|
فرح كلّه قشعريرة
جمال علي الحلاق
الحوار المتمدن-العدد: 3291 - 2011 / 2 / 28 - 07:46
المحور:
حقوق الانسان
لأوّل مرّة أكتب وأمسح ، وأكتب وأمسح ، لأنّ الحدث الذي أريد الكتابة عنه أكثر ثقلا وأهميّة من الكلمات التي ترتجف فرحاً وهي تحاول الإقتراب من القراءة ، لقد خرج الشارع العراقي أخيراً على الطوق ، أصبح الآن لدينا شارعٌ لا تحمكه المراجع الدينية ولا الأجندات السياسية ، شارع ينطلق من نفسه ليعبر عن نفسه ، لقد كنّا قريبين من نقاوة الإنفعال ، إنفعال الهتاف ، لأوّل مرّة نسمع الهتاف ونتحسّس صدقه ، الهتاف الذي لا يمكن تجييره الا الى الشعب ، والى الوطن .
كنّا نراقب الحدث ونحن ننزف ، نراقب الفضائيات الحكومية وهي تحاول إحباط المشاهدين بأخبار منتقاة بحسب الرغبة ، رغبة المؤسّسة الداعمة ، لكنّنا أيضاً كنّا نترك الفضائيات لهذياناتها ، ونلجأ الى النافذة الأكثر صدقاً ، الى الفيس بوك ، نافذة الحقيقة الجديدة ، كنّا نشعر بفرح جديد ، فرحٌ كلّه قشعريرة ، نرتجف بهجةً ، هكذا خرج الشارع العراقي بهويّة أخرى ، لا علاقة لها إلا بلحظتها الإجتماعية ، هويّة كشفت ثقل التكتّلات السياسيّة ، وثقل المرجعية الدينية على صدر الحياة اليومية ، لقد إلتفتت العين بعيداً ، وما عاد أحد قادراً على استغفالها .
***
كان معلّق الفضائية العراقية يقول وهو يصف التجمّعات تحت نصب الحرية : " إنّ الأعداد قليلة لا يتجاوزون المئات ، وأنّها تطالب بمطالب شخصيّة " ، هكذا حاولوا إجهاض الروح ، لكنّنا رأينا على الضفة الأخرى ( الفيس بوك ) رأينا الأحجار الكونكريتية التي أغلقوا بها جسر الجمهورية ، أغلقوه لا لكي يمنعوا مرور العربات الدخيلة ، بل لكي يمنعوا مرور أيَّ أحد من المتظاهرين ، حاولوا قمع التظاهرة بأيّ وسيلة ، بهذه الطريقة يتمّ تزييف الحقائق ، وهكذا تتمّ كتابة التاريخ أيضاً .
الفضائية التي تمثّل الحكومة العراقية تنصب كاميراتها بشكل ثابت تحت نصب الحرية بينما الحقيقة القصوى كانت هناك على الضفة الأخرى من جسر الجمهورية .
لا تزال المؤسّسة تفكّر بعقليّتها الضيّقة ، وتستخدم نفس الآليات القديمة ، ولم تعِ للآن بأنّ الزمن قد عبر الى مسافات لا تطالها عين الماضي ، الماضي يتقنفذ بطريقة لم تحدث من قبل ، لقد كانت الأرشفة الحيّة للتظاهرة على الضفة الأخرى صفعة حاسمة لعقلية الحكومة والمؤسّسة الداعمة ، تحوّل كلّ متظاهر الى مراسل حي للعالم ، هكذا يفقد الإعلام المركزي مركزيته ، ويتناقل الناس على الأرض كلّها البثّ الحي عبر مراسلين أحياء لا يعنيهم سوى إيصال الحقيقة كما هي بلا تعليق ، نقل الفعل والهتاف دون رفع أو خفض للصوت ، ودون تزويق أيضاً ، نقلٌ حي يشير الى حركة الحياة .
