مروان عبد الرزاق
كاتب
(Marwan)
الحوار المتمدن-العدد: 980 - 2004 / 10 / 8 - 11:01
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
كان التصور في البداية ,طرح فكرة مفادها:حاجة سوريا في المرحلة الراهنة إلى التأسيس لتيار معرفي/سياسي يساري ديمقراطي جديد .وبالتأكيد هذه ليست دعوة لفتح " دكان " أي حزب جديد,يدعو إليه ويؤلفه,في غرفة ضيقة, مجموعة ضئيلة من المثقفين عبر مجموعة من الأفكار الجاهزة.إنما هي دعوة للتفكير على أسس جديدة,ونبذ للعقلية القديمة التي سيطرت علينا خلال نصف القرن الماضي والتي قال التاريخ أنها أصبحت بائدة . إلا أن الفكرة استدعت ضرورة تقديم الفكرة – كي لا تكون مبتورة – ضمن تصور عام للمشهد السوري . مما أدى إلى مقاربة هذا المشهد,وملامحه العامة.دون الادعاء بأن هذه المقاربة تشكل أفكاراً نهائية .لأنه لايمكن لأي فرد أو مجموعة صغيرة أن تقوم بذلك مهما كان الادعاء بالمعرفة .إنما هي مسودة ,أو مقدمة ,أو فاتحة,لمناقشة وإنضاج فهمنا للمشهد السوري في المرحلة الراهنة . بالإضافة إلى إنضاج فهمنا حول المسائل الأساسية التي تهمنا كيساريين ديمقراطيين.ضمن "هيصة " الديمقراطية التي تعيشها سوريا منذ أربع سنوات.مناقشة,تتجاوز قليلاً أو كثيراً " ثقافة" المقالة الصحفية ,باتجاه التأسيس لتراكم معرفي/سياسي حقيقي,يساعدنا في الخروج من" الهيصة " المذكورة .باتجاه فعل ديمقراطي حقيقي.
وقد تضمن المقال التالي: قسمين:
القسم الأول :من التأسيس الشمولي إلى التفكك.
ويشمل: 1_ مرحلة التأسيس الأولى ......... ( 1963-1970)
2_ مرحلة التأسيس الثانية والاستقرار (1970- 2000)
3 _ التفكك .......................... (2000- )
4 _ آفاق المستقبل .
القسم الثاني :التحول الديمقراطي .. نحو يسار ديمقراطي جديد.
ويشمل: 1- المعارضة والديمقراطية الجديدة .
2- المجتمع والسياسة والديمقراطية .
3- نحو يسار ديمقراطي في سوريا .
4- خاتمة: بداية الخروج من النفق .
القسم الأول : من التأسيس الشمولي إلى التفكك.
ويشمل : 1 _ مرحلة التأسيس الأولى ......... ( 1963-1970)
2_ مرحلة التأسيس الثانية والاستقرار (1970- 2000)
3 _ التفكك .......................... (2000- )
4 _ آفاق المستقبل .
ـ القسم الأول ـ
عودة إلى التاريخ :
لابد في البداية, وحتى نستطيع تفهم المرحلة الراهنة لسوريا, وبالتالي تلمس آفاق المستقبل, أن نتوقف ولو بالإطار العام عند التاريخ المعاصر الممتد منذ الاستقلال وحتى الآن.و بشكل خاص منذ انقلاب (8آذارعام 1963) الذي أدى إلى استيلاء حزب البعث على السلطة . و خاصة أن الفترة المذكورة لم تحظ بالدراسة الحيادية والعلمية, باعتبار أن تناول تاريخ البعث/السلطة بالنقد والتحليل يعتبر حقلاً محظوراً من قبل السلطة من جهة, وحقلاً غير مهم في نظر المعارضة والمثقفين عموماً من جهة أخرى، ولأن تاريخ ودراسة مرحلة سيطرة حزب البعث على السلطة والذي هو تاريخ سوريا الحديث يحتاج إلى جهود العديد من الدراسات المعرفية في الحقول المختلفة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ......الخ.
لكن هذا لا يمنع من مقاربة الملامح العامة للمرحلة السابقة, وبالقدر الذي يكفي لأهداف هذا البحث. وقد تكون هذه المقاربة مقدمة لحوار علني ومتحرر من الأحكام المسبقة, والتعميمات غير المفيدة.
ويمكن تقسيم التاريخ المذكور إلى مراحل عديدة:
أولاً : مرحلة التأسيس الأولى :
والتي تبدأ في( 8 آذار 1963) بانقلاب حزب البعث واستلامه السلطة بمشاركة الناصريين وضباط حياديين. وكان الهدف الأول تثبيت السلطة الجديدة عبر تصفية الشركاء الذين تحولوا إلى أعداء. وهذا كان يتطلب الاستيلاء على المؤسسة العسكرية .وقد تم في البداية إزاحة الضباط الحياديين ومن ضمنهم الذين شاركوا في الانقلاب وكانوا من قادته .ثم تمت تصفية العدو الأقوى والأكثر خطورة وهو كتلة الضباط الناصريين ,حيث تم تسريح واعتقال وإعدام عدد كبير من الضباط الناصريين أو المحسوبين على التيار الناصري , وخاصة بعد محاولة انقلاب 18تموز 1963التي قام بها الناصريون بقيادة جاسم علوان ,وانتهى بذلك وجود الناصرية المنظم في الجيش وكافة منظماته ..
ومنذ عام 1962,وبعد إعادة تنظيم حزب البعث الذي كان قد حلّ عند قيام الوحدة بين سوريا ومصر , بدأت بوادر تكوّن تيارين تبلورا فيما بعد,وشكلا ما يمكن تسميته بظاهرة اليمين واليسار في حزب البعث .مثّل التيار الأول قيادة الحزب التاريخية وعلى رأسها ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار ,وهو تيار ذو اتجاه قومي يركز على قضية الوحدة العربية و(الرسالة الخالدة) بنزعة صوفية متأثرة بفكر زكي الأرسوذي, ولا يمتلك تصوراً واضحاً حول القضية الاجتماعية ,(قال ميشيل عفلق في إحدى مقابلاته الصحفية: إن اشتراكيتنا تشبه اشتراكية حزب العمال البريطاني) .ومثل التيار الآخر بعض القيادات الشابة من الصف الثاني وعلى رأس هؤلاء من اللجنة العسكرية صلاح جديد وحافظ الأسد, ومن المدنيين نور الدين الأتاسي ومصطفى رستم ويوسف زعين وإبراهيم ماخوس .وهؤلاء كانوا أكثر اهتماما بالمسألة الاجتماعية,وشكلوا القوة صاحبة القرار التي أصدرت قرارات التأميم الواسعة في مطلع (1965)دون موافقة قيادة الحزب التاريخية التي أعلنت براءتها من هذه القرارات على لسان صلاح الدين البيطار.وبعدها مباشرة استطاع تيار اليسار أن يقر في المؤتمر القومي السادس للحزب (بعض المنطلقات النظرية) التي يقال أن لياسين الحافظ دور في وضع مسودتها. وشكل هذا هزيمة أيديولوجية لليمين وصعوداً لليسار الذي اقترب خطوة من الماركسية باعتماد المنطلقات النظرية تعبير ( الاشتراكية العلمية) كبديل عن الاشتراكية العربية. وهذا عجّل بتفجر الصراع بين التيارين , فأصدرت القيادة القومية ذات الأغلبية اليمينية قراراً بحل القيادة القطرية ذات الأغلبية اليسارية, وتم تشكيل حكومة موسعة برئاسة صلاح الدين البيطار المفصول من الحزب تضم وزراء ناصريين لكسب الشارع , وجاء رد الطرف الآخر اليساري بانقلاب عسكري في( 23شباط1966 ).
ويمكن تحديد ملامح النظام في سوريا في هذه المرحلة على الشكل التالي:
أولاً: على المستوى الاقتصادي:
بدأت التأميمات الواسعة في عام 1965حيث تم تأميم البنوك والشركات الكبيرة والمتوسطة, وتمت محاصرة المشاريع الصغيرة, وأممت التجارة الخارجية وبدأ التدخل في التجارة الداخلية على نطاق واسع .
أما في الزراعة , فقد صدر قانون الإصلاح الزراعي المعدل منذ عام 1964وصودرت الملكيات الكبيرة,ووزعت الأراضي على الفلاحين على أساس الانتفاع لا التمليك , وتم البدء بإنشاء مزارع الدولة والتعاونيات الزراعية . حيث كانت الخطة تقضي بالوصول إلى حصر الإنتاج الزراعي بنمطين : الأول القطاع العام ممثلاً بمزارع الدولة , والثاني القطاع التعاوني الذي يجب أن يضم كافة الملكيات الصغيرة المستقلة في تعاونيات إنتاجية ,تستكمل تشكيلها خلال خمس سنوات , ويتم الوصول إلى إلغاء الملكية الخاصة, إلا أن هذا لم يتحقق على الأرض كما هو مطروح .
وبذلك تم وضع الأسس المادية الأولى للسلطة والتي أصبحت الرأسمالي الأول والكمبرادور الأول في وقت لم تكن السلطة تمتلك السلطة فيه أية خبرات حقيقية لإدارة الاقتصاد . مما أدى بطبيعة الحال إلى تراجع العملية التنموية والى العجز الاقتصادي .
ثانياً:على المستوى السياسي والأيديولوجي :
كان الخطاب يسارياً يدعو إلى الثورة الاجتماعية لصالح العمال والفلاحين في سوريا , وعلى مستوى الوطن العربي (لا قامة المجتمع العربي الاشتراكي الموحد ) ,بالإضافة إلى الشعار الأبرز وهو تحرير فلسطين .بهذا الخطاب دخلت سلطة البعث في عداء وقطيعة مع المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ,ومع الأنظمة العربية التي صنفت بأنها رجعية ( السعودية ودول الخليج والأردن ).بالإضافة إلى الصراع التنافسي مع الناصرية , حيث كان البعثيون يعتبرون أنفسهم القوة المؤهلة لقيادة الجماهير العربية لإقامة المجتمع الاشتراكي الموحد .وبالنسبة للعراق فقد حدثت القطيعة منذ حركة 23شباط 1966 وقبل عودة البعث إلى السلطة في العراق عام 1968 . كل هذا أدى إلى عزلة خارجية شديدة واجهتها سلطة البعث بين عامي (1966-1970 ) .
وعلى الصعيد الداخلي فقد تمت ترجمة الخطاب اليساري بالإجراءات الاقتصادية المشار إليها في الفقرة السابقة , بالتوازي مع إقصاء كل القوى السياسية الأخرى ومنع أي شكل من حرية التعبير .ومع أن فكرة الجبهة التقدمية كانت مطروحة إلا أن تجسيدها العملي اقتصر على إدخال وزراء إلى الحكومة بصفتهم الفردية لا كممثلين لأحزاب شريكة .وكانت النتيجة أيضا عزلة داخلية أضيفت إلى العزلة الخارجية . وفي هذا المناخ جاءت هزيمة حزيران 1967 التي أظهرت عجز الأنظمة العربية وخاصة سوريا ومصر.
واثر الهزيمة بدأت تظهر بوادر صراع جديد داخل سلطة حزب البعث في سوريا ,صراع بين تيارين , يسار ويمين جديدين . الأول بقيادة صلاح جديد والثاني بقيادة حافظ الأسد .وكان لهذا الصراع أوجهه الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية :
ففي الجانب الاقتصادي: كان التيار الأول الذي يقوده صلاح جديد يرى ضرورة تعميق الخط الاشتراكي والتوجه إلى إلغاء الملكية الفردية , بينما كان التيار الثاني الذي يقوده حافظ الأسد يدعو إلى التخفيف من دور الدولة في الاقتصاد وإتاحة فرص أكبر للقطاع الخاص .
وفي الجانب السياسي: رفض اليسار الاعتراف بالقرار(242) ورفع شعار حرب التحرير الشعبية إنطلاقاً من أن الهزيمة أثبتت أن الجيوش النظامية عاجزة عن الانتصار على إسرائيل المدعومة بكل ثقل وقوة الإمبريالية العالمية.وتجسد هذا في قرار قيادة الحزب بإلزام قيادة وكوادر الحزب بممارسة العمل الفدائي عن طريق منظمة الصاعقة التابعة للحزب .وفي الداخل تم التأكيد على القيادة الجماعية للحزب والدولة المتمثلة ب (رئيس الدولة والأمين القطري المساعد ورئيس الوزراء ), والعمل على زيادة دور الحزب في الحياة العامة.بينما رأى التيار الآخر الذي سمي باليميني ضرورة الاعتراف بالقرار 242 تلبية لسياسة القطبين العالميين ( أمريكا والاتحاد السوفييتي ),وضرورة الانفتاح على الدول العربية , وفي الداخل العمل بكل الوسائل لتقوية الجيش من أجل تحرير فلسطين , ورفض حرب التحرير الشعبية , وأنه على الحزب أن يلحق بالجيش وبالتالي تقليل دوره في الحياة العامة, لأن الجيش هو الذي أوصل الحزب إلى السلطة, ولولا الجيش لما بقي الحزب في السلطة .
وفي الجانب النظري والأيديولوجي :فقد تسارعت تحولات عميقة في التيار اليساري باتجاه تبني الماركسية . حيث رأى هؤلاء أن المنطلقات النظرية كانت دليلاً منهجيا وفكريا مرحلياً يجب تجاوزه . وتم بدء العمل في تثقيف كوادر الحزب وقواعده بالفكر الماركسي عبر كتب تم تعميمها من قبل القيادة على الحزب .وكذلك عممت القيادة ( مشروع الدليل النظري لحزب البعث ) على قواعد الحزب لمناقشته على نطاق واسع تمهيداً لإقراره في مؤتمرات الحزب ,وهو وثيقة ماركسية بامتياز .وبالطبع اعتبر التيار الآخر هذه التحولات خطراً على الحزب وتؤدي إلى تدميره .
* * *
بدأ الصراع واضحاً بين التيارين في عام 1968 وبلغ ذروته في عام 1969 في المؤتمر القطري الرابع . وانتشر في صفوف الحزب خطابان تحريضيان متطرفان : الأول تم تعميمه في صفوف العسكريين ويقول :إن صلاح جديد يريد أن يحل الجيش ويستبدله بميليشيات شعبية مسلحة من أجل حرب التحرير الشعبية . والآخر يقول أن حافظ الأسد ومن معه من العسكر يريدون القضاء على الحزب والتراجع عن( المكتسبات الاشتراكية ) والدخول في عملية التسوية .
وقد رفض صلاح جديد طلب رفاقه في الحزب ومجموعة من الضباط باستقالة حافظ الأسد باعتباره المسؤول الوحيد عن الهزيمة وبتصويته في اجتماع القيادة القطرية لصالح الأسد, أي ضد قبول استقالته, أعطاه مبرراً للاستمرار. وبالوقت نفسه الشروع بالعمل على ترتيب الأوضاع للاستيلاء على السلطة, مع أن أتباع جديد افهموه بأن "الجنرالات المهزومين يستولون عادة على السلطة إن بقوا في مناصبهم, ليغسلوا عار هزيمتهم بانقلاب يحملون رفاقهم بعده مسؤولية ما جرى".(حوار حول سوريا – محمود صادق)
إلا أن الانقسام أصبح واضحاً في القيادة السياسية والجيش .إذ رفض حافظ الأسد الاستقالة بطلب من يوسف زعين رئيس الوزراء.وقد رفض قادة عسكريون تنفيذ أوامر القيادة بالتوجه إلى الأردن لدعم المقاومة الفلسطينية. في حين نفذها آخرون متجاهلين اعتراض وزير الدفاع حافظ الأسد
وقد رتب الأسد الأمور على كل الأصعدة. داخلياً قال للشيوعيين أنه سيقيم جبهة تقدمية معهم, ووعد الناصريين بتوحيد سوريا مع مصر, وقال للإخوان المسلمين أنه سيحسن علاقته مع السعودية وسيتحالف مع رجال الدين ,ومد الجسور مع البعث في العراق ,وتحالف مع غرف التجارة والصناعة التي أيدته, وأبلغ السوفييت والأمريكان بأنه سيقبل بكل قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي ,وأنه لن يلجأ للعنف وسيلحق المقاومة الفلسطينية به. وبذلك رتب أموره كرجل قواسم وطنية وقومية مشتركة من وزارة الدفاع مستخدماً شبكة من الأعوان انتشرت في طول البلاد وعرضها تكفلت أجهزة الأمن بتجنيدها.
ولذلك لم يستغرق الانقلاب في 16 تشرين 1970 سوى ساعات قليلة حيث قام الأمن باعتقال قيادة الحزب وإعلان البيان من الإذاعة باسم القيادة القطرية المؤقتة للحزب, واعتبار السلطة السابقة "متسلطة مناورة ". وسرعان ما غيرت قيادات الحزب الأخرى رأيها وانضمت إلى الانقلاب والضباط، والمعارضون ذهبوا إلى بيوتهم أو إلى السجن. وقامت بعض المظاهرات الحزبية في دمشق ففرقها النظام دون عناء بواسطة الوحدات الخاصة وسرايا الدفاع... وقام الأسد بعد الانقلاب بزيارة إلى المحافظات السورية وكان استقباله من قبل أوساط الحزب والدولة حافلاً.
* * * *
عند نهاية المرحلة التأسيسية الأولى يمكن إيجاز مجموعة العوامل التي أدت إلى انسداد الآفاق أمام سياسة (صلاح جديد) والتي تتلخص :
- بالعجز الاقتصادي نتيجة سياسة الرأسمالي الأول والكمبرادور الأول, والعزلة الداخلية نتيجة القمع السياسي للأحزاب والقوى الأخرى.
- والعزلة على المستوى العربي , والعزلة على المستوى الدولي التي تمثلت بالعداء للغرب الأوروبي ولأمريكا وللسوفييت,وقد أشيع أن الاتحاد السوفييتي( أرسل إلى صلاح جديد مبعوثاً أخبره بمعلومات استخباراتية حول ترتيبات الانقلاب , وبان السوفييت يمكن أن يعملوا على منع الانقلاب مقابل اعتراف صلاح جديد بالقرار( 242) إلا أن صلاح جديد رفض ذلك).
- ومع أهمية هذه العوامل مجتمعة , إلا أن العامل الحاسم كان الجيش , باعتباره الوحيد الذي يمتلك القوة على الأرض.وقد اصطدمت سياسة صلاح جديد الاشتراكية بكبار ضباط المؤسسة العسكرية. إذ بدأت تنمو داخل الدولة طبقة جديدة انتقلت من شرائح الطبقة الوسطى الاجتماعية وبدأت تتحول إلى طبقة وسطى سياسية أو جهازية عسكرية وأمنية تتحول بدورها شرائحها العليا إلى طبقة دولة مرسملة. وقد تركزت هذه الشرائح بصفة خاصة في المؤسسة العسكرية وكانت محتاجة للتمويل وكانت سياسة النظام تقوم على تقليل هذه الموارد أو التمويل اللازم لهذه الطبقة الجديدة بحجة أنه يجب بناء الاشتراكية وكانت المراهنة على التصنيع الاشتراكي وتطويره. وهناك رأي يقول: "إن النظام والسياسة الاقتصادية الاشتراكية هي التي أنجبت بداخلها حفاري قبر النظام، وأن نظام جديد كان ينجب الأسدية ويستدعيها كما يستدعي الأب الابن، و أن انقلاب الأسد ما كان سيقع لو أن جديد استجاب لحاجات نمو طبقة الدولة وحوّل السلطة إلى قابلة لها بدل أن يجعلها العائق الأساسي الذي يعترض طريقها و يقف في وجهها"(حوار حول سوريا – محمود صادق . )
هذه الأسباب مجتمعة, أدت إلى انقلاب 1970والذي سمي بالحركة التصحيحية والذي لم يلاق أي مقاومة تذكر. وبينما كان صلاح جديد يحلم بالتصنيع والثورة الاجتماعية العقيدة, كان تيار الأسد قد نضج ورسّخ نفسه على صعيد امتلاكه القوة العسكرية للتخلص من التعددية داخل الحزب, إن لم يكن من الحزب كله.
ثانياً: مرحلة التأسيس الثانية والاستقرار:
تبدأ المرحلة الثانية مع الحركة التصحيحية (16 ت1 1970) التي قادها حافظ الأسد, حيث تخلص من كافة أعدائه, أو من يخالفونه الرأي في توجهاته السياسية داخل السلطة. وكان الهم الأول – كأي انقلاب – إعادة بناء واستقرار السلطة الجديدة, المنبثقة من داخل السلطة القديمة. وكان لابد من مرحلة انتقالية استمرت سنتين أو ثلاث لإعادة تأسيس السلطة الجديدة.
أولاً :
ورغم أن تيار الأسد كان يوصف باليمين من قبل تيار صلاح جديد, إلا أن الخطاب الجديد كان يسارياً ابتدأ بالدعوة إلى الحرية (حرية الوطن من حرية المواطن ) وانتهى إلى أنه (لا حياة في هذا الوطن إلا للتقدم والاشتراكية)...الخ. وقد لعبت هذه الشعارات دوراً بالغ الحيوية لفترة من الزمن .
"وقد تحللت السلطة الجديدة من سياسات البعث السابقة وتحدثت عن نفسها كمرحلة جديدة في تاريخ البعث لا ترتبط بأي رابط بما سبقها، بل تلغيه وتقضي عليه ". "وإظهار القيادة الجديدة التي تعد المسرح السياسي الداخلي لقدوم حكومة وطنية وشرعية حقاً تأتي بها إرادة الشعب الحرة "ورافق ذلك تصوير القائد الجديد رجل القواسم الوطنية المشتركة ولابد من نزع الصفة الطائفية عن الرئيس القادم, وأن الحركة ما حدثت إلا للقضاء على القيادة السابقة العلوية بدرجة كبيرة... وهذا الخطاب يرضي الأوساط الإسلامية والعلمانية معاً: لأنها سلطة مسلمة ولأنها ضد مذهبة الدولة.
لقد بدا الأسد للجمهور الواسع كرجل يعد بإنهاء المرحلة البعثية من تاريخ سوريا فقبلوا به ووقفوا معه.
وتبين للسلطة الجديدة أن الحزب ليس حقيقة سياسية في مواجهة الجيش, بل كان حزب الجيش.وبدلاً من تطوير الحزب وتعميق بنيته الفكرية والمعرفية , تم تحويله إلى أداة إعلامية ودعائية وتفسيرية لخطابات السيد الرئيس.ثم تحول تدريجياً إلى وعاء يستوعب كل الراغبين في الانتساب للسلطة والحصول على منافع ومكاسب شخصية .
وكان تعيين أحمد الخطيب من قبل الأسد هو لكسب الوقت لإعداد المسرح إعداداً متأنياً وذلك عبر خطاب أن الشعب هو الذي سيختار رئيسه المقبل .!
ثانياً :
استيعاب القوى السياسية ونخب المجتمع, من أجل تقوية السلطة داخلياً. ولذلك تم تشكيل الجبهة التقدمية الوطنية والتي تألفت من خمسة أحزاب قومية وشيوعية هي "حزب البعث – الاتحاد الاشتراكي – الوحدويون الاشتراكيون – الاشتراكيين العرب – الشيوعي ". وفي الحقيقة إن قيام الجبهة لم يؤد إلى مشاركة الأحزاب السياسية في الحكم, بقدر ما كان إلغاء لهذه الأحزاب: فهي أحزاب غير معترف بها، لا تملك مقرات علنية وصحف ومراكز علنية, وتم تقييدها بمنهاج البعث وقراراته. وأعطيت الأغلبية لحزب البعث،" بحيث أنه بطريقة ديمقراطية يمكن للبعث أن يرفض أي طلب يتقدم به أي من أعضاء الجبهة غير البعثيين." بالإضافة إلى المساهمة في تفكيك هذه الأحزاب وتقسيمها: إذ أصبح كل حزب اثنين، أما الحزب الشيوعي فانقسم إلى أربعة أحزاب. فكانت الجبهة غطاء ديمقراطياً لكل ممارسات وسياسات السلطة. من جهة أخرى سيطرة السلطة على القوى المجتمعية التي تمثلها أحزاب الجبهة, وذلك برشوتها بإعطائها مقاعد في كافة مؤسسات الدولة (المجالس المحلية, مجلس الشعب, الوزارات...الخ).
بالإضافة إلى ذلك: تم حرمان المجتمع من أي قوى سياسية أو مجتمعية خاصة به. وذلك بتحريمه قيام أي حزب سياسي خارج إطار الجبهة، وإن أي رأي خارج إطار الجبهة هو بمثابة خيانة للوطن. وإلى جانب ذلك تم غض النظر عن نشاط الأحزاب الإسلامية التي كانت السعودية تدعمها أمام أعين السلطة. كذلك تم إصدار دستور جديد للبلاد 1973 , تضمن أن "الحرية حق مقدس تكفله الدولة.. وكذلك حرية الصحافة والطباعة .. وحق الاجتماع والتظاهر سلمياً " (الفصل الرابع), كذلك "الاقتصاد في الدولة اقتصاد اشتراكي يهدف إلى القضاء على جميع أشكال الاستغلال.." ( الفصل الثاني من الدستور السوري).
