|
كيف حل السيد ميثم الجنابي ازمة اليسار العراقي المعاصر؟
عارف معروف
الحوار المتمدن-العدد: 984 - 2004 / 10 / 12 - 09:07
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
كتب السيد " ميثم الجنابي" مقالا بعنوان " اليسار العراقي المعاصر ، الازمة وخلاص الانفتاح " في العدد "20" من جريدة " المدى" والصادر في ك1 / 2003 وكان لابد للمقال ، باعتبار عنوانه، ان يثير اهتمامي كقاريء مهتم بهذا الشأن خصوصا وان ازمة اليسار العراقي واقعة بيّنه وتحدي كبير ومطلب حيوي فرض نفسه منذ فترة ليست بالقصيرة ، كما ان لأزمته اطر ووجوه عديدة منها ما يختص به تحديدا ومنها ما يشاركه فيها غيره من التيارات السياسية بسبب طبيعة البنية الاجتماعية والمرحلة التاريخية ، ومنها ما هو فكري ومنها ما هو سياسي ، منها مايتعلق بالنظرية ومنها مايتعلق بالممارسة ، ولقد تناولت ذلك المقال بالتحليل والنقد في رد مطول نشر في الصفحة ذاتها من جريدة " المدى" ، الاعداد، 42و43و44والصادرة في الايام21و22و24ك2/2004 واشتملت الحلقات الثلاث المنشورة على مقدمات عامة بصدد الموضوع كنت اراها ضرورية للتوطئة ، لكن الجريدة امتنعت عن نشر الحلقة الرابعة التي تخص مقال السيد "ميثم الجنابي" تحديدا ، لاسباب اجهلها ، مما اربك الموضوع في حينه واثار تساؤلات الكثير من الاصدقاء ممن قرأ الرد عن " اللب" و " المغزى" ، وهاا نذا اعيد نشر الحلقة الرابعة ، كمقال منفصل ، يتحدد بمقالة السيد الجنابي تحليلا ونقدا ، اتما ما للفائدة واكمالا للموضوع ، ولان الامر الذي تصدى له الجنابي كان ومايزال راهنا ويستدعي المعالجة العميقة والمشاركة الواسعة ، خصوصا وان هذا النوع من النقد يستند الى افكار ودعوات رائجة حاليا وتجد دفعا وتشجيعا من قبل اوساط سياسية وفكرية معينة على صعيد العالم كما انها تستثمر وتواجه نكوصا مؤسفا واحباطا بّينا في صفوف بعض ما يحسب على اليسار ، ولابد لي ان اوضح انني اعدت صياغة بعض الجمل والعبارات وفقا لما يتطلبه اعداد جزء من مقال ، كمقال منفصل ، كما اورد في نهاية مقالي ، نص مقال السيد الجنابي عملا بمنطق الحوار الديمقراطي وامتثالا لاخلاقيته اولا ، ولغرض عرض نموذج لما اعتقد انه نوع من المثالية التي بدأت تحضى بالاقبال خصوصا في الاوساط الاكاديمية في اجواء مناخ فكري عالمي بمواصفات معروفة : 1- ان عنوان المقال نفسه ، عنوان كبير، وهو يحمل القاريء على الظن انه سوف يقرأ سلسلة مقالات او بحثا معمقا يعالج موضوعا خطيرا مثل هذا الموضوع ، خصوصاوان العنوان يشتمل على ثلاثية : اليسار العراقي المعاصر اولا ، وهو تيار مهم ومؤثر من تيارات الحركة السياسية في العراق ، ثم ازمته ثانيا ، وهي امر بيّن ومتطلب حيوي فرض نفسه منذ عقود وتفاقم منذ زمن وكمن في خلفية الكثير من الوقائع والاحداث والصراعات على مدى عقود ايضا كما اسلفنا واعدنا ، ثم النهاية ، الوصول الى خلاص عن طريق الانفتاح ، وقبل التساؤل عن طبيعة الانفتاح المطلوب ، واتجاهه، فان القاريء المهتم او المعني يرى في الاشارة الى خلاص او حل ما مساهمة لابد ان تحضى باهتمامه الكبير نظرا لمحدودية وربما انعدام الجهود والمعالجات المنشورة في هذا المجال وسطحية وتهافت بعضها او صدورها عن صراعات وخلافات فردية او كتلية وعدم تحليها بالموضوعية او اتصافها بالعلمية ، ونظرا لطبيعة متطلبات الازمة / التحدي التي سبقت الاشارةاليها من جهد جماعي ومتعدد الاطراف وحوار علمي عميق من اجل هكذا خلاصات او" حلول". 2- ابتداءا يثير بناء العنوان الحذر ، فهو ينبيء بسيرورة متوقعة لبناء المقال تستوحي بناءا مستهلكا اقرب الى حبكة الفلم العربي او بالاحرى الهندي، حيث تبدأ بالاشارة الى مشكل خطير ، ثم تخطيء المحاولات السابقة في حل هذا المشكل لتنتهي نهاية سعيدة بايجاد المفتاح او الخلاص، وهي طروحات ومناهج " اذا لاحضنا حجم المقال" لا توحي بمعالجة جدية لمشكل جدي . ومنذ البداية وفي ثنايا المقال يخلط الكاتب ويجعلنا في حيرة مما يعنيه باليسار ، فهو يرفض اقتران لفظة ومفهوم اليساربالاشتراكية والشيوعية ، ثم يعطيه تعريفا يشمل كل" القيم الانسانية الكبرى والخالدة.. قيم الخير –الواقعي- والعدل الاجتماعي والجمال الحسي والعقلي، ثم يعود ليشير الى انه لايتمثل في تيار او حركة او حزب الا بمقدار " ادراكه وتمثيله لهذه القيم" ، فنتوقع ، تعريفا جديدا لليسار يخص الكاتب ولكنه حينما يحاكمه ويعدد مثالبه يجعل منه الحزب الشيوعي العراقي تحديدا ، مرة والفكر الشيوعي اخرى ، ثم يطالبه بتأسيس يسار قائم على دولة القانون والليبرالية والمجتمع المدني ، وان يكون الجميع يساريين بهذا المعنى " من قوميين واشتراكيين واسلاميين وشيوعيين" ، وان يعوا جميعا ذاتهم ويروا ذات الحلول للمشكلات الوطنية الكبرى ، لكن دون ذلك مشكلة او عقبة لا يمكن تجاوزها الا بحل الحزب الشيوعي والغاء فكرة اليسار ، هذا اليسار المتخلف والمنحط والهامشي والذي تأنف لفظة اليسار من الاقتران به- بحسب السيد كاتب المقال- الذي ينتهي بعد ذلك الى القول ان هذا اليسار صاحب تاريخ مليء بالانجازات الكبرى !! 