|
خواطر من عرس ابنتي
كمال غبريال
كاتب سياسي وروائي
(Kamal Ghobrial)
الحوار المتمدن-العدد: 981 - 2004 / 10 / 9 - 14:50
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
حين أجوس بأفكاري في محيط الظلام والتخلف الذي يرزح فيه وطني مصر، ويرزح معها ما يطلق عليه الصناديد العالم العربي، ويسميه المجاهدون بالعالم الإسلامي، أشعر مع نزار قباني أني أتنفس تحت الماء، وأني أغرق. . أغرق، لكن الأنكى أن الماء الذي أغرق فيه ليس ماءً عذباً ولا مالحاً، وإنما ماء آسن راكد منذ قرون تعبنا من عدها، وأتحسس بيدي وأنا أهوي إلى اللاقرار، أبحث عما أتشبث به، ليطفو بي إلى أعلى، أو حتى يجنبني المزيد من التساقط، أفتش عن بقعة ضوء في جسد الحلكة، مجرد شعاع يخترق جدران الجمود والجهل الأزلية، وغالباً - بعدما يعييني البحث - ما أجدني أتعلق بأذيال ما نسميه الأغلبية الصامتة، أتشبث بها، كما كنت أتشبث صغيراً بطرف فستان أمي، أستمد منه الشعور بالأمان، أفترض أو أتخيل أن الأغلبية الصامتة مازالت بخير، وأن المشاعر والميول الإنسانية والطيبة وحب الناس والحياة مازالت هي صفاتها الأساسية، مادامت غير مهتمة بنشرات أخبار قنواتنا التليفزيونية الموجهة بالسموم والأحقاد والتحريض والتمجيد للقتل والقتلة، ومادامت تدير المؤشر لقناة أخرى إذا ما تعثرت في واحد من برامج ما يسمى بالتحليلات السياسية، والتي لا يتصادف أن تستضيف أكثر خلق الله غباءً وجهلاً ونفاقاً وحقداً، ليكرر كالببغاء ذات العبارات والأكلشيهات الممجوجة عن المؤامرات الصهيونية والإمبريالية والصليبية. وأتمادى أحياناً في تشبثي بالأغلبية الصامتة فأدبج في مقالاتي أنها ذخيرة الغد، وأنها أمل الليبراليين الجدد في صنع غد أفضل، وما أن أنشر مقالي حتى تأتيني التعقيبات التليفونية من أصدقائي، وبالبريد الإلكتروني من القراء المهمومين بالمستقبل من كل أنحاء العالم، يتهمني بعضها بالتفاؤل الزائف، مؤكدين أن الأغلبية صامتة لأنها ميتة ولا رجاء فيها، أو أن هذه الأغلبية هي التي أنجبت المطبلين والمزمرين والمنافقين والفاسدين والمكفرين وسافكي الدماء وقاطعي الرؤوس. أعترف أنني إزاء هذا ألتزم الصمت المتحير، غير المصدق وغير المكذب، فربما أقوم بعملية خداع مكشوفة للنفس وللقارئ، حين أدعي على الأغلبية الصامتة ما ليس فيها، الأمر فعلاً يبقى مفتقداً لإثبات، ومع ذلك لا بأس من سرد بعض ما خرجت به من انطباعات هذا الأسبوع من مراسم عرس ابنتي. في الليلة السابقة للزفاف - والتي نسميها ليلة الحنة – امتلأ منزل أسرتنا القبطية بالأصدقاء والجيران، الكل يزغرد ويغني ويرقص، الكل سعيد كأن العروس هي ابنته أو أخته، كان منظر الجمع مفرحاً بكل المقاييس، لكن أهم مقياس جذب عقلي وقلبي هو مقياس الحب والخير والنسيج المصري الواحد، والذي يستعصي على كل محاولات التدمير والإفساد. كانت غالبية الجمع من النساء، وغالبية النساء من المحجبات والمخمرات، جيران وزميلات زوجتي في العمل وزميلات ابنتي العروس، وقد كان الحجاب هو المظهر الوحيد للتفرقة، وما عدا ذلك الكل سواسية، في إحضار الهدايا العينية أو المالية (النقوط)، وفي التعبير التلقائي عن الفرح والسعادة، وفي الغناء الجميع يغني، نفس الكلمات يحفظونها ويرددونها مع الكاسيت، وأنا بالطبع لا أعرف منها حرفاً لأنها ذات الأغاني الحديثة صاخبة الإيقاع، حتى