ثالثاً :
منذ البداية كان أمام السلطة إعادة بناء أدوات السلطة الأساسية وهي الجيش والأمن. فقامت السلطة بتجنيد الأعداد الكبيرة من العاطلين عن العمل, ومن المهاجرين من الريف في صفوف الجيش والأمن، وتم تشكيل سرايا الدفاع والوحدات الخاصة والتي كانت مهمتها الأساسية الدفاع عن السلطة في وجه أي تهديدات داخلية. وأحدثت فروع أمنية لم تعد تحصى (أمن عسكري وأمن سياسي وقوى جوية .....الخ)، ونشرت عناصرها ومخبريها في كل مكان. في الشوارع وأماكن التجمعات, وفي كافة المؤسسات الإدارية والاقتصادية. وأصبحت تتدخل في كل شاردة وواردة، وترتبط ارتباطاً مباشراً بالرئيس. وهي التي أصبحت تقوّم أفراد المجتمع وتصنفهم بين معاد وحيادي, كما تقوّم أفراد الحزب وتتولى تصنيفهم وترقية بعضهم أو تجميدهم, وكما تقوّم عمل الحكومة والوزراء وأعضاء مجلس الشعب ومجالس الإدارة المحلية, والقضاة وموظفي القطاع العام وعماله... وتم إحداث مكان للأمن في كل مؤسسة عسكرية أو إدارية خدمية أو اقتصادية مترافقاً مع هيئات الرقابة الداخلية, واللجان المركزية للرقابة والتفتيش... وكان الرأي الأول والأخير للأمن في اختيار جهاز الدولة كله، ومراقبة أفراده . طبعاً بما فيه رئيس الحكومة والوزراء....
إلى جانب أجهزة الأمن تم تشكيل سرايا الدفاع بقيادة رفعت الأسد وتم انتقاء عناصرها بدقة متناهية (حيث وصل عددها إلى 55 ألف). وكانت عناصرها تجول في البلد دون أن يكون أحد قادراً على ردعها مهما كان نوع العمل الذي تقوم به.
وتم تحديث أسلحة الجيش بأسلحة سوفييتية ضمن اتفاقية دفاع مشترك. وتحت شعار التوازن الاستراتيجي مع العدو الصهيوني. وقد أصبح واضحاً بدون أي التباس, وخاصة بعد الثمانينات "أن السلطة هي سلطة أجهزة الأمن والجيش... وأما الحزب والحكومة والجبهة والسلطة التشريعية والقضائية والصحافة... كلها ليست سوى أدوات لهذا الجهاز المتحكم في البلاد... أي وظيفتها واجهة إدارية تقوم بدور التغطية على طابع السلطة العسكري الأمني"، حتى أن سلوك طبقة الوزراء والمدراء تجاه دوائرهم أصبح لا يختلف عن سلوك أي قائد كتيبة عسكرية, أو رئيس فرع مخابرات.
والشيء الأهم هو بروز الرئيس باعتباره شيئاً مقدساً لا يخطئ. فهو الذي يمثل كل المجتمع وكل فرد في المجتمع، فهو الضابط الأول, والطالب الأول، والعامل والفلاح الأول....الخ. وأي انتقاد لشخصه يعتبر جريمة كبرى. وإذا كانت هناك عيوب ما فهي حتماً بسبب الواجهات (الحزب والحكومة والجبهة ...الخ) وأصبح الرئيس هو كل شيء في السلطة، وصلاحياته شاملة، وبيده كل السلطات: فهو الأمين العام للحزب والقائد العام للقوات المسلحة والرئيس للسلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية، بالإضافة إلى ارتباط أجهزة الأمن بكافة فروعها به شخصياً.
رابعاً :
لم يكن ممكناً للسلطة أن تقوم بما سبق ذكره دون سيطرتها على الموارد داخل البلد, ومحاولتها إيجاد منافذ جديدة لموارد اقتصادية في الخارج, ولم يكن النفط آنذاك يشكل مورداً للسلطة.
والشمولية في السيطرة العسكرية والسياسية تفترض مسبقاً السيطرة الاقتصادية. وقد تم التنازل جزئياً لغرف التجارة بالسماح للتجارة باستيراد بعض المواد وضمن سقف محدد. إلا أن السلطة استمرت متمسكة بملكيتها للقطاع العام الصناعي وسيطرتها على القطاع الزراعي (الحبوب والقطن والتبغ والشوندر...الخ)، حيث تمثلت هذه السيطرة بتحكمها بالنوع الذي يجب على الفلاح زراعته وتزويده بالبذار والأسمدة...الخ، ومن ثم تحديد سعر المنتوج... أي أن الإنتاج الزراعي بقي محكوماً بسيطرة الدولة رغم ملكيته من قبل الفلاحين،. فالموارد الاقتصادية للسلطة تمثلت في السيطرة على الفائض الاقتصادي في كل القطاعات: الصناعة والتجارة والزراعة. إضافة إلى ذلك المساعدات التي قدمتها السعودية ودول الخليج العربي بعد حرب تشرين 1973 باعتبار أن سوريا تخوض حرباً قومية نيابة عن العرب. وكذلك ثمناً لمواقف سوريا ضد مصر وخاصة بعد اتفاقية كامب ديفيد, ودخول القوات السورية إلى لبنان, وكذلك عداء سوريا للعراق والذي قبضت ثمنه من إيران خلال الحرب الإيرانية العراقية, ووقوف سوريا إلى جانب قوات التحالف عام 1991 وتلقيها المساعدات من دول الخليج والسعودية ... وهذا بالإضافة إلى المساعدات السوفيتية المستمرة. وقد سمى أحدهم هذه السياسة البراغماتية (بنمط الإنتاج السياسي) للسلطة، (والذي يعني أن السلطة تقوم بسياستها لقاء قيمة مادية تقبضها ثمناً لمواقفها السياسية).(حوار حول سوريا) إن هذه الموارد كانت هامة جداً لتمويل أجهزة السلطة من جهة, وإحداث نشاط اقتصادي ملحوظ خلال عقد السبعينات.
ومن الضروري هنا التمييز بين اقتصاد المجتمع واقتصاد السلطة، فقد كان الرئيس الراحل حريصاً منذ البداية (1970) على تأمين موارد دائمة لأجهزة السلطة المختلفة (الأمنية والعسكرية) باعتبار أن السلطة لا تقوم بدونها. ورغم كل الأزمات التي مرّت بها سوريا منذ السبعينات وحتى نهاية القرن، إلا أن السلطة ظلت غنية بالمقارنة مع فقر المجتمع فهي تسيطر على كافة الفائض الاقتصادي الداخلي, وهي الرأسمالي الأول والتي منعت رسملة المجتمع، أي وجود رأسماليين إلى جانبها. وحين تنازلت في الثمانينات والتسعينات للرأسمال الخاص,كان هذا التنازل ليس كلياً، إذ غالباً ما كان هذا( الرأسمال الخاص) مرتبطاً برموز من السلطة مثل (نذير هدايا – رفعت الأسد.. مثلاً). أو كانت السلطة تكبل هذا الرأسمال بقوانين وبيروقراطية وفساد تمنعه من النمو منفرداً. والمسألة ليست محصورة بعدم قيام رأسماليين مستقلين فقط, بل تدني المستوى الاقتصادي والمعاشي لكافة فئات المجتمع إذ أن الهم الأولي كان تأمين موارد للسلطة, والفائض يقدم للمجتمع عبر مشروعات مختلفة (تعليم, صحة , كهرباء...). إلا أن هذا الفائض لم يكن كافياً لتأمين أساسيات المعيشة لأفراد المجتمع.
وقد اعتمد اقتصاد السلطة، بالإضافة إلى الفائض الاقتصادي الداخلي, على المال السعودي والخليجي، وكذلك دعم السوفييت. ومع انقطاع هذا الدعم في الثمانينات أتى إنتاج النفط ليشكل مورداً هاماً. وهذه الموارد هي التي أدت إلى عدم رضوخ الرئيس الراحل إلى إعادة هيكلة اقتصاد الدولة والمجتمع بما يتناسب مع وصفات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي الليبرالية العولمية الجديدة الداعية إلى خصخصة القطاع العام وتقليل الإنفاق الحكومي...الخ.
وقد ساعد سوريا في ذلك عدم وجود مديونية على سوريا تستند إليها أجهزة العولمة الجديدة لفرض وصفاتها على سوريا (كما حصل في مصر ولبنان والأردن والمغرب)، وتعتبر هذه نقطة ايجابية للاقتصاد السوري.
خامساً:
وقد استثمرت السلطة في سوريا الوضع الدولي (الحرب الباردة) والوضع العربي بشكل ساعدها على الدعم ثم الاستقرار. فتم الاعتراف بالقرار /242/ إرضاءً للسوفييت والأمريكان والأنظمة العربية. ثم جاءت حرب تشرين 1973 ليتم تصويرها كحرب لتحرير الأراضي العربية, وكان الخطاب السوري قومياً وتحريرياً ويسارياً. ثم التدخل السوري في لبنان /1976/ بموافقة عربية ودولية لإيقاف امتداد المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية, ثم قيادة سوريا لمقاطعة مصر إثر اتفاقية كامب ديفيد/ 978/ وتحالف سوريا مع السعودية ودول الخليج ضد العراق /رغم وعود الأسد للوفود عند قيام الحركة بأنه سيقيم الوحدة مع العراق/ ...
هذه العوامل السابقة مجتمعة (الداخلية والخارجية العربية والدولية) هي التي أسست لاستقرار السلطة, وكان عقد السبعينات مزدهراً اقتصادياً وسياسياً, وكان الخطاب القومي والتحريري واليساري والإسلامي معاً هو خطاب السلطة السائد. وكان القمع السياسي للقوى المعارضة والتي كانت جميعها يسارية (حزب البعث الديمقراطي "جماعة صلاح جديد", والحزب الشيوعي المكتب السياسي, ثم حزب العمل الشيوعي واتحاد الشغيلة وفصائل وجماعات يسارية صغيرة) في الوقت الذي كانت فيه الأحزاب الإسلامية تعمل بحرية تحت راية الدين وبناء المساجد والمعاهد الدينية بدعم من السعودية وبمعرفة السلطة إلا أن القمع المذكور للقوى السياسية المعارضة لم يكن عنيفاً جداً. إذ كانت السلطة تكتفي بالسجن لأشهر قليلة للمعارض السياسي. حيث كانت السلطة في وضع مريح إلى حد ما. ولم يعد هناك ما يهدد سلطتها فعلياً على الأرض . بالإضافة إلى أن الوضع الاقتصادي بدا منتعشاً. وكذلك ليس هناك أية توترات خارجية.
عند نهاية العقد المذكور:
بدأت تلوح في الأفق/ 978 /أعمال مسلحة طائفية بدأها الأخوان المسلمون وكان أبرزها حادثة مدرسة المدفعية في حلب(1979). ومنذ ذلك الوقت دخلت سوريا النفق المظلم. الصراع على السلطة بين السلطة والأخوان المسلمين. هذا الصراع الذي تجسد طائفياً أحدث شرخاً اجتماعياً أحيا فيه العلاقات الطائفية وما قبل المجتمعية لم يكن يعرفها المجتمع من قبل، أو لنقل أنه كان يتجاوزها بالتدريج.
وانتهى الصراع المسلح بين السلطة من جهة والأخوان والبعث العراقي من جهة أخرى بانتصار السلطة بشكل كاسح منذ 1982 وكانت أهم النتائج:
- سيادة العنف، ليس على الأخوان والمعارضة الأخرى فقط، بل على المجتمع كله. فالاعتقالات والقتل على الشبهة طالت عشرات الآلاف من المجتمع. إذ لم يكتف النظام باعتقال أو إعدام أي متهم, بل امتدت الاتهامات والاعتقالات إلى درجة القرابة الرابعة والخامسة... ولا أحد يعرف حتى الآن العدد الحقيقي لضحايا العنف الفظيعة التي يتحمل مسؤوليتها النظام والأخوان المسلمين معاً.
- تعزيز الطائفية وإحيائها, وظهر إلى السطح الصراع باعتباره صراع سني – علوي، وهذه من أخطر النتائج والتي مازالت مستمرة حتى الآن.
- إعادة احتواء غرف التجارة والصناعة والنقابات من جديد بعد تبديل طاقمها (المؤيد للإخوان)، وتنازل السلطة برفع سقف الاستيراد والتصدير للرأسمال الخاص التجاري.
- تضخم الأجهزة الأمنية وتمتعها بصلاحيات غير محدودة لسحق المجتمع, بالإضافة إلى سرايا الدفاع التي تم انتقاء عناصرها على أساس طائفي والتي عبثت بالبلد كما شاءت دون أي رادع.حتى هزيمة رفعت الأسد عام / 1984/.
- وبذلك يمكن التأريخ لنهاية السياسة في سوريا منذ بداية الثمانينات على مستوى السلطة, ومستوى المجتمع أيضاً،وعاش الجميع تحت سيادة كابوس القوة الأمنية العارية . .
بعد انتهاء الصراع المسلح مع الأخوان بالداخل، بدأ الغزو الإسرائيلي إلى لبنان 1982 ، فظهرت سوريا بموقع الضعيف والعاجز واستطاعت القوات الإسرائيلية احتلال بيروت. ورغم اتفاق أمريكا وسوريا (عبر جولات فيليب حبيب آنذاك) على أن لا تضرب إسرائيل القوات السورية في لبنان، إلا أن هذا الاتفاق لم تنفذه إسرائيل وضربت إسرائيل القواعد الصاروخية السورية... وشاركت سوريا فيما بعد بإخراج المقاومة الفلسطينية من بيروت 1982 إلى تونس.
ثم جاء تمرد رفعت الأسد 983-984 الفاشل. وتخلص الرئيس من آخر منافسيه, وهو أقرب الناس إليه, والذي كان له دور كبير في التخلص من الأخوان المسلمين .
وساد السكون في سوريا بعد ذلك... وبالإضافة للركود السياسي, ساد الركود الاقتصادي عقد الثمانينات تمثل في عدم قدرة السلطة كرأسمالي أول على متابعة التنشيط الاقتصادي (الذي بدأ في السبعينات)، وبالتالي عدم القدرة على تطوير القطاع العام وتامين السلع الضرورية للمجتمع. وكلنا يذكر الأزمة على الأفران والسكر والشاي والزيوت... الخ). بالإضافة إلى ذلك بدأت ملامح انهيار الاتحاد السوفييتي وتوقف دعمه...
منذ بداية التسعينات, تنازلت السلطة لأول مرة بشكل واسع على المستوى الاقتصادي للرأسمال الخاص بإصدار المرسوم رقم 10/1991/ والذي يسمح للرأسمال الخاص بالاستثمار. وهذا ما أدى إلى تنشيط الحركة الاقتصادية لسنوات قليلة. إذ لم يستطع الرأسمال الخاص /ولأسباب متعددة/ أن يشكل رافعة اقتصادية وينتشل البلاد من ركودها عبر خطة اقتصادية تنموية مستمرة.
ورافق ذلك مشاركة القوات السورية في حرب أمريكا ضد العراق /991/ في محاولة لعودة سوريا إلى الساحة العربية والدولية وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي, في محاولة لإرضاء المال السعودي والخليجي وأمريكا.
كذلك بدأ إنتاج النفط في سوريا منذ بداية التسعينات, والذي أصبح يشكل مورداً هاماً للسلطة. وكانت حسابات النفط لا تخضع لأية مراقبة من الحكومة, كما أنها لا تدخل في حساب الميزانية إلا أنه شكل مورداً هاماً لأجهزة السلطة.
المرحلة الثالثة ـ التفكك :
يمكن التأريخ للمرحلة الراهنة – المرحلة الثالثة لسلطة البعث في سوريا – برحيل الرئيس حافظ الأسد في 10/6/2000
لقد أورث الرئيس الراحل الرئيس الجديد انتقالاً هادئاً للسلطة، مدعوماً من رفاق الأب القدامى الذين قاموا بتعديل الدستور بسرعة قياسية ليتناسب مع عمر الرئيس الشاب، وأجهزة أمنية تسيطر على كافة مفاصل الحياة وتعد أنفاس الشعب وتخنقها، وشعباً مسالماً هادئاً، يجد لقمة عيشه بصعوبة ويخاف الكلام ويخاف المستقبل وماذا يمكن أن يحمل له من مصائب جديدة.
ويمكن تحديد ملامح سوريا عند نهاية القرن العشرين بالسمات التالية:
1ـ ركود اقتصادي عام:
توقف لمعدل النمو الاقتصادي, وتزايد حجم البطالة حتى وصل إلى نصف مليون عاطل عن العمل، وتردي الوضع المعاشي للفئات المتوسطة والصغيرة، فالأغلبية يعيشون تحت خط الفقر.
2 ـ أزمة سياسية واجتماعية تمثلت في:
ـ موت الحياة السياسية: حيث كان لا أحد يتكلم في السياسة عدا الرئيس وحده. وتم استئصال كافة القوى المعارضة، بغض النظر عن الاتجاه (يميني أو يساري) على يد الأجهزة الأمنية التي شكلت أخطبوطا يسيطر على كافة مفاصل المجتمع والدولة وتراقب حتى أنفاسه وأحلامه .
ـ وهذا أدى بطبيعة الحال إلى انتشار الفساد في كافة مفاصل المجتمع والدولة وانتشر عمودياً وأفقياً كانتشار نقطة حبر في كأس ماء، إذ لم يعد الفساد مقتصراً على دوائر السلطة فقط، بل امتد ليشمل المجتمع كله، وهذه من أخطر المشاكل.
وتشكلت أيضاً عصابات سمسرة المناصب والتهريب والكسب غير المشروع عبر النهب للأموال العامة التي تسيطر عليها السلطة. وبفضل الاستبداد واستمراريته تم إحياء العلاقات العشائرية والعائلية والطائفية كبديل عن العلاقات السياسية والطبقية والاجتماعية المدنية الحديثة, وانحباس الأزمة الكردية بحرمان الأقلية الكردية من حقوقها الثقافية والسياسية. وتم تذر ير الأفراد واغترابهم ولامبالاتهم تجاه مسائل واستحقاقات الوطن الكبرى. ورحم الله "شكري القوتلي" الذي أوصى عبد الناصر بعد أن تنازل له عن رئاسة الجمهورية بأنه سيجد صعوبة في حكم سوريا بقوله: "لأنكم ستلقون شعباً يعتبر جميع أفراده أنفسهم رجال سياسة، ونصفهم قادة وطنيين، وربعهم أصحاب رسالة، وعشرهم على الأقل فوق البشر".(هنري لورنس،اللعبة الكبرى,ترجمة د.محمد مخلوف,دار قرطبة,قبرص 1992صفحة180). لنجد بعد نصف قرن بأن هذا التوصيف انتقل إلى نقيضه. لكن ربما إلى حين وليس إلى الأبد.
3 ـ تزايد خطر المشروع الصهيوني الأمريكي:
المتمثل باستمرار احتلال الأراضي السورية منذ 1967، والقتل اليومي للفلسطينيين في الداخل، ثم احتلال أمريكا للعراق، واستراتيجيتها لإعادة هيكلة الشرق الأوسط من جديد، وإزاحة كل من يعترض سياساتها بدعوى حربها ضد الإرهاب، والتهديدات الأمريكية المباشرة لسورية وتصنيفها دولة داعمة للإرهاب وحصارها (حديثاً قانون محاسبة سوريا)، والأفق غير الواضح لاستمرار هذه التهديدات وتصعيدها أكثر... هذا كله في الوقت الذي لا تملك فيه سوريا أية قوة لمواجهة هذه الأخطار في ظل هزيمة العرب جميعاً أمام أمريكا وإسرائيل.
4 ـ مخاطر العولمة الجديدة:
باعتبارها مشروعاً عالمياً لليبرالية الجديدة المتمركزة في العالم الصناعي المتقدم وبقيادة أمريكا التي تسعى لإعادة هيكلة اقتصاديات العالم المتخلف وفق حاجيات نموها للسيطرة على الفائض الاقتصادي لهذه البلدان استناداً إلى وصفات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، حيث أن سوريا هي البلد الوحيد في العالم العربي الذي لم يتعولم بعد.
* *
... كأي عهد جديد, لابد من خطاب جديد يفتتح المرحلة. وكان خطاب القسم للرئيس الجديد هو البداية, والذي عبّر عن الأزمة التي تعيشها سوريا على كافة الأصعدة. ومع أن الخطاب لم يقدم برنامجاً محدداً وشاملاً للإصلاح، إنما أشار إلى "ضرورة الإصلاح والتحديث ومكافحة الفساد... وإلى الحاجة إلى استراتيجيات اقتصادية واجتماعية وعلمية تخدم التنمية والصمود في آن واحد... ويجب أن نحدد إلى أين نتجه "(خطاب القسم ). وللخروج من هذا النفق المظلم دعا خطاب القسم "إلى أن الفكر الديمقراطي مستند على أساس قبول الرأي الآخر... والديمقراطية واجب علينا تجاه الآخرين قبل أن تكون حقاً لنا... والديمقراطية الغربية غير ملائمة لنا فنحن لنا ديمقراطيتنا الخاصة والنابعة من حاجيات ومقتضيات واقعنا". وقد أوضح الرئيس بأن ما طرحه في خطاب القسم هو منهج تفكير يحتوي على أهداف عامة، وهو بحاجة إلى منهاج عمل، وذلك خلال حديثه إلى صحيفة البايس الأسبانية في 2/5/2001.
وأصبح شعار التحديث والتطوير ومكافحة الفساد محور الخطاب الإعلامي/الثقافي للسلطة في العام الأول. وسرعان ما تم التخلي عن مكافحة الفساد. وبقي شعار التحديث والتطوير (والذي لوحظ أنه شعاراً عاماً جديداً في كل الدول العربية)، ثم تم اختصاره إلى الإصلاح الاقتصادي التدريجي. دون أي تحديد للاستراتيجية الاقتصادية والسياسية للإصلاح وفي أي اتجاه نسير.
وقد تمحور الإصلاح الاقتصادي حول:
1 ـ إصلاح القطاع العام:
وتم تشكيل العديد من اللجان, وتشكيل وزارة جديدة ضمت العديد من الوزراء غير البعثيين كخبراء تقنيين, بالإضافة إلى رسم للخطة الخمسية التاسعة (2001/2005 ) واستثماراتها بقيمة 1083 مليار ل.س، منها 689 مليار للقطاع العام و394 مليار للقطاع الخاص، والتي كان يؤمل منها أن توفر 516 ألف فرصة عمل...الخ
2 ـ إعداد المناخ الملائم للاستثمار:
وذلك بإصدار العديد من القوانين والمراسيم الجديدة، مثل: تعديل المرسوم رقم /10/ للاستثمار لعام 991 بالمرسوم رقم (27 لعام 2000) ،وقانون جديد لإحداث مصارف خاصة وسوق للأسهم والأوراق المالية, وقانون للسماح بالجامعات الخاصة، بالإضافة إلى مشاريع عديدة تتعلق بالإصلاح المالي والضريبي والإداري بقصد تشجيع الاستثمارات الخاصة الأجنبية...الخ. ويمكن أن نلحظ بعد أربع سنوات:
ـ أن كافة قرارات إصلاح القطاع العام بقيت حبيسة الأدراج. وتم التخلي عن د.عصام الزعيم ومجموعته باعتباره التيار الذي كان يقود عملية الإصلاح الاقتصادي ومكافحة البطالة.
ـ وأن القوانين الجديدة لإعداد المناخ الملائم للاستثمار, لم تخلق المناخ المذكور, ولم يتم جلب استثمارات جديدة. ويمكن أن نلحظ أيضاً أن كافة مشاريع الإصلاح الاقتصادي تنوس بين الاتجاه الليبرالي الداعي إلى اقتصاد السوق المفتوح وبين العودة إلى الخطط الخمسية لرأسمالية الدولة, وإصلاح القطاع العام واستمرار هيمنته, باعتبار أن القطاع الخاص غير قادر بمفرده على قيادة عملية التنمية في ظل استمرار الصراع مع إسرائيل (فاستثمارات القطاع الخاص لا تتجاوز 8% من الناتج المحلي الإجمالي ـ د.عصام الزعيم صحيفة الاقتصادية, 10 تموز 2001). هذا النوسان أو الارتباك في إيجاد مخارج حقيقية أمام اانسداد آفاق تطور رأسمالية الدولة الراهنة, يعود بالدرجة الأولى إلى وجود تيار في السلطة (رغم عدم معرفة أحد برموزه الحقيقية) لا يرغب بإصلاح بنيوي للاقتصاد السوري, باعتبار الحالة الراهنة تمثل مرتعاً خصباً لدوائر الفساد لاستمرار النهب والمحافظة على المكاسب الخاصة.