3- احسب ان ما يستفز الكاتب او الباحث او المهتم ويحفزه الى الكتابة في شأن من الشؤون او تناول موضوع محدد من المواضيع ، اضافة الى المهنية وكون الموضوع يدخل في اطار الاختصاص والمتابعة للكاتب المعني ، دوافع كثيرة منها دوافع اصيلة ، كوجود اشكال او لبس او معالجة واقعة او حدث آني او سالف او ازمة او غموض او جدة- من الجديد – في علاقة او فكرة او قانون او نقض افكار او مسلمات او تأصيل اخرى ..الخ ومنها دوافع سلبية كثيرة ايضا قد تكون الغرض " بالمعنى السلبي " او النزوة او حب الشهرة او الكراهية او التعصب او المحاكاة او التضليل المقصود او الديماغوجية او الاثارة الرخيصة ..الخ ونحن نفترض بالطبع ان المقال المذكور ينطوي على دوافع اصيلة وايجابية تتمثل في محاولة تلمس حلول للازمة عبر التأصيل والتأسيس " العلمي والعملي " كما يشير المقال فهل افلح فيما يريد ويبغي ؟ 4- في مقدمته للموضوع يعلق الكاتب ، بان فكرة اليسار تقترن في العالم العربي عموما والعراق على وجه الخصوص ، بالحركة الاشتراكية عموما ، والشيوعية خصوصا ، ويقول انه اقتران ليس دقيقا كما انه " يبتذل " فكرة اليسار ويقطعها عن تاريخها العريق بوصفها "التمثيل النظري والعملي لقيم الخير الواقعي والعدل الاجتماعي والجمال الحسي والعقلي " ثم يقول ولليسار بهذا المعنى تاريخه العريق في " تمثل وتمثيل الحقائق الكبرى للوجود الانساني" ونفهم من ذلك ان اقتران الفكرة بالاشتراكية والشيوعية ليس تضييقا او تحديدا لها بل هو" يبتذلها" ويقطعها عن تاريخها ، ولا نعرف بعد فيما اذا كان الكاتب يريد ان يرجع " لفظة" اليسار الى ماقبل الاشتراكية والشيوعية اي الى الواقعة التاريخية المعروفة من انقسام المجلس الى يساريين ويمينيين باختلاف طروحاتهم وجهة تجمعهم في المكان اي الى اليسار البرجوازي ولكن هذا ايضا لا يجعلها " تمثل وتتمثل كل حقائق الوجود الانساني الكبرى" مهما اعجبنا بها او احببناها !! ام انه هو بالذات يريد ان يعطيها معنى اخر سابق على كل هذه الوقائع او معنى يرتأيه هو دون اهتمام بامر الوقائع التاريخية ؟ويبدو ان هذا هو المقصود ، على الاقل في الاسطر الاولى من المقال حيث يقدم تعريفا لليسار بوصفه" التمثيل النظري والعملي لقيم الخير" ، متناسيا ان الخير مفهوم نسبي تماما وكلمة غير محددة او تامة ، خير من ؟ بالنسبة لمن ؟ وبالضد ممن؟ان الفكر العلمي بعموم مدارسه وتياراته – عدا الفكر المدرسي المثالي السقيم- يتفق على ان مثل هذه المفاهيم نسبية تماما وفضفاضة وواسعة ، بل انك واقعيا ، لاتجد اثنين يمكن ان يتفقا على مفهوم او تعريف واحد للخير ، ولا يغني شيئا اقتران هذه الكلمة بكلمة " الواقعي" محصورة بين مزدوجين ، والا فما هو تعريف " الخير الواقعي"؟!ثم العدل الاجتماعي والجمال الحسي والعقلي، اي انه مفهوم عام يجمع كل الوان الحلم الانساني بالامثل ، اي اننا ننتهي الى مثالية ومطلق ونسميه يسارا او نعرف اليسار بالمطلق !! وهو ذات الشيء الذي تعبر عنه عبارة " ولليسار بهذا المعنى تاريخ عريق في تمثل وتمثيل الحقائق الكبرى للوجود الانساني " اننا نخرج هنا عن اي تعريف او تحديد الى فضاء المطلق الرحب ، ولان اليسار هو الخير المطلق فمن هنا " تجيء سطحية وضيق افق محاربة اليسار والرغبة في القضاء عليه " لان سلوكا كهذا لا يجهل قيمة اليسار فحسب بل ولم يتعض من " الحقيقة القائلة" ان " التاريخ الاجتماعي والسياسي للدول والامم يفترض الحد الادنى من وجود النظام والحرية وهما من المكونات التي ابدعتها وساهمت في ترسيخها الجهود النظرية والعملية لليسار " دعونا ندقق هذه العبارة : ان التاريخ الاجتماعي والسياسي للدول ، وهواحداث ووقائع موضوعية وصيرورة واقعية جرت عبر قرون بل والاف السنين ، وهي لم تفترض في سيرورتها هذه ، النظام والحرية بالضرورة ، ثم ما المقصود هنا بالنظام ؟ هل المراد الانتظام ؟ النسق؟ التنظيم ؟ الالزام بالضد من الحرية ؟ هل المقصود ان المجتمعات قامت على توازن بين الالزام والحرية او نسق ضمهما في وحدة اضداد ؟ هذا غير واضح ، رغم ان وقائع التاريخ السالف تبطل هذا الفرض وتبعده عن ان يكون مسلمة، كان دائما بالنسبة للطبقات المختلفة اما الحرية او الالتزام ولنعتبر بالعبيد وملاكهم او الاقنان وسادة الارض واخيرا العمال والراسماليين ، ولكن لنفترض جدلا صحة ذلك ونقول مع الكاتب ان تاريخ الانسانية كله كان قائما او يفترض الحد الادنى " بعبارته ذاتها من النظام والحرية ، فكيف نوفق بين ذلك وبين نهاية العبارة التي تقول بانهما اى النظام والحرية من المكونات التي ابدعتها الجهود النظرية والعملية لليسار ؟!! كيف قام تاريخ الانسانية السابق ، تاريخ الامم والشعوب على مكونات ابدعها اليسار؟ لااعرف .. الا اذا كان الكاتب يقصد باليسار " المطلق" او شيء اخر يشبهه كامن خلف الوقائع وماوراء المحسوسات ، انذاك يمكن القول ان التاريخ تاسس على مكونات ابدعها اليسار ، ولكن ، عند ذاك ، هل يحتاج المطلق الى اية " جهود نظرية او عملية "؟! ان الكاتب يؤكد ان ذلك " حقيقة " فأين وجدها ؟ ويقولها بمصادرة مطلقة وتسليم " الحقيقة القائلة ". 5- بعد ذلك يقول الكاتب ان حقيقة اليسار اوسع من ان يمثلها تيار مذهبي- سياسي او فكري او عقائدي ثم يقرر تعريفا او توصيفا لليسار فيقول انه يقو م في " مدى ادراك هذه الحركة اوتلك او هذا الحزب السياسي او ذاك لحقيقة القيم الكبرى انفة الذكر من الخير والعدل والجمال " ويستدرك" لاسيما اذا اخذنا بنظر الاعتباران – كلمة اليسار تتعارض في الظاهرة واللفظ مع مضمونها المعاصر –السياسي- في اللغة العربية وتراثها ، فنحن عادة ما نطابق كلمة اليمين مع الحق والحقيقة والقوة والمساعدة والخير والجنةعلى العكس من ذلك بالنسبة لليسار –الشمال – وهو خلاف له اسس ومقدمات وجودية وطبيعية وحياتية ، لكنه يرتبط من حيث الجوهر بظروف ثقافية وسياسية ليس هذا مجال الخوض فيها "... من الواضح ان هذا التعريف لا يعرف شيئا ، فكيف سيتسنى لاحد ان يتأكد من " ادراك وتجسيد هذه الحركة او تلك هذا الحزب او ذاك " لحقيقة القيم الكبرى : الخير والعدل والجمال ، التي قلنا انها نسبية تماما وغير محددة اصلا ، سواءا بالنسبة لمن يدعيها او من يحاول ادراكها ، فالشيوعي والليبرالي والفاشي والقومي والرأسمالي والاقطاعي والطاغية وداعية حقوق الانسان والبربري والمتحضر والمسلم والمسيحي واليهودي والبوذي والبراهمي والكونفوشيوسي والمادي واالملحد ...الخ كلهم يدعّون او يؤمنون تماما انهم يسعون بل ويمثلون قيم الخير والعدل والجمال ، فكيف سنتأكد من ان اي منهم قد ادرك بالفعل ، حقيقة القيم الكبرى ! اما الاستدراك ب" لاسيما" فلا ارى معنى له او علاقة بالموضوع ، خصوصا وان الكاتب يتحدث عن ظاهرة شبه مطلقة او ماورائية ، ثم ان المعركة ليست لغوية والازمة لاتتعلق بالالفاظ، يقول الكاتب انه يريد دمج هذا المصطلح عضويا في نسيج الثقافة ومداركها الحقيقية ، وهذا الامر لاينحصربالعربية والموروث العربي الاسلامي فحسب بل هو يعود الى التجربة الانسانية عموما ، فالانسان طوال تاريخه السالف يتطير ويستنكر بل ويخاف الشاذ والغريب ، والبشر قرنوا " السوية " باليمين كون غالبيتهم " ايامن " والعرب منهم وقد قالوا عن الايسر " اعسر " من العسرة ، لكنهم ايضا قرنوا اليسار بالغنى واليسر ، اي السهولة والانفراج ، والقرآن جعل اليسر نقيض العسر ، والعرب لم يتطيروا من اليسار بمعنى "الشمال" فحسب بل تطيروا من كل شاذ ومخالف للسوية ، كما اسلفنا ، فقد كرهوا وتطيروا من ازرق العينين ووصفوه بالشر ، لانه نادر بينهم وغريب في حين ان ازرق العينين يمثل السواد الاعظم بالنسبة لشعوب اوربية عديدة وفي الانكليزية يقترن اليمين بالحق والعدل والصحيح لنفس السبب الذي ذكرنا ، لكن الكثير من لغات البشر تحتوي على الفاظ وكلمات كثيرة تفيد المعنى ونقيضه في آن واحد او ربما بمجرد اضافة او اسقاط او تشديد حرف او صوت ..الخ مما تناولته بحوث لغوية ومقارنة ونفسية واجتماعية وانثروبواوجية مما يطول ذكره ، لكننا لانناقش اصل المصطلح اللغوي او دلالته اللفظية ، انما موضوعنا سياسي ، كما ان افكار البشر الخرافية ومداركهم البدائية واقترانات الاشياء لديهم وعلاقاتها في وعيهم الطفولي ، والعلم والبحث العقلاني شيء آخر . ثم يعرب الكاتب عن نيته الطيبة في ان يكون اليسار لونا " من الوان قوس قزح العراق" اي " اندماجه ودوامه الثابت وتجانسه الطبيعي فيه " وهي مهمة تتاتى من خلال " وعي الذات عبر صياغة الحل النظري والتأسيس العملي لمعنى وقيمة الوجود التاريخي للحركة نفسها ... فاليسار العراقي لم يطرح حتى الان السؤال النظري عن ماهيته ا لذاتية وماهية الهموم الثقافيةالتاريخية الكبرى التي تعذبه ؟ وماهية المهمات التاريخية الفعلية التي يسعى لتنفيذها ؟ ورغم اتفاقنا مع صحة وجدارة بعض هذه التساؤلات والدعاوى ولكن من باب التأصيل وليس من باب ان اليسار لم يطرح حتى الان...