|
في مئوية كتاب لينين: ((ما العمل؟)) طوني نيغري وسؤال السلطة المضادة
وسام سعادة
الحوار المتمدن-العدد: 216 - 2002 / 8 / 11 - 01:11
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
العمل؟>>؛ لفلاديمير إيليتش لينين، هو من الكتب المؤسَّسة للقرن العشرين. عناصر وظروف متباينة ساهمت في منحه مكانة استثنائية قياساً بنصوص للينين أدق أو أبلغ على الصعد الفكرية والمنطقية والأسلوبية. لقد وُضع الكتاب في الأصل للخوض في السجالات القائمة في حينه بين حلقات الاشتراكيين الديموقراطيين الروس، وفي سياق التمهيد للمسار الانشقاقي اللاحق، وتعرض منذ صدوره لانتقادات ماركسية بارزة من مثل تلك التي قدمها بليخانوف حين انكر على لينين فهم العلاقة بين <<الفكر>> الاجتماعي و<<الكائن>> الاجتماعي، وروزا لوكسمبورغ التي رمته بتهمة المركزية اليعقوبية البلانكية ذات التصور التقني العسكري التآمري، وليون تروتسكي الذي وجد فيه بذرة الاستبدالية السياسية حيث تحل القيادة محل القاعدة ثم يحل المكتب السياسي محل اللجنة المركزية، ووصولاً الى الشخص. كذلك توالت من يومها كتابات تشدد على التعارض، بل التضاد، بين أفكار ماركس وانجلز بصدد التنظيم والوعي الطبقيين وبين الأفكار والاقتراحات التي تضمنها <<ما العمل؟>>. هذا فضلاً عن سيل الكتابات من المواقع التي شخّصت في <<ما العمل؟>> جذراً من جذور التوتاليتارية. أما لينين، وعلى الرغم من تطوراته اللاحقة، فهو لم ينقد يوماً أيا من طروحات كتابه، وان طاول النقد أحياناً وضعية الكتاب نفسه أو موقعه من الإعراب، إذ اصر على صفته كمؤلف سجالي وليس مؤلفا نظريا، ودعا حين قراءته الى عدم عزله عن سياقه التاريخي الملموس، ولم يبد أي حماسة في ترجمته الى لغات أخرى. لقد اقتبس عنوان الكتاب من رواية نيكولاي تشيرنيشفسكي <<ما العمل؟>> الصادرة عام 1863 والتي طبعت جيلاً كاملاً من الثوريين، بما تدعو اليه من أخلاق <<الأنانية العقلانية>> حيث يبلغ الانسان سعادته بالبحث عن مصلحته في اقترانها بمصالح الآخرين، وحيث يبرز نمط الثوري الزاهد المكرس ل<<المهمة>>. يتضح أثر الرواية في لينين من قوله إنها <<عمل يمنح الطاقة لحياة بأكملها>>. كتاب لينين كذلك كان معمل طاقة بالنسبة الى الكثيرين. من كتاب يستهدف الاستيلاء على السلطة ضمن معشر الثوريين الروس، تحول الكتاب الى خطة للاستيلاء ليس فقط على روسيا القيصرية، بل على قرن بأكمله. أما اليوم، فنحن نرى بشكل عام الماركسيين وهم يلوذون بالانتقادات التي وجهها أخصام لينين من الماركسيين اليه بشأن <<ما العمل؟>>، او يعارضون على الأقل منطق <<ما العمل؟>> بمنطق <<الدولة والثورة>>، وهذا بدوره أمر إشكالي في خضم قراءة ما تزال سائدة وترفض ان ترى لينيناً شاباً وآخر كهلاً على غرار ما جرت عليه الأمور عند تقسيم السيرة الفكرية والنضالية لماركس. بين لاحاجة البعض الى قراءة <<ما العمل؟