وبالوقت نفسه, فإن هذه الدوائر أفرزت رجال أعمال جدد جمعوا أموالهم عبر نهب المال العام، ويريدون الآن تبييض أموالهم في البلد ذاته في مشاريع اقتصادية مختلفة مستفيدة من استمرار سيطرة الدوائر المذكورة. وفي هذا الإطار يمكن فهم تمرير أهم مشروع اقتصادي في السنوات السابقة وهو مشروع الهاتف الخليوي والذي تم تثميره لمتنفذين سابقين . وتمت مناقشته في مجلس الشعب بعد أن أثار جدلاً كبيراً في الصحف وكان تبرير الحكومة عجز الدولة عن تمويل المشروع ولذلك تم تثميره لشركات خاصة. في الوقت الذي لا نجد أي تقرير رسمي أو غير رسمي يشير إلى عجز في ميزانية الحكومة .وبعملية حسابية بسيطة يمكن أن نستنتج أن أرباح مشروع الخليوي تعادل بالمتوسط ميزانية سوريا السنوية، وكان أولى بهذه الأرباح أن تذهب لمكافحة البطالة ودعم البحث العلمي وافتتاح جامعات جديدة ومستشفيات...الخ، من أن تذهب إلى البنوك الأجنبية (ومن المفيد أن نذكر هنا أن تركيا البلد المريض ومازال في المنظومة العالمية وخلال المفاوضات مع صندوق النقد الدولي بداية عام 2001 إثر الأزمة الاقتصادية التي تعرضت لها اشترط عليها لتقديم مساعداته (12.8 مليون دولار) خصخصة قطاع الاتصالات حيث سيباع 45% منه للشركات الأجنبية وخاصة أمريكا). بمعنى آخر: إن خصخصة قطاع الاتصالات تم في كل دول العالم كآخر قطاع اقتصادي.
وهناك سبب آخر للارتباك في السير فعلاً في اتجاه أو استراتيجية واضحة للإصلاح الاقتصادي وهو التناقض بين الانتقال إلى السوق من جهة والحفاظ على رأسمالية الدولة (القطاع العام) باعتباره القاعدة الاقتصادية والاجتماعية للسلطة من جهة أخرى. وفي الوقت الذي تقف فيه دوائر الفساد في وجه إعادة هيكلة القطاع العام وتطويره في إطار خطة تنموية شاملة.
ويمكن أن نجد حصيلة أربع سنوات على المستوى الاقتصادي:
ـ إن زيادة الرواتب (65% ) كان لها أثر واضح في تحسن مستوى المعيشة للعاملين في الدولة إلا أنها سرعان ما تآكلت مع زيادة الأسعار لكافة السلع. كما أن تحسن العلاقة مع العراق منذ عام 2000 أدى إلى تنشيط الاقتصاد جزئياً. إلا أن ذلك انتهى مع الاحتلال الأمريكي للعراق 2003 فعاد الركود من جديد.
ـ لم يؤدي تنازل السلطة للرأسمال الخاص عبر قوانين جديدة ومحاولة تهيئة مناخ ملائم للاستثمار إلى تنشيط وارتفاع معدل النمو الاقتصادي. فمازال النفط يشكل أكثر من ثلثي الصادرات السورية (حسب البيانات الرسمية)، ولم تشر هذه البيانات إلى نمو متدرج في القطاعات الاقتصادية المختلفة للقطاع العام والخاص، ومازالت مشكلة البطالة (نصف مليون عاطل عن العمل) قائمة ويزداد الرقم سنوياً، ومازال دخل الفرد متدنياً في ظل تنامي زيادة سكانية مخيفة في سوريا.
* *
وعلى المستوى السياسي:
تم تقديم بعض(العطايا) لبداية العهد الجديد مثل: إطلاق سراح المعتقلين، والسماح لأحزاب الجبهة بمراكز وصحف علنية مع ترخيص لصحيفتين مستقلتين (الدومري والاقتصادية)، بالإضافة إلى غض نظر أجهزة الأمن عن أصحاب الرأي. وتفاءل الجميع بإزاحة كابوس أجهزة الأمن عن صدورهم، وأن عهداً جديداً بدأ في سوريا يختلف عن العهد القديم. فانتشرت المنتديات الحوارية في كافة المدن السورية، وبرزت محاضرات ونقاشات عديدة وحامية حول مسائل حيوية ومهمة تهم الوطن والديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها. وبدأ المثقفون يتكلمون بحرية تامة حتى أن العديد منهم دعا إلى تفكيك السلطة علناً، وقد شارك العديد من رموز السلطة الثقافية والسياسية في النقاشات الدائرة وخاصة في منتدى جمال الأتاسي بدمشق. وأجهزة الأمن تراقب، دون أن تتدخل أو تعتقل أحداً. وظهرت السلطة الجديدة كحامية للرأي الآخر وسميت بداية العهد الجديد بربيع دمشق.
إلا أن هذا الربيع لم يستمر طويلاً. فانتشار المنتديات في كل المدن السورية بسرعة كبيرة كالفطر, والتعطش للكلام والحوار بعد صمت طويل أدى بالعديد إلى رفع سقف الحوار والمطالبات, وبدأ يجذب آخرين جدد, والدائرة تتسع. وبدأ العقل الأمني يتوجس من تحول الظاهرة إلى ظاهرة مجتمعية عامة لن تستطيع السيطرة عليها فيما بعد، وليس لدى العقل الأمني سوى حل واحد، وهو العودة إلى القوة العارية لكبح جماح الظاهرة الجديدة. فتمت الاعتقالات (عارف دليلة ورياض الترك والآخرين). وتم الضغط في كل المدن الأخرى على كل الذين يمارسون نشاطات ثقافية حوارية في بيوتهم أو مكاتبهم... وبدأ السكون يعود من جديد، وانتهى ربيع دمشق.
إلا أنه مع بدء التهديدات الفعلية الأمريكية للعراق ثم احتلاله... وتصاعد الانتفاضة الفلسطينية, ساعد على إعادة نشاط الحوارات والمظاهرات المؤيدة للعراق والانتفاضة وتشكلت لجان أهلية لنصرة العراق وفلسطين. إلا أن العقل الأمني لم يحتمل استمراره في موقع المتفرج على ظاهرة تكبر أمامه، فكان لابد له من أن يوجه إشارة جديدة لوقفها... وتم ذلك باعتقال أربعة عشر شخصاً وتقديمهم للمحكمة العسكرية بناء على قانون الطوارئ، وتم الحكم عليهم ثلاثة اشهر مؤجلة قابلة للطعن بتهمة تشكيل جمعية سرية. إلا أن هذا الحكم يعتبر فركة أذن بالمقارنة مع أحكام العشرة (عارف دليلة والآخرين)، وبالمقارنة مع أحكام التسعينات، وعاد السكون من جديد.
وقد أوكل العهد الجديد المسألة الكردية في سوريا للعقل الأمني الذي لا يملك إلا القمع والسجن والتعذيب. في حين أن المسألة الكردية لا تهم الأكراد فقط، بل كل الشعب السوري، باعتبار أن الأكراد جزء من هذا الشعب, لكن يمتلك قومية مختلفة، لغة وتاريخ وثقافة، ويشكل حوالي 10 % من السكان وهم لا يطالبون أكثر من حقوقهم الثقافية والقومية كأقلية تعيش في إطار وضمن المجتمع السوري ككل (بغض النظر عن التفاصيل اليومية). وتشير أحداث مدينة القامشلي في 12/آذار /2004 إلى أن المسألة لايمكن حلها بإطلاق النار على المتظاهرين واعتقال المئات، إذ أن إطلاق النار على تظاهرة سلمية هو مدان في كل دول العالم وكل العصور.
كذلك على الجانب المقابل، أعمال الشغب التي قام بها الأكراد (والتي أيدها جزء منهم ورفضها الآخر)، والتي طالت المؤسسات العامة وإنزال العلم الوطني، هي مدانة من قبل الشعب السوري كله ومن ضمنهم أصحاب التفكير الديمقراطي العلماني الكردي. ولايمكن التستر على مسألة كهذه باعتبارهم مرتبطين بالخارج أو أنهم عرباً أكراد وهذا يكفي. ولا يؤدي إنكار أزمة الأقلية الكردية إلى حلها... بل هي قنبلة موقوتة تنفجر بشكل سيئ في أي وقت والمرحلة الراهنة أكثر من أي وقت مضى, تسمح للقوى الخارجية الاستعمارية بالتغلغل عبر ثغرات حقيقية مثل استبداد واضطهاد الأقليات القومية.
* *
الملامح السابقة لسوريا عند نهاية القرن الماضي واجهت الرئيس الجديد الذي ورثها برموز سلطتها القديمة، ومؤسساتها وثرواتها وجيشها وأجهزتها الأمنية وشعبها. حيث يمكن أن نلحظ ملامح مرحلة جديدة تختلف عن المراحل السابقة، أو يمكن القول بصيغة أخرى هي تتويج للمراحل السابقة، مراحل البناء والتأسيس لرأسمالية عسكرية تسلطية، وهذا التتويج نلحظه في تفكك البناء السلطوي القديم، في محاولة جديدة لإعادة البناء وفق أسس جديدة، وظروف جديدة لم تكن موجودة سابقاً.. بصيغة أخرى، إن الرأسمالية الدولتية الأمنية وصلت إلى طريق مسدود..
ويمكن أن نلحظ مظاهر التفكك كالتالي:
أولاً: الانتقال إلى اقتصاد السوق:
إن خطاب السلطة الجديد أكد منذ البداية أولوية الإصلاح الاقتصادي وتأجيل الإصلاح السياسي. وإن حصيلة أربع سنوات لهذا الإصلاح تشير إلى الانتقال إلى اقتصاد السوق وتفكيك اقتصاد رأسمالية الدولة، وتنازل السلطة كرأسمالي أول للرأسمال الخاص الداخلي، ودعوة واسعة للرأسمال الأجنبي للاستثمار في سوريا. إلا أن هذه الانتقال التدريجي إلى اقتصاد السوق ترسمه، ليس كادرات اقتصادية علمية، بل دوائر الفساد للاستمرار في نهب الثروات العامة، عبر الإبقاء على القطاع العام كما هو، أي بدون هيكلة ليكون قطاعاً إنتاجياً رابحاً ومنافساً. ومن جهة أخرى، تفصيل الإصلاح ليتلاءم مع مصلحة طبقة جديدة من رجال الأعمال الجدد الذين تفرزهم رموز الفساد في السلطة القديمة/الجديدة (مثال صفقة الخليوي).
ثانياً: تآكل الخطاب الإيديولوجي الاشتراكي التحرري القومي.
فالاشتراكية فُقدت من قاموس الخطاب الجديد، والوحدة العربية لم تعد هدفاً، وتحرير الجولان أصبح مرهوناً بتدخل أمريكي والضغط على إسرائيل لإجبارها على الانسحاب! ودعم المقاومة الفلسطينية بات إعلامياً للاستهلاك فقط.
وحزب البعث الذي تقلص دوره السياسي منذ زمن بعيد ، وأصبح إطاراً عاماً للمنافع الشخصية، يتم إعادة أد لجته من جديد، حيث تتم الآن حملة داخلية واسعة من أجل إعادة بناء مفاهيمه حول الوحدة والحرية والاشتراكية التي لم تعد تقنع أحداً. ومن جهة أخرى صدور قرار فصل الحزب عن الدولة.وحتى ولو كان هذا القرار شكلانياً لن يتم تطبيقه، لأنه لم يأت بقناعة حقيقية، بل رداً على الانتقادات الداخلية والخارجية حول سيطرة الحزب الواحد على السلطة. إلا انه يبقى مؤشراً للتغير.
إن تآكل الخطاب السياسي والإيديولوجي للسلطة دون أن يتشكل خطاب جديد، يجعل من السلطة عارية أمام مواطنيها. وخطاب التحديث والتطوير (الخطاب البديل الجديد) لم يجد من يطبقه على الأرض بعد أربع سنوات بداية من العهد الجديد. كما ذكرنا سابقاً باعتقال أصحاب الرأي الآخر، وتقلص الإصلاح الاقتصادي إلى رفع مرتبات العاملين في الدولة.
ثالثاُ:الوضع العربي والدولي:
لم تعد مسالة التغيير في أي بلد في العالم مسالة داخلية فقط ، وذلك بأثر العولمة الجديدة بمستوياتها المختلفة ،بل أصبح للخارج دور مهم. ومع أن هذا الخارج كان له دور مع الداخل عبر العصور المختلفة، إلا أن هذا الدور في المرحلة الراهنة يصبح أكثر شمولية وعمقاً ومباشرة.
ـ منذ انهيار الاتحاد السوفييتي فقدت سوريا حليفها الدولي الذي كان يلجم السياسة الأمريكية على مستوى العالم، ويقدم الدعم لسوريا في كافة مواقفها ضد أمريكا. ولم تستفد سوريا في دخولها التحالف الدولي والعربي ضد العراق عام 1991، بل كانت النتيجة ابتعاد سوريا عن أمريكا والخليج والسعودية. ومع بداية القرن بدأت سوريا تتقارب مع العراق. وهذا التقارب أدى إلى انتعاش اقتصادي جزئي في سوريا، وبالمقابل تنامي العداء مع أمريكا وحلفائها العرب. واستمرت أمريكا في حصار سوريا واعتبارها دولة تدعم الإرهاب، ثم توالت التهديدات بعد احتلال العراق ووقوف سوريا ضد الاحتلال واتهام سوريا بدعم المقاومة العراقية... كل هذا جعل من تزايد خطر الحصار (قانون محاسبة سوريا أحد المؤشرات الجديدة) والتهديد إلى حد إمكانية أن تكون أمريكا قد جدولت أعمالها باتجاه أن تكون سوريا هي الهدف التالي للغزو العسكري.
وأمام الطغيان الأمريكي الجديد، لا تجد سوريا في مواجهة هذا الطغيان، أياً من الحلفاء العرب، لأن جميع الدول العربية، وخاصة المشرق العربي مع مصر، يتسابقون لإرضاء أمريكا. كذلك محاولة سوريا العمل باتجاه أوروبا، كبديل عن السوفييت، لتأسيس شراكة أوروبية سورية قد ينعشها اقتصادياً وسياسياً، مازالت مستمرة حتى الآن. بالإضافة إلى تحسين العلاقات مع تركيا احتياطاً لأي خطر عسكري أمريكي قادم. إلا أن الشريك الجديد المحتمل، أي أوروبا وتركيا، غير قادر على منع أمريكا وإسرائيل من غزو سوريا. وتجربة العراق مازالت راهنة حيث لم تكن أوروبا قادرة على منع أمريكا من احتلال العراق، بل انصاعت في النهاية إلى منطق القوة.
بالإضافة إلى ذلك فالأراضي السورية مازالت محتلة من قبل إسرائيل، والقتل اليومي للفلسطينيين مستمر في فلسطين مع استمرا الانتفاضة الفلسطينية في الداخل، والتي فقدت عمقها الاستراتيجي العربي والدولي. وارتباط مصير سوريا مع الفلسطينيين مستقبلاً يجعل لوحة المستقبل أكثر تعقيداً وخطورة.
وعلى الأرجح بعد أن تستقر الأوضاع في العراق، وبعد أن تنهي أمريكا هيكلتها الجديدة للمنطقة في العراق والخليج العربي والسعودية ستبدأ حتماً بترتيب الطرف الغربي، أي إسرائيل والأردن وسوريا ولبنان والانتفاضة الفلسطينية. وسيبدأ العمل جدياً معتمدة على إسرائيل والأردن لسحق الانتفاضة وحزب الله وسوريا في إطار عملية جديدة لا أحد يدري كيف ستبدأ وكيف ستنتهي.
مقابل هذا الطغيان تجد سوريا نفسها وحيدة. وأصبح هدف السياسة السورية أن تتحاشى إغضاب أمريكا. فرغم كل التهديدات تتمسك سوريا بالحوار مع أمريكا، وأكبر ردة فعل على قانون محاسبة سوريا كانت بوصف القانون بأنه "ظالم". وكذلك من قبل حين قصفت إسرائيل سوريا في عين الصاحب كان الرد "سنحتفظ بحقنا في الرد في الوقت المناسب"!
رابعاً: ثورة الاتصالات والمعلوماتية:
فالثورة التقنية في الاتصالات: الهاتف الخليوي والانترنت والفضائيات العربية والأجنبية ،حطمت كل القيود الإعلامية التي كانت تضعها أي دولة لفضائها الإعلامي والسياسي والثقافي. وهذا يعني أن الاستبداد فقد أهم وسائله وهي الإعلام الذي كان يحتكره ويقدم "الحقيقة" بالشكل الذي يريد. وكم هي الحال مختلفة عن السبعينات أو الثمانينات، حيث كانت السلطة تملك وتحتكر الإعلام وتفرض خطابها اليومي، وكان الرأي الآخر لا يملك سوى منشوراً أو جريدة صغيرة يعبر من خلالها عن آرائه التي صاغها في الأقبية سراً ولم تكن تصل لأكثر من 1% من السكان. أما الآن فإعلام السلطة يبدو لا أهمية له (إذا استمر في إخفاء الحقائق) أمام الفضائيات العربية والدولية والتي تصل إلى كل بيت في سوريا والوطن العربي كله.
خامساً: التآكل أو النخر الداخلي:
والذي وصل إلى حد لا يصدق، ويمكن أن نلحظه في:
ـ عدم الانتماء إلى السلطة أولاً، وحتى أعداد كبيرة من حزب البعث، أو ممن يحتلون مناصب متوسطة في أجهزة الدولة، وذلك بعد سقوط كل الشعارات حول الوحدة والحرية والاشتراكية وتحرير فلسطين، والتي كانت تقدم الشرعية للسلطة. بالإضافة إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية، وعدم قدرة السلطة حتى الآن على تقديم حلول حقيقية تُشعر بالأمان سواء بالنسبة لأغلبية الشعب الذي يبحث عن لقمته، أو بالنسبة للرأسمال المتوسط والكبير.
ـ عدم الانتماء إلى الدولة ثانياً، بمؤسساتها الإنتاجية والإدارية والخدمية، واعتبار مؤسسات الدولة ليست مواقع للمسؤولية بقد ما هي مواقع للمكاسب الشخصية والنهب. وأصبح نهب المال العام داخل مؤسسات الدولة أكبر مما كان قبل عام (2000) بعد أن تراجع مع بداية العهد الجديد. وبعد أن تم التأكد من أن شعار محاربة الفساد الذي نادى به خطاب القسم لم يجد من ينفذه ، ازداد النهب والفساد وكأن الشعور يدفعهم بأنها الفرصة الأخيرة. وشبكات النهب التي يتم نسجها في كل مؤسسة أو شركة، وتكون معروفة بالنسبة إلى الكل بداً من بوابة الاستعلامات وحتى المدير العام الذي يعتبر المؤسسة إقطاعية مؤقتة له. ولذلك تعتبر سمسرة المناصب والتوظيف من أكثر المهن ربحاً وبدون أي رأسمال. وكل ذلك يتم " حسب الأصول".! وهذا ما يجعل الفرد والمجتمع عموما,غريبين عن هذه المؤسسات بسبب ازدواجية المعايير التي تمارسها السلطة,في كافة المجالات( التوظيف والعمل واحتكار المواقع العليا,وأمام القضاء,وأجهزة الأمن,وأمام المشافي العامة.............الخ ).هذه الازدواجية التي يعود جذرها إلى مقولة " من ليس معنا فهو ضدنا ".والتي تفصل المجتمع عن السلطة .
إن شبكات الفساد والنهب امتدت إلى كل الميادين: في الشركات الإنتاجية والمؤسسات الإدارية والتعليم والجيش والقضاء,, إلى كل شيء, وسيكون للفساد الدور الرئيسي في انهيار الوطن, إذا لم تتم محا ربته بشكل جدي وفعلي.
ـ عدم الانتماء إلى المجتمع ثالثاً، فأصبح شعور كل فرد بأن على كل إنسان أن يتدبر أمره" كالتجمع القطيعي" بدون أية ثقة بالسطة من جهة ، وبالمجتمع من جهة أخرى.
ساد ساً:الاستبداد السياسي:
لقد افتتح خطاب القسم للرئيس الجديد مرحلة جديدة تستوعب حرية الرأي. بالكتابة والتظاهر السلمي والاعتصام السلمي.ولأول مرة منذ ثلاثين عاما", نجد الشرطة والأمن ينظمون السير و يفتحون الطريق أمام تظاهرة غير رسمية يقوم بها رموز المعارضة, وكذلك الإعتصامات في جامعة حلب ودمشق والساحات العامة .
ورغم تعامل أجهزة الأمن مع الرأي الآخر بالضغط حيناً، والاعتقال،أو تفريق اعتصام حيناً آخر،كالذي حصل للاعتصام أمام البرلمان في 8 آذار 2004 ، وقبل ذلك في جامعة حلب .ورغم أن هذا الرأي الآخر مازال في إطار المثقفين ،وأن منابر التعبير مازالت محصورة في الانترنت وبعض الفضائيات،أو لقاءان داخل منازل الأصدقاء أو"خطاب" في تظاهرة ما >.إلا أننا نجد أنفسنا أمام مرحلة جديدة تسمح ببروز الرأي الآخر ونموه واتساعه،مرحلة مختلفة عن المرحلة السابقة التي كانت تحّرم كل هذه النشاطات، وتجّرم كل من يقوم بها .و من الخطأ اعتبار المرحلة الراهنة مثل السابقة باعتبار أن السلطة هي ذاتها برموزها القديمة جميعها.
و ليس صحيحاً القول بأن السلطة لم تعد قادرة على القمع بالطريقة السابقة بمعنى العجز , أو مراعاة لظروف دولية جديدة , و إنها غير قادرة على إسكات الرأي الآخر لأنها لم تعد قادرة على السيطرة على الإعلام ... إنما هناك اتجاه في السلطة مقتنع بالسماح للرأي الآخر كي يعبر عن نفسه , و هو نفسه أفتتح صفحات لنقد ذاتي للسلطة و مؤسساتها عبر الصحف الرسمية و حتى عبر الفضائيات أحياناً . و هذا الاتجاه هو الذي أعطى الأوامر للأجهزة الأمنية للتخفيف من توحشها تجاه أصحاب الرأي الآخر , و وقف العمل مؤقتاً بالأحكام العرفية . و ليس صحيحاً أيضاً الادعاء أن المعارضة انتزعت هذه المكاسب و بالتالي فالسلطة لم تعد قادرة على استعادتها. فالسلطة ليست عاجزة أو مفككة . إلا أنها لا تقوم في المرحلة الراهنة على اعتقال أصحاب الرأي , إلا عندما تشعر بأن هذا الرأي بدأ يتحول إلى ظاهرة مجتمعية يمكن أن تتنامى و تشكل عندئذ قوة حقيقية تعارض السلطة وتهددها . وواهم جداً من يعتقد أن الرأي المعارض والعمل السياسي المعارض في المرحلة الراهنة وفي المستقبل لن يعرضّه للمساءلة و ربما الاعتقال و السجن لسنوات طويلة .
وهنا يواجهنا السؤال التالي : من الذي يملك القرار ,هل هناك تيارات مختلفة في السلطة.؟
لنعترف منذ البداية أنه لا أحد يملك جواباً دقيقا على سؤال كهذا .وكل ما يطرح له علاقة بالتخمين والتقدير أكثر مما له علاقة بالتحليل الدقيق.لأن المعلومات اللازمة للتحليل غير متوفرة.
ففي البداية بدأ المجتمع يتنفس ويحلم بوضع أفضل بعد سنوات من الركود والسبات(منذ1995).وكانت البداية مشجعة للجميع.حرية للرأي الآخر ,ومحاربة للفساد والبطالة .....الخ ومنذ العودة للاعتقالات وانتهاء ما سمي بربيع دمشق,ثم دعوة بعض رموز المعارضة السلطة للمصالحة الوطنية,ثم الدعوة إلى مؤتمر وطني,وعدم استجابة السلطة لمثل هذه الدعوات.ظهرت تساؤلات ووجهات نظر عديدة تتعلق ببنية السلطة بقيادة الرئيس الجديد:هل هناك "حرس قديم" يقف ضد الإصلاحات التي يقودها "الحرس الجديد" بقيادة الرئيس؟هل يختلف الرئيس الجديد عن أبيه؟ هل يختلف العهد القديم عن العهد الجديد؟ هل الرئيس الجديد استطاع أن يسيطر على كافة القوى داخل السلطة.......الخ .
لم يترك الرئيس الراحل أية فسحة لكي يتشكل أي رأي آخر,سواء خارج السلطة أو داخلها .وبالتالي لايمكن الحديث عن وجود أية تيارات مختلفة عند نهاية المرحلة السابقة .إلا أن ذلك لايعني الانسجام بين كافة مراكز القوى( الأمنية والعسكرية والاقتصادية),كذلك لايعني التنافر أيضا.إذ أن التنافر أو التوافق ( النسبي طبعاً),بين القائمين على مراكز القوى ,كانا محكومين بسيطرة الرئيس المطلقة.ولم يستقر الرئيس الجديد الابن,بفعل قوة عسكرية جديدة, رغم أهمية سيطرته المباشرة على "الحرس الجمهوري"وهو من أهم القوى التي تأسست لمواجهة أية تحديات داخلية.إنما كل مراكز القوى العسكرية والسياسية(البنية السابقة بالكامل),بكل تنافرها وانسجامها,اتفقت على الرئيس الجديد.فهل شكّل الرئيس الجديد القاسم المشترك بين كافة القوى التي تركها الرئيس الراحل.أم أنه( أي الرئيس الراحل)استطاع خلال فترة قصيرة,بعد الموت الفجائي للابن الأول "باسل",أن يهيىء كافة مراكز القوة العسكرية في الجيش والأمن,بحيث لم يكن أمام الجميع سوى الاستسلام.؟حتى لو كان الأمر كذلك,إلا أن ذلك ليس كافياً,لأن المسألة ليست سيطرة عسكرية فقط.