الخ فهذا من التجني على الواقع لان اليسار الذي يقصده الكاتب له بنيته الفكرية المعروفة وامتلك على الدوام وثائقه البرنامجية ورؤاه المحددة للواقع وحدد ماهية مهماته التاريخية ، بغض النظر عن صحة واصالة وعيه بتلك الماهية او المهمات والهموم. ولكن عن اي يسار عراقي يتحدث الكاتب ؟من المقصود بهذه الاسئلة والمتطلبات ؟ لنرى..."ومن دون الخوض في كل حيثيات ما كتب على الرغم من شحته وسطحيته فانه لم يتعد في الاغلب ترديد ما سطرته الكراريس السوفيتيه حول ا لضرورة التاريخية للحزب وحتمية انتصار الاشتراكية ومهمات التحرر الوطني وطريق التطور اللارأسمالي وما شابه ذلك من الاشكاليات المفتعلة التي وجدت تجسيدها العملي في انتشار التقليد الفج والركاكة الفكرية والانفلات الذهني...ألخ" الذي " جعل من اليسار حركة تمثيل الهامشية الاجتماعية والثقافية والسياسية " .. من الواضح ان مايقصده الكاتب باليسار العراقي هو الحزب الشيوعي العراقي ، اذن فلا عرب ولا غيرهم بل هو نفسه ، اي الكاتب ، من تقترن لديه لفظة اليسار بالحزب الشيوعي وهو الذي يأنف من اقترانها في الاذهان بالاشتراكية عموما والشيوعية خصوصا ويمنحها بعدا ميتافيزيقيا ، فاي تناقض؟!!وهو يناقض ايضا عبارته من ان اليسار " ليس حركة او تيارا واحدا...الخ"!! ثم يستأنف الكاتب فيدعو اليسار الى التأسيس العلمي والعملي لمنظومة شاملة من البدائل بالنسبة لبناء الدولة والمجتمع المدني وفكرة الحق ونظام المؤسسات الشرعية والثقافية القومية وتأسيس نموذج الوعي الذاتي العقلاني وفلسفة الابداع الحر ومنظومة الحرية الفردية والاجتماعية " اننا لايمكن ان نستشف من خلال ذلك الا دعوة لشمولية مطلقة تتناقض مع كل ما قدم الكاتب ! ثم وعلى فرض انه لايقصد ذلك فان ما يدعو اليه هو مهمات فكرية وثقافية واجتماعية يمكن ان تضطلع بها الانسانية المعاصرة وليس اليسار او اليمين او اية حركة سياسية ناهيك عن ان توضع شرطا او مجموعة منجزات او " مؤهلات " يجب ان يتجاوزها اليسار العراقي لكي يمنحه الكاتب قبوله ورضاه ! 6-ثم يدعو الكاتب اليسار العراقي والعربي الى نفي " ايديولوجيا المستقبل" بفلسفةالبدائل الثقافية ومن خلالها تأسيس ايديولوجيا الاحتمالات المتنوعة والبدائل العقلانية وهي ايديولوجيه ينبغي ان تمثل بصورة علمية دائمة ، مباديء القانون وسيادة المصلحة العامة والمؤسسات الديمقراطية الاجتماعية ( *)، والاستقرار الديناميكي " ان اللغة تعكس الادراك واللغة المشوشة تعكس ادراكا مشوشا بالتاكيد والاّ فما الذي يفهم من كل هذا غير الدعوة الى الديمقراطية والليبرالية وتجاوز العقائد والدوغمات وتناول المستجدات الملموسة بحلول ملموسة وهي كلها دعاوى ليست جديدة بل قديمة تماما تطرح بلغة اكثر عسرا على الادراك ، والدرس يقول ان الاسلوب العظيم هو قول اشياء صعبة بطريقة سهلة وليس العكس ولذلك يسمى سهل ممتنع ، والجديد فيها هو الدعوة الى نفي محورة العمل على حلم مستقبلي واستبدال ذلك بالهتمام بالمعاصرة والمشكلات الواقعيةو بايديولوجيا قائمة على احتمالات متنوعة وبدائل عقلانية تستند الىقيم ومؤسسات الليبرالية ،وذلك كله جزء من حل يقدمه الكاتب الى اليسار يمكن اختصاره بان حل ازمة اليسار يمكن فقط بالغاء اليسار او تحويله كليا !كما سنرى لاحقا يقول الكاتب " ان هذه المباديء والقيم تفترض النضال من اجلها ويمكن ان تتقاسمها مختلف الاتجاهات الفكرية والعقائدية من ليبرالية واشتراكية وديمقراطية وقومية واسلامية معاصرة وشيوعية " بمعنى انها مهام وطنية اجتماعية عامة ، لكنه يطالب هذه التيارات والمدارس المختلفة " بتكامل وعي الذات السياسي وتكامل الرؤيا الايديولوجية تجاه المعضلات والمشاكل الوطنية الكبرى واساليب حلها، اي صياغة منظومة من المباديء الكبرى للتغيير المفترض وطبيعة النظام البديل وغاياته النهائية" فكيف يمكن لاحد ان يطالب بتكامل في الوعي والرؤية الايديولوجية واساليب حل المشكلات بالنسبة لكل هذا التنوع من الاتجاهات الفكرية – نتحدث بالطبع عن علم وليس عواطف وامنيات-واين يمكن ان نجدها الا في وعيه المثالي وارادته الطيبة !! التي يعكسها حبه الجم للحقائق" الكبرى" والمباديء "الكبرى" ثم ان العبارة تنتهي بمطالبتها بصياغة " منظومة كاملة للنظام البديل وغاياته النهائية" وهو عودة الى شمولية يذوب فيها الجميع في اطار فكري وسياسي واحد !!اما اذا كان المقصود هو اتفاق بين مختلف التيارات على برنامج حد ادنى – لايمكن من الناحية الواقعية لاي اتفاق او برنامج من هذا النوع الا ان يكون كذلك-للتغيير الديمقراطي والدستورية والاحتكام الى الحوار في حل المشكلات والشرعية ..