>> والحاجة الى التنديد به ودحضه، وبين من يستمر في الدعوة اليه وصفةً للبدء من الصفر، كما لو أن شيئاً لم يحدث، تبقى مساحة يمكن للكتاب أن يفرض فيها أهميته، وفي نفس الوقت راهنية الإشكالية التي تطرحها إشكاليته، ولا نقول راهنية إشكاليته نفسها. تميز الكتاب بشحنات وكثافات تشدد على العنصر الذاتي في تشكل البروليتاريا، وعلى خصوصية الثورة البروليتارية من حيث إنها الثورة الأكثر وعياً في التاريخ. بخلاف فكرة السيرورة الطبيعية عند ماركس، لا يمكن ان تنتج البروليتاريا طبيعياً أو عفوياً سوى منظماتها الدفاعية، أما الهجومية منها فتتطلب معادلة بين الفكر الذي يأتيها من خارج، فيشكل وعيها. اطروحة لطالما صُنفت في دائرة الشغف الإرادوي أو التصور الميكانيكي للوعي، ولكن الأهم، هو أننا أمام خطة قيام تنظيم ثوري محترف من أجل الاستيلاء على السلطة. الاستيلاء على السلطة؟ هل يمكن أن يطرح تنظيم ما هذا الأمر اليوم من دون أن يوسَم بالجنون؟ أعتى الحركات المناهضة للعولمة تصنف نفسها في دائرة الاعتراض أو التبشير بعالم آخر ممكن، والاحزاب الشيوعية تتوزع بين أشكال من الاشتراكية الديموقراطية وأشكال من القومية الشعبوية. وحتى الأكثر ثورية، بالمعنى الايديولوجي، فهم يؤجلون منطق الاستيلاء الى زمان لم يأت بعد، ولا ترتدي المنافحة عند <<ديكتاتورية البروليتاريا>> أي معنى مستقبلي وانما تثار فقط من باب الاختلاف التأريخي. مع ذلك، تبقى موضوعة الاستيلاء على السلطة، ميزة اللينينية. وبمجرد التفكير بهذه الموضوعة نلقى الطبيعة المعقدة لزماننا، تلك التي حدت التوسير في آخر سني حياتها الى اعلان نهاية السياسة واستدامة الايديولوجيا بما هي الوهم ببقائها. الطابع البيو سياسي للينينية تحت عنوان <<ما العمل اليوم بما العمل؟>>، أحيا طوني نيغري السؤال اللينيني على عتبة المئوية. وأدرك من موقعه كفيلسوف أقصى اليسار الايطالي وأحد أعلام الاسبينوزية الحركية، أن الحديث عن لينين يعني الحديث عن فكرة الاستيلاء على السلطة بما هي الموضوعة اللينينية بامتياز، والتي ليس لحمْد أو نقد كتابات وأفعال لينين أي معنى من دون اثارتها. الاستيلاء على السلطة! ان علم السياسة الغربي نفسه يقيم اعتباراً للينين في ما يتعلق بهذا الأمر، أي بالمعنى الذي حلم به أمثال موسوليني وهتلر بأن يكونا مثل مظفر اكتوبر، رجل التصميم الحاسم والقرارات الحازمة. لكن، ما هو موقع <<أخذ السلطة>> من الإعراب في مقال الماركسية الثورية؟ لم يكن <<الاستيلاء على السلطة>> ليُطرح، من دون ربط يزداد أو يقل مع مفهوم <<إلغاء الدولة>>. ولينين لم يشذ عن ذلك ومن هنا افتراقه سنوات ضوئية عن التقييم الامتداحي والملتبس من قبل علم السياسة السائد، إلا أنه في المقابل لم يتوصل إلا الى منتصف الطريق. وبعد أن نجح في <<الاستيلاء على السلطة>> اخفق في أي شكل من أشكال الغاء، أو اضمحلال، أو تخفيف الدولة، بل تطورت هذه الأخيرة بالاتجاه المعاكس تماماً، وأصبحت مفترسة أكثر فأكثر، لتطمس عند أجيال كاملة من الشيوعيين، الأمل في استيلاء ممكن على السلطة يترافق مع تفكيك الدولة، وهي المسألة التي تبقى راهنية بكليتها عند طوني نيغري. نزع لينين عن علم السياسة كل تبسيط مثالي ملتبس من نوع <<منطق الدولة>> كما ابتعد عن تعريف السياسة بمصطلحات البيروقراطية أو القدرة على اتخاذ القرارات السياسية، ورفض بطريقة جذرية كل فصل للسياسة عن مستويات <<الاجتماعي>> و<<الانساني>>. لم