***
أستطيع القول أنّ المراجع الدينية ( سواء أكان السيستاني أو الصدر أو اليعقوبي ) ولأوّل مرّة في تاريخ وجودها تّتخذ قراراً سلبياً الى جانب الشعب وليس ضدّه ، لقد كان قرار إنسحابها من المشاركة في التظاهرة السلمية أجمل وأهم قرار صدر خلال الأسبوع الماضي ، لا أريد التحدّث عن ما تضمّنه هذا القرار من إنتهازيّة هي الهويّة الطبيعية للمؤسّسة الدينية ، لكنّني أريد التحدّث هنا عن الفائدة التي خرج الشارع بها من هكذا قرار .
لقد بات واضحاً للجميع أنّنا الآن نمتلك شارعاً لا يمكن إستغفاله ، ولا يمكن الضحك عليه ، شارعٌ أنضجته المأساة ، المأساة التي تخلق وعياً آخر ، وعياً رافضاً لكلً ما يدعو الى التهميش والإذعان ، شارعٌ متديّن ، لكن بطريقة أكثر تحضّراً ، يعي كيف يتبع الحياة الجديدة ، ويتّقن الإنصات لحاجاته اليومية أكثر من الإنصات لفتاوى المرجعية ، شارعٌ لا يعيش في الماضي ، شارعٌ هو ابن لحظته الراهنة ، ويطالب بإحتياجات لحظته الراهنة أيضا .
***
حاولت الحكومة على لسان ( المالكي ) أن تزرع الرعب والخوف في صفوف الناس ، حاولت بطرق قميئة أن تهبط من عزم الشباب على التظاهر ، فوصفتهم بأسوأ ما تستطيع من صفات ، بعثيون قاعديون إرهابيون مخرّبون ووو ، كان لسان المالكي المفزوع يردّد الكلمات ويبحث عن أخرى ، سانده في ذلك الخط المرجعي وبعض الإنتهازيين من شيوخ العشائر ، وكانت القناة العراقية تبثّ الفتاوى والتصريحات في اللحظة ذاتها التي تبثّ فيها خطاب المالكي .
لقد شنّ الإعلام المؤسّساتي أعتى حملة ضدّ الشباب العازم على التظاهر ، لا لسبب إلا لأنّ التظاهرة كانت بلا جهة سياسية ، ودون مرجعية دينية أيضاً ، أي أنّها كانت تظاهرة خارجة على ما هو مألوف لدى المؤسّسة . كانت خطورة التظاهرة تكمن في أنّها بلا هوية طائفية ولا سياسية ، بل إجتماعية صرفة ، شيئا شعبيا خارج نطاق المحاصصة ، وهذا كان خروجاً على وعي الحكومة بكلّ تدرّجاتها السياسية والدينية ، من هنا نرى تقنفذ المراجع الدينية وهروب بعض البرلمانيين كالجرذان الى جحور يتّقنون العبور اليها لحظة الضيق .
***
لقد أثبت الشارع العراقي أنّه أكثر حكمة ورزانة من المؤسّسة الحاكمة ، وأنّه أكثر سيطرة على أعصابه ، وهذا درس فاجأ الكثيرين مّمن شكّكوا في استعداد الجماهير لتقبّل الديموقراطية ، كان المالكي على رأس المشكّكين بذلك ، حتى أنّه بدا وكأنّه يحاول محاربة الديموقراطية التي جاءت به الى منصبه الوظيفي .
وقد رأينا إنتشار القوّات المدجّجة بالسواد ، والخوّذ اللماعة ، لماذا يتّفق العالم على هذا الزيِّ البغيض ، كما لو أنّهم أسراب قمل في الشارع ، لا أستطيع أن أتخيّلهم غير ذلك ، لقد كانوا كذلك في تونس وفي مصر وفي اليمن وفي البحرين ، ويبدو أنّ هذا النوع من القمل موجود في كلّ بلدان الأرض ، كلّ حكومة تحتفظ بقملها الى وقت الحاجة .