الخ فلماذا هذه اللغة المقعرة التي تخدم التجهيل والتشتيت ، وهل بالامكان ، بالنسبة لنظام ديمقراطي ، ان تكون له غايات نهائية ؟! 7- وهو يشترط لبدء هذه المهمة الكبرى" ضرورة النقد الذاتي العقلاني للتقاليد البالية" ويقول" ولعل اولى المهمات العمليات-كذا- تقوم في ضرورة تجاوز التقاليد السياسية الفكرية والايديولوجية السابقة لليسار العراقي " فقدكان اليسار العر اقي ولايزال مزيجا من اليسار التقليدي والمتطرف الراديكالي" ثم نعود الى نغمة ان اليسار جاهل ومتخلف ورومانسي ويستلهم حلوله من بطون الكراريس والنصوص المحنطة ..الخ. فلماذا تقتصر هذه الدعوة على اليسار العراقي فحسب؟ هل ان تجاوزه لتقاليده وايديولوجيته يحرر كل طاقات الشعب ويخلق المعجزات ؟ هل ان الحركة السياسية العراقية بتنوعها الشامل مرتهنة لليسار العراقي بالاطار الذي حدده الكاتب ؟ ام هل ان هذا اليسار هو معوق نهضتها الوحيد وعلى نقده العقلاني لتقاليده البالية يتوقف انجازها لمهامها الكبرى، وكيف ينسجم ذلك مع القول بان اليسار العراقي هو " حركة تمثيل الهامشية الاجتماعية والسياسية والثقافية " !!!يبدو ان المقصود هو مجرد توجيه الطعون لتيار سياسي معين تحت اية ذريعة وتعليق كل تخلفنا ومشاكلنا على شماعته ! وهذا بعد عن العقلانية والعلم بغض النظر عن موقفنا او تحفضاتنا على ممارسات او طروحات هذا التيار المحدد من تيارات اليسار . 8- لكننا نكتشف ما وراء الاكمة ، بعد كلمات قليلة ، انه ليس هجوما على تيار سياسي معين بل هجوما على فكر سياسي/ اجتماعي معين ف"اليسار التقليدي مازال باقيا ضمن حيز النصوص المحنطة ونفسية الصراع الطبقي الفج والمبتذل ورمزية المنجل والمطرقة ولغة الشعارات الهتافية انه لم يتحرر بعد من ثقل الماضي وصراعاته الايديولوجية التي لاتعني شيئا ، عن الماركسية واللينينية والستالينية والسلطة السوفيتية ودكتاتورية البروليتاريا والنضال ضد الامبريالية ومختلف اشكال – العداء- و-الصراع- " اذن فهي دعوة الى نسف كل شيء يسمى يسارا – او سمي كذلك قبل ان يعيد السيد الكاتب اكتشافه وتسميته- وتسفيه حتى فكرة الامبريالية ، الامر الذي يقره الامبرياليون انفسهم والدعوة الى عالم لا عداء ولا صراع فيه ، وهذا عالم لم يتصور او يأمل في وجوده او يدعو اليه اي فكر او مفكر مهما كان مغرقا في المثالية ، فمن الحكومات الرأسمالية الليبرالية التي تقر بواقع التناقض والصراع وفق المصالح فيما بينها وتحدد سياساتها على اساسها في عالم اليوم الى الاشتراكيات الديمقراطية او الديمقراطيات المسيحية ، الحاكمة وغير الحاكمة وانتهاءا بدعاة الرهبنة والتصوف والانعزال والانقطاع والتأمل الذبن شخصوا الشر والشيطان والنفس الامارة بالسوء كاعداء تجب مجاهدتهم و" الصراع" ضدهم و "العداء" لهم! ان مقولة الصراع الاجتماعي موجودة قبل الماركسية ونجد الاشارة اليها واعتمادها احيانا في ارهاصات موغلة في القدم ، اما مقولة الصراع الطبقي الحديثة فلم تعد حكرا على الماركسية بل تبنتها معظم مدارس العلم الاجتماعي ، وتستند معظم البحوث والافكار التي ينتجهاالغرب حاليا اليها كمسلمة ! 9- ويشير الكاتب الى ان ما سبق نتج عن الرومانسية والطوباوية التي تعود الى تصورات وسيكولوجية القرن التاسع عشر الاوروبي اما الحقيقة الحاسمة التي يجب فهم وتقويم الامور على اساسها فهي " تحولات القرن العشرين العاصفة في ميادين العلاقات الاجتماعية والتداخل العالمي في الاقتصاد والثقافة ( * *) ووسائط الاتصال والمعلومات والتكنولوجيا واثرها على تنظيم ونفسية الامم والطبقات والفئات الاجتماعية وشكل الدولة ومستوى تنظيمها" .. ونقول ان هذه التحولات العاصفة نفسها في اساس وصميم انبثاق كل ماشهده ويشهده القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين من اختلافات وتناقضات وصراعات وحروب كان بعضها مروعا بصورة لاتصدق ، كما انه كان في اساس وصميم الاقتراب والعولمه والاتصال وانبثاق وتلمس قواسم مشتركة وتبلور حوارات متعددة ..الخ وليس في ذلك اي تناقض فالتحولات العاصفة تنطوي على قطبين متناقضين في آن. هذا اولا ، اما ثانيا، فان الكاتب يّقر في فقرته بوجود طبقات وفئات اجتماعية ضمن الامم والدول – وهو الذي يسخر من نفسية او وجود الصراع الطبقي كما تقدم- فاذا اقررنا بواقعة وجود الطبقات ، اي مجاميع من البشر ترتبط بمصالح وتطلعات مشتركة تغاير كثيرا اوقليلا مصالح وتطلعات طبقات او فئات اخرى ، اقررنا بانها تتناقض معها ، ولذلك تدخل معها في صراع او تنافس او مباراة ودّية ، سمها انت ما شئت من الاسماء فهذا لايغير من حقيقة الامر شيئا ، انا اسميه الصراع الطبقي ، وارى انه اكثر قدرة على وصف الحال من غيره من التعابير والكلمات. 