ولم يأت الرئيس الجديد بحاشية جديدة ومشروع جديد ضد الرموز القديمة "رفاق الأب القدامى",بل انضم إليهم في ظرف صعب,لإخراج سوريا من النفق المظلم, من الانهيار.وأنه خلال السنوات الأربعة الماضية لم يزح أياً من الرموز القديمة.وهذا لايعني أن العهد الجديد لا يختلف عن العهد القديم.فتفكك النظام الشمولي بفعل العوامل التي تم ذكرها سابقا جعل من الإصلاح ضرورة ليس للمجتمع فقط بل لكي تستمر السلطة أيضا.ومن الطبيعي أن تحتوي البنية السابقة على من يقف مع الإصلاح ,ومن يقف ضده.والذي يحدد الموقف هو اتجاه الإصلاح ,وليس الإصلاح ذاته,لأن الجميع متفق على الإصلاح.
فإعادة هيكلة القطاع العام" مثلاً " يقف ضده أغلب الدوائر العليا المهيمنة عليه, لأنها ستفقد بذلك منابع النهب الخاصة بها.ويقف ضده العديد من الرموز في الدولة والمجتمع لأن إعادة الهيكلة ستؤدي إلى المزيد من العاطلين عن العمل دون أن تكون الدولة قادرة على إعادة تشغيلهم في مشاريع جديدة.والذي يقف ضد قرار إبعاد الحزب عن مؤسسات الدولة,كل الحزبيين النفعيين الذين دخلوا الحزب من أجل المنافع الشخصية.وهؤلاء بالتأكيد ليسوا أعداداً قليلة....أما الذي يقف ضد مكافحة الفساد,فتلك مسألة معقدة فعلاً.لأنه ببساطة كل المستفيدون من الفساد ,وهؤلاء يشملون قطاعاً واسعاً,ابتداءً من "المستخدم " في أية دائرة رسمية وصولاً إلى" المدير العام".!
أما الإصلاح السياسي,فلا يوجد أحد في السلطة يطرح الليبرالية السياسية,لأن هذه الليبرالية تعني تغيير النظام بالكامل ولا أظن أن أحداً في السلطة يريد أن يسجل اسمه في سجل "الإصلاحي المأساوي" مثل غورباتشوف.إلا انه مع بداية العهد الجديد-وكما ذكرنا سابقا-أصبح مسموحاً بحرية التعبير,والنقد,والتظاهر,والاعتصام ,وكل التعبيرات الأخرى السلمية,والتي لا تؤدي أو تدعو إلى إسقاط النظام.وهذه الحريات مشرّعة في الدستور.وهذه الحريات لم تنتزعها المعارضة,إنما سمحت بها السلطة في إطار تفكك النظام الشمولي العام.
مما سبق,نجد أن الحديث عن حرس قديم وحرس جديد يستند إلى مفهوم تأملي يفترض واهماً وجود حرس جديد,لديه برنامج انقلابي على العهد القديم,وحين تواجهنا ممارسات مثل:اعتقالات,أو تباطؤ في الإصلاح,أو تباطؤ أو عدم تنفيذ قرارات جديدة ...الخ,نقول أن الحرس الجديد فشل.....وهكذا.وهذا يجعلنا نفكر أو نخمن ,ويمكن أن نلمس وجود العديد من الأفراد داخل السلطة,مازالوا مقتنعين بالدفاع عن الوطن ,وليس الدفاع عن الاستبداد والفساد .وإذا كنا لا نعرف رموزا محددة بأسمائها ,بفعل التكتم السلطوي ورفضه الشفافية,وبسبب عدم سعينا أو رغبتنا بمعرفة ذلك,إلا أن هذا لايعني عدم وجود ذلك.تماماً مثل وجود" مدير عام " أو " طبيباً في مشفى عام " أو مهندس مشرف " أو" شرطي " أو "مستخدم "....الخ خارج دائرة الفساد, رغم حاجتهم المادية الكبيرة.والذين يوصفون بأوصاف سيئة من قبل دوائر الفساد.المهم في الأمر هنا أنه عندما ننظر إلى السلطة, أن نتخلص من "الجلبية" القادمة من دهاليز المخابرات الأمريكية والتي تريد ليس اجتثاث" البعث " فقط, بل تدمير الوطن بالكامل حتى تجد مقعداً لها في السلطة.علينا أن نتخلص من فكرة " إما كل شيء, أو لاشيء " . وأن السلطة كتلة صماء ,لأن فكرة كهذه تدفعنا إلى التدمير,دون أن نعمل شيئاً في عملية إعادة البناء .
* * *
إن العوامل الستة المذكورة سابقاً بالإضافة, إلى رحيل الرئيس حافظ الأسد,المؤسس الفعلي للنظام القائم هي التي تؤدي بنا للقول بتفكك النظام الشمولي الذي أقامته الرأسمالية الدولتية الأمنية في سوريا . أو لنقل بدقة أكثر بداية التفكك , وهذه البداية لا عودة فيها للوراء سواءً رغبت السلطة في ذلك أم لا . و هذا يتميز عن تفكك السلطة التي تمسك بدفة الدولة .. إذ ليس من الضروري أن يؤدي تفكك النظام الشمولي إلى تفكك السلطة الراهنة الممسكة بهذا النظام بطريقة اوتوماتيكية لأنها إفراز لهذا النظام . حيث يمكن أن تبقى السلطة الراهنة و تستمر و تقود عملية التفكك المذكورة إلى مرحلة جديدة ,وتعيد إنتاج ذاتها على أسس جديدة.
4- آفاق المستقبل:
بطبيعة الحال تفكك النظام الشمولي يضع سوريا أمام مرحلة انتقالية من رأسمالية دولتية أمنية استبدادية , إلى بنية رأسمالية أخرى لا يمكن التعرف إلى ملامحها حتى نتعرف إلى الفاعلين الأساسيين في تأسيسها . هل ستكون السلطة بمفردها ؟ هل ستقوم أمريكا بغزو سوريا و تقلب الأوضاع رأساً على عقب ؟ هل يمكن أن تشارك السلطة المجتمع فعلياً في عملية الإصلاح و الانتقال إلى وضع أفضل ...؟ هذه الأسئلة و غيرها سيجيب عنها المستقبل القريب .
إن المسألة الأساسية تتعلق بالسلطة .بطريقة استجابة السلطة لاستحقاقات الوطن .هذه الاستحقاقات التي تتلخص بتقديم الحلول الحقيقية للمشاكل التي تعترض نمو الوطن وتطوير بنائه على كافة المستويات وتتحمل السلطة المسؤولية كاملة ,عما ستؤول إليه الأمور في المستقبل,باعتبار أن كل إمكانيات الوطن الاقتصادية والبشرية تحت تصرفها.
لكن ما هي الاتجاهات الممكنة والتي يمكن أن تسير سوريا باتجاهها وفق ظروفها الحالية الملموسة؟
أولاً :الاحتمال الأول :
الأكثر سوءاً وهو الغزو الأمريكي لسوريا, والذي يرفضه ولا يتمناه أي إنسان وطني مهما كان مبدؤه السياسي أو الديني ...(عدا بعض المرتزقة "الجلبيين"والذي سيلفظهم الشعب السوري كما يفعل ذلك الآن الشعب العراقي ).ولا داعي للحديث عن كوارث الاحتلال وخاصة إننا نراه الآن في العراق .
وهو بالتأكيد لن يحمل إلينا الديمقراطية وحقوق الإنسان, ولن يحمل إلينا انطلاقة اقتصادية تدفعنا للرفاه,بل سيدمر البنية الاقتصادية والاجتماعية ويربطها بالمافيات العولمية .باختصار الاحتلال يعيد البلاد إلى ما قبل الصفر بكثير.
إلا أن احتمال غزو أمريكي عسكري يبدو بعيداً،بسبب أن أمريكا لن تورط نفسها في سوريا لأسباب عديدة، (داخلية وعربية ودولية ) ، هذا إذا استطاعت الخروج منتصرة من العراق، وهو احتمال مازال بعيداٌ حتى الآن.
ثانياً:الاحتمال الثاني :
أن تنهار سوريا بدون غزو عسكري كما حصل في أوربا الشرقية وخاصة إن بنية سوريا الاقتصادية والسياسية , والأزمات التي تعترضها لا تختلف عن أوربا الشرقية قبل انهيارها.وهذا الاحتمال يبقى وارداً إذا لم تقم السلطة بإصلاحات حقيقية فعلية ملموسة ,وليس بشعارات وهمية.سنجد أنفسنا في هذه الحالة أمام كارثة حقيقية لا تختلف كثيراً عن الاحتلال العسكري.
ثالثاً:الاحتمال الثالث :
أن تتحمل السلطة مسؤولياتها الوطنية وتعمل على الانتقال باتجاه التأسيس لدولة "الرعاية الاجتماعية".وهي دولة ديمقراطية وعلمانية , تكفل لمواطنيها حرياتهم الأساسية الشخصية والسياسية , وتقوم بدور هام في تعميم الثقافة الديمقراطية , وتقيم نظاماً اقتصادياً يعمل على رفع مستوى الدخل للمواطن, ويقلص من حالة اللامساواة التي يفرزها اقتصاد السوق , وان تكفل هذه الدولة لمواطنيها حقهم في التعليم المجاني , والضمان الصحي, وحقهم في العمل ,....الخ . إنها ببساطة دولة ديمقراطية علمانية عادلة .وهذه الدولة تقوم بإصلاح سياسي اقتصادي اجتماعي فعلي يعيد المجتمع إلى الدولة والدولة إلى المجتمع. وهي المنقذ الحقيقي للخروج من النفق المظلم الذي نمر به الآن.
رابعاً:الاحتمال الرابع:
اعترف خطاب القسم بالأزمات التي تعترض إعادة بناء الوطن من جديد ....وإشارته إلى ضرورة توفر إستراتيجية،أو رؤية إستراتيجية توضح إلى أين يجب أن نسير .كما دعا خطاب القسم إلى الشفافية. إلا أن الحقيقة على أرض الواقع بعد أربع سنوات لم تقدم السلطة خلالها مثل هذه الرؤية,وهذه الشفافية.إذ ربما جعل الأمور ضبابية يساعد السلطة دائما على تبرير سلوكها وفق واحد من الاحتمالات التي يمكن استخلاصها من تلك الرؤية الغامضة .فالغموض وعدم الشفافية هو أحد مظاهر وسمات دوائر الفساد الاستبدادية.
ويبدو أن " دوائر الفساد " في سوريا تضع نصب عينيها التجربة المصرية في انتقالها من الناصرية إلى الساداتية المشؤومة وما بعدها . حيث تم إدماج مصر منذ ما بعد حرب تشرين 1973بالمنظومة الأمريكية الإسرائيلية, وتمت عملية إعادة هيكلة الاقتصاد المصري وربطه بالعولمة الناشئة آنذاك منذ الثمانينات , بما يحقق استمرار الموارد للسلطة وأجهزتها ,ومصالح دوائر الفساد واستمرارها ,وما فرزته, من رجال أعمال جدد حصدوا مكاسب الانتقال إلى اقتصاد السوق ,كما حصدوا من قبل مكاسب النظام " الاشتراكي " الناصري. وتم وضع خطة سنوية منذ الثمانينات لخصخصة القطاع العام , ضمن برنامج التكييف الهيكلي لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي , ليس من أجل تطوير الاقتصاد وتحسين مستوى المعيشة للشعب ( حيث تم وصف الشعب المصري الذي طالب بالخبز "بالحرامية " من قبل رئيس البلاد في 1978!) , بل اعتباره كخزان احتياطي , ليكون" كمصروف جيب " للسلطة وأجهزتها الأمنية ,في الحالات الخانقة التي تقل فيها مواد السلطة ( بالإضافة إلى المساعدات الأمريكية السنوية للسلطة ) .وأدى هذا إلى المزيد من الإفقار والبطالة للشعب المصري.ووضع مصر تحت عبء مديونية تزداد سنوياً ,تجعلها مرهونة للمؤسسات المالية العولمية. ورافق ذلك إصلاح سياسي تدريجي بطيء حافظ على استمرار السلطة , فأسست حزب جديد للسلطة , وأصدرت قانوناً للأحزاب , وللمطبوعات ,ودستوراً يكفل بقاء الرئيس في السلطة مدى الحياة , عبر استفتاء ال99% المشهور في كل الوطن العربي. ( ورغم مرور ثلاثين عاماً على آخر حرب مع إسرائيل مازال قانون الطوارئ مستمراً حتى الآن .
إلا أن ظروف الحرب الباردة التي ساعدت التجربة المصرية في السبعينات والثمانينات على الانتقال من نظام شمولي استبدادي إلى نظام عولمي استبدادي لم تعد متوفرة الآن .فالدعم الأمريكي السياسي والاقتصادي للسادات ومن بعده لحسني مبارك أدت إلى استرجاع مصر لكافة أراضيها المحتلة ,مقابل إخراج مصر من دائرة الصراع العربي الإسرائيلي, ومن دائرة السوفييت , وارتهان مصر كلياً لأمريكا حتى الآن.
وبالمقابل مازالت تدفع سوريا حتى الآن ثمن الموقف الوطني للرئيس الراحل حافظ الأسد , برفضه مبادرة السادات , والخضوع للشروط الإسرائيلية الأمريكية.وحين قبلت سوريا (مفاوضات مدريد /1994 /, وفشلها.ثم قبول الرئيس الأسد لقاء كلينتون في جنيف في آذار عام/2000/ وانسحابه من اللقاء ) انتهت هذه المفاوضات دون أن تحصل سوريا على أي شيء , ودون أن تخضع أيضا للشروط الإسرائيلية الأمريكية . ومع نهاية القرن, وتعاظم دور أمريكا , أصبح المطلوب من سوريا أن تنفذ كل ما تطلبه أمريكا دون أن تقدم أمريكا أي شيء . أصبحت الصورة أعقد والمخاطر أكبر .
* * *
وفي النهاية يمكن التوقف عند درس واحد فقط قدمته تجربة انهيار الاتحاد السوفيتي ومنظومته عند نهاية القرن الماضي.لما له من أهمية في هذه المرحلة الانتقالية التي تمر بها سوريا.
فبعد السبات الذي تميز به حكم بريجينيف لسنواته الأخيرة والتي انتهت بوفاته عام /1983/ ,ثم وفاة أندروبوف /1984/ ,صعد غورباتشوف ( وهو واحد من بعض وجوه الجيل المتعلم الجديد ) إلى السلطة في /1985/ وشن حملة لإصلاح الاشتراكية السوفيتية تحت شعارين هما: البيرويسترويكا ( إعادة البناء للاقتصاد والسياسة) والغلاسنوست( سياسة الانفتاح والشفافية وحرية الإعلام) .
وقد تجاوب مع غورباتشوف مجموعة من المثقفين ومدراء وأكاديميون وخبراء ...وكانوا لا يتجاوزوا المئات .وعم النقد والنقد الذاتي الوسط الثقافي وشمل قطاعات هامة داخل الحزب والدولة , وحتى الأجهزة الأمنية .إلا أن هذا التجاوب للفئات المثقفة والسياسية لم يكن يعني تجاوب جماهير الشعوب السوفيتية (وكذلك في أوروبا الشرقية).لأن النظام السوفيتي كان شرعياً ومقبولاً تماماً بالنسبة لهذه الشعوب .وهذا يشير الى أن التغيير" لم يأت من الأعماق,من تحت, بل جاء من القمة" .ولم يكن هناك من كان يتوقع في /1985/ أن ينهار الاتحاد السوفيتي بعد خمس سنوات .
ومع أن الأزمة الاقتصادية بدأت تظهر وتنذر بالخطر منذ /1980/. إلا أن البيرويسترويكا خلال سنوات قصيرة أدت إلى تدمير الآليات القديمة التي كانت تشغل الاقتصاد بدون تقديم أي بديل .بدون وجود أي تصور استراتيجي للإصلاح الفعلي.كان الإصلاح يعني التدمير وليس إعادة البناء . فكانت الهوة تتسع يوماً بعد يوم بين الحماسة الخطابية البيرويسترويكا ,وواقع اقتصادي يتدهور بسرعة وبصورة واضحة .
وكانت فئة " النومنكلاتوراnomenklatura " والتي تضم الفئات المتنفذة في الحزب والدولة والذين لم يكن لديهم هدف في عهد بريجينيف سوى أن " يريشّوا,ويملؤوا جيوبهم " .وكانوا يحكمون الاتحاد السوفيتي عملياً عبر نظام أشبه" بالإقطاعيات ذات الاستقلال الذاتي".وهم الذين استند إليهم غورباتشوف في عملية الإصلاح فكانوا يدفعون بمؤسسات الدولة إلى التدهور والإفلاس ,وتدمير الآليات القديمة التي كانت تشغل الاقتصاد. مما أدى إلى الانهيار الشامل بصورة نهائية خلال الشهور الحاسمة بين( ت1989 وأيار1990). وقد انتظمت هذه الفئة الممتدة عبر عموم روسيا ,جماعة ضغط في " الاتحاد الصناعي العلمي "الجديد في /1990/ليكونوا المالكين الشرعيين للمؤسسات التي كانوا يديرونها بدون حقوق قانونية من قبل .كذلك ,هذه الفئة ,التي حصدت مكاسب "الاشتراكية" وتطلعت إلى مكاسب الإصلاح بالانتقال إلى اقتصاد السوق ,كانت قد ولدّت اشمئزازاً تاريخياً عند الشعب وكان الوقود الأولي للإصلاح.
وقد أدى التدهور الاقتصادي إلى التعجيل بالتفكك السياسي ,وخاصة أن الإصلاح السياسي "الغلاسنوست" لم يكن لدى أصحابه تصور واضح وجدي حول اتجاه الإصلاح : هل المطلوب دولة دستورية ديمقراطية أم لا ,هل يبقى الحزب القائد ,أم لا ..الخ .مع وجود اتجاه متطرف عبر عنه المستفيدون من سياسة الانفتاح مفاده انه لايمكن القيام بأي شيء حتى يتم القضاء على النظام القديم قضاءً مبرماً.وبذلك تضافر الإصلاح الاقتصادي (البيرويسترويكا) الذي دمّر الاقتصاد, وسياسة(الغلاسنوست) التي أدت إلى تفكك السلطة , ليعجل بسرعة قياسية بدفع الاتحاد السوفيتي نحو الهاوية.
ومنذ أن أعلنت موسكو المنهارة تخليها عن أوروبا الشرقية وأنها لن تستردها بالقوة العسكرية كما فعلت عام/1956 و1968/ انهارت هذه الدول .ففي الفترة الواقعة بين /آب1989/ وحتى نهاية العام ,تنازلت الحكومات الشيوعية عن السلطة في كل من بولندا وتشيكوسلوفاكيا وهنغاريا وبلغاريا وألمانيا الديمقراطية ,دون أن تطلق رصاصة واحدة,وبعد ذلك بوقت قصير في يوغسلافيا وألبانيا(خارج الفلك السوفيتي).
ولم يكن في كل هذه الدول قوى سياسية منظمة أطاحت بالأنظمة الشيوعية ,بل كانت الغالبية من الجماهير راضية عن الأمور كما هي لأنها لم تكن تملك بديلا أفضل, رغم أنه لم يكن هناك من يشعر بالولاء للنظام حتى أولئك الذين كانوا يحكمونه.(عدا بولونيا والتي تشكلت فيها المعارضة من النقابات والكنيسة,وكانت مقاومة السلطة ضعيفة لا تذكر).
جميعها تخلت عن السلطة بهدوء ,ولم يكن هناك أي من الشيوعيين مستعداً للموت دفاعاً عن النظام. وكان السؤال الذي يدور : عمّ يدافعون ؟.أمن أجل تخلف أنظمتهم الاقتصادية بالمقارنة مع جيرانهم الغربيين , أو من أجل الاستبداد السياسي لأربعين سنة خلت ....الخ .
لقد حطم غورباتشوف ما أراد إصلاحه , وتحطم هو نفسه خلال مسيرة التدمير التي قادها,ليسجله التاريخ كإصلاحي مأساوي,كالمثقفين الذين ظهروا كموجة عنيفة تدعو إلى" المجتمع المدني" قبل البلشفية,والذين اندثروا بالسرعة التي ظهروا فيها .فالانتقال إلى الهاوية,أدى إلى تسليم البلاد (بما فيها غورباتشوف وحركات المجتمع المدني) كلقمة دسمة إلى المافيات العولمية ,بدون" دولة دستورية ديمقراطية" في البداية ,ثم جرى تأسيس دولة كهذه بما يتناسب ومصالح المافيات العولمية الجديدة , التي استولت على جهود وعرق الشعوب خلال عشرات السنوات.والتي أكلت الأخضر واليابس ,وولدت على الطرف الآخر الجوع والتشرد لأكثرية الشعب التي انتشرت في كل دول العالم.
إذن اللامتوقع في /1985/, حصل بعد خمس سنوات ,ونحن علينا في بداية القرن الجديد أن نعقل هذا اللامتوقع,ليس لأنه لن يتكرر ,بل لأنه يمكن أن يتكرر بأشكال وصور مختلفة.وتاريخ المجتمع ليس كالخط المستقيم ,أو كاللولبي الصاعد, إنما هذا التاريخ ترك مكاناً لهذا الذي يمكن أن نسميه" اللا متوقع ". والذي يمكن أن يكون عودة إلى الوراء, وعلينا نحن أن نعقله ونجعل له مكاناً في منظومتنا الفكرية.وبالتالي يمكن أن نتصور هذا في مستقبل سوريا والبلدان المتخلفة عموماً.
بقي أن نستمع إلى درس آخر من القرن العشرين,مع " إيريك هوبزباوم " بقوله : (( لقد أظهر القرن العشرين أن حاكماً ما يستطيع أن يحكم ضد إرادة كل شعبه بعض الوقت , أو يحكم بعض الناس بعض الوقت , ولكنه لا يستطيع أن يحكم كل الناس كل الوقت )).] حول الفقرة الأخيرة : ايريك هوبزباوم.عصر النهايات القصوى.ج3 الانهيار .ترجمة هشام الدجاني .منشورات وزارة الثقافة 1998دمشق [.
انتهى القسم الأول.........................مروان عبد الرزاق
القسم الثاني : التحول الديمقراطي ..نحو يسار ديمقراطي جديد
ويشمل: 1- المعارضة والديمقراطية الجديدة .
2- المجتمع والسياسة والديمقراطية .
3- نحو يسار ديمقراطي جديد في سوريا .
4- خاتمة:بداية الخروج من النفق .
ـ القسم الثاني ـ
1 ـ المعارضة والديمقراطية الجديدة :
القمع الأمني وزج المعارضة كاملة بكافة أحزابها وتياراتها في السجون خلال الربع الأخير من القرن الماضي، لم يترك أي أثر للمعارضة في سوريا. ومند بداية المرحلة الجديدة وإعطاء خطاب القسم الضوء الأخضر لمن يريد الكلام,عبر التجمع الوطني الديمقراطي _ والذي يضم ((الحزب الشيوعي( المكتب السياسي )، الاتحاد الاشتراكي، حزب البعث الديمقراطي، حزب العمال الثوري)),وهي أحزاب اعترف رموزها بضعفها,وسعيها لإعادة البناء _ ثم أحزاب التجمع منفردة,عن المرحلة الجديدة وطالبوا بالديمقراطية السياسية.] مثل:بيان التجمع في أواسط حزيران عام2000,ورسالة سياسية للحزب الشيوعي "المكتب السياسي"في آب 2000" [ .كذلك عبر المثقفون عن المرحلة الجديدة ببيان: مشروع تأسيس أصدقاء المجتمع المدني,بيان أل "99 "، ثم: الوثيقة الأساسية للجان إحياء المجتمع المدني, بيان" الألف"(كانون الثاني2001)، ثم: بيان نحو عقد اجتماعي وطني"التوافقات"(نيسان2001).