وكانت أشجار الكونكريت تغلق المسامات على عبور المتظاهرين الى الضفة الأخرى ، قال أحد أصدقائي وهو أستاذ في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد : " لقد فرضوا الحظر على تحرّك العربات ، لذا فأكثر أصدقائنا قضوا ليلة الخميس في المناطق القريبة من ساحة التحرير لكي يصلوا الى التظاهرة " .
لقد أتّقنت الحكومة لعبة إغلاق المسامات ، ومع هذا بقي للشارع العراقي النافذة الأكثر حياةً ، والأكثر إخلاصاً للحقيقة ، بقيت لهم عدسات هواتفهم النقالة ، ويقيت لهم نافذة الفيس بوك ومواقع الأنترنيت التي كانت تنقل ما يحدث لحظة بلحظة .
***
لم تخلو التظاهرة من ضحايا ، لا مجرم فيها سوى الحكومة ، يجب أن لا نحاسب الشرطي أو الجندي ، بل المسؤول الذي أنزله الى الشارع ، المسؤول الذي كان يتخفّى كالصرصار وهو يُشرف على التظاهرة من شقوق البنايات ، كان المشهد مافيوياً بحتاً ، وكم كان مهمّاً أرشفة ذلك بعدسات المتظاهرين ، إنّهم قريبون جداً ، ويراقبون كلّ شيء ، يسمعون هتاف الجائع ولا يعيرون له بالا ، كلّ ما يهمّهم هو الحفاظ على الإمتيازات التي تفتح باب اللصوصيّة على مصراعيه .
عشرة قتلى أو يزيدون ، وأعداد كثيرة من الجرحى ، هل يمكن الآن السكوت عن القاتل ، الكلّ سيتنصّل ، الكلّ سيدّعي أنّه ذئب يوسف ، وسيحاولون بأقصى ما يستطيعون أن يديروا أعين الناس عن الضحايا ، المجرم يتّقن لعبة المناورة ، ولعبة إشغال الناس ، لن تتحدّث القنوات الفضائية الحكومية والدينية عن جرائم القتل ، وسيثيرون قضية حرق ستارة هنا ، أو تحطيم باب هناك ، سيحاولوا تجريم الشعب المسالم ، سيحاولوا دائماً جعل الشعب هو المتهم ، وهو السبب الأوّل والأخير في وجود ضحايا .
المالكي متّهم أوّل ، ثمّ كافّة أذرعه وأياديه ، جرائم القتل لا ينبغي السكوت عنها ، بهذه الطريقة قطف صدام حسين أعداد لا تحصى من زهور العراق ، سيخرج الشباب ثانيةً لإحياء الضحايا ، فلنعمل على جعل الضحيّة حيّةً دائماً ، وتطالب قاتلها بحقّها ، أدعوا الى رفع صور الضحايا في التظاهرات القادمة .
***
لعلّ أجمل ما حصل من نتائج للتظاهرة هو قضية ( شلتاغ ) ، هذا الذي قدّم استقالة خطيّة بعد أن تمّ رفضه وطرده من قبل الشارع العراقي في البصرة ، الجميل في الأمر هو هذا التخلّي المؤسّساتي عن أيّ فرد ، حتى ولو كان قيادياً في لحظة السقوط ، فقد رأينا كيف أعلن حزب الدعوة براءته منه ، وكيف تبرّأ المجلس الأعلى أيضاً ، هكذا يكون الساقط منفردا ، وهي لعبة سياسيّة صرفة ، فما دام الفرد قيادياً فهو عضوٌ فاعلٌ ، لكنّه في لحظة السقوط لن يكون سوى جرذ ، يحاول الجميع أن يتخلّص منه ، الكلّ يحاول الحفاظ على رصيده الشعبي ، الرصيد الذي يبدو وكأنّه قوالب ثلج تحت شمس آب .