10- بعد ذلك يعيد الكاتب دعوته الى صياغة منظومة شاملة فكرية وثقافية وسياسية جديدة تعتمد ذات الاسس من مجتمع مدني وشرعية ..الخ لكنه يرى ان ذلك يتطلب " حل البنية التقليدية لاحزاب اليسار بل وازالة فكرة اليسار عبر ادخال آلية المجتمع المدني الى الحزب وتفعيلها الاجتماعي والسياسي وليس العكس كما هو سائد ، بمعنى تخريب الحياة الاجتماعية والسياسية ومحاربة العناصر الاولية الناشئة للمجتمع المدني" .. اذن فبعد ان قررنا ان اليسار مطلق ثم عدنا فقلنا انه مفهوم عام للخير والعدل والجمال يجب الا يقترن بالاشتراكية والشيوعية خوف الابتذال ، نعود لنقول ان التقدم وبناء المجتمع المدني الجديد لايمكن دون حل احزاب اليسار بل وازالة فكرة اليسار ، التي كانت قبل قليل هي التي انتجت مكونات التاريخ البشري!!! بل ويعود الكاتب ليحصر اليسار في " الحزب" الذي يطالبه بادخال الية المجتمع المدني الى بنائه وتفعيلها فيه ، وكأنه حزب حاكم ومطلق السلطة يتوقف تغيير المجتمع الحالي وتداعياته المؤلمة على تغيير بناء ه ، انني اتسائل – ليس دون مسوغ – فيما اذا كان المقال او بعض فقراته منزوعة من سياق ما ، يتناول تجارب " الاشتراكية " المنهارة " في بداية عقد التسعينات ؟!ولنلاحظ العبارة التي تقول" وليس العكس كما هو سائد- سائد ا ين؟!-.. بمعنى تخريب الحياة الاجتماعية والسياسية ومحاربة العناصر الاولية الناشئة للمجتمع المدني" .. ترى اي يسار او حزب هذا الذي فعل كل ذلك لدينا ؟ ان التيار الذي يقصده الكاتب مقموع ومطارد ومشرد طوال ثلاثين عاما بل وقل طوال ستين عاما فكيف تسنى له تخريب الحياة الاجتماعية والسياسية والمجتمع المدني؟ وهل كان ثمة مجتمع مدني ليخربه ؟! يبقى احتمال ان نكون واهمين وان المقصود هو حزب البعث المقبور الذي كان حزبا حاكما بمثل هذه المواصفات – خرب الحياة الاجتماعية والسياسية واجهض اية بوادر للتنظيم المدني وزيفها- وهذا ممكن ، ولكن هذا الحزب لايصنف كماركسي او يساري او سوفيتي ، اما اذا كان المقصود هو دور الحزب الشيوعي في الحياة السياسية في نهاية العقد الخمسيني من القرن الماضي ولبضعة اشهر بعيد ثورة 14تموز ، فهذا موضوع تاريخي آخر ليس هذا محله ، اذن مالذي جاء بهذه العبارة التي تبدو غريبة على السياق ؟ ثم كيف تنسجم المطالبة بازالة فكرة اليسار مع عنوان المقال من البحث عن حل لازمة اليسار ؟ هل يكون حل الازمة بانهاء اليسار نفسه سواءا بالالغاء او تغيير كل اسسه وخياراته ؟ ممكن وهذا الحل يشبه معالجة المريض بقتله وتخليصه من آلآم الداء ، وهو اذن لاينطوي على شيء من الجهد او قدر عميق من المعرفة او ارابة ودهاء في التشخيص ، ثم كيف ينسجم كل ذلك مع القول بان الانجازات الانسانية الكبرى كانت من صنع اليسار ؟ وكيف ينسجم مع السطر الاول من المقال الذي يصف محاربة اليسار بالعبثية ؟ ثم اليس من التضليل والتجني على الحقيقة بل والهلوسة اتهام الشيوعيين التقليديين ، الذين نقول انهم هامشيين تماما ، بتخريب الحياة الاجتماعية والسياسية؟!وكيف يتحول الهامشي بين سطر وآخر الى عنصر حاسم في تخريب حياة اجتماعية وسياسية ، اليس ذلك من تشوش الوعي ان لم يكن من غيابه؟ 11- اذن مالذي وقع تحت تأثيره السيد الكاتب واوجد لديه هذا الاضطراب؟ هل تأثر باجواء انهيار نماذج" الاشتراكية" القائمة في التسعينات فتوهم ان الحزب الشيوعي لدينا كان العنصر الحاسم في تخريب الحياة الاجتماعية والسياسية فحذا مقاله حذو ماكتب عن تلك التجارب من فضائح وادانات ودعوات ، دون وعي؟ هل نسي ماخطه في الاسطر الاولى حينما وصل الى مابعدها ؟ هل وقع خلال كتابته المقال تحت شحنة انفعال قوية بقيت تتصاعد لتنتهي بما انتهت اليه ؟ كل ذلك غريب وعجيب ، لكن تعالوا لنقرأ ما هو اعجب ، فبعد ان ينصح الكاتب بضرورة تغيير لغة الخطاب السياسي العراقي المتخلف بصورة مريعة في الشكل والمعنى والاسلوب- بحسب تعبيره- وضرورة تغيير" ذهنية الشعارات والهتافات الى صياغة شعارات عقلانية" ، تأتي النهاية السعيدة بتطميننا بان هذه المهمات رغم انها غاية في التعقيد الا انها ممكنة التحقيق و " تحقيقها فقط ، هو الذي يعطي لليسار حق تمثيل تاريخه المليء بالانجازات"!!! اذن فهو يسار هامشي اجتماعيا وسياسيا وثقافيا وهو محنط وزائف ومبتذل وهش وركيك ومتخلف وضعيف واخيرا وليس آخرا مخرب ومع ذلك فأن الكاتب يمنحه تطمينا وترضية من لدنه .. فهو " صاحب تاريخ مليء بالانجازات" !! يبدو والحال هذه ان ليس اليسار الذي اراده الكاتب او تخيله في بداية المقال – يسار الحقائق الانسانية الكبرى- هو " المطلق " بل يبدو ان السيد كاتب المقال نفسه هو " المطلق " فهو يخلق ويمحو ويدين ويعفو ويحيي ويميت ، فسبحانه ما اعظم شأنه!!!!