يكن الكفاح الشيوعي عند لينين سياسياً فقط، وانما بيو سياسياً أو حياسياً ايضا (الحياسة نحت لغوي من حياة وسياسة، نستخدمه لتعريب مصطلح Bio-politique عند نيغري)، ليس فقط لأن كل ملمح من حياتنا متعلق بهذا الطرح بل لأن الارادة السياسية الثورية تنشد الى الاشتغال من ضمن الحياة بما هي البيوس، بنقدها وانشائها وتحويلها بما يعني صيرورة الحركات أجساداً. ماذا يعني الطابع البيو سياسي للينينية بالنسبة الينا اليوم، لا في الأمس أو من قرن مضى؟ أي جسد يمكن للعمل الثوري أن يتخذه اليوم، وبعد تجربة الحروب الأهلية الطبقية في القرن العشرين؟ تكمن الصعوبة الأولى في معنى اللينينة نفسه فيما نحن نجتاز تحولاً متواصلاً لشروط الانتاج ولوسائل الاتصال والاعلام، وتكمن صعوبة ثانية في كيفية ملاءمة المشروع اللينيني (أي مشروع منظمة ثورية تحارب الرأسمالية وذات قدرة في نفس الوقت على التوجه ضد مفهوم الدولة) مع المعطيات الجديدة للواقع الانتاجي المعاصر. كل شيء تغير اذ أصبحت طبيعة العمل المنتج لامادية، في حين أمست السيرورة التعاونية في الانتاج سيرورة اجتماعية خالصة. كل هذا يقود بدوره الى الاستفهام اليوم عن الطريقة الممكنة للاستيلاء على السلطة او الغاء الدولة في مرحلة تاريخية تشهد فرض الرأسمال هيمنته على الgeneral intellect . مفهوم الgeneral intellect هو الذي استخدمه ماركس، بالانكليزية في النص الألماني، في الطبعة الأولى من <<رأس المال>> وفي <<الغروندريسيه>> (المجهولة من لينين). يشرح ماركس أنه في خلال الآلة والصناعة الكبرى، التي هي أيضاً مرحلة التكنولوجيا، فإن العلم نفسه general intellect يدير الانتاج بواسطة التكنولوجيا، في نفس الوقت الذي يفقد فيه العامل معرفته التقنية وتتقلص مهمته الى مجرد قوة مادية، أي بالطريقة التي تتخذ فيه المعرفة شكل الغريب المسيطر. الغرض من سيطرة العلم على العمل بهذه الطريقة هو افقاد العامل التحكم بما يمارسه في السيرورة الانتاجية، وبالتالي رفع معدل الأرباح. لكن تملك العلم من قبل الرأسمال هو كذلك فرصة لتطور لا سابقة له في المعرفة العلمية التي يمكن للأفراد أن يحظوا بها ما إن يعودون لتملك (في مرحلة الشيوعية) وسائل الانتاج. ويرى نيغري أن تحول العمل المنتج الى عمل لامادي قائم على المعادلة الرمزية التحليلية انما هو شكل من اعادة تملك الgeneral intellect بالشكل الذي لا يجعل المشكلة السياسية في اعادة التملك هذه وانما في تكوين جسم تهديمي أو مقوِّ ض subversif وبالتالي أشكال جديدة من الرغبة تكون على مستوى مفترضات الاستقلالية التي يتضمنها العمل اللامادي. نهاية الحلقة الأضعف ارتبط فكر ماركس بفينومينولوجيا العمل المانيفكتوري في الصناعة، وكانت نتيجة ذلك تصورا للحزب وللديكتاتورية الاجتماعية للبروليتاريا يندرج في مقام التسيير الذاتي. أما لينين، الذي كان في الحقيقة منبهراً بالأسلوب الصناعي الغربي وتحديداً الأميركي، فقد ارتبط منذ البدء بالمفهوم الطليعي للحزب، الذي كانت له، حتى قبل الثورة، مهمة تسريع الانتقال من العمل المانيفكتوري الى الصناعة الكبيرة على النمط الفوردي. عند لينين، كما عند ماركس، كانت