كلمة الاذاعة 6 / 8 / 2002
"لقد كانت هناك أخطاء تم ارتكابها عام 91، الرئيس السابق (جورج بوش الأب) اعتقد أن صدام لن ينجو من الهزيمة التي لحقت به من جراء طرده من الكويت وقد كان مخطئاً في ذلك، وللأسف صدام مازال موجوداً هناك، وقد خسرنا عشر سنوات خلالها عانى الناس كثيراً...". هذا ما تحدث به "ريتشارد بيرل"، وكيل وزير دفاع امريكي اسبق وخبير معهد انتربرايس الامريكي للابحاث في لقاء له مع قناة الجزيرة، في الثامن من تموز الماضي.
وفي ذات السياق كانت ماركريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا إبان حرب الخليج الثانية، قد نشرت مقالة لها في الـ"وول ستريت جورنال" في الثامن عشر من حزيران الماضي. قالت السيدة الحديدية في مقالتها : "لقد كان تهويل الخوف من احتمال تمزق العراق في حال اسقاط صدام حسين واحدا من الاخطاء التي ارتكبت عام 1991، وادى استمرار صدام في السلطة بعد هزيمته الشاملة في حرب الخليج الثانية الى خسائر لا تقدر بالنسبة للوجود الغربي في المنطقة..."..
و حديث بيرل و تاتشر هذا يتناسق مع تصريحات عديد من مسؤولين في الادارت الامريكية المتعاقبة، في تناولهم لحرب الخليج الثانية ، التي توقفت بقرار مفاجئء قبل ان تنهي كامل مهامها.
ريتشارد هولبروك مساعد وزيرالخارجية الامريكي السابق كان قد اعتبر في برنامج تلفزيوني بث امام ملايين الامريكيين اوائل العام الجاري "الاخفاق الامريكي في انهاء حكم صدام حسين بعد حرب الخليج الثانية أكبر خطأ في السياسة الخارجية الامريكية خلال السنوات العشرين الماضية"!.
أما بوش الاب الذي أمر بايقاف تلك الحرب قبل ان تنهي صفحاتها الاخيرة، وأطلق بذلك العنان للوحش الجريح ليمارس التقتيل والتنكيل بابناء شعبنا ، فلم يكن لديه مايبرر به تلك الخطيئة الكبرى سوى الادعاء بان ازاحة طغمة مجرمي الحرب في بغداد عن السلطة أو أسرها لم تكن من أهداف حرب تحرير الكويت!.
ومن الصعب بمكان النظر الى شهادات بيرل و تاتشر وهولبروك والآخرين المتاخرة باعتبارها تأتي من باب " الاعتراف بالخطأ فضيلة"، أو لمجاراة المثل الشائع "ان تأتي متاخراً خير من ان لا تأتي أبداً" ؟. و لا نظن ان أصحابها يريدون من الاخرين النظر اليها على انها إعترافات متاخرة عن أخطاء تاريخية كبرى ارتكبت بحق شعبنا وبلادنا، يوم إلتقت المصالح والاهواء للحلفاء والاصدقاء على ضرورة مد طوق النجاة للدكتاتور المهزوم في حرب الخليج الثانية، ومساعدته على البقاء في السلطة، بزعم تجنيب العراق مغبة التشرذم والتمزق، في حين لم يكن الامر سوى الاستنفار لإجهاض هبة شعبية عارمة و وأدها في مهدها ؟.
وهكذا وبدلا من ان يقاد مجرم الحرب صدام حسين واركان نظامه الى محكمة دولية على غرار ماجرى لقادة المانيا النازية في محاكم نورنبرغ بعد الحرب العالمية الثانية، جرى إقتياد النظام المهزوم الى خيمة صفوان لتفرض على العراق أثقل القرارات واشدها قساوة في تاريخ المنظمة الدولية، مقابل الحفاظ على حياة أركانه واطلاق العنان لهم لمواصلة الاستهتار والعبث بحياة الشعب ومقدرات الوطن.