اليسار العراقي المعاصر ، الازمة وخلاص الانفتاح ميثم الجنابي ( جريدة المدى ، العدد20 في 9ك الاول 2003) في العالم العربي والعراق بالاخص عادة مايجري اقتران وربط فكرة (اليسار) بالحركة الاشتراكية عموما وبالشيوعية خصوصا. وهو اقتران ليس دقيقا ، كما انه يبتذل حقيقة الفكرة اليسارية ويقطعها عن تاريخها العريق بوصفها التمثيل النظري والعلمي لقيم الخير (الواقعي) والعدل (الاجتماعي) والجمال (الحسي والعقلي). لليسار بهذا المعنى تاريخه العريق في تمثل وتمثيل الحقائق الكبرى للوجود الانساني. من هنا تجيىء سطحية وضيق افق محاربة اليسار والرغبة في القضاء عليه لان سلوكا كهذا لايجهل قيمة اليسار بالنسبة للوجود الاجتماعي والقومي والانساني حسب ، بل ولم يتعظ من الحقيقة القائلة ان التاريخ الاجتماعي والسياسي للدول والامم يفترض في الحد الادنى وجود النظام والحرية وهما من المكونات التي ابدعتها وساهمت في ترسيخها الجهود النظرية والعملية واليسار. غير ان اليسار ليس حركة او تيار واحدا ثابت المعالم يتسم بحدود نهائية وتامة ، كما حاول اليسار (الرسمي) تجسيده ، ولاسيما ان الاحداث التاريخية قد برهنت بصورة على الانتماء لليسار ، وان الادعاء بالشيوعية والدفاع المستميت عن (نقائها) ليس صكوك غفران لدخول جنة اليسار او جحيمه . ذال يعني ان حقيقة اليسار اوسع من ان يمثلها تيار مذهبي- سياسي ، او فكري عقائدي . اضافة لذلك يمثل حصر مفهوم ومعنى (اليسار) في تيار سياسي معين استعادهة سيئة لنفسيه الاحتواء الايديولوجي والاحتكار العقائدي لمضمونه. واذا كان من الضروري وضع صيغة عامة لهذه (الحدود النهائية) لليسار ، فانها تقوم في مدى ادراك وتجسيد هذه الحركة او تلك او هذا الحزب السياسي او ذاك لحقيقة القيم الكبرى الانفة الذكر من الخير والعدل والجمال ، ولا سيما اذا اخذنا بنظر الاعتبار ان كلمة (اليسار) تتعارض في الضاهرة واللفظ مع مضمونها المعاصر (السياسي) في اللغة العربية وتراثها.فنحن عادة ما نطابق كلمة اليمين مع الحق والحقيقة والقوة والمساعدة والخير والجنة ، وعلى العكس من ذلك بالنسبة لليسار (الشمال) . وهو خلاف له اسس ومقدمات وجودية وطبيعية وحياتية ، لكنه يرتبط من حيث الجوهر بظروف ثقافية وسياسية ليس هذا مجال الخوض فيها ، مع انه يطرح قضية تدقيق المصطلح بالشكل الذي يساعده على الاندماج العضوي في نسيج الثقافة ومداركها التاريخية اذ ان من مهمات (اليسار) الكبرى المعاصرة في العراق كيفية العمل على حياكة النسيج الثقافي السياسي الاصيل من المكونات السياسية والاجتماعية والقومية المتنوعة الالوان بمعنى كيفية المساهمة في جعل لونه مكونا بارزا وجميلا في اللوحة الثقافية – السياسية المستقبلية للعراق. بعبارة بيانية اخرى : اننا بحاجة الى ان يكون اليسار لونا من الوان قوس قزح العراق ، اي اندماجه العضوي ودوامه الثابت وتجانسه الطبيعي فيه، وهي مهمة تفترض اولا وقبل كل شيء، تحقيق وعي الذات عبر صياغة الحل النظري والتأسيس العملي لمعنى وقيمة الوجود التاريخي للحركة نفسها. فاليسار العراقي لم يطرح حتى الان السؤال النظري عن ماهيته الذاتية ، وماهية الهموم الثقافية الكبرى التي( تعذبه)؟ وماهية المهمات التاريخية الفعلية التي يسعى لتنفيذها ؟ ومن دون الخوض في كل حيثيات ما كتب ‘ على الرغم من شحته وسطحيته ، فانه لم يتعد في الاغلب ترديد ما سطرته الكراريس السوفيتية حول الضرورة التاريخية للحزب وحتمية انتصار الاشتراكية ومهمات حركة التحرر الوطني وطريق التطور اللارأسمالي وما شابه ذلك من الاشكاليات المفتعلة، التي وجدت تجسيدها العملي في انتشار التقليد الفج والركاكة الفكرية والانغلاق المذهبي والهشاشة المعنوية والضعف البنيوي ، الذي جعل من اليسار حركة تمثيل الهامشية الاجتماعية والثقافية والسياسية ، اذ لم يتعد ( التنظير ) الفكري ، في الواقع اكثر من ترديد شبه عفوي يمكن حصر مضمونه العام بعبارة ( ايديولوجيا المستقبل)، بمعنى تخليها التام عن المعاصرة واشكالياتها الفعلية بالنسبة لبناء الدولة والمجتمع المدني وفكرة الحق ونظام المؤسسات الشرعية والثقافية القومية وتأسيس نموذج الوعي الذاتي العقلاني وفلسفة الابداع الحر ومنظومة الحرية الفردية والاجتماعية وغيرها من القضاياالتي لايمكن توقع حركة يسارية بالمعنى الدقيق والعمق للكلمة بدونها . الفكرة اليسارية ليست شعارا مهما كان متساميا ، بل هي تأسيس علمي وعملي لمنظومة شاملة من البدائل. وليس هذا التخلي حالة عفوية او طارئة بقدر ما انه يعكس طبيعة ومستوى تطور العراق في القرن العشرين والدور الذي ادته مختلف الحركات السياسية التي يتحمل اليسار مسؤولية كبرى فيها وهي مسؤولية يمكن اختصارها في ميدان الايديولوجية والفكر في واقع فقدان اليسار العراقي والعربي لفلسفاته الخاصة . وهو الامرالذي يجعل من الضروري نفي ( ايديولوجيا المستقبل) بفلسفة البدائل الثقافية ، ومن خلالها تأسيس ايديولوجيا الاحتمالات المتنوعة والبدائل العقلانية وهي ايديولوجية ينبغي ان تمثل بصورة عملية دائمة ، مباديء دولة القانون ، وسيادة المصلحة العامة ، والمؤسسات الديمقراطية الاجتماعية ، والاستقرار الديناميكي وهي مباديء وقيم تفترض النضال من اجلها ويمكن ان تتقاسمها مختلف الاتجاهات الفكرية والعقائدية من ليبرالية واشتراكية ديمقراطية وقومية واسلامية معاصرة وشيوعية .