وانتشرت المنتديات الحوارية في كل المدن السورية.وكانت في البداية منتديات عامة,إلا أنها سرعان ما اتخذت سمة سياسية عامة.مثل:منتدى الأتاسي وهو منتدى عام للتجمع الديمقراطي والمجتمع المدني.ومنتدى لليسار الديمقراطي,ومنتدى للإسلاميين,ومنتدى لليبرالية الجديدة(منتدى الحوار الوطني الذي أسسه رياض سيف),ومنتدى للمرأة,ومنتدى للأكراد,ومنتديات أخرى,أدبية,و شخصية...وكانت الحوارات ساخنة اشترك فيها أغلب المثقفين في سوريا,بما فيهم مثقفون وسياسيون من السلطة.ناقشوا فيها كل شيء تقريباً,وطرحت خلالها اطروحات عديدة,ومنها اطروحات متطرفة دعت إلى تفكيك السلطة.وأجهزة الأمن تراقب دون أن تتدخل.وتشكلت لجان عديدة لحقوق الإنسان(عددها ثلاث),ولجان لنصرة العراق وفلسطين...وكانت السنة الأولى (من حزيران2000وحتى أيلول2001),يمكن تسميتها بحق بربيع سوريا,وليس ربيع دمشق فقط,والتي انتهت بعودة السلطة لاعتقال أصحاب الرأي(رياض الترك,وعارف دليلة ورياض سيف...وغيرهم).وحوصرت المنتديات,بأشكال مختلفة _ ماعدا منتدى الأتاسي _ إلى أن أغلقت .وبعد ذلك بدأت السلطة والمثقفون يلعبون لعبة "العسكر والحرامية",حتى الآن. ولجأ المثقفون إلى الكتابة في الصحف خارج سوريا( النهار,أخبار الشرق...وغيرها) بالإضافة إلى الانترنت.
وقد تلخص الخطاب الديمقراطي للمعارضة كالتالي:الدعوة الى إلغاء الأحكام العرفية وقانون الطوارىء,الحريات السياسية للمواطن والأحزاب والجمعيات والمنظمات غير الحكومية,واستقلال القضاء,وحقوق المرأة,وحقوق المواطن بنصيب عادل من الثروة الوطنية,وإصدار قانون انتخابي يكفل تداولاً سلمياً للسلطة,وإلغاء مبدأ الحزب القائد,والجبهة الوطنية التقدمية.باختصار الدعوة إلى إقامة دولة ديمقراطية,دولة حق وقانون,على أنقاض حكومة البعث الراهنة.
ويمكن التوقف عند بعض الملاحظات حول هذا الخطاب الديمقراطي الجديد,كما عبرت عنه الوثيقة الأساسية للجان إحياء المجتمع المدني,وبيانات التجمع الوطني الديمقراطي,بالإضافة إلى حزب العمل الشيوعي,والذين يشكلون المعارضة السورية في هذه المرحلة,خلال السنوات الأربع الماضية.
أولاً:
إن بيان الألف للمثقفين (وكذلك كل الخطاب السياسي المعارض) لم يدع إلى الحريات الأساسية للأفراد والمجتمع فقط مثل (حرية الصحافة والتعبير وحرية تشكيل الأحزاب والانتخابات..)، إنما دعا إلى نسف البنية السياسية الاجتماعية القائمة على "المشروعية الثورية"، أي نسف السلطة القائمة لعدم مشروعيتها. أي أن اللجان والمعارضة وضعت لنفسها وأخذت على عاتقها مهمة انقلاب جذري من الاستبداد إلى الديمقراطية، في الوقت الذي لاتشكل فيه المعارضة عموماً سوى أعداد قليلة وليس لها أي امتداد في المجتمع، ويمكن للسلطة بليلة واحدة أن تعيدها إلى السجن.مما أدى إلى توجس السلطة من لجان إحياء المجتمع المدني باعتبارها تمثل نموذجاً انقلابياً لا يختلف عن النماذج التي عبرت عن نفسها,خلال مرحلة تفكك الأنظمة الشمولية في أوروبا الشرقيةعام1989.
وعلى هذه الأرضية,تشارك الخطاب الديمقراطي للمعارضة,مع خطاب السلطة,ليشكلوا ثنائية جديدة أضيفت إلى الفكر الثقافي/السياسي في سوريا. أي ثنائية الإصلاح الاقتصادي أم الإصلاح السياسي.
الإصلاح الاقتصادي أولاً كما تراه السلطة دون أية أهمية لإصلاح سياسي يشرك المجتمع وقواه السياسية في عملية الإصلاح. والإصلاح السياسي كما تراه الوثيقة باعتباره "المدخل الضروري والوحيد للخروج من حالة الركود والتردي" دون أية أهمية للإصلاح الاقتصادي والإصلاحات الأخرى. وبدت الأمور وكأنها صراع على السلطة!
وبقيت الثنائية ـ ومازالت ـ تشكل محور الخطاب الثقافي السياسي في سوريا خلال السنوات الأربع الماضية. وهو ما يمكن تسميته بخطاب ثقافة/ حوار الأقبية الذي يتسم بالخوف وعدم الوضوح والبعد الواحد. وكأن السلطة مازالت تقف فوق سطح الزنزانة بعد أن فتحت أبوابها للتو دون أن يجرؤ أحد على الخروج ورؤية مصالح الوطن كاملة. ومثل هذا الحوار بالتأكيد لايبني وطناً، لأنه بالأساس ليس حوارا, بل يمكن وصفه بالحد الأدنى بأنه تراشق بالحجارة.
ولعل السبب الرئيسي يكمن في بنية هذه الأحزاب من جهة,وبنية السلطة من جهة أخرى.فالجميع ينتمون إلى نفس المدرسة القومية و الاشتراكية (والشيوعية) الانقلابية. كما أن كافة أحزاب المعارضة هي أحزاب انقسمت عن أحزاب الجبهة الحاكمة وحزب البعث .بالإضافة إلى الأخوان المسلمين - الذين لجؤوا إلى الانقلاب بالعنف المسلح في الثمانينات، وأسسوا مع السلطة لشرخ طائفي كارثي مدّمر للوطنية السورية- أصدروا ميثاقا ديمقراطيا.!
وكذلك لجان إحياء المجتمع المدني وهم نخب من المثقفين الليبراليين,والماركسيين الذين تحولوا إلى ليبراليين.حيث أن أغلب الموقعين على بيان الألف كانوا يساريين,ومتعلمين,وأدباء,وفنانين,وأساتذة...وقد تشكل في البداية جمهور واسع من المهتمين بالشأن العام, حول اللجان دون أن يحصل ذلك مع بيان التجمع الديمقراطي,علماً بأن البرنامج الديمقراطي هو ذاته. وذلك بسبب النفور من الأحزاب والخوف من الاعتقال,حيث طرحت اللجان نفسها كمنظمات غير حزبية,وغير حكومية,وغير سياسية.إلا أنه تبين ومنذ إعداد الوثيقة الاولى أن اللجان ليست منظمات غير سياسية,إنما طرحت مشروعا سياسيا ليبرالياً(وبنكهة يسارية)لا يختلف عن مشاريع الأحزاب الأخرى.وبدأت تدرج اسمها إلى جانب الأحزاب السياسية الأخرى, بعد تقلصها إلى مجموعة قليلة من الأفراد لأسباب عديدة.
وربما يكون من أسباب هذا التقلص والعزلة هو : أن اللجان لم تكن قادرة على ممارسة دورها كلجان مدنية أو أهلية في المجالات المختلفة,وأنها لم تسع إلى ذلك . كما لم تكن قادرة على ممارسة دورها كحزب جديد,(كحزب مسرع الخطى قليلاً باتجاه القصر الجمهوري!) – فإعادة السياسة إلى المجتمع,وإقامة دولة ديمقراطية هي من مهام الأحزاب السياسية بالدرجة الأولى.وهذا على أرضية عدم امتلاك اللجان أي هوية نظرية وسياسية واضحة ,ولم تسع إلى التعبير عن هذه الهوية خلال السنوات الأربع الماضية.إذ يبدو أن المثقفين الذين أسسوا اللجان لم يتجاوزوا العقلية الانقلابية التي تشكلت في المرحلة السابقة(وأغلبهم كانوا ضمن أحزاب المعارضة أو السلطة). وأنهم استلهموا خطابهم الديمقراطي الانقلابي الجديد من تجارب انهيار الأنظمة الشمولية في أوروبا الشرقية .فأصدروا بيانهم الخطابي واستمروا يكرروه خلال السنوات الماضية , دون أن يكون هناك أي جديد.وكأنه لم يعد لديهم ما يقدموه .!
بمعنى آخر، لا يوجد في سوريا أحزاب معتدلة أو توسطية، فكلها أحزاب انقلابية تنفي الآخر ولا تقبل بوجوده. وهي في الحقيقة نتاج مرحلة الحرب الباردة، مرحلة العنف والعنف المضاد، السجان والسجين.
ثانياً:
وحين تم رفع شعار الديمقراطية، رفعته البنى ذاتها. فالسلطة نادت بأن لنا "ديمقراطيتنا الخاصة"، والمعارضة رفعت شعار التغيير الديمقراطي الليبرالي. تفكيك الاستبداد، وإلغاء سيطرة حزب البعث، ودعوة للانتخابات، وحتى الأخوان المسلمون أصبحوا ديمقراطيين!. لقد تحولت الديمقراطية إلى شعار,يمكن تكريره في كل مقال ومقام,وله دور تعبوي أكثر مما هو معرفي. وأي مراقب يمكنه ملاحظة أن شعار الديمقراطية حل محل شعار الاشتراكية, والوحدة العربية,والإسلام. وكما كانت الطفولة سابقاً بأن بياناً أو نشرة سياسية يتم إعدادها في الأقبية السرية وتوزيعها قادرة ـ في تقدير متخيل لنضج الظروف ـ على إسقاط السلطة، كذلك الآن فإن بياناً أو مجموعة من البيانات,يوقع عليها مجموعة من المثقفين,قادرة على فعل ذلك والانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية. . وكمثال:استعجال رياض سيف لتأسيس " حركة السلم الاجتماعي" ,بإصدار المبادىء الأولى للحوار في (31-1-2001).وكأنه يستعد لاستلام السلطة.!
ومن جهة ثانية يبدو أن القوى الديمقراطية وقعت فيما حذر منه جورج طرابيشي,منذ عشر سنوات:" وهو اعتبار الديمقراطية مفتاحاً سحرياً لحل جميع المشكلات بمجملها,مثله مثل سائر المفاتيح العجائبية الأيديولوجية السابقة (الاشتراكية,الوحدة,الثورة),والتي كان يراد لها أن تقوم بدور معجزة النقلة الفجائية(بلا أي مجهود ولا كلفة ولا تراكم زمني)من واقع التأخر إلى مثال التقدم.ويتم طرح الديمقراطية كمطلق:فهي الشرط المسبق لكل شرط "بدونها لاشيء ,وبها كل شيء ".ولكن ما يغيب عن الوعي الأيديولوجي, أن الديمقراطية,قبل أن تكون مفتاحاً لأي باب ,بحاجة هي نفسها إلى مفتاح,ولعلّ بابها لا ينفتح إلا بعد أن تكون سائر الأبواب قد فتحت,أو على الأقل بالتواقت معها ".(جورج طرابيشي,في ثقافة الديمقراطية,دار الطليعة,1998).وهذا يسميه طرابيشي إشكالية "المفتاح والتاج "للديمقراطية.إذ لايعني أن الديمقراطية لا تصلح لأن تكون نقطة انطلاق,ولكن ذلك فقط بقدر ما تشكل في الوقت نفسه نقطة وصول.وإذا كان لها أن تدشن تطورا بعينه,فليس يجوز أن يغيب عن الوعي أنها تتوج التطور.ولايمكن أن تكون الديمقراطية ثمرة برسم القطف ,إلا إذا كانت بالقدر نفسه على الأقل ,بذرة برسم الزرع.وحتى يتم الزرع والنمو,لابد من تخصيب التربة. "والثقافة الديمقراطية هي هاهنا شرط تخصيب التربة وشرط النماء.وبدون ثقافة الديمقراطية – التي ينبغي أن تكون في رأس جدول وظائف الأنتلجنسيا العربية المتدقرطة – فان الإجرائية أو الشكلانية الديمقراطية,قد تنقلب وبالاً على الديمقراطية نفسها." والمقصود هنا بالشكلانية الديمقراطية:الانتخابات وصندوق الاقتراع.
ونحن في سوريا,لم يزرع أجدادنا هذه البذرة,ولم يتم تخصيب التربة لذلك أيضاً.وحين فتحت النافذة لذلك,وجدنا أنفسنا نرفع الراية الجديدة (الديمقراطية),وكأننا وجدنا الثمرة المنقذ!. دون أن يخطر في الذهن أن هذه الراية بحاجة إلى حامل حقيقي يحملها ,كي لا تنقلب وتنغرز في صدره.دون أن يخطر في الذهن أيضا, أن الديمقراطية بحاجة إلى برنامج عمل لتحويل هذه الديمقراطية من رؤوس المثقفين إلى سلوكهم وإلى أصحاب المصلحة الحقيقية وهو المجتمع.
ثالثاً :
ارتكز النهوض الجديد، أو إعادة البناء للمعارضة ,إلى مقولات جديدة للعمل السياسي في سوريا لم تكن موجودة من قبل:
- أولها,العلنية : ورفض العودة إلى العمل السياسي داخل الأقبية المغلقة، حتى ولو كلف ذلك العودة إلى السجن من جديد.
- وثانيها,السلمية: ونبذ العنف باعتباره وسيلة غير مجدية كأسلوب للتغيير. والأشكال السلمية عديدة مثل: (تظاهر، اعتصام، ندوات..).
- وثالثها,التدرجية:في البناء الديمقراطي. إلا أن مفهوم التدرجية والقناعة به غير واضحين. وبقيت هذه القناعة مرهونة بالعقلية الجذرية الانقلابية القديمة. إذ يحكم وجهة النظر هذه عاملان: الأول، عدم الثقة بأن السلطة يمكنها أن تقوم بعملية التغيير الديمقراطي، وأن القول بالانتقال التدريجي نحو الديمقراطية يصب في هذه المرحلة لصالح السلطة التي تدعو إلى مثل هذا الانتقال المتدرج والتطوير المتدرج على كافة الأصعدة. والعامل الثاني، عدم وجود قوى ديمقراطية مجتمعية حقيقية قادرة على إسقاط الاستبداد والانتقال إلى الديمقراطية.
وقد وجدت موضوعات المؤتمر السادس للحزب الشيوعي السوري/المكتب السياسي مخرجاً مرتبكاً أو متناقضاً لذلك.فهي تعتبر أنه " ليس هناك مخرج مشرف لسوريا غير الانتقال السلمي المتدرج... نحو نظام تعددي دستوري. فلا تدرج ـ مثلاً ـ في الإفراج عن المعتقلين.. وعودة المنفيين، والكشف عن مصير المفقودين وتصفية المظالم.. وقمع الفساد وإنهاء احتكار السياسة والسلطة. التدرج في بناء النظام الديمقراطي الجديد، وليس في تفكيك النظام الديكتاتوري القديم. التدرج أيضاً في الأسلوب وليس في المبدأ ". فإذا كان لا تدرج في تفكيك النظام الديكتاتوري القديم، فالبديل إذاً هو الإسقاط الجذري، ومن سيسقط الاستبداد؟. لا أحد.!أو مجموعة من المثقفين الغاضبين!. وهو مناقض للفقرة الأولى التي تقول: "انتقال سلمي وتدريجي".
من جهة أخرى: يشير تاريخ تحقق الديمقراطية على الأرض إلى أن هذا التحقق تم بالتدريج، سواء في تاريخ الثورة الفرنسية العنيفة، أو تاريخ الانتقال السلمي البريطاني، أو انتقال بعض البلدان العربية إلى توفير هامش للحريات والديمقراطية(مصر،المغرب،الأردن،لبنان). ثم كيف يمكن إنهاء احتكار السياسة والسلطة بالأسلوب السلمي والتدريجي إذا لم يتم تفكيك النظام الديكتاتوري القديم تدريجياً. فالتدرج في الأسلوب والمبدأ، حتى لو كان المقصود بالمبدأ هنا هو المفهوم. أي مفهوم الديمقراطية النظري،لأن المفهوم الديمقراطي قد تشكل عبر التاريخ تدريجياً. والأسلوب هو عملية البناء الواقعي للديمقراطية ومدى اقترابها من الهدف وهو الترجمة الكاملة للمفهوم النظري للديمقراطية. والتشكل التدريجي التاريخي للمفهوم لا يجعله أيضاً مفهوماً ثابتاً ونهائياً,إنما يتطور ويضاف له دائماً عناصر جديدة مع كل تجربة جديدة للديمقراطية,وعبر كل مرحلة جديدة في عملية البناء الديمقراطي.
فكل الحكومات الاستبدادية في العالم لا يمكن إسقاطها إذا لم تتفكك من الداخل. وهذا التفكك لا يأتي دفعة واحدة، بل تدريجياً، وعندما يصل إلى حده الأقصى يحدث الانهيار ببساطة.وأحدث التجارب التي غيرت اتجاه العالم في القرن العشرين تشير إلى ذلك، أقصد انهيار المنظومة السوفييتية.إلا أن هذا ليس قانونا فيزيائيا,يمكن قياس كمياته ودرجاته ونتائجه كما هو في المخبر.فتفكك وتنازل السلطات عن الحكم في أوروبا الشرقية بمجرد إعلان موسكو تخليها عنها والتي كانت بمثابة قوتها العسكرية والاقتصادية والأمنية,لم يشكل قانوناً,إنما هو واحد من الاحتمالات,لمستقبل الأنظمة الشمولية. فهناك العديد من هذه الأنظمة لم تنهر مثل:الصين وكوريا الشمالية وكوبا,ومن ضمنها سوريا. .وأن الانهيار الفعلي كما حصل في المنظومة المذكورة لم يتم إلا بعد أن أكملت دوائر الفساد في السلطة تدميرها للاقتصاد,لأسس الإنتاج الاقتصادي, فتم فقدان المواد الأساسية للمعيشة وعم الجوع بشكل لم يألفه الإنسان العادي ولم يكن يخطر في باله . فخرج الشعب عندئذ,من سلبيته إلى الشارع , في مظاهرات شاملة بطريقة أدهشت المثقفين هناك. وفي ذلك الوقت بالضبط سقطت السلطات فعلياً إلى غير رجعة .
والنظام في سوريا شمولي.واستمد أسس هذه الشمولية من الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية,وقد تخلى السوفييت عن دعمه منذ /1990/ . ولم يسقط النظام,رغم أنه محاصر من قبل أمريكا منذ /1979/ بوضع سوريا على قائمة الإرهاب.وقد تمت الإشارة في" القسم الأول" إلى تفكك هذه الشمولية للنظام على المستويات المختلفة الدولية والعربية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية,إلا أن هذا التفكك لم يؤد إلى الانهيار.وهذا ما نخشاه فعلياً .لأن انهيار وطن يختلف كلياً عن انهيار سلطة استبدادية .هذا الانهيار الذي لا يختلف جوهرياً عن الاحتلال العسكري الأمريكي كما حصل في العراق.إنما يمكن القول أن القوات العسكرية المحتلة تم استخدامها لإحداث الانهيار الكلي في العراق ,كالذي حصل في المنظومة السوفيتية,لكن بدون حرب عسكرية.
وليس هناك أي اعتقاد ,بأن المعارضة في سوريا تدفع بوعي الوطن إلى الانهيار.(عدا بعض "الجلبيين " القلائل).إلا أنه يجب أن يكون التفريق واضحاً بين انهيار الوطن وبين انهيار الاستبداد السياسي.يجب أن يكون التفريق واضحاً بين السعي للانتقال إلى نظام وطني ديمقراطي عادل أكثر تقدماً من النظام الشمولي الاستبدادي,عبر انهيار الوطن.أو بشكل سلمي وتدريجي. وأيضاً يجب أن نكون حذرين, بأن نكون واضحين. بان نعرف ونعرض ما نريده بوضوح.بأن نمارس الشفافية قبل أن نطالب السلطة بها .
وتآكل الاستبداد السياسي عبر عن نفسه منذ بداية العهد الجديد.وعلى المعارضة أن تدفع بهذا التآكل إلى نهايته,وهذا لا يتم كما تأكد للمعارضة خلال السنوات الأربع الماضية,عبر الديمقراطية التي تم تحويلها إلى شعار, إنما العمل على تأسيس: برنامج للعمل الديمقراطي,والذي يشكل أحد النقاط الرئيسية,ضمن برنامج للعمل الوطني الديمقراطي يعبر عن استجابة حقيقية لاستحقاقات الوطن على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعربية والدولية.وهذا لم تصل إليه, أو لا تريده المعارضة حتى الآن.
رابعاً:
ضمت السنوات الأربع الماضية حدثين هامين. الأول:تصاعد الانتفاضة في فلسطين المحتلة.والثاني: احتلال أمريكا للعراق/2003/.وهذا أدى إلى المزيد من شحن الشعب السوري بالغضب من جهة, والهزيمة من جهة أخرى. وكان يوم دخول القوات الأمريكية لبغداد(9_نيسان_ 2003) يوماً مأساوياً للشعب السوري.وقد نظّم المثقفون والمعارضة عموماً,مظاهرات واعتصامات عديدة,عبرت من خلالها عن دعمها للانتفاضة,وللمقاومة في العراق,واستنكارها للاحتلال الأمريكي_البريطاني. ونظمت السلطة أيضاً تظاهرات عديدة لنفس الغرض والأهداف.ويمكن أن نلحظ,من جهة أولى, عودة صور الرئيس الراحل جمال عبد الناصر, وشعارات:مثل بالروح,بالدم نفديك يا فلسطين,أو يا عراق .وفي الطرف المقابل,صور الرئيس الراحل حافظ الأسد,والرئيس الجديد بشار الأسد,مع نفس الشعارات تقريباً.وكأن شيئاً لم يتغير منذ السبعينات حتى الآن!.ومن جهة أخرى يمكن أن نلحظ,أيضاً,أن المعارضة لم تنظم أية مظاهرة أو اعتصام..من أجل مطالبها الأساسية حول الحريات السياسية والديمقراطية.باستثناء الاعتصام الوحيد الذي دعت إليه ( لجان حقوق الإنسان في سوريا) في /8آذار2004/ للمطالبة بإلغاء قانون الطوارىء والأحكام العرفية أمام البرلمان في دمشق,ولم يستجب له سوى بعض المثقفين(حوالي ثلاثين).إلا أن تنظيمات المعارضة المختلفة,لم تستجب إليه,اعتماداً على حجج واهية.مما يمكن القول أن المعارضة في سوريا,لم تتجاوز بعد اطر الرموز الشخصية.وأنها أيضاً, معارضة مناسباتية.وعندما تنتهي المناسبة,ينتهي العمل,في انتظار مناسبة أخرى.
ويبقى المستقبل هو الذي سيحكم على عملية انتقال هذه الأحزاب المعارضة من أحزاب انقلابية، إلى أحزاب ديمقراطية تعترف بالآخر إلى جوارها، في السعي إلى بناء دولة ديمقراطية حديثة. وهذا يحتاج بالدرجة الأولى إلى البدء بتفكيك مفاصل المنظومة النظرية والسياسية والتنظيمية، وإعادة البناء من جديد- وهذا ما تقوم به هذه الأحزاب في هذه المرحلة - كأحزاب ديمقراطية، يكون لها دور هام في إعادة السياسة إلى المجتمع,في إعادة بناء الوطن من جديد.وهنا لا يمكن أن نقول سوى أن استبدال اليافطة القومية أو الشيوعية أو الإسلامية، بيافطة ديمقراطية غير كاف للانتقال إلى أحزاب ديمقراطية. لكن هنا يمكن أن نسأل سؤالاً هاماً:هل تفكر المعارضة في إمكانية تحويل بنيتها التنظيمية الداخلية الاستبدادية باتجاه سيادة الحريات والديمقراطية داخل الحزب . وتسمح للرأي الآخر بحرية التعبير , والنشاط السياسي , والشفافية ....... وأن يكون هناك إمكانية(وضرورة) لتداول سلمي لرئاسة الحزب.........الخ.؟والجواب بالتأكيد عند الأحزاب المذكورة.إلا أنه يمكن التأكيد بأن الحزب لا يكون ديمقراطياً ومنسجماً مع أهدافه الديمقراطية إلا إذا كانت بنيته التنظيمية حرة وديمقراطية.وعلى سبيل المثال:كيف يمكن لحزب ما أن يكون ديمقراطياً و أن يكون هدفه الرئيسي في المجتمع التداول السلمي للسلطة,وأن يكون هذا التداول داخل الحزب مرفوضاً . حيث يبقى الأمين العام للأبد...!؟.
2 ـ المجتمع والسياسة والديمقراطية
آ ـ لماذا المجتمع بعيد عن السياسة؟
1 - بدأ المجتمع في سوريا يتنفس من جديد منذ بداية هذا القرن.إلا أن نصف القرن الماضي مازال جاثماً أمام عينيه,والذي جعله يبتعد عن الخطاب السياسي الذي كان سائداً خلال المرحلة السابقة,والذي دفع المجتمع ثمنه غالياً,وهو الخطاب: الوحدوي الاشتراكي التحريري والإسلامي.وكانت السلطة تجمع كل هذه الخطابات في خطاب واحد.أما المعارضة,فحملت نفس الخطاب,إنما بصورة مجزأة.حيث نجد كل حزب يحمل مشروعاً وأكثر. وبعد نصف قرن,يشعر هذا المجتمع بالهزيمة,والإحباط,واليأس,والخوف:فلا الوحدة تحققت,بعد تسلط سلطات قطرية,حولت الأقطار العربية إلى مزارع خاصة.وأكثر من ذلك شاركت الاحتلال في تدمير العراق.! ولا الاشتراكية تحققت,لأنها كانت وهماً أو كذبة كبيرة.وأراضينا مازالت محتلة منذ /1967/,والجيش يأكل ثلث الدخل الوطني لتحرير هذه الأراضي منذ ثلاثين عاماً.والأجهزة الأمنية جاثمة فوق الصدور,تلتهم مواد الدستور التي تقول بأن "الحرية حق مقدس لكل مواطن".والقتل اليومي للفلسطينيين مستمراً,منذ سبعين عاماً وأمام أعين الأشقاء العرب!.وحين تدّخل الخطاب الإسلامي الطائفي منفردا,كان دوره مدمراً للمجتمع,ومازالت آثاره باقية حتى الآن.وحين أعلن الأخوان المسلمون ميثاقهم حول تحولهم "بقدرة قادر" إلى ديمقراطيين,هلل لذلك أحزاب المعارضة,وتم اعتبارهم تيارا معتدلا,وحليف مستقبلي للديمقراطية!,دون أن يتم مساءلته حول دوره المّدمر في الثمانينات,وحول قبوله بشكل واضح بقيام دولة ديمقراطية علمانية,وحول إمكانية تحوله من حزب مذهبي(سني)إلى حزب إسلامي ديمقراطي معتدل.!