الرقص وقد تصورت في البداية أن المحجبات لن يشاركن فيه، لكن هذا لم يحدث، شارك في الرقص الكل أمهات وبنات، كان الحب المتبادل بين الجميع، وحب الجميع للحياة وتوقهم للفرح والسعادة أقوى من كل دعوات الكراهية والفرقة والتشرنق والعقد النفسية، باختصار كانت الأغلبية الصامتة المحتفلة في منزلنا تعزف بطريقتها الخاصة لحن الانتصار على قطعان الذئاب وأسراب الغربان والبوم الناعقة بالخراب والكراهية. في الليلة التالية (ليلة الزفاف) تكرر ذات الموقف وإن بمظاهر مختلفة، فقد امتلأت الكنيسة بالجموع، والحجاب يغطي عدداً كبيراً من الرؤوس، الجميع يقف في خشوع لمراسيم الصلاة، يجلس الجميع سوياً ويقفون سوياً حسب تتابع المراسيم، مع مقاطعات بالزغاريد من هنا وهناك. الأغلبية الصامتة إذن بخير، ليس جرياً على ما تقوله احتفالات النفاق وتقبيل اللحى الرسمية، ولكن استقراء للواقع الذي يستعصي على الإفساد. الأغلبية الصامتة محبة للحياة والفرح، ولا يستهويها القتل وقطع الرؤوس والانسحاب من الحياة بحثاً عن جنة لم يحن أوانها. الأغلبية الصامتة كتلة واحدة في فعاليات الحياة اليومية وفي الأفراح والأحزان، ولا يناسبها أن تقسم سياسياً حين يمثلها الشيوخ والقساوسة في احتفالات الدولة الرسمية. الأغلبية الصامتة متجانسة في الأخلاق والعادات والتقاليد، ويلزمها نظام ومناهج تعليمية لا تحدث شرخاً في هذا التجانس، وهي تتلقى تعليمها الديني في المساجد والكنائس وهي المؤسسات الأمينة على الدين، وعلى وسائل الإعلام ووزارة التربية والتعليم أن تلتزم حدود تخصصها وأن لا تتطرق من قريب أو بعيد للأديان تقديساً لها واحتراماً لتعدد الخصوصيات، وحتى تتفرغ تلك الجهات لرسالتها الخاصة والخطيرة، ولإغلاق الباب أمام المتاجرين والمتربحين والمتربصين بالوطن. الأغلبية الصامتة منشغلة بحياتها اليومية كداً واستمتاعاً، ولا يشغلها النضال ضد الصهيونية والهيمنة الأمريكية والحملات الصليبية الوهمية، ألا فلتشل حناجر المزايدين والمنافقين والمتاجرين.
#كمال_غبريال (هاشتاغ)
Kamal_Ghobrial#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ليس رداً على صنديد العروبة عبد الباري عطوان- العراق وفلسطين
...
-
هموم مشرقية 2 - تقييم الذات بين الحقيقة والادعاء
-
الفتاوي القرضاوية ومصير العقارب
-
!شيراك يا سادة يغوص في الوحل، فهل من مغيث؟
-
القتل أقصر طريق إلى الجنة
-
هموم مشرقية 1- البعد الزمني والقيمة المهدرة
-
إلى حضن العروبة يا عربنان - طقطوقة
-
هل حقاً كلنا مقتدى وكلنا بن لادن وكلنا صدام؟
-
الظاهرة الصدامية
-
العولمة. . سقوط وتغير المفاهيم
-
أزمة السلطة الفلسطينية
-
شجرة الكراهية . . من الجذور إلى الثمار
-
قبل تغيير الشرق
-
دوائر الانتماء بين التفاضل والتكامل
-
الليبرالية الجديدة وفضاء يتشكل 6
-
الليبرالية الجديدة وفضاء يتشكل 5
-
الليبرالية الجديدة وفضاء يتشكل 4
-
الليبرالية الجديدة وفضاء يتشكل 3
-
الليبرالية الجديدة وفضاء يتشكل 2
-
الليبرالية الجديدة وفضاء يتشكل 1
المزيد.....
-
ماما جابت بيبي..استقبل الآن تردد قناة طيور الجنة بيبي وتابعو
...
-
المقاومة الإسلامية في العراق تعلن مهاجتمها جنوب الأراضي المح
...
-
أغاني للأطفال 24 ساعة .. عبر تردد قناة طيور الجنة الجديد 202
...
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|