وهو امر يفترض تكامل وعي الذات السياسي وتكامل الرؤية الايديولوجية تجاه المعضلات والمشاكل الوطنية والاجتماعية الكبرى واساليب حلها اي صياغة منظومة من المباديء الكبرى للتغيير المفترض وطبيعة النظام البديل وغاياته النهائية . وشان كل تغيير عملي اولي ان يفترض النقد الذاتي العقلاني لتقاليده البالية . ولعل اولى المهمات العمليات تقوم في ضرورة تجاوز التقاليد السياسية – الفكرية والايديولوجية السابقة لليسار العراقي. فقد كان اليسار العراقي ومايزال مزيجا من بقايا اليسار التقليدي والمتطرف(الراديكالي)وكلاهما يفتقد الى نظريات ذات ابعاد عملية واضحة وهما في تنظيراتهما اقرب الى الشعارات الفارغة والرومانسية الوجدانية ، التي لم تعد ذات قيمة عملية ، لأن حوافزها لاتتعدى اكثر من كونه لغوا مستلهما من بطون الكراريس لاتمثل دراسة الواقع كما هو . فاليسار التقليدي مازال باقيا ضمن حيز النصوص المحنطة ونفسية الصراع الطبقي الفج والمبتذل ورمزية المنجل والمطرقة ولغة الشعارات الهتافية . انه لم يتحرر بعد من ثقل الماضي وصراعاته الايديولوجية التي لا تعني شيئا عن الماركسية واللينينية والستالينية والسلطة السوفيتية وديكتاتورية البروليتاريا والنضال ضد الامبريالية ومختلف اشكال " العداء " و" الصراع" التي تستعيد بدون وعي انفاس الداروينية المغلفة بعبارات ماركسية شديدة الاستهلاك . اما بقايا النزعة الرومانسية فانها تصنع على مثالها تصورات طوباوية حتى في اساليب العمل السياسي فهي تستعيد تصورات وسيكولوجية القرن التاسع عشر الاوروبي ، دون ان تأخذ بنظر الاعتبار حصيلة تحولات القرن العشرين العاصفة في ميادين العلاقات الاجتماعية والقومية والتداخل العالمي في الاقتصاد والثقافة ووسائط الاتصال والمعلومات والتكنولوجيا واثرها على تنظيم ونفسية الامم والطبقات والفئات الاجتماعية وشكل الدولة ومستوى تنظيمها وهي رومانسية يمكن ملاحظة بقاياها في ايديولوجيات اليسار الشيوعي الراديكالي في كل مكان . بينما يفترض البديل الاولي هنا العمل على صياغة منظومة فكرية ثقافية سياسية جديدة في التعامل مع النفس والاخرين تنطلق من ادراك الاشكاليات الفعلية الوطنية والقومية او العالمية ، وتتمثل مباديء المجتمع المدني والشرعية التامة والشاملة في مؤسسات الدولة والمجتمع .وهو امرممكن في حال النفي الفكري العقلاني والثقافي للنماذج الايديولوجية في العلم والعمل . وهذا بدوره يتطلب حل البنية التقليدية لاحزاب اليسار وازالة فكرة اليسار وازالة فكرة المركزية والمرجعية الايديولوجية عبر ادخال آلية المجتمع المدني الى الحزب وتفعيلها الاجتماعي والسياسي وليس بالعكس ، كما هو سائد بمعنى تخريب الحياة الاجتماعية والسياسية وبالتاالي محاربة العناصر الاولية الناشئة للمجتمع المدني . ويتطلب هذا بدوره تغيير لغة الخطاب السياسي العراقي الذي لايزال يتصف بالتخلف المريع في الشكل والمعنى والاسلوب ، واخيرا ضرورة تغيير ذهنية الشعارات وسياسة الهتافات والعمل على صياغة شعارات اجتماعية سياسية وثقافية عقلانية تعمل بصورة غير مباشرة على بناء الحرية والنظام في الفرد والجماعات والمنظمات المهنية . وهي مهمات غاية في التعقيد لكنها ممكنة التحقيق . وتحقيقها فقط هو الذي يعطي لليسار حق تمثيل تاريخه الكبير المليء بالانجازات. * لكل عصر موظة ، او علاج سحري او " محفوظاته " التي تردد عند كل وقفة وتصلح علاجا لكل شيء ، والموظة او العلاج السحري المعاصر هو المجتمع المدني والليبرالية والديمقراطية وليس في ذلك من بأس لكن المثلبة تكمن في انها تعتمد كوصفات جاهزة وعلاجات سحرية بغض النظر عن مستوى التطور التاريخي او طبيعة البناء الاجتماعي . وهي لاتختلف هنا عن التهمة الخطيرة التي كانت توجه الى الشيوعية التقليدية من انعدام الابداع والاصالة ونقل مخططات جاهزة تصلح لكل مكان وزمان. اضافة الى ان الكاتب يعتمد في كل دعواته على اهمية العامل الذاتي والارادة الذاتية في التغيير الاجتماعي التاريخي دون حساب الموضوعي في المعادلة. * * نذكر الكاتب بأن الحربين العالميتيين وقعتا في القرن العشرين اضافة الى عشرات الحروب الاقليمية الاخرى، كما نود تذكيره بان انتشار الشيوعية وتاسيس الحزب الشيوعي في بلد مثل العراق وغيره من البلدان المشابهة عكس هذا التداخل العالمي في الاقتصاد والثقافة.
#عارف_معروف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاخوة حكام العربية السعودية ..رسالة تضامن
-
-قصة الشاعر -طومسون فيتزجيرالد
-
النظام العربي والحالة العراقية...حقيقة الصراع 1و2و3
-
وعي الذات والموضوع: ملامح من خارطة الكفاح العربي الثوري
-
التيار الصدري وجيش المهدي...قراءة اخرى
المزيد.....
-
جراح قديمة وطاقة جديدة في عاصمة الثورة السورية
-
غيراسيموف: قلة التدريب بسبب العقوبات الأمريكية وراء انهيار ا
...
-
دوجاريك: إسرائيل لا تزال ترفض توصيل المساعدات إلى شمال غزة
-
أكثر من مليون قتيل وجريح.. الأركان الروسية تحصي خسائر كييف خ
...
-
حزمة مساعدات عسكرية أمريكية لأوكرانيا بأكثر من مليار دولار ب
...
-
زاخاروفا تعلق على إمكانية رفع -هيئة تحرير الشام- من قائمة ال
...
-
شاهد.. شركة فضاء يابانية تلغي رحلة قمر صناعي بعد دقائق من ال
...
-
مقتل شخصين على الأقل إثر اصطدام طائرة بمبنى شحن في هاواي
-
نتنياهو يمثل أمام المحكمة من جديد بتهم فساد
-
صحة غزة تعلن حصيلة جديدة لضحايا الحرب الإسرائيلية على القطاع
...
المزيد.....
-
الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات
/ صباح كنجي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت
...
/ ثامر عباس
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|