تتصرف الولايات المتحدة على الصعيد العالمي كامبراطورية، وأهم ما يميز السلوك الامبراطوري على هذا الصعيد انه بذاته مجسد وصانع القانون الدولي، وان القانون الدولي خارج الممارسة الامبراطورية (الامبريالية) هو عبارة عن نظرية. وكما قال تاكيتوس المعبر الافضل في التاريخ القديم عن الفكرة الامبراطورية الرومانية: "يصنعون مذبحة ويسمونها سلاما". يتركب السلوك السياسي الامبراطوري على الصعيد العالمي من عنصرين اساسيين: كونه مصدر الشرعية الحقوقية على الصعيد العالمي وكونه مصدر التراتبية الهرمية بين الكيانات السياسية والمتحكم بهذه الهرمية. مر التاريخ الانساني بمراحل امبراطورية، كما مر بمراحل انهيار الامبراطورية على الصعيد العالمي بفعل تناقضاتها الداخلية، وايضا بفعل منظومات كونية طرحت نفسها بديلا للامبراطورية على المستوى العالمي، كما فعلت المسيحية كمنظومة قيمية وثقافية ابان انهيار الامبراطورية الرومانية.
وتسلك الولايات المتحدة في المنطقة العربية سلوكا امبراطوريا يشير الى التراتبية ويؤكد مصدر الشرعية، ولكنه ايضا يؤشر الى تناقضات الحالة الإمبراطوري )الامبريالية) الامريكية وحدودها. خذ مثلا السلوك الامريكي على الصعيد العالمي الذي يذهب باتجاه نسبية الحدود الوطنية للدول فيما يتعلق بحقوق الانسان، وجرائم الحرب تحديدا. فمن المفترض ان ينسجم هذا السلوك مع محكمة هاغ بشأن جرائم الحرب خاصة وان الولايات المتحدة نفسها قد بادرت الى هذا النوع من المحاكم ضد قادة الصرب وجرائمهم في الحروب الاهلية البلقانية الاخيرة في نهاية القرن العشرين. ولكن طابع محكمة هاغ القانوني المجرد الذي يتعامل مع الكونية بجدية، يناقض السلوك الامبريالي الذي يلتقي مع الكونية في حالة واحدة فقط، وهي حالة تطابقها معه، (اقرأ ! مع مصالحه الخارجية كما تتمخض عنها ايضا بنيته الداخلية ومناقشاته ايضا) .
تشكل الامبراطورية بحد ذاتها، ولا شيء خارجها، مصدر الكونية. انها ليست مجرد مطبق لها، وهي بالتأكيد ليست اداة من ادوات الكونية، او الحقوق الدولية، او "مجلس الامن" ان شئتم، لمجرد انها الدولة القوية القادرة على فرض منظومة حقوق دولية متفق عليها. ان علاقة الامبراطورية مع القانون الدولي ليست علاقة اداتية باعتبارها شرطياً ينفذ القانون الدولي، بل العكس هو الصحيح، اي ان القانون الدولي هو شرطيها واداتها.
ولكن السلوك الامبراطوري الذي يتخذ شكل قواعد سلوكية عامة وشرعية دولية، لا بد ان ينشىء ايضا المؤسسات والمنظومات القيمية اللازمة لقبول وتفعيل هذه الادوات، ولا بد ان تتناقض كونية هذه الادوات المدعاة مع خصوصيته ومحدوديته في النهاية. فمفهوم محكمة جرائم الحرب هو مفهوم عالمي قد ينطبق على جرائم حرب تقوم بها الامبراطورية ايضا. ولكن هذا يناقض تعريفها كمصدر للشرعية يجعل ما تقوم به بحكم التعريف فرضا للسلم بـ"القوة" عندما يلزم الامر. ويأمل منظرو الامبراطورية ان مجرد وجودها يخلق "نظاما دوليا" تحتاج اقامته في البداية الى حروب وسفك دماء، ولكن مجرد وجوده فيما بعد يجعل الحرب هي الاستثناء، اي الخارج عن النظام. وهذا هو معنى فرض الـ"باكس اميريكانا" على وزن الـ"باكس رومانا" الذي حافظ على استقرار وسلام العالم القديم، حتى لو لزمت لذلك بعض المذابح بين الفينة والاخرى عندما خطر ببال متمرد ان يتحداه.
لم تنشىء الامبراطورية الرومانية الادوات التي تتحداها بالمعنى الواعي للكلمة ولكن البنية الامبراطورية العالمية هي التي مكنت نقيضها، المسيحية، من الإنتشار. ولكن الامبراطورية الامريكية تولد نقائضها بالمعنى الواعي للكلمة، لأن منظومات الشرعية الحديثة ليست دينا امبراطوريا قائما بذاته بل تحتاج للمحاججة الاخلاقية وللمحاججة البراغماتية التي يتبعها النظام الديموقراطي في حياته الداخلية للتبرير اضافة الى مفاهيم الدولة وحق تقرير المصير، كما ان العلوم الحديثة والثورات التكنولوجية والعولمة، ومنظومة الدول الحديثة تؤدي الى مؤسسات تجعل الشرعية تتشيأ خارج الارادة الامريكية اللحظية.