العلاقة بين التكوين التقني للبروليتاريا وبين الاستراتيجيا السياسية تمر من خلال تسمية <<كومونة>> أو <<حزب شيوعي>>. في الحالتين نحن أمام ذاتيات تخرج بخلاصات من الرؤية البروليتارية للواقع وتقترح ترابطاً كاملاً بين الاستراتيجيا السياسية التقويضية وبين التنظيم البيو سياسي للجماهير. كان الحزب هو الأداة القادرة على انتاج ذاتية تقويضية. من هنا سؤال نيغري اليوم، عن الذاتية التي يمكن انتاجها في عالم اليوم؟ أي فاعلية ذاتية للاستيلاء على السلطة تبقى ممكنة بالنسبة الى البروليتاريا اللامادية (بروليتاريا ما بعد <<الطبقة العاملة>>) اليوم؟ ان كان سياق الانتاج المعاصر يتشكل بدءاً من تعاون اجتماعي في العمل اللامادي، فكيف ننشئ جسد الgeneral intellect ؟ يقر نيغري باستحالة الوصول الى اجابة نظرية في هذا الشأن.. بدلاً من ثنائية النظري والتنظيمي نحن أمام ثنائية الفلسفي والتجريبي. والدعوة طبعاً تكون لضرورة اختبار الواقع. ومن الوعي انه في أيامنا، لم تعد الفكرة اللينينية بصدد الحلقة الأضعف أو اللحظة الحرجة فعالة. لقد ارتكزت النظرية السياسية عند لينين على أهمية السياق من جهة (أي أن الأهداف السياسية لا ينبغي أن تعرف في ضوء المبادئ وحدها وانما أيضاً ودائماً في ضوء تحليل السياق) وعلى أن الثورة، بموجب قانون التفاوت في التطور، لا تنشب في حواضر النظام الرأسمالي الأكثر تقدماً وانما في <<الحلقات الأضعف من الامبريالية>>. ينبغي تجاوز منطق <<الحلقة الأضعف>> في الزمان أو في المكان، وهذا من تبعات قيام الامبراطورية التي بلا مركز. وفي الامبراطورية، لا يمكن للقرار المعادي للرأسمالية أن يصبح فاعلاً إلا حيث الذاتية هي الأقوى، أي حيث يمكن للكثرة المتعددة multitude فتح <<حرب أهلية>> ضد الامبراطورية، واعادة انتاج فكرة السلطة المضادة في صيغة امبراطورية مضادة، الا ان ذلك يتطلب ممارسة حقيقية لسلطة تأسيسية هي دائماً شكل ديكتاتورية اجتماعية معينة، وان كان نيغري يريد ان يبدل هذه المرة من مرجعيتها الفلسفية والسياسية، وذلك عن طريق مفهوم <<الديموقراطية المطلقة>> عند اسبينوز
جريدة السفير
#وسام_سعادة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رفض للخدمة العسكرية أم رفض للخدمة في الضفة؟ شباب يأبون ارتدا
...
-
بعد هزيمة اليسار في الانتخابات الرئاسية الفرنسية , هل تفرض
...
-
النقابية المستقيلة والنقابية المستقلة
-
فصول الحوار... والفصل!
المزيد.....
-
بوتين: لدينا احتياطي لصواريخ -أوريشنيك-
-
بيلاوسوف: قواتنا تسحق أهم تشكيلات كييف
-
-وسط حصار خانق-.. مدير مستشفى -كمال عدوان- يطلق نداء استغاثة
...
-
رسائل روسية.. أوروبا في مرمى صاروخ - أوريشنيك-
-
الجيش الإسرائيلي: -حزب الله- أطلق 80 صاورخا على المناطق الشم
...
-
مروحية تنقذ رجلا عالقا على حافة جرف في سان فرانسيسكو
-
أردوغان: أزمة أوكرانيا كشفت أهمية الطاقة
-
تظاهرة مليونية بصنعاء دعما لغزة ولبنان
-
-بينها اشتباكات عنيفة بالأسلحة الرشاشة والصاروخية -..-حزب ال
...
-
بريطانيا.. تحذير من دخول مواجهة مع روسيا
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|