وخلال أربعة عقود تضاعف سكان سوريا ست مرات.والسياسة الاقتصادية المترافقة مع السياسة السكانية الرشيدة!أدت إلى لفظ نصف مليون عاطل عن العمل,أي استبعادهم من المجتمع.والباقي ترك لاهثاً كالكائنات الحية تبحث عن لقمتها,طوال الليل والنهار,تحت سيطرة دوائر الفساد والتي أفسدت المجتمع بأسره.هذه الدوائر التي كانت تنهب أمام أعين الجميع وتودع ما نهبته في البنوك الأجنبية.
وهذا أدى بطبيعة الحال إلى نفور المجتمع من السلطة والمعارضة،ومن السياسة عموماً. وعاد المجتمع ليجد نفسه يعيد الاعتبار للعائلية والعشائرية والمذهبية الطائفية.وأدى هذا إلى تفكيك المجتمع بحيث لم يعد قادراً على إنتاج قواه السياسية من جديد.وعلى الطرف الآخر,تم تحويل المجتمع إلى رعايا، وتذريره إلى أفراد لا علاقة فيما بينهم، ولا وجود لمصالح مشتركة (مجتمعية أو وطنية أو قومية) فيما بينهم. أي تحطيم الجذر الذي يقوم عليه الاجتماع الإنساني، وهو الشعور بالانتماء إلى المجتمع وضرورته حتى يشعر الفرد بأنه إنسان، وأن يشعر بأن هناك قواسم مشتركة وحاجات مشتركة أكثر من مسألة الفيزيولوجيا (الطعام والشراب..)،وأكثر من العائلة والعشيرة. كالحرية والكرامة والدفاع عن الوطن وعن الممتلكات العامة...
عندما يكون الإنسان هكذا، يمكن للسلطة أن تستمر دون أية مشاكل، ويكون الأمن والاستقرار سائداً !. لكن هذا الاستقرار مبني على موت المجتمع وفقدانه حيويته وفاعليته.ويمكن للمعارضة أن تبحث عن المجتمع دون أن تجده فعالاً,أو مواليا لها .ومن الطبيعي أن يهرب الفرد عندما يشعر أنه فرد فقط, وليس ضمن مجتمع، أن يهرب من قضايا المجتمع العمومية.من السياسة والقائمين عليها.
ألا يستحق هذا المجتمع,أن تعتذر منه القوى السياسية التاريخية في سوريا(السلطة والمعارضة).عما فعلته به خلال الخمسين سنة الماضية.! ألا يستدعي الفشل/ أو الفشل مع التسلط, في تحقيق المشاريع الكبرى,الاعتذار وهذا هو الحد الأدنى,والذي دفع المجتمع لأجل ذلك حياته كلها لمرحلة جيل كامل وأكثر.!وذلك عبر نقد ذاتي للسياسات التي مارستها هذه القوى باسمه.؟أم أن التاريخ سيستمر في إثبات صحة الخط السياسي لهذه الأحزاب ,وأن المجتمع على خطأ,أولا يعرف مصالحه جيدا.
2- بالإضافة إلى ذلك,هناك سبب آخر لبعد المجتمع عن السياسة,يتعلق بتحول مجرى الصراع العالمي بانتهاء الحرب الباردة.إذ يمكن اعتبار المرحلة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى التسعينات – بقليل من التجاوز- مرحلة سياسية.أو بمعنى آخر سيادة الخطاب السياسي.
والذي تمثل في أوروبا بتأسيس الدولة الديمقراطية العلمانية,وحقوق الإنسان,وحقوق المرأة,وحقوق الشعوب المستعمرة في تقرير مصيرها,وبثورة حقيقية في نشر أفكار الثقافة الديمقراطية والحداثة,ثم ما بعد الحداثة.وتطور العلوم الاجتماعية,والسياسية,والفلسفية,...وغيرها.بالإضافة إلى الثورة العلمية في مجال العلوم والتقنيات,وتجاوز الثورة الصناعية.وتحت ذلك إذا صح التعبير,أو مترافقا معه,كان يتم البناء الاقتصادي بهدوء.
وعلى الطرف المقابل,كان الخطاب السياسي الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي وحلفاؤه في العالم والداعي إلى الحرية والمساواة,وتحرير الشعوب المستعمرة,ورافق ذلك أيضا تطورا في العلوم كافة, وبناء منظومة سياسية واجتماعية واقتصادية, شكلت قطبا مناقضا للغرب الإمبريالي.
وعندنا في سوريا والعالم المتخلف عموما كان الخطاب السياسي هو السائد ايضاً,والمتمثل بالتحرر الوطني من الاستعمار,والقومية العربية,وتحرير فلسطين,وإعادة بناء البلاد بأيد وطنية.
ومع انهيار منظومة الاتحاد السوفيتي,وإفلاس/سقوط ,الأنظمة الوطنية في العالم المتخلف ,وانتصار العولمة الليبرالية الجديدة,المتمركزة في العالم الصناعي المتقدم,تراجعت السياسة أو انزاحت إلى الخلف ,وأصبحت في خدمة الليبراليين الجدد,الذين يهمهم بالدرجة الأولى,الاقتصاد والأرباح.فتحّول السياسيون إلى " بياعين ".وابتعد الشعب عموما عن الأحزاب والسياسة(حسب رأي العديد من المفكرين والسياسيين الأوربيين).واحتلت الصراعات الاقتصادية والتي مازالت ماثلة أمامنا بين أوروبا وأمريكا واليابان والصين..الخ,في منظمة التجارة العالمية ,المرتبة الأولى.وتقوم أمريكا منذ تسعينات القرن الماضي, بقيادة العولمة ونشر الليبرالية الجديدة على مستوى العالم وتشن الحروب من اجل الأرباح والاقتصاد وليس من أجل السياسة وحقوق الإنسان والديمقراطية. ويكفي أن نقول للذين يشككون في هذا الأمر عليهم فقط النظر إلى العراق المحتل,وكيف يجري تقاسم الغنائم بين الشركات العالمية.
وفي البلدان المتخلفة والمنظومة المنهارة,تحول سياسيوها إلى" متسولين " للرأسمال العولمي كي ينقذ اقتصادها المتدهور,ومتسولين للقروض والهبات كي يستطيع هؤلاء أن يصرفوا على أجهزتهم الأمنية والعسكرية,وبالتالي استمرارهم في الحكم.ومن الطبيعي ضمن الظرف العالمي أن تتحول هذه الشعوب,إلى البحث عن المال والأرباح,وأن تهتم بالاقتصاد دون السياسة.وتترك السياسة إلى طبقة سياسية بدأت تفرز نفسها وتتشكل كطبقة منفصلة عن عموم الشعب.
3 – وهناك سبب آخر,وهو عدم وجود قانون ينظم الحياة السياسية في سوريا.فالعمل في السياسة,مازال يعني الاعتقال,والتعذيب,والسجن لسنوات عديدة.كما هي تجربة المجتمع خلال نصف القرن الماضي. فما زالت السياسة حقلاً محّرماً على المجتمع.ومحتكراً من قبل السلطة.
ب – المجتمع والديمقراطية:
ومن الطبيعي بعد هذا التاريخ من الشعارات المهزومة,والبعد عن السياسة,أن يتعامل المجتمع مع خطاب الديمقراطية الجديدة باللامبالاة,والذي بدأ يتلقاه عبر الفضائيات والتي أصبحت الوسيلة الإعلامية الأهم من بين كل الوسائل الأخرى.أو يمكن تسميتها,"هيصة " الديمقراطية الجديدة, ويشارك فيها السلطة والمعارضة والعالم الخارجي . وأقصد "بالهيصة" ,أن الجميع يتكلم بنفس الموضوع(العنوان),الشعار الجديد, كما نلحظه عند مثقفي الفضائيات الجدد,والذين يشكلون تعبيراً عن القوى السياسية الراهنة, دون أن يستمع أحد للآخر،ودون أن يستطيع أحد أن يكمل جملته أو فكرته,حيث يرتفع صوت الجميع,ويعلو الصوت ويتحول إلى صراخ,وينتهي النقاش دون أن يفهم أحد أي شيء.
والإشكالية الأولى تأتي من الخطاب ذاته.حيث نجد المثقفين لدى السلطات العربية يروجون لديمقراطية السلطة "النابعة من ظروفنا الداخلية" في مرحلة "الصراع المستمر مع إسرائيل"، والمجتمع لا يرى إلا الهزيمة أمام إسرائيل، وأجهزة الأمن تهاجم البيوت يومياً لاعتقالات جديدة.
ومثقفو الاحتلال الذين يروجون للحرية والديمقراطية في أمريكا وإسرائيل، ويراهنون على الاحتلال الذي قضى على الاستبداد،ويضعون الديمقراطية الإسرائيلية مقابل الاستبداد العربي. والمجتمع لا يرى إلا القتل والتدمير اليومي للعراقيين,والفلسطينيين على أيدي الديمقراطيين!. حتى أن مثقفو الاحتلال ومثقفو السلطات العربية اختلفوا حول الديمقراطية المطلوبة في كل البلدان العربية (وهي الوحيدة في كل دول العالم التي ترفضها ـ مثال: مشروع لشرق الأوسط الكبير).
وكذلك خطاب المعارضة الديمقراطية والتي حظها في الظهور اقل لأنها ببساطة غير قادرة على التمويل , وببساطة يتم ربط هذه المعارضة الديمقراطية داخل البلدان العربية بالارتباط بالخارج والعمالة,من قبل السلطات العربية رغم أن العديد من هذه السلطات تتلقى رواتب سنوية من الخارج.
والإشكالية الثانية، وهي أن المجتمع السوري لا يملك تاريخاً ديمقراطياً، لا يملك إرثاً ثقافياً سياسياً ديمقراطياً. ولا يشير تاريخ سوريا إلى أي صراع حقيقي بين قوى ديمقراطية وأخرى نقيضة أو استبدادية، إذ كل الصراعات كانت بين قوى استبدادية تسلطية(اشتراكية,وقومية,وليبرالية,وإسلامية).وجيل السبعينات الذي عاش فترة الخمسينات والتي يعتبرها البعض ذهبية!لم يستطع توريثها للأجيال اللاحقة لأنها بالأساس غير قابلة للتوريث, كتاريخ,وكثقافة ديمقراطية,لأنها بالأساس لم تكن كذلك. فالتاريخ الممتد منذ الاستقلال 1946 وحتى 1963 يحتوي على تغيير للحكومات بالانقلاب العسكري أكثر منه بالانتخاب بكثير.(1943-انتخاب أول رئيس للجمهورية وهو شكري القوتلي في ظل الاحتلال.18نيسان1948إنتخاب شكري القوتلي للمرة الثانية -30 آذار1949 انقلاب حسني الزعيم – 14 آب1949 انقلاب سامي الحناوي (وإعدام حسني الزعيم).- 19كانون الأول1949 إنقلاب أديب الشيشكلي.- 24حزيران1950إنتخاب هاشم الأتاسي.- 28تشرينالأول1951إنقلاب الشيشكلي الثاني.-1آذار1954سقوط الشيشكلي وتعيين الأتاسي رئيسا .-أواخر1956عودة شكري القوتلي.- 1شباط 1958 إعلان الجمهورية العربية المتحدة.- 28 إيلول انقلاب الانفصال بقيادة عبد الكريم النحلاوي.وأخيرا 8آذار 1963.) بالحساب البسيط ,عاشت سوريا تحت ظل حكومة منتخبة مدة أربع سنوات ونصف فقط لاغير خلال الفترة الممتدة من الاستقلال عام1946 وحتى آذار1963 . وهذا ما يجعل المجتمع السوري (عموماً) في إطار بعده عن السياسة، يستقبل المفاهيم الديمقراطية باللامبالاة.
ورغم التمدن الذي نلحظه في شتى ميادين الحياة في المجتمع السوري.إلا أن الولاء الأبوي,والعائلي,والعشائري,والمذهبي مازال يحتل أهمية كبيرة في حياة وثقافة المجتمع.وهذا يعني أننا مازلنا في مرحلة ما قبل الثقافة الديمقراطية.هذه الثقافة التي تعني _ في جانب منها _ قبول الآخر المختلف,والانتماء إلى ولاءات سياسية وطبقية وعلمية ....وتجاوز ولاءات ما قبل الحداثة.
* * *
3ـ نحو يسار ديمقراطي جديد في سوريا:
أ ـ مقدمة حول المفهوم:
بدأ استخدام مفهومي اليمين واليسار على المستوى السياسي مع الثورة الفرنسية (1789)، حيث أطلقت صفة اليسار على "اليعاقبة" الذين كانوا يجلسون إلى يسار رئاسة الجمعية العامة، وهوالتيار الأكثر جذرية في تنفيذ أهداف الثورة (حرية، أخاء، مساواة)، مقابل الذين كانوا يجلسون على اليمين "كالجيرونديين، والأورليانيين..."، والذين وقفوا فيما بعد ضد حكومة اليعاقبة (1792). ومع انتشار مفاهيم جديدة للغة السياسية آنذاك وخاصة بعد ثورتي (1830 و 1848) مثل: الاشتراكية والشيوعية والبرجوازية والليبرالية والجمهورية... بدأ استخدام مفهوم اليسار ليعبر عن كل القوى الاشتراكية والشيوعية، مقابل اليمين الذي كان يمثل البرجوازية الليبرالية وبقايا العهد الإمبراطوري. ورافق ذلك أيضاً التصنيفات داخل اليسار (ثوري، إصلاحي،...الخ)، وكذلك داخل اليمين ( جمهوري، محافظ، ليبرالي...الخ). وخاض اليسار واليمين في فرنسا وأوروبا عموماً صراعات مازالت مستمرة وحتى الآن. وهذه الصراعات كانت سلمية أحياناً، وعنيفة دموية أحياناً أخرى، وكان اليسار هو المدافع عن شعارات الثورة الفرنسية البرجوازية، والذي كان يدعو إلى توسيع دائرة الحريات لتشمل المجتمع كله، بعد أن كانت مقتصرة على جزء منه (حسب الملكية، والضرائب...الخ)، وإلى العدالة في توزيع الثروة وتحسين أوضاع العمال والفئات الشعبية الاقتصادية، وكانت البرجوازية الليبرالية على الطرف الآخر، تريد أن تقتصر الحريات على المستوى الاقتصادي فقط، وأن تكون الحقوق السياسية ( الرأي والانتخاب...) مقتصرة على أفراد الطبقة الجديدة فقط. كان اليسار يدفع بالثورة البرجوازية إلى نهايتها الثورية التي عبرت عنها شعاراتها (الحرية والمساواة)، كان يدفع باتجاه تعميق الديمقراطية وتوسيعها.
بعد الحرب العالمية الثانية بدأ النظام الديمقراطي يستقر في أوروبا، حيث استطاعت الاشتراكية الديمقراطية في البلدان الأوروبية (والتي وصفها لينين بالإصلاحية والانتهازية)، أن تؤسس مع الأحزاب البرجوازية ( اليمين) نظاماً ديمقراطياً، ودولة ديمقراطية علمانية، حيث شملت الحريات السياسية أفراد المجتمع بالكامل (بما فيهم المرأة التي أعطيت الحق بالانتخاب والترشيح)، وانتهاج نظام أو قوانين جديدة تسمح بتوزيع عادل للثروة، والتقليل من حالة اللامساواة التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. وهذا كله تم ضمن صفقة تاريخية بين العمل (الأحزاب الاشتراكية والنقابات..) والرأسمال ( الأحزاب البرجوازية الليبرالية، والجمهورية..)، حيث تنازلت الاشتراكية الديمقراطية عن الثورة وإسقاط السلطة، مقابل تنازل الرأسمال (مشاركة للعمال بالأرباح، وحقهم في تشكيل نقابات مستقلة، وتقليل ساعات العمل، وضمان صحي، وتعليم مجاني، وقانون انتخاب جديد...). حيث أدى هذا في النهاية إلى إقامة "دولة الرفاه" أو "دولة الرعاية الاجتماعية".
بالمقابل، انتصر البلاشفة، وهو اليسار الأكثر ثورية في الحركة الاشتراكية الديمقراطية الروسية عام 1917، وأقاموا "دولة اشتراكية ومجتمعاً اشتراكياً يقوم على الحرية والمساواة"، كما كان يحلم كل الاشتراكيين في العالم. وتوضح بعد ثلاثة أرباع القرن بأن "الدولة التي أقامها البلاشفة لم تتجاوز عتبة الاشتراكية وهي رأسمالية الدولة" كما وصفها لينين واعتبرها عتبة للدخول إلى الاشتراكية وليست هي الاشتراكية، حيث قامت الثورة في بلد ذي تصنيع رأسمالي متخلف. ومع أن الدولة اهتمت بالتوزيع العادل للثروة، إلا أنها مارست الاستبداد على المجتمع بالكامل، وصادرت الحريات، وقمعت بالقتل أو السجن أي رأي آخر، وتوضح أيضاً أن الإنسان لا يحيا ويشعر بكيانه الإنساني بالخبز فقط. وبذلك نجد تحول البلاشفة من أقصى اليسار الذي ينادي بالحرية والمساواة، إلى "اليمين" الذي يصادر الحريات ويقمع المجتمع. وبعد انهيار التجربة وتحول الحزب الشيوعي الروسي إلى المعارضة، تحول إلى مواقع اليسار المدافع عن الشعب وحرياته من جديد.
فاليسار كمفهوم يشير للتعبير عن قوى سياسية تأخذ مواقع المدافع عن الحرية والمساواة. وهو ليس مفهوماً ثابتاً عبر الزمن. كذلك أن المفهوم لا يرتبط بقوة أو اتجاه سياسي محدد بشكل ثابت ودائم. بل أن التغير في المفهوم ناجم عن الصيرورة الواقعية وما تفرزه من صراعات مستمرة، وتغير في مواقع القوى السياسية والاجتماعية المتصارعة. ومن جهة أخرى فالمفهوم نسبي (الدفاع عن الحرية والمساواة) يتم تطويره وتعميقه، وإضافة عناصر جديدة له، مع كل مرحلة جديدة يتقدم بها المجتمع خطوة إلى الأمام.
وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانتصار الليبرالية الجديدة بدأ التشكيك في أهمية التمييز بين اليمين واليسار بالاعتماد على حجج مختلفة: مثل انبثاق أفكار جديدة حول موت الإيديولوجيا، ونهاية التاريخ، وأن الليبرالية هي الشكل الوحيد الذي سيكون سائداً حتى نهاية التاريخ، وكذلك تقارب البرامج بين اليمين واليسار في أوروبا ، وتطور ظاهرة الوسط، بالإضافة إلى بروز حركات جديدة لم تكن موجودة من قبل مثل: لجان الدفاع عن البيئة، ومناهضي العولمة، ولجان الدفاع عن العاطلين عن العمل، المرأة، وحقوق الإنسان...الخ. إلا أن هذه الأفكار الجديدة لم تصمد أمام النقد منذ أن أعلنت خلال العقد الأخير من القرن الماضي. فالإيديولوجيا لم تمت، والمنظرون لموت الإيديولوجيا وصراع الحضارات وسيادة الليبرالية حتى نهاية التاريخ، يعبرون عن إيديولوجيتهم المعبرة عن مصالحهم الضيقة، ويسعون إلى عولمتها وتثبيتها على مستوى العالم، ويرون بأنه على اليسار أن ينسحب ويتخلى عن إيديولوجيته وخاصة بعد فشل تجربة المنظومة السوفييتية على مستوى العالم.
فالإيديولوجيا، باعتبارها منظومة من الأفكار والقيم وتعبر عن مصالح فئات وطبقات اجتماعية مختلفة، لا تموت طالما حالة اللامساواة والاستبداد موجودة. والليبرالية الجديدة العولمية لا تنتج إلا المزيد من اللامساواة والحروب واضطهاد الشعوب. وإن انهيار التجربة الشيوعية لا يعني أن يتخلى اليسار عن دوره. فالشيوعيون، من جهة، يعيدون بناء منظومتهم النظرية والسياسية منذ أكثر من ربع قرن، تبعاً للواقع المتغير باستمرار. كما أن الشيوعيين، من جهة أخرى، يشكلون جزءاً من اليسار,وان اليسار ليس حكراً عليهم.إنما اليسار كمفهوم,وكموقع يعبر عنه يمكن له أن يضم تيارات أو أحزاب وفئات ومنظمات متعددة,والتي تشترك جميعها بالدفاع والنضال باتجاه تحقيق المبادىء العامة لليسار وهي العدالة والمساواة.
ولم تتوقف المسألة عند تقارب برامج اليمين واليسار في أوروبا، بل أن هذا التقارب من جهة، وتطور الديمقراطية الأوروبية من جهة أخرى، وما أفرزته من تناقضات (الاغتراب عن مؤسسات الدولة التي تزداد تعقيداً وبيروقراطية، انعدام الشفافية، وإنتاج الفرد الاستهلاكي ذو البعد الواحد...) أدت إلى الاغتراب عن مؤسسات الديمقراطية التمثيلية، والدعوة إلى ما يسمى بالديمقراطية المباشرة (للتفصيل يمكن مراجعة عزمي بشارة ـ المجتمع المدني). ونتج عن هذا التطور بروز حركات جديدة لم تكن موجودة من قبل كما ذكرنا(منظمات المجتمع المدني). إلا أن هذه الحركات ومع تطور ظاهرة الوسط لم تشكل بديلاً عن أحزاب اليمين واليسار الموجودة. ويرى المفكر الإيطالي نوربرتو بوبيو ( كما يعرضها د. ماهر الشريف ـ مجلة الطريق 5 ـ 6 ـ 2003 ): إن الوسط كمقولة لا معنى له إلا بإحالته إلى اليمين واليسار، وأن الوسط لا يستقل بنفسه، بل متى ما اتسع هامشه انقسم بدوره لا محالة إلى وسط يميني ووسط يساري.
لكن ما هي المعايير التي تميز اليمين عن اليسار في المرحلة الراهنة؟ يرى بوبيو في كتابه "يمين ويسار": إن معيار التمييز الرئيس، كما في الماضي، ما بين قوى تناضل من أجل المساواة بين البشر وترى أن معظم أشكال اللامساواة هي من أصل اجتماعي وقابلة للتصفية، وقوى أخرى تريد الحفاظ على أشكال اللامساواة هذه وتعتبر أصلها طبيعي وهي بالتالي محتومة. ولكن ونظراً إلى نسبية مفهوم اللامساواة، حيث لا يمكن تصور بلوغ مساواة كاملة، يصبح النضال من أجل المساواة تعبيراً عن توجه واقعي نحو تقليص أشكال اللامساواة القائمة بين البشر والمتولدة عن مصادر ثلاثة هي: الطبقة، العنصر، الجنس. وهذا الهدف لا يزال مطروحاً كما يستخلص بوبيو بالرغم من كل التغيرات التي شهدها عالمنا.
ويرى آلان تورين ( مجلة الطريق ـ 5 ـ 6 ـ 2003) في تعريفه لليمين واليسار بأن اليسار يعبر عن:
ـ القوى التي تدافع عن الاختلاف والمغايرة والذاتية، وهذا ما نراه في فعل النساء الذي يجسد أكثر من أي فعل آخر، إرادة توحيد العالم.
ـ القوى التي تدافع عن التنوع الثقافي وعن الحقوق الثقافية للأقليات وعن التفاعل بين الثقافات على قاعدة احترام الاختلافات، وعن حق كل الشعوب في المشاركة في الحياة الاقتصادية العالمية.
ـ القوى التي تصر على تدخل الدولة من خلال القانون في الحياة الاقتصادية والاجتماعية على أساس مبادئ النضال ضد اللامساواة من خلال إجراءات مختلفة بما فيها انخراطها في النشاط الاقتصادي.
ـ القوى التي تتبنى تعريفاً للتنمية يختلف عن مفهوم النمو ويقوم على قاعدة تمكين المواطنين من التأثير على أوضاعهم والمشاركة في اتخاذ القرارات التي تتعلق بحياتهم وضمان مساواة الجميع في الوصول إلى الخدمات العامة كالصحة والتعليم مثلاً.