حاول أحد أصدقائي وهو أستاذ في كليّة المعلّمين في ديالى أن يمدح عقلية ( شلتاغ ) ، قلت له : الشارع العراقي الآن يرى القمامة المتراكمة على الأرصفة ، وفي الممرّات ، ومنها يقيس عمق واتّساع عقليّة المسؤول .
***
والآن ، بعد أن نجحت التظاهرة ، وبعد أن استعاد الشارع العراقي روحه الحيّة ، ستعمل الحكومة بكلّ مؤسّساتها السياسية والدينية على احتواء هذا النفس الجديد ، او إحتواء هذا العقل الجديد على حدّ تعبير الشاعر سليمان جوني .
لقد رأوا إفلاسهم الشعبي ، وسيحاولون بكلّ الطرق أن يكونوا هم من يرفع شعار الإصلاح ، بعد أن أرغمهم الشارع على ذلك ، وعليه ينبغي التحرّك بهدوء ، وأقول للشباب ، لا تتنازلوا عن نصب الحرية فهو مكانكم الحقيقي ، أما هم فليرفعوا لافتاتهم وأدعيتهم قرب مكاتبهم السياسية ، وقرب صوامعهم ومساجدهم .
#جمال_علي_الحلاق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المشي على الحبل : قراءة في اللحظة التاريخية الراهنة
-
المكنسة شعار الثورة العراقية
-
خدمات لا مساجد
-
أزمة الثورة الإنفعالية
-
نحن جيل محظوظ
-
هل يحقّ لنا إغلاق المساجد ؟ قراءة في سطحية الخطاب الإسلاموي
-
أزمة الإيمان والمؤمنين
-
أزمة المعرفة الجاهلة
-
من دكتاتورية الفرد الى دكتاتورية المجتمع
-
الصخرة لا تنزل يا كامو / إعتذار متأخّر لبشرى
-
قلق البوصلة ... الى مَنْ ؟ والى أين ؟
-
نزهة القائد العام للحواس
-
إحباط ليس في أوانه
-
بين كلب جياكوميتي وكلب أبي / صفحة من كتاب أصدقائي
-
آني جدّي قرد
-
مراسيم الدّفن الجميل / صفحة من كتاب أصدقائي
-
الى ليلى محمد أقف على رؤوس أصابعي
-
قراءة منحازة لحادثة أحمد عبد الحسين وتداعياتها
-
لا يزال كامل شياع يقود دراجته بإتّزان جميل
-
علاقتي ببيتهوفن - صفحة من كتاب أصدقائي
المزيد.....
-
ماذا يعني أمر اعتقال نتنياهو وجالانت ومن المخاطبون بالتنفيذ
...
-
أول تعليق من أمريكا على إصدار مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو وغال
...
-
الحكومة العراقية: إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتق
...
-
العفو الدولية: نتنياهو بات ملاحقا رسميا بعد مذكرة المحكمة ال
...
-
البيت الابيض يعلن رسميا رفضه قرار الجنائية الدولية باعتقال ن
...
-
اعلام غربي: قرار اعتقال نتنياهو وغالانت زلزال عالمي!
-
البيت الأبيض للحرة: نرفض بشكل قاطع أوامر اعتقال نتانياهو وغا
...
-
جوزيب بوريل يعلق على قرار المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنيا
...
-
عاجل| الجيش الإسرائيلي يتحدث عن مخاوف جدية من أوامر اعتقال س
...
-
حماس عن مذكرتي اعتقال نتنياهو وغالانت: سابقة تاريخية مهمة
المزيد.....
-
مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي
/ عبد الحسين شعبان
-
حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة
/ زهير الخويلدي
-
المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا
...
/ يسار محمد سلمان حسن
-
الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نطاق الشامل لحقوق الانسان
/ أشرف المجدول
-
تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية
/ نزيهة التركى
-
الكمائن الرمادية
/ مركز اريج لحقوق الانسان
-
على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
المزيد.....
|