وليس عبثاً ان جرى إستثناء القرار اليتيم ( 688 ) الخاص بحماية حقوق الانسان في العراق من الادراج ضمن البند السابع لميثاق الامم المتحدة، على خلاف جميع القرارات الدولية الاخرى، التي يربو عددها اليوم على الاربعين قرارا ، والتي تتعرض في غالبيتها لسيادة البلاد وتكبلها بقيود ثقيلة ولسنين طويلة قادمة.
ليسمح لنا اصحاب الاعترافات المتأخرة من المخضرمين في عالم المناورات السياسية القول ان تصريحاتهم المتاخرة هذه لن تفعل أكثر من نكئ جراح شعب تم غدره في واحدة من احرج لحظات تاريخه المعاصر، و إن كل ما يقال اليوم عن الاخطاء والخطايا ليس بالجديد، وهو ما ظل المواطن العراقي الجريح يصرخ به منذ عام 91.
أما الندم الذي يشعر به بعضهم جراء بقاء دكتاتور العراق في السلطة فلسنا بحاجة لمن يقنعنا انه لا علاقة جدية له بمحنة الشعب العراقي والثمن الباهض الذي يدفعه يوميا منذ 11 عاما، الما وخرابا وتضحيات جسام. و ان الأسف الذي يعبر عنه هؤلاء لأن حربهم توقفت فجاة قبل انهاء كامل اهدافها مرده إعتبارات اخرى تتعلق بوجودهم ومصالحهم. واذا كان هناك ما يجب ان نشكرهم عليه فهو صراحتهم وعدم ترددهم في التاكيد على هذه الاعتبارت والدوافع واعلانها. فـ"السيدة الحديدية"، وهي من اشد المتحمسين حينها لتأديب صدام حسين وتلقينه الدرس المطلوب، اعتبرت في مقالتها المشار اليها، ان ابقاء الدكتاتور فوق دست الحكم في العراق كان "خطيئة لا تغتفر" بسبب الاضرار التي الحقها هذا البقاء بالمواقع والمصالح الغربية في المنطقة ، ولان صدام حسين تمكن من الاحتفاظ باسلحة للتدمير الشامل بما يمكنه من تهديد تلك المصالح. ولم تذكر شيئا عما الحقه هذا البقاء من مآسي ونكبات بالعراق وشعبه، لان هذا ليس من اهتماماتها، ولم يكن من اولويات السياسة البريطانية في يوم ما.
و بعض الساسة الامريكيين حينما يتحدثون عن "مهمة بوش الاب غير المنتهية" وعن خطا التقديرات التي تحكمت في قرار الايقاف المفاجيء للحرب عام واحد وتسعين، انما يعنون بذلك اساسا انهم سهلوا لنظام عدواني البقاء في السلطة ومواصلة تهديد المنطقة ودول الجوار باسلحة الدمار الشامل. و يتوهم من يتصور ان الامريكان في حديثهم عن المنطقة يقصدون شيئا اكثر من تواجدهم ومصالح حلفائهم فيها. و واهم اكثر من يتصور ان المقصود بدول الجوار دولة اخرى قبل اسرائيل، شريكة الولايات المتحدة وحليفتها الاولى .
ومثل هذا القول ليس تجني على الولايات المتحدة الامريكية و لا هو بالاحكام المعلبة الجاهزة بحقها وحق حلفائها. ومن يتابع تصريحات مسؤولي البيت الابيض والبنتاغون حول العراق وتهديداتهم لنظامه سيدرك حقيقة ما نقول.