ويرى جورج طرابيشي (ثقافة الديمقراطية ـ دار الطليعة 1998 ): أن اليسار واليمين هما عكازتا الديمقراطية، وأن المعيار الذي يسمح بتمييز اليسار من اليمين هو الاختلاف في موقف كل منهما من جدلية الحرية والمساواة. ويحلل الحركات والمذاهب السياسية في المجتمع الديمقراطي إلى أربعة:
1 ـ أقصى اليسار: الحركات ذات المذهب المساواتي والاستبدادي معاً (يعاقبة الثورة الفرنسية، بلاشفة الثورة الروسية).
2 ـ وسط اليسار: الحركات التي تتمسك بالمذهب المساواتي والمذهب الحرّي في آن معاً (الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية).
3 ـ وسط اليمين: الحركات النصيرة للحرية واللامساواة (الأحزاب الليبرالية والمحافظة التي لا ترضى بأي حد آخر للحرية خلا المساواة أمام القانون).
4 ـ أقصى اليمين: الحركات المعادية للحرية والمساواة معاً (النازية والفاشية وبعض حركات اليمين الجديد المعاصر).
ومن حسن حظ المجتمع الديمقراطي أن التطرف اليساري واليميني لا يفلح في أن يحتل، كما تثبت التجربة التاريخية المعاصرة، سوى هامش الحياة السياسية، بينما يستأثر اليسار المعتدل واليمين المعتدل والوسط الذي بينهما بأربعة أخماس المساحة.
يمكن أن نخلص إلى أن /اليسار عبر التاريخ هو الذي يدافع عن الحرية والمساواة، وهو مفهوم غير مخصص لمجتمع دون آخر. ونجده في كل مكان في العالم اليوم.
وبمكن تلخيص الأهداف العامة لليسار الديمقراطي كالتالي:
ـ الدفاع عن الحريات السياسية والاجتماعية، حرية الرأي والتعبير والتظاهر والاعتصام... وحرية تشكيل الجمعيات والأحزاب......الخ
ـ إقامة دولة منتخبة تضمن حريات أفراد المجتمع وحقوقهم في العمل والتعليم والصحة...........الخ وتعمل على تقليص اللامساواة بين طبقات وفئات المجتمع.
ب - اليمين واليسار ـ في سوريا:
- 1 -
ذكرنا سابقا أن المجتمع السياسي في سوريا لم يفرز تاريخياً أحزاباً ديمقراطية, سواءً كانت يسارية ,أو ليبرالية .أو قومية ,أو دينية. إنما كان كل حزب يملك مشروعاً مختلفاً عن الآخر، المشروع الشيوعي، والمشروع القومي، والمشروع الإسلامي. وكان لكل منها منظومة من المفاهيم حول الحرية والديمقراطية، وقد تبين فيما بعد أنها جميعاً استبدادية، لأن هذه المشاريع لا تتضمن قبول الآخرين ومشاركتهم في بناء الدولة وتطوير المجتمع. وبعد فشل المشروع القومي بفشل الوحدة السورية المصرية، كان حزب البعث سباقاً لاستلام السلطة وإلغاء الآخرين. وكان تأسيس الجبهة الوطنية التقدمية عام 1971 ليس بدافع مشاركة الآخرين في السلطة بقدر ما كان الهدف هو احتواءها وإلغاء وجودها السياسي. بالمقابل انقسمت أحزاب الجبهة كلها بما فيها حزب البعث، وشكلت الأحزاب المنشقة أحزاب المعارضة.
وعجز الرأسمالية الليبرالية في الخمسينات أفسح المجال أمام حزب البعث كي يقوم بدور هذه الرأسمالية على المستوى الاقتصادي والسياسي. وخلال الأربعين عاماً التالية لم نلحظ بروز أي حركة سياسية ليبرالية.فالمجتمع السوري لم يفرز تاريخياً حركة سياسية ليبرالية متنورة تدعو إلى الحريات السياسية والدولة الديمقراطية. وحين أطلت هذه الليبرالية بوجهها على ساحة الصراع في الثمانينات، كانت إلى جانب الأخوان المسلمين وهي حركة مذهبية (وليست دينية فقط) سعت إلى بناء دولة مذهبية طاغية واستبدادية أكثر من الاستبداد السابق.
ورغم الفترة التاريخية الطويلة التي تفصل بين الليبرالية الأوروبية الكلاسيكية,وبين الليبرالية السورية (وفي العالم المتخلف عموماً),نجد أن الليبرالية الأوروبية الكلاسيكية، و التي كانت قوية وكان لها رموزها السياسية وأحزابها، لم تكن منذ البداية ديمقراطية،وإنها لم تصبح ديمقراطية إلا من خلال صراع تاريخي مع اليسار امتد لمئات السنين .والتي ظهرت خلالها ليبراليات متعددة، متنورة وعلمانية ومحافظة ويمينية متطرفة.......الخ.أما الليبرالية السورية,ولدت عاجزة,وتابعة,واستبدادية,وتميل إلى التدين,وتنبذ العلمانية.وبقيت كذلك طوال نصف القرن الماضي.
وفي المرحلة الراهنة,وبعد تأسيس حزب البعث لرأسمالية الدولة والتي يراد لها الآن أن تكون مقدمة للانتقال إلى اقتصاد السوق,بقيادة الليبرالية الجديدة.إلا أن هذه الليبرالية الاقتصادية الجديدة لم تفرز بعد ليبرالية سياسية متنورة تدعو إلى الحريات السياسية والفكرية .وقد كانت محاولة رياض سيف لتأسيس حزب ليبرالي وهو "حركة السلم الاجتماعي" (2001 ) التي لم تر النور، هي المحاولة الأولى لتأسيس الاتجاه الليبرالي في سوريا,في المرحلة الراهنة.
ويشير الخطاب السياسي الديمقراطي الراهن في سوريا,إلى خلط في الأوراق.فالخطاب هو ليبرالي بين متنور أو محافظ.أما الذين يحملون هذا الخطاب فهم بالعموم مثقفين يساريين (لجان إحياء المجتمع المدني),أواحزاب يسارية (أحزاب التجمع).أما الليبراليون فهم إما مع السلطة أو مع الدولة الدينية أو ضد السياسة والديمقراطية.حيث نجد أنفسنا أمام خطاب سياسي ليبرالي بدون ليبراليين, وكأننا نجد أنفسنا من جديد أمام مرحلة الخمسينات: حيث حمل حزب البعث (والذي كان يعتبر يسارياً) مهمات الليبرالية في تلك المرحلة.وكذلك الآن نجد الليبرالية عاجزة ,ويحمل خطابها اليساريون.
ويبرز السؤال هنا: لماذا يلجأ المثقف اليساري في سوريا إلى العمل كمثقف ليبرالي، دون أن يوجه جهوده باتجاه التأسيس لحركة يسار ديمقراطي مختلفة بنيوياً عن الأحزاب اليسارية (الشيوعية والقومية والبعثية) الاستبدادية؟ هل لأن اليسار لا يمكن أن يكون ديمقراطياً بعد تجربة الأحزاب الشيوعية والبعثية وبعد انهيار المنظومة السوفييتية الاستبدادية؟ أم لأن الليبرالية أكثر ديمقراطية من اليسار؟ وهل أصبحت صفة اليسار مخجلة,؟ هذه الأسئلة وغيرها مازالت تنتظر إجابات حتى الآن.
وليس من السهل، أو المنطقي توزيع الصفات "يمين أو يسار" ديمقراطي على الأحزاب السياسية في سوريا، وخاصة أنها جميعاً في مرحلة إعادة بناء خطها السياسي الديمقراطي الجديد.إلا أن خلط الأوراق, والضبابية في الهوية السياسية, يجعلان مهمة التصنيف,أو تحديد الهويات السياسية للأحزاب السياسية الراهنة في سوريا غير ممكنة بدقة.
- 2 -
إن المرحلة الانتقالية للتحول الديمقراطي في سوريا,وفي ظل وصول المشاريع القومية والشيوعية والإسلامية إلى آفاق مسدودة,حيث لم يعد ممكناً الحديث عن دولة قومية أو شيوعية أو إسلامية,وتكون بالوقت ذاته دولة ديمقراطية حديثة.هذه المرحلة الانتقالية تحتاج بالدرجة الأولى إلى أحزاب ديمقراطية.وعدم وجود تيار يساري ديمقراطي يدفع بضرورة العمل على التأسيس النظري والمعرفي والسياسي لتيار يساري ديمقراطي جديد يأخذ على عاتقه مشاركة الآخرين في البناء الديمقراطي الجديد . ونقول يشارك الآخرين ولا يحل محلهم,لأنه لا ديمقراطية ولا حرية يقوم ببنائها تيار أو اتجاه واحد,مهما كان ادعاؤه بالدفاع عن الحرية والديمقراطية .
و نجد أنفسنا في بداية الطريق لمثل هذا التأسيس باعتبار أن الثقافة السياسية الديمقراطية في سوريا ما زالت في مرحلة الادعاء و الشعارات , أو في مرحلة نفي الاستبداد , و هذه مقدمة ما قبل أولية , لبناء منظومة نظرية و معرفية و سياسية للبناء الديمقراطي في سوريا . و لليسار الديمقراطي بشكل خاص .
و المسألة الأساسية لا تكمن في معرفة اوعدم معرفة المبادئ العامة لليسار الديمقراطي كما هو موجود في كل دول العالم.إنما المسالة بالأساس تكمن في كيفية جعل هذا اليسار من إنتاج المجتمع السوري . و هذا يعيدنا إلى كيفية النظر إلى الواقع الراهن , وإمكانية فهمه و تعقله , كمقدمة لا بد منها لتغييره و تطويره نحو الأفضل.وأعتقد أن هذا البحث يندرج كمحاولة لفهم الواقع الراهن,وكيف يمكن لهذا الواقع أن ينتج يساره الديمقراطي.
و مع أن مقولة " التحليل الملموس للواقع الملموس " – و هي مقولة ماركسية قديمة – يدعي بها الجميع دون أن يتم العمل بها بسبب أن المصالح الضيقة عموماً تحّرف الواقع لصالح التحليل الذي يلامس هذه المصالح . و بالتالي تصبح المحاولة :رؤية الواقع كما نريد وليس كما هو . و في النهاية يستمر الواقع , و تسقط النظريات .
ومن الضروري التذكير أولاً بأهم دروس القرن العشرين: وهو انه لم يعد مقبولاً أن يدعي أي كان انتماؤه لليسار دون أن يكون ديمقراطياً.دون أن يكون مدافعاً عن الحرية. فالدفاع عن الطبقات الشعبية وتقليص حالة اللامساواة ,ليس على طرف نقيض مع الدفاع عن الديمقراطية.إنما الأول يفترض الثاني.وأن الإنسان لا يعيش بالخبز وحده .كما أن الإنسان لا يعيش بالحرية وحدها .إنما يمكن للإنسان أن يشعر بإنسانيته وكرامته حين يتوفر الخبز والحرية معاً .
-3-
ويمكن التوقف عند بعض الملامح العامة :
1- يرتكز اليسار الديمقراطي إلى مبدأين أساسيين:
الأول: هو الانحياز إلى فئات والطبقات الشعبية والعمل على تقليص حالة اللامساواة بين فئات وطبقات المجتمع، وبالتالي إحياء الطبقة الوسطى.
الثاني: الديمقراطية.
وليست الديمقراطية كلمة سحرية ينبغي فك طلاسمها، بل إن مبادئها النظرية واضحة. ويمكن تقسيمها إلى قسمين رئيسيين:
الأول: الحريات الأساسية للفرد والمجتمع، وتتضمن حرية الرأي والاعتقاد والتعبير (بالكلمة أو التظاهر أو الاعتصام أو أية وسيلة سلمية)، وحرية تشكيل الأحزاب والجمعيات، وحرية الإعلام والصحافة، والحقوق الثقافية والسياسية للأقليات القومية.
الثاني: بناء دولة ديمقراطية، تقوم على أساس مبدأ سيادة الشعب وحكم الأغلبية عبر انتخابات دورية، ويعترف بالتداول السلمي للسلطة بين الأغلبية وأقلية اليوم التي يمكن أن تصبح أغلبية في المرحلة اللاحقة، وسيادة للقانون الذي يتساوى أمامه كافة أفراد المجتمع بغض النظر عن انتماءاتهم الخاصة الدينية والسياسية.. والذي يكفل الحريات الأساسية للفرد والمجتمع.. ثم فصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية بقصد موازنة السلطات وعدم الجنوح نحو الاستبداد.
وكل تجربة في العالم تتميز عن غيرها في طريقة تطور وبناء ديمقراطيتها. إلا أن "الخصوصية في التجربة لا تعني تغيير المبدأ أو تحويره، لكن تتعلق بالأساليب والوسائل الخاصة التي تبدعها المجتمعات انطلاقاً من مواردها المادية والمعنوية وظروفها الخاصة لتجسيد المبدأ ذاته في الواقع. وفي التجربة ليس هناك شيء اسمه الديمقراطية بالمعنى الواحد والنموذجي والسائد، هناك فقط تجارب وعمليات تحول ديمقراطي .. وفي الديمقراطية كما هو الحال في أي شيء حي لا وجود لما هو ناجز ونهائي وكامل. ويجب النظر إلى الأمور بشكل نسبي. وتحقيق الديمقراطية في كل بلد مسألة تاريخية، أي مرتبطة بالظروف الخاصة التاريخية والجيو سياسية والاقتصادية لوجوده وتطوره، كما هي مرتبطة بقدراته وإمكانياته ونوعية ثقافته ووعيه وبتوازن القوى فيه، وكذلك حسب إيمان أغلبية أفراده بالقيم التي تمثل الديمقراطية.. وبالتالي لكل مجتمع طريقه الخاص للتحويل الديمقراطي" (د. برهان غليون ـ الاختيار الديمقراطي في سوريا).
والمبادئ النظرية لمفهوم الديمقراطية تم استخلاصها من تجارب الديمقراطية في العالم كله، وبشكل خاص في العالم الصناعي المتقدم التي قطعت أشواطاً متقدمة تقارب المفهوم النظري. وهي حصيلة تجارب عديدة استغرقت القرون الأربعة الماضية. والشيء الهام أن هذه المبادئ لاتشكل وصفة ثابتة ونهائية، إنما تضيف ، أو تعمق، أو تعدل، كل مرحلة في تطور البشرية (مثلاً: الديمقراطية التمثيلية وتضخم الأجهزة البيروقراطية وعدم قناعة المواطن الأوروبي بأن الذي ينتخبه يمثل حقيقة مصالحه كما يريد، وتقارب برامج الأحزاب التي تتداول السلطة.. أدى إلى ابتداع تعبيرات جديدة "دون أن يسعى إلى إلغاء النظام التمثيلي" لتعبر عنه هذه المنظمات المدنية الأهلية المستقلة غير الحكومية، مثل منظمات البيئة والدفاع عن العاطلين عن العمل والدفاع عن المستهلك، أي عودة إلى الديمقراطية المباشرة... أما نحن في البلدان المتخلفة فمازلنا في مرحلة الوصول إلى الديمقراطية التمثيلية.
2- واليسار الديمقراطي في سوريا – في ظل العولمة الراهنة – جزء من اليسار الديمقراطي على المستوى العالمي . يعمل على تقليص اللامساواة بين طبقات المجتمع , وعلى ترسيخ دولة ديمقراطية تكفل حريات المواطنين و تصون الديمقراطية السياسية . . . الخ.
و هذا اليسار ينضم إلى كافة مناهضي العولمة الليبرالية الجديدة و دورها الاستغلالي التدميري لاقتصاديات العالم المتخلف , و إبقائها على التخلف و تبعيتها للمراكز الصناعية المتقدمة . و هنا يجب التوضيح بأن اليسار لا يعادي منجزات العولمة الجديدة على كافة المستويات ,باعتبار أن العولمة مرحلة جديدة و أكثر تطوراً من كافة المراحل السابقة , على المستوى التقني و المعرفي و العلمي و الإعلامي . . . الخ, من المراحل السابقة فلا يمكن لأي عاقل أن يقف ضد المنجزات الحديثة للعلم و التقنية في الصناعة و الهندسة و الطب و الفضاء و تطور وسائل الإعلام و ما يمكن أن يرافقها على صعيد المجتمع و تركيبه الطبقي و صراعاته و نظرياته . . . الخ
إنما اليسار يقف ضد برنامج الليبرالية الجديدة المرتبط بالمؤسسات المالية العالمية ( صندوق النقد الدولي – و البنك الدولي ) , و منظمة التجارة العالمية و الذي يهدف إلى تكييف اقتصاديات العالم المتخلف و منها سوريا , وفق مصالح كبرى الشركات العالمية المتمركزة في العالم الصناعي المتقدم (أمريكا و أوروبا و اليابان ) . و بالتالي نقل الفائض الاقتصادي من العالم المتخلف إلى هذه المراكز كي تستمر في سيطرتها على العالم . و على الجانب الآخر إبقاء العالم المتخلف تحت السيطرة , و إنهاء دور الدولة الوطنية القادرة على الدفاع عن حدودها و مواطنيها في وجه أي استعمار عولمي جديد , و عن دورها الاقتصادي و الاجتماعي تجاه مواطنيها في الداخل .
و من يريد أن يتعرف على البرنامج العولمي كما هو مطبق على الأرض يمكن أن يجده في كل دول العالم المتخلف ومن ضمنها الدول العربية , والتي أصبحت مرتهنة لأميركا اقتصادياً و سياسياً و أمنياً , و على رأسها دول النفط العربي و هي من أغنى دول العالم , و من لم يتعولم , تتم عولمته بالتهديد كما حصل في ليبيا , أو بالغزو العسكري كما حصل في العراق .ورأينا كيف تم توزيع الغنائم على الشركات العولمية التي دعمت الاحتلال,ومن ضمنها الشركات الإسرائيلية(العدو التاريخي للعرب)والتي استولت على الحصة الكبرى مع الشركات الامريكية.
و ما زالت سوريا لم تتعولم بعد . إنما في طريقها إلى ذلك على أيدي دوائر الفساد التي تنهب المال العام و تخرب اقتصاد الدولة , و تسعى لأن تسخرها لمصالحها الخاصة . و قد تنجح إن لم تجد في طريقها قوى وطنية معارضة لها, في السلطة و خارج السلطة .
و كما أصبح الاقتصاد هو الدافع الأساسي لسياسات دول المراكز العولمية الكبرى , و التي تريد أن تضعف دور دول العامل المتخلف و جعلها في خدمة الاستثمارات . كذلك في سوريا تبدو الأزمة الاقتصادية في مقدمة الأزمات . و كما يسعى اليسار الديمقراطي إلى العمل على ترسيخ دولة تصون الحريات و الديمقراطية السياسية كذلك يعمل على ترسيخ دولة,تعمل على حل الأزمة الاقتصادية , بحيث تعود الفائدة للمجتمع ككل و ليس لفئة صغيرة كما تريد دوائر الفساد في الداخل, والبرنامج الليبرالي العولمي على مستوى العالم .
3 - وما يميز اليسار الديمقراطي عن الليبرالية , بأن الأول يرى أنه ما زال أمام الدولة دور اقتصادي و اجتماعي من الضروري أن تقوم به لصالح كافة فئات و طبقات الشعب , و أن تقود عملية التنمية الاقتصادية . و أن يتم توزيع الناتج الاقتصادي الوطني بحيث يتم تقليص حالة اللامساواة بين أفراد و طبقات المجتمع , و أن تقوم الدولة باستعادة العاطلين عن العمل و إعادتهم إلى المجتمع , إما بإيجاد فرص عمل لهم , أو تأسيس صندوق ضمان اجتماعي يكفل لهم حياة كريمة , و أن تقوم الدولة بتوسيع الضمان الصحي ليشمل المجتمع كله , و كذلك التعليم المجاني . . .الخ و عندئذ يمكن الحديث عن مجتمع متوازن يشعر جميع أفراده بالانتماء للوطن و الدولة القائمة فيه .
أما الليبرالية فلا يهمها إلا أرباحها الخاصة . و تريد من الدولة أن تكون في خدمتها فقط راعية لمصالحها فقط , أن تكون الدولة أجيراً عند أصحاب الاستثمارات الكبرى . إن الليبرالية تريد إخضاع المجتمع و الدولة لمصالحها الخاصة . . في حين يرى اليسار بأن الاستثمارات يجب أن تكون في خدمة المجتمع و الدولة الراعية لهذا المجتمع ككل .
والحقيقة فإن مناقشة الأزمة الاقتصادية وتقديم الحلول هي أكبر من مقدرات أي فرد أو مجموعة من الأفراد.كذلك مناقشة مكونات المثلث (دولة- مجتمع –استثمارات)والعلاقة بين هذه المكونات ضمن الظرف الملموس لسوريا بحاجة إلى حوارات عديدة.
حيث يمكن القول: بأنه لم تعد المطابقة صحيحة بين رأسمالية الدولة(والتي سميت اشتراكية),والمجتمع.رغم أن هذه المطابقة كانت صحيحة إلى حد كبير في مراحل التأسيس السابقة.وبالتالي أصبح الدفاع عن القطاع العام كما هو,كبؤر للفساد,والهدر والسرقة والخسائر,والبطالة المقنعة,ليس مطابقاً للدفاع عن المجتمع.كما أن تحويل الدولة إلى خادم للاستثمارات وخصخصة القطاع العام وسرقته من قبل الاستثمارات هو ضد المجتمع ومصالحه.كما أن اعتبار الاستثمارات ليبرالية واستغلالية وأنها ضد مصالح المجتمع يعبر عن ضحالة وجمود في التفكير لدى العديد من اليساريين.
فمازال أمام الدولة في سوريا مهمات اقتصادية واجتماعية ووطنية في الوقت الذي يسعى البرنامج العولمي بقيادة أمريكا إلى إلغائها وتحويلها إلى خادم للاستثمارات العولمية.
فالمسألة ليست فقط إعادة هيكلة القطاع العام وجعله قطاعاً اقتصادياً رابحاً وهاماً في الاقتصاد الوطني للمجتمع.إلى جانب رعايتها للاستثمارات الخاصة وجعلها في خدمة الاقتصاد الوطني والمجتمع ككل وليس العكس.إنما قيادة عملية التنمية الاقتصادية ككل ,بحيث يمكن لها أن تقوم أيضاً بدورها الاجتماعي والوطني وخاصة أن أراضينا مازالت محتلة ,ومازالت التهديدات الأمريكية لسوريا مستمرة.
فاليسار الديمقراطي لا يحصر الحرية في الديمقراطية السياسية فقط.إنما يجد في التنمية الاقتصادية حرية,والضمان الصحي للجميع حرية ,والتعليم المجاني للجميع حرية,ومكافحة الفساد حرية,ومكافحة البطالة حرية,وتحرير الجولان حرية,والوقوف ضد الطغيان العولمي الأمريكي الجديد حرية..........
4 - كذلك اليسار الديمقراطي هو جزء من اليسار الديمقراطي في الأقطار العربية الأخرى.وينظر اليسار إلى أن الانتماء العربي مازال قائماً ويجب العمل على تعميقه,رغم فشل كل المشاريع الوحدوية خلال القرن الماضي والتي يتحمل مسؤوليتها الحكومات الاستبدادية بكافة أشكالها: " التقدمية " ,والرجعية ,والعشائرية والتي عبرت جميعها عن مصالحها الضيقة بتحويلها الأقطار العربية إلى ملكيات خاصة .فالقومية العربية,والوحدة العربية والتي شكّلت إحدى عوامل النهضة العربية الهامة (والتي لم تتحقق) خلال القرن الماضي,مازالت تشكل إشكالية كبرى,مثل إشكالية الاستبداد.وخاصة في مرحلة العولمة الجديدة التي تقودها أمريكا والتي لاتختلف في الجوهر عن الاستعمار القديم.هذه المرحلة العولمية الجديدة التي تفرض علينا إعادة صياغة أسئلة النهضة من جديد. وضمن إعادة الصياغة هذه يمكن القول بان التاريخ تجاوز النظر إلى الوحدة على طريقة بسمارك ,أو صدام حسين حين احتل الكويت بحجة إنها جزء من العراق .فالتوحيد بالعنف لم يعد مجدياً.كما أنه أصبح من الضروري العمل على كيفية جعل القومية العربية ديمقراطية.بمعنى أول,الثقة بأن الشعب عندما يؤسس لدولته الوطنية الديمقراطية,ويكون مقتنعاً بالوحدة العربية,هو الوحيد القادر على وضع الأسس الحقيقية لأي شكل وحدوي مقبل.وبمعنى آخر,أن يتخلص الفكر القومي من شوفينيته وذلك باحترام حقوق الأقليات,وأن يعمل على تحقيقها مع هذه الأقليات,لا أن يتم تأجيل ذلك إلى حين تحقيق الديمقراطية,أو إلى حين تحرير فلسطين أو تحقيق الوحدة العربية ,إلى آخره من سائر الحجج التي لم تعد مقنعة لأحد,والتي شكلت فيما مضى غطاءً للشوفينية. وكذلك لم تعد مسألة الوحدة في مقدمة المهمات (إما الوحدة أو لاشيء).إنما مازال التوحد العربي احد عوامل النهضة العربية في القرن الحالي ,إذا أراد العرب أن يخرجوا من المستنقع الحالي.