عندها تبدو الامبراطورية نسبية وليست مطلقة. فمجرد محاولة الولايات المتحدة "التهرب" من محكمة مجرمي الحرب في هاغ بعد ان وقعت على وثيقتها التأسيسية، ثم عادت ورفضت الانضمام اليها كعضو كامل، يعني ان الولايات المتحدة قد تحجم ذاتها وتتصرف مثل دولة صغيرة تحتال على القانون. وقد بلغ صغر الامبراطورية حدا جعلها يوم الثالث من آب الجاري توقع اتفاقية مع اسرائيل، تتفاهم فيها "الدولتان" على عدم تسليم اي منهما مواطني البلد الآخر لمحكمة مجرمي الحرب الدولية في هاغ. هذه الاتفاقية لا تشير فقط الى وجود دولتين تتهربان من القانون الدولي، مثل مجرمين صغيرين يتفقان على عدم وشاية احدهما بالآخر. انها تشير ايضا الى ان التوازن بين القيم الكونية ومؤسساتها ومدى تأثيرها على الرأي العام ثم على مجموعات من الدول من ناحية، وبين الامبراطورية وسلوكياتها كمصدر للشرعية من ناحية اخرى قد يحل على المدى البعيد محل التوازن بين "المعسكرين". فالتصرف الامريكي- الاسرائيلي يذكر بايام محاصرة معسكر عسكر آخر في الامم المتحدة الامر الذي كان يجعل الولايات المتحدة واسرائيل يرتبان اوراقهما خارج مؤسسات ما سمي بالشرعية الدولية. ولا تدعي الولايات المتحدة ضمنا في هذه الإتفاقية ان ما تقوم به قواتها خارج الحدود الامريكية لا يمكن ان يعتبر جرائم حرب فحسب، بل ان هذا يسري ايضا على ما تقوم به الدولة اليهودية خارج حدودها المعترف بها دوليا. اي ان الإمبراطورية الكبيرة تفقس امبراطورية صغيرة تمضي في طريقها لا تلوي على شيء.
تبدأ اللاعقلانية الامريكية في المنطقة العربية في المرحلة الراهنة وتنتهي بعملية استثناء اسرائيل من قواعد الشرعية الامبراطورية. فبموجب منطق هذه الشرعية ذاته المستثنى الوحيد هو امريكا لانها هي مصدرها، ولا يوجد مبرر لاستثناء اسرائيل الا اللاعقلانية الامريكية في التعامل معها. والتي وصلت مؤخرا حد التحالف مع اليمين الاسرائيلي واحراج اليسار الاسرائيلي الصهيوني. هنالك اكثر من عنصر لاعقلاني في تحالف اليمين الامريكي المسيحي المتطرف مع اللوبي الاسرائيلي. لقد كنا نقول ان القضية الاسرائيلية هي قضية امريكية داخلية، فبتنا نضيف انها قضية امريكية داخلية متعلقة باللاهوت السياسي الاستيطاني اي بالميتا-سياسة، اي ما وراء السياسة.
ولو كانت الدول العربية دولا ديموقراطية لسهل تبني الشرعية الدولية على مستوى الرأي العام باتجاه استخدام هذه "الاستثنائية الاسرائيلية" من اجل تثبيت رفض "الإستثنائية الامريكية" ايضا والتمسك بالقيم الكونية لمحاربتها، ولسهلت ايضا ترجمة هذا الرأي العام على مستوى عملية صنع القرار العربي الرسمي. ولكن في غياب الحالة العربية القادرة على استغلال هذه التناقضات القائمة فعلا والتي تحجم الولايات المتحدة، لا يدعو الرئيس بوش امم العالم للتصدي لـ"الإرهاب الفلسطيني" فحسب، بل ويعد العدة لضرب بلد عربي واحتلاله، دون توفر حجة شكلية اطلاقا، ودون ان يجهد نفسه بالدفاع عن قراره هذا الا في جلسات الادارة الامريكية الداخلية التي لن نعلم ما يدور فيها الا بعد عشرين عاما "على العايش" في افضل الحالات.
والنقاش الجاري حاليا في العالم الغربي، وحتى في العالم العربي، هو: متى؟ وهل هنالك امكانية لاسقاط النظام؟ وما هي تداعيات ذلك على مستوى المنطقة؟ ومن سيكون هدف امريكا المقبل؟ وهنالك عملية "تحزير" وتخمين في برامج الثرثرة العربية كاننا في برنامج من سيربح مليون قنبلة على رأسه، او من سيربح وزن مدنه قصفاً وغارات؟
والطامة الكبرى ان اسرائيل ماضية في ارهابها لكي يزداد عندنا الشعور بالغبن والمرارة و"الاستثنائية" العربية او الاسلامية، وليتحول الدفاع عن بلد عربي يواجه خطر الهجوم الشامل الى تقاعس وعجز من ناحية،والى تعصب وسياسة هوية ترفض ان ترى طبيعة النظام العراقي الا ضمن المقولة المخففة: "المنطقة كلها ديكتاتوريات".
ان احدى اكبر جرائم الولايات المتحدة هو التعامل اداتيا مع موضوعة الديموقراطية تعاملا يدفع الشعوب المظلومة والمغلوبة على امرها في أحضان السياسة المعادية لهذه الادوات باعتبارها شأنا امبرياليا.
*عضو البرلمان الإسرائيلي "الكنيست"، رئيس التجمع الوطني الديمقراطي- الناصرة.