فعندما يتحدث هؤلاء عن ضرورة ابقاء الحصار على العراق، و جعل نظامه يتقيد بالتزاماته تجاه مجلس الامن ، بما في ذلك قبوله وتعاونه الكامل مع مفتشي الاسلحة التابعين للامم المتحدة ، او حين يؤكدون على ضرورة رحيل صدام حسين وتغيير النظام القائم في العراق، فانهم يؤكدون على الدوام ان ذلك هام ومطلوب لمنع العراق من استخدام اسلحته لتهديد المجتمع الدولي والجوار الذي يعيش فيه، ولضمان أمن واستقرار المنطقة والمصالح الغربية فيها. والى هذه الاعتبارات، التي يجري ترديدها منذ اكثر من عشرة أعوام، أضيف، غداة التفجيرات الارهابية في نيويورك و واشنطن، ان التغيير في العراق بات ضروريا، لحماية الامن القومي الداخلي للولايات المتحدة من خلال منع المنظمات الارهابية من الحصول على اسلحة "قذرة" و"نظيفة" للتدمير الشامل من نظام مهووس بهذه الاسلحة و لا يتردد عن التنسيق مع الارهابيين و دعمهم.
وحينما يتحدث الساسة الامريكيون عن ارهاب العصابة الحاكمة في بغداد، فأن الامر يتعلق في الغالب الاعم بارهابها الخارجي و تهديداتها لدول المنطقة ، اكثر مما يتعلق بأرهاب الدولة المنظم الذي يمارس بحق شعبنا ومناضيله من ابناء المعارضة الشعبية الباسلة و منتسبي قوى المعارضة الوطنية وتنظيماتها.
واذا شئنا تاجيل الحديث عن الدور السلبي لبعض الاطراف الدولية والاقليمية في الثاثير على وحدة قوى المعارضة الوطنية والتدخل في شؤونها الداخلية، فان اصرار الاعلام الغربي عموما على تجاهل الوحدة الوطنية لشعبنا وتقسيمه الى شيعة في الجنوب وسنة في الوسط واكراد في الشمال، يعكس بحد ذاته ان الدرس الاساس لخطيئة إبقاء دكتاتور العراق في دست الحكم بعد حرب الخليج الثانية، التي تحدثت عنها تاتشر، لم يستوعب بعد، او لا يراد له ان يستوعب من قبل الاوساط المتحكمة بالقرار الدولي . وان اصرار هذه الاوساط على هذا التقسيم الطائفي والعرقي لشعبنا يشكل بحد ذاته، شاء أصحابه أم أبوا، خدمة مجانية لدكتاتور العراق، ويساعد في إظهاره والزمرة المحيطة به بأعتبارهم ضمانة أساسية لوحدة البلاد وصمام أمان لحمايتها من التشرذم والتمزق. تماما كما كان الامر يوم ارتكبت " الخطيئة التي لاتغتفر" عام 91، وجرى تمكين صدام حسين من اعادة لملمة اشلاء قواته المهزومة و قمع انتفاضة الشعب واغراقها بدم ثوارها، بزعم حماية العراق من التشرذم والتقسيم على اسس عرقية وطائفية.
إنها لمهزلة حقا ان ينظر الى دكتاتور العراق، بطل الحروب العدوانية الخائبة ومهندس السياسات الطائفية والشوفينية الشائنة، الذي لم يسهم احد من حكام العراق مثلما اسهم وعصابته العابثة في تمزيق وحدة الشعب الى طوائف وشظايا قومية وعرقية، ينظر اليه باعتبارة ضمانة لوحدة العراق ، ولتجنيبه مزالق حرب اهلية مفترضة ومتخلية في حسابات أولئك البعيدين عن حقيقة هذا الشعب وأصالة شعوره وانتمائه الوطنيين وتوقه للحرية والامن والاسقرار، مثلما هم بعيدون عن حقيقة حركته الوطنية وعمق جذورها في المجتمع ووجدان ابنائه؟! .
إن من يعرف شعب العراق الأصيل يدرك جيدا لماذا ظل هذا الشعب على مدى العقد الاخير يستقبل بالسخرية والادانة اللائقتين تلك الطروحات التي كانت تتوهم في زمرة طائفية شوفينية ضمانة لحماية العراق من "البلقنة" و"اللبننة" و "الأفغنة" وغيرها من التنظيرات والمفاهيم الغريبة عن العراق والعراقيين.