهارات اليدوية، وامتيازهم أنهم حرفيون غالبا. وسبق القول أنهم يحبون الحركة والعمل، وليس بهم ميل للسكون والاستكانة.
*
(14)
الجغرافيا الكردية غنية بالمكونات الاجتماعية والثقافية المتعددة. التعدد عنصر غنى وتراكم ونمو. على عكس الجغرافيا العربية شحيحة التعددية الثقافية. والسبب هو طبيعة العقلية العربية المتوجسة من التعدد والاختلاف، ورغبتها في السيطرة والالغاء. فلم تترك خيارا للمكونات الأثنية والثقافية المختلفة غير الذوبان في العروبة أو الانسحاب نحو الأطراف. وجغرافيا كردستان التاريخية هي التالية واللصيقة بجغرافيا العرب السياسية حتى اليوم. فالآشوريون والكلدان والأرمن والأيزيديون والشبك والعلويون والتركمان والزازائيون والنصيرويون وغيرهم من الجماعات التي وجدت ملاذها على الحدود الطبيعية التضاريسية التي حدّت جغرافيا العرب وامتداد صحرائهم، تقاسموا تاريخيا نفس الجغرافيا. ولهم سمات ثقافية مشتركة مع المكون الكردي عبر قرون المعايشة التاريخية والانسجام الاجتماعي قبل ظهور الحدود السياسية للدولة الحديثة. التنوع الأثني والاجتماعي عامل دفع للتلاقح الثقافي والفني، فانتعشت الحياة الاجتماعية والثقافية والفنية، الأمر الذي غاب من المكون العربي فاستمرت الحياة فيه على مستوى واحد من الركود والجمود وتراجع معدل النمو الثقافي والفني. ومعلوم ان نقاط النمو والتغير المحدود والانتاج الثقافي انحسرت في نقاط التلاقح مع الآخر المتوسطي مثل سوريا ومصر حتى عهد قريب.
*
(15)
الثقافة والمؤسسة.
ثمة تغير ملحوظ في تعريف الثقافة، نتج عن دخول مرحلة التنظيمات السياسية وتدخل (الأيديولوجيا) في أنماط التفكير والرأي والتعبير، والذي يبدو قريبا من صورة زوال غشاء البكارة في العملية الثقافية. الثقافة بمختلف منتجاتها الأدبية والفنية والاجتماعية هي حرة المنطلق، طليقة الهوى، تتشكل حسب طبيعة النفس وطقسية الظروف، بعيدا عن عين الرقيب أو سطوة المؤسسة. أؤمن أن الابداع الحقيقي، في كل تجلياته هو فوق السلطة. وحرية الابداع هي الضمان الوحيد لتوفره على فاعلية التغيير والاضافة. أما الخنوع والخشوع فهي تراكم مرضي لا يضيف للمؤسسة القائمة ولا يغير من حالها شيئ. ولذلك تدخل حالة من الموات وتستمر في حالة من موت دائم تجعل من الجماعة التابعة له مجرد تابوت يحفظ قدسية الأيديولوجيا الميتة. اغنية الانسان المعاصر تتجه للفن، للمنفى، للناتج الثقافي والفني في المنفى. فحيث يتحول الوطن إلى سجن، يكون المنفى هو الحرية. ويحيث يكون الموطن موتا، يكون المنفى هو الحياة. أعيد هنا مقولة الشاعر الكردي عثمان صبري في قصيدته المعنونة (الاستقلال)، والتي فيها يقول ما معناه.. ان الاستقلال الحقيقي ليس من الاستعمار والهيمنة العسكرية أو السياسية، ان الاستقلال الحقيقي هو التحرر من عبودية الأيديولوجيا.
وأنا أبحث عن الأدب الحر والثقافة الحرة المستقلة إلا من ذاتها. لأن الحرية هي النقاء، الصفو، الصدق والتلقائية. كرنفالات الجبل ورقصات الطبيعة.. أغاني تصدح وموسيقى تذوب في نداء الطبيعة اللانهائية..
أنا أحب الحرية والجمال.. والانسانية..
وهذا هو سرّ انتمائي العميق لطفولة بعيدة.. قريبة جدا!..
*
لندن
الخامس والعشرين من فبراير 2011
ـــــــــــــــــــــــــــ
• الموضوع مساهمة في ملف بنفس العنوان في موقع سما كرد الالكتروني.
• حافظ القاضي أديب وصحافي كردي عراقي توفي في النمسا العام الماضي.



#وديع_العبيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقاطع من أغنية كردية
- اللحظةُ ليستْ تاريخاً
- 13×7
- الإصغاء إلى نداء الغابة وخطاب الطبيعة في القصة الليبية
- أصل الشرّ.. (2)
- أصل الكلام.. كلمة
- عندما ندم الله.. (25) الأخير
- عندما ندم الله.. (24)- ما قبل الأخير
- الاطفال.. طريق إلى أنانية الأنثى
- عندما ندم الله.. (23)
- أصل الشر..(1)
- عندما ندم الله.. (22)
- عندما ندم الله.. (21)
- عندما في الأعالي.. (20)
- عندما ندم الله.. (19)
- عندما ندم الله (18)
- عندما ندم الله.. (17)
- عندما ندم الله.. (16)
- عندما ندم الله.. (15)
- عندما ندم الله..(14)


المزيد.....




- لماذا تعجز الأمم المتحدة عن حماية نفسها من إسرائيل؟
- مرشح ترامب لوزارة أمنية ينتمي للواء متورط بجرائم حرب في العر ...
- لندن.. اعتقال نتنياهو ودعم إسرائيل
- اعتقالات واقتحامات بالضفة ومستوطنون يهاجمون بلدة تل الرميدة ...
- المقررة الاممية البانيز: مذكرة اعتقال نتنياهو وغالانت غير كا ...
- شاهد.. مواقف الدول المرحبة بقرار اعتقال نتنياهو وغالانت
- لماذا لم تعقب الحكومات العربية على قرار اعتقال نتنياهو؟
- تظاهرات بفرنسا تدعو لتطبيق قرار اعتقال نتنياهو وغالانت
- صحيفتان بريطانيتان: قرار المحكمة الجنائية الدولية باعتقال نت ...
- كاميرا العالم توثّق الوضع الإنساني الصعب بدير البلح وسط غزة ...


المزيد.....

- سعید بارودو. حیاتي الحزبیة / ابو داستان
- العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس ... / كاظم حبيب
- *الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 * / حواس محمود
- افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_ / د. خليل عبدالرحمن
- عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول / بير رستم
- كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟ / بير رستم
- الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية / بير رستم
- الأحزاب الكردية والصراعات القبلية / بير رستم
- المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية / بير رستم
- الكرد في المعادلات السياسية / بير رستم


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - وديع العبيدي - آراء وانطباعات عن الثقافة الكردية