وضمن هذا الانتماء العربي مازالت قضية فلسطين تشكل التعبير الدائم لهذا الانتماء.ورغم تآمر اغلب الحكام العرب عليها طوال القرن الماضي وبأشكال مختلفة,إلا أن الشعب العربي مازال يعبر بأشكال مختلفة عن انتمائه ودعمه للمقاومة الفلسطينية ,والانتفاضة المستمرة ,رغم كل الخيبات السابقة.
وهنا لابد من الإشارة إلى أن تجربتنا التاريخية لخيبات العرب على المستوى الوطني والقومي وخاصة فيما يتعلق بالوحدة أو تحرير فلسطين خلال نصف القرن الماضي علمتنا بأنه لم يعد مقنعاً مصادرة الحريات باسم تحرير فلسطين,أو تبرير فشل المشاريع التنموية بسبب الصراع مع إسرائيل وأمريكا وتحرير فلسطين,أو تبرير فشل الوحدة بسبب تآمر الحكام غير الوحدويين.فهذه التجربة أكدت بأن مجتمعاً مسلوب الإرادة والحرية ,أو جائعاً ,لايمكن أن يكون قادراً على تحرير أراضيه المغتصبة,وان المشاريع الاقتصادية الفاشلة لم يكن سببها إسرائيل إنما الأنظمة الاستبدادية التي ولدت دوائر الفساد والتي تتسع لتسرق الأخضر واليابس,وتصرف على الأجهزة الأمنية والقوات المسلحة القوية جداً في سحق شعوبها,والضعيفة جداً والتي تبدو كاريكاتيراً أمام إسرائيل,والباقي تودعه في البنوك الأجنبية خوفاً من شعوبها التي يمكن أن تنهض يوماً ما.ولعل تجارب البلدان التي صالحت إسرائيل تؤكد هذا الاستنتاج.
5 - و يتميز اليسار الديمقراطي عن غيره بأنه علماني , و يدعو إلى فصل الدين عن الدولة . فالدولة ترعى و تكفل حرية كافة الأديان و المذاهب . دون أن يكون لها دين أو مذهب محدد . فلكل فرد حرية الاعتقاد , و على الدولة أن تصون هذه الحرية . و هذا يعني أن العلمانية لا تعادي أي دين ,أو التدين , أو الإيمان . ولا تميز بين دين و آخر .واليسار الديمقراطي يؤمن باحترام العقيدة الشخصية لكل فرد ,وإيمانه وطقوسه .
- واليسار الديمقراطي يعمل على دعم منظمات المجتمع المدني و التي تعمل على حقوق الإنسان, ومنظمات المرأة التي تعمل على تعديل قوانين الأحوال الشخصية بما يكفل حريتها وكرامتها ومساواتها بالرجل,والمنظمات التي تعمل في مجال الثقافة,والبيئة,والمستهلك, ومكافحة البطالة ,ومكافحة الفساد,..... الخ . حيث يمكن لهذه المنظمات أن تلعب دوراً هاماً في تطوير المجتمع باتجاه أن يكون واعياً لحقوقه الأساسية كمواطن وقادراً على الدفاع عنها,وحيث يمكن تدريجياً أن يتحرر من الروابط الاستبدادية التي تكبّله ,كالطائفة والعشيرة ,باتجاه أن يكون مواطناً. وبشكل عام يمكن أن تلعب دوراً هاماً في نشر الثقافة الديمقراطية العلمانية .شرط أن تكون هذه المنظمات ديمقراطية,وأن لا تقع في فخ الاستخدام العولمي لها من قبل الدوائر الاستخباراتية الخارجية المتعددة الأوجه والأشكال.
6- يعتقد اليسار الديمقراطي بأن التعددية السياسية هي التي تبني النظام السياسي الديمقراطي في البلد . إذ لا ديمقراطية بدون تعددية . و أن الاعتدال أو النسبية , هي الأساس لقيام أي نظام ديمقراطي . فليس هناك ديمقراطية مطلقة ,وليس هناك مساواة مطلقة, و ليس هناك ديمقراطية يمكن أن تقوم بها قوى جذرية مطلقة تسعى لإقامة مجتمع وفق تصوراتها الخاصة أو أحلامها .
فالتعددية و النسبية هما مفهومان ضروريان للبناء الديمقراطي . و بدونهما يصبح الحديث عن البناء الديمقراطي لا معنى له.
إذ من السذاجة أن تدعو مجموعة من المثقفين , أو مجموعه من الأحزاب لا يتجاوز عدد أفرادها مئة شخص معزولين عن المجتمع إلى تداول سلمي أو غير سلمي للسلطة .ويكونون جذريين وديمقراطيين ويتحدثون باسم المجتمع . حيث يبرز السؤال مباشرة : مع من يتم هذا التداول ؟ .أين المجتمع , أين الشعب؟ هل يوجد مثال واحد في التاريخ بأن تنازلت سلطة ما عن الحكم لمجموعة من المثقفين؟.
فالواقعية أو النسبية الواقعية , هو مفهوم رئيسي للعمل السياسي الديمقراطي . وفي حال التخلي عنه يصبح العمل السياسي عبارة عن تأملات انقلابية.وهنا الواقعية تعني محاولة فهم الواقع كما هو,والعمل كي يتم تحويله كما نراه الأفضل.وهذا التحويل في ظروف سوريا الراهنة لن يكون إلا تدريجياً وعبر مخاض طويل .وتجارب الوطن العربي كلها تشير إلى ذلك بما فيها تجربة العراق الأخيرة.
وينبذ اليسار الديمقراطي العنف كوسيلة للتحول الديمقراطي.ويعتقد بأن المجتمع هو وحده القادر على إنجاز هذا التحول وليس مجموعة من المثقفين أو الأحزاب المعزولة.والتحول السلمي هو الطريق الوحيد للبناء الديمقراطي.فالمجتمع عندما يؤمن بالتغيير لا يكون بحاجة للعنف.إذ أن العنف عموماً هو وسيلة أقلية ضئيلة تحاول السيطرة على الدولة والمجتمع.والديمقراطية لا تبنى بالعنف أو بجهود الأقلية.ولعل تجربة العراق قد قدمت الدروس الكافية لإثبات أن العنف يهدم الوطن ولايبني الديمقراطية والحرية.
7 - كذلك يؤمن اليسار الديمقراطي بالتعددية ضمن اليسار ذاته , و ذلك في إطار المبادئ العامة لليسار . هذه التعددية هي التي تؤمن الحيوية و التطور الدائم لهذا اليسار . وكما ذكرنا فان التاريخ تجاوز الأحزاب ذات اللباس الموحد (القومي والشيوعي والإسلامي).وقد تعرضت هذه المشاريع كلها إلى انقسامات وتشظيات مختلفة , إلى يسار ويمين ,إلى معتدل ومتطرف.....الخ. ويصبح من الطبيعي إذاً إن أردنا أن نساهم في وضع سوريا على أعتاب دولة ومجتمع ديمقراطي حديثين ,علينا العمل متجاوزين الفهم المصمت أو المغلق للحزب الذي يتلقى أوامره من الرئيس أو الأمين العام ,بحيث يكون للحزب رأي واحد وكل خروج عليه يعتبر خيانة.
أصبح من المفيد, بعد سقوط وفشل كل المفاهيم الاستبدادية بما فيها الأحزاب والسياسات الاستبدادية والمغلقة,مناقشة إمكانية أن يتضمن التيار اليساري الديمقراطي ليس رأياً آخر فقط ,إنما تيارات يمكن لها أن تختلف بالرأي, وأن تعمل معاً ضمن إطار المبادئ العامة لليسار الديمقراطي .والقصد هنا ليس عملاً جبهوياً يجمع أحزابا استبدادية مختلفة ومتقاربة في مرحلة ما .إنما القصد هنا إمكانية وجود تيارات مختلفة حتى ضمن الحزب اليساري الديمقراطي الواحد.والذي يكفل بالدرجة الأولى عدم الانشقاق عند أي خلاف – كما يحصل في الأحزاب الاستبدادية - هو بنية الحزب الداخلية الديمقراطية.حيث تحتاج هذه الأخيرة إلى حوار طويل.
فهل هناك ما يمنع من تواجد القومي والماركسي والمتدين ضمن تيار يساري ديمقراطي واحد؟ حيث نجد بقايا المشاريع السابقة,قد حشرت نفسها في مكاتب ضيقة,مع أحلامها وزعاماتها التاريخية,وكلها تدّعي اليسارية والديمقراطية.فهل يمكن لهؤلاء أن يعيدوا بناء الذات على أسس ومفاهيم جديدة لليسار الديمقراطي,وأن يتخلصوا من عقدة " الشخصنة "في السياسة,وأن يتخلوا عن دكاكينهم المظلمة نحو مكان أرحب؟ والمسؤولية تقع بالدرجة الأولى على زعامات هذه البقايا.أم أن هذه الزعامات قد تخسر مواقعها عندما يكون المكان أوسع وأرحب,فتفضل تزعمها لدكان صغير ومظلم مع بقاياها.أليس من الأفضل التخلص من ظاهرة:أن هؤلاء جماعة الترك,وهؤلاء جماعة الأتاسي,يوسف فيصل,قدري,أكسم, المالح,عيد........الخ.
والسؤال :هل يمكن التخلص من ذلك بدون فهم جديد لليسار الديمقراطي ؟هذا الفهم الجديد الذي يعتمد على أن يكون هذا اليسار ديمقراطياً حقاً,وأن يكون قادراً على استيعاب القومي والماركسي والمتدين.فلا يمكن لأحد أن يصادر أو يمنع أن يكون القومي يسارياً,والماركسي يسارياً,والمتدين يسارياً.لأن اليسار الديمقراطي ليس ضد القومية العربية إنما يسعى لأن تكون هذه القومية ديمقراطية ,ويعتبر الماركسية أحد المصادر المعرفية الهامة والتي تدعو إلى الحرية والمساواة,ولأنه علماني يرفض الدولة الدينية,لكنه لا يعادي الدين و يحترم مشاعر الإنسان وعقائده,وبالتالي يمكن للإنسان أن يكون متديناً وديمقراطياً ومدافعاً عن الحرية والمساواة أي يسارياً.
وقد كان مفهوم اليسار في سوريا حكراً على الشيوعية أو الماركسية بتياراتها المختلفة , أما الآن فيمكن القول بأن هذا الاحتكار لم يعد واقعياً , إذ يمكن للشيوعيين أن يكونوا ضمن اليسار الديمقراطي. شرط طي الشعار الجذري الذي يرفعونه(ديكتاتورية البروليتاريا).واقتناعهم بالمشاركة مع الآخرين ( الليبراليين أو غيرهم ) ببناء النظام السياسي الديمقراطي .
و السؤال : هل يعتبر ذلك تجميعاً كمياً لتيارات مختلفة لا يمكن تجميعها في إطار واحد ؟ و الجواب : بالنفي.لأن ما سبق قوله ليس مخصصاً لبقايا المشاريع السابقة المذكورة.إنما هو تصور جديد يعبر عن تجاوز للمشاريع السياسية السابقة التي أجاب التاريخ بفشلها.وهذا التصور مطروح للجيل الجديد أكثر مما هو لأصحاب المشاريع السابقة,الذين سرقت حياتهم السياسة وهموم الوطن والأمة خلال نصف القرن الماضي.
8- ويمكن الإشارة أخيرا إلى الحامل الاجتماعي الذي كثيراً ما يتم التوقف عنده في حوارات المثقفين.
لقد ادعت كافة الأحزاب السياسية بأنها تمثل الشعب .فالقوميون يمثلون الشعب العربي كله,والشيوعيون يمثلون الطبقة العاملة والفلاحين,والأحزاب الدينية تمثل كل المسلمين.لكن الذي تبين فيما بعد أن ادعاء التمثيل شيء ,وأن يكون هذا التمثيل واقعيا شيء آخر.
فالتاريخ السياسي للمشاريع الانقلابية السابقة في سوريا يشير إلى مثل هذه الادعاءات بتمثيل الشعب و التعبير عن مصالحه . إلا أن عدم الثقة بهذا الشعب من جهة , و عدم القدرة عن الامتداد بشكل حقيقي داخل نسيجه من جهة أخرى ,أدى إلى اللجوء إلى العقلية الانقلابية . و كان الاعتماد على الخطاب و الحماسة أكثر من المعرفة , و بقصد توظيف هذا المجتمع أو جزء منه لصالح الحزب, أو السياسي.
ويدعي اليسار الديمقراطي بأن مبادئه تعبر عن مصالح الطبقات الشعبية بما فيها الطبقة الوسطى.وعندما تنتقل هذه الأفكار والمبادئ الى هذه الفئات والطبقات,وتقتنع بها وتدافع عنها,عندئذ يمكن الحديث عن حامل اجتماعي حقيقي لهذه الأفكار والمبادئ.
إذن في هذه المرحلة يسعى اليسار الديمقراطي الى تأسيس منظومته المعرفية والسياسية انطلاقاً من الواقع الملموس الذي نعيشه,وكذلك لتأسيس الحامل الاجتماعي لهذه المنظومة من الأفكار والمبادئ .وهذا مخاض طويل قد ينجح في دخوله نسيج المجتمع ,وقد يفشل فيبقى على الرصيف.وهذا مرهون بعدد من العوامل تتعلق ببنية هذا اليسار من جهة,وبنية المجتمع وظروفه والمرحلة التي يمر بها,إضافة إلى الوسائل والآليات التي يلجأ إليها هذا اليسار في برنامج عمله الديمقراطي.إلا أنه يمكن القول بأن هذا اليسار الديمقراطي الجديد إذا لم يكن قادرا على استقطاب جيل الشباب والعديد من المفكرين والمثقفين والمتنورين والفنانين..فانه حتما سيتحول إلى دكان معتم لبيع الأفكار البائسة
خاتمة : بداية الخروج من النفق :
إن التحول من الدولة الشمولية الاستبدادية , نحو بناء الدولة الديمقراطية العلمانية (دولة الرعاية الاجتماعية) هو المنفذ الوحيد للخروج من النفق المظلم الذي تمر به سوريا الآن .
لكن هل يمكن رسم المسار الخاص للتحول الديمقراطي في سوريا ؟
بالتأكيد لا يمكن لأي عبقري أن يرسم مساراً كهذا . لأن الديمقراطية ليست وصفة طبية أو سحرية يمكن تطبيقها و بالتالي يمكن الشفاء من مرض الاستبداد.ولأن مسار الديمقراطية ليس خطياً يمكن التنبؤ بمعادلته البسيطة
فمسار التحول الديمقراطي تحدده قوى سياسية و مجتمعيه ديمقراطية خلال عملية صراع طويلة مع الاستبداد , و تحدده أيضاً بنية هذه القوى السياسية و التي هي قيد التشكل في سوريا , و بنية المجتمع و ثقافته , و كذلك العوامل الخارجية التي أصبح دورها كبيراً في كل تغير ,أو تحول هام في أي بلد كان .
و بالرغم من عدم القدرة على التنبؤ بالمسار المذكور . إلا أنه يمكن التوقف عند بعض النقاط الهامة :
أولاً :
إن تفكك النظام الشمولي – كما أشرنا سابقا – لا يؤدي بالضرورة إلى تفكك الاستبداد السياسي,لأن الاستبداد السياسي يمكن أن يقوم في إطار أنظمة اقتصادية سياسية مختلفة , و ليس محصوراً بالنظام الشمولي الذي أسس رأسمالية الدولة باسم الاشتراكية . و أن الانتقال إلى اقتصاد السوق المفتوح ليس من الضروري أن يرافقه تعددية سياسية و ديمقراطية . بسبب أن الليبرالية الجديدة التي تقود عملية الانتقال هذه ليست ديمقراطية , و لا تهمها الديمقراطية بشيء, بقدر أهمية جني الأرباح .والأنظمة العربية كلها تقدم الدليل على ذلك,سواءً تلك التي أسستها الليبرالية بعد الاستقلال (مثل:الأردن,المغرب,السعودية ودول الخليج).أو تلك التي أسست أنظمة شمولية وتفككت وانتقلت إلى اقتصاد السوق(مثل:مصر,ليبيا,الجزائر,تونس) .
و إن المرحلة الانتقالية الراهنة تتضمن مرحلتين متمايزتين :
المرحلة الأولى هي تفكيك الاستبداد السياسي .والمرحلة الثانية هي مرحلة البناء الديمقراطي . و لا يجوز الخلط بين المرحلتين عشوائياً . إذ أن تفكيك أو نفي الاستبداد لا يعني الحرية و الديمقراطية .إنما هذا النفي هو مقدمة لابد منها للبناء الديمقراطي .ويمكن تسمية المرحلة الأولى, بالمرحلة السلبية للتحول الديمقراطي.كما يسمي بعض المفكرين نفي الاستبداد "بالحرية السلبية" .لأن تفكيك الدولة الاستبدادية ليس من الضروري أن يؤدي إلى الدولة الديمقراطية , إنما قد يؤدي إلى انهيار الوطن بالكامل ويؤدي إلى استبداد جديد أسوأ من السابق,كما يحصل في العراق الآن.وكما حصل سابقا في المنظومة السوفيتية.
و أن العمل على انهيار الوطن من أجل تفكيك الاستبداد السياسي (كمن يكسر القربة من أجل نقطة ماء , فيخسر القربة والماء) يكشف زيف دعاة الديمقراطية الملتحقين بالمشروع الأمريكي في المنطقة العربية ( و على مستوى العالم ) حيث لا نجد في هذه الحالة أي حين ينهار الوطن أية دولة ديمقراطية و مؤسسات تكفل حرية المواطنين و لقمتهم . كما لن نجد مواطنين. إنما سنجد زعيم عشيرة جديد و رعاياه , و زعيم مافيا و عناصره . وزعيم طائفة و مريديه . و تدمير لمفاصل الحياة الأساسية للمجتمع والذي بذل عقوداً عديدة لبنائها , و انبعاث ولاءات سابقة على الحداثة تدخله في صرا عات أهلية و تصفيات عنصرية , و تطهير عرقي و مذهبي شوفيني , وقد يبقى المجتمع أسيراً لها لعقود عديدة . كما حصل في أغلب بلدان أوروبا الشرقية و أفغانستان و العراق . وانهيار الوطن غالباً ما يؤدي إلى استبدال أشكال الطغاة فقط (كرزاي و الجلبي و العلاوي .. ) .
في هذه الحالة تنفصل المرحلة الأولى ( تفكك الاستبداد )عن المرحلة الثانية ( البناء الديمقراطي ). و قد يفصل بينها عقود عديدة .ليعود المجتمع من جديد ليجدد نفسه أمام إعادة تفكيك جديد لاستبداد جديد ..لكن بعد تدمير الوطن,وإعادته عقوداً عديدة إلى الوراء.
و غالباً ما يحصل الانهيار عندما لا تمتلك القوى الوطنية الديمقراطية , برنامجاً للعمل و البناء الديمقراطي الوطني و ما يميز مثلاً تجربة بولونيا عن باقي دول أوروبا الشرقية , أن بولونيا ضمت معارضة عمالية و شعبية مع الكنيسة , كانت تنمو في ظل الاستبداد و حين انهار الاستبداد و لم يعد قادراً على الحكم , استطاعت هذه المعارضة و عبر تسوية سلمية , الانتقال إلى التأسيس لدولة ديمقراطية جديدة ,دون أن تمر في مرحلة انهيار الوطن والحروب الأهلية الفاشية(القومية والعرقية...وغيرها).
فالفصل بين المرحلتين يكون بالدرجة الأولى بسبب أن تفكيك الاستبداد لم يرافقه البناء الديمقراطي .بمعنى آخر إنه في حال عدم وجود البديل الديمقراطي,فإن تفكيك الاستبداد قد يؤدي إلى انهيار الوطن ,وهذا يمكن أن يؤدي إلى أي شيء آخر عدا الديمقراطية. تماماً مثل من يريد أن يهدم بيتاً ويريد أن يبني بيتاً جديداً.فإذا لم تكن الخرائط ومواد البناء اللازمة للبناء الجديد جاهزة يصبح البيت المهدوم مأوى للبوم والغربان والعصابات.....
ثانياً:
وقد بدأت سوريا منذ العام (2000 )بدخول مرحلة التفكك الشمولي وتفكك الاستبداد.إلا أننا مازلنا في المرحلة الأولى حسب التصنيف السابق.أي المرحلة السلبية في عملية التحول الديمقراطي حيث لا يعلم أحد متى تنتهي.
ومع أن السلطة هي التي بادرت لخلق الفسحة للحراك السياسي الذي حصل خلال السنوات الأربع الماضية.إلا أنها كأية- سلطة أخرى- ترغب بالدرجة الأولى في إعادة تجديد أدواتها ووسائلها للاستمرار في الحكم.وهذا يستدعي العمل على حل الأزمة الاقتصادية,والسياسية والوطنية بطريقتها.وهذا يؤدي بطبيعة الحال إلى وجود فسحة من الحرية يمكن للرأي الآخر(المعارضة) أن يعمل فيها ويوسع هامشها.
وعلى السلطة أن تتحمل مسؤولياتها تجاه الوطن والمجتمع وتجنب الوطن خطر الانهيار,وان تكون قادرة على قيادة عملية التحول الديمقراطي.لكن هل البناء الديمقراطي يقع على عاتق السلطة فقط.؟والجواب بالنفي .لأن تاريخ تحقق الديمقراطية في كل دول العالم يشير إلى أن هذه الديمقراطيات لم تتحقق على الأرض إلا بجهود السلطة والمعارضة.سواء كانوا في حالة صراع أم اتفاق.
وفي سوريا فإن البناء الديمقراطي ليس مهمة السلطة فقط إنما مهمة السلطة والمعارضة.فإذا كانت السلطة تقود عملية التحول من فوق إلى تحت ,فإن على المعارضة أن تجعل هذا التحول من تحت إلى فوق,أي من المجتمع إلى السلطة.
وهنا تندرج الأسئلة التالية:
ما هو دور المعارضة الديمقراطية في هذه المرحلة بالذات . ؟ وهل يقتصر دورها على العمل باتجاه التحريض والتعبئة حول برنامج ديمقراطي انقلابي تراه هو الحل الوحيد ؟ هل يقتصر دورها على تفكيك الاستبداد دون التفكير بعملية البناء منذ الآن .؟ و هل يمكن أن يكون لها دوراً في عملية البناء الديمقراطي الوطني و هي في المعارضة ولا تمتلك القرار أو المشاركة في صياغة القرار عن المستوى الوطني مع السلطة الراهنة ..؟ وهل يمكن لهذه المعارضة أن يكون لها دور في عملية البناء الديمقراطي ومازالت أجهزة الأمن تراقب أية حركة للمعارضة وترسم لهم الحدود المسموحة ومن يعبرها سيعرض نفسه للمضايقة وربما الاعتقال؟.
* *
إن أية إجابة على الأسئلة المذكورة تنطلق بالدرجة الأولى من واقع المعارضة الراهنة.وكنا قد ذكرنا سابقا بأن المعارضة في سوريا مازالت في بدايات تشكلها كمعارضة ديمقراطية. و لم تخرج بعد عن إطار "حديث المثقفين" . والمثقفون عموماً يلعبون دوراً هاماً في النضال ضد الاستبداد , دون أن يكون لهم أي دور في عملية البناء الديمقراطي (كما يلاحظ ذلك آلان تورين) .
في حين المطلوب من المعارضة أن تتجاوز "حديث المثقفين" الذي يدور حول الهدم أكثر مما يدور حول البناء.إلى حديث يدور حول الهدم وإعادة البناء من جديد.إلى حديث يعمل على تفكيك الاستبداد, والبناء الديمقراطي بالوقت ذاته. لكن كيف يتم هذا التجاوز؟.
إن هذا التجاوز لا يتم دون العمل على امتلاك برنامج للعمل الديمقراطي في المرحلة الراهنة. يندرج في إطار برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي وطني يجيب على استحقاقات الوطن , و يخرج الوطن من النفق المظلم .
والمؤسف ليس عدم وجود برنامج للعمل الديمقراطي فقط,إنما ليس هناك أي تصور عن إمكانية أو ضرورة وجود ذلك في حديث المثقفين خلال السنوات الأربعة الماضية.فالمشكلة التي تبرز مباشرة هي ليس عدم إمكانية وضع برنامج للعمل الديمقراطي,إنما عدم وجود تصور عند المعارضة لضرورة وجود برنامج كهذا.لأنه بالأساس ليس لديهم أي تصور حول ضرورة مشاركتهم في البناء الديمقراطي منذ الآن.إن تصورهم مبني بالأساس على التخلص من الاستبداد أولاً ثم البناء فيما بعد.لذلك تقلص مفهوم التحول الديمقراطي عندهم إلى شعار جذري يدعو إلى إسقاط السلطة ,حتى لو لم يتم رفع هذا الشعار صراحة إلا أن كل البيانات والبرامج الموضوعة تدعو إلى ذلك.فكانوا للأسف متسرعين جداً نحو القصر الجمهوري!.
فالمسألة بالأساس هي أنه لايمكن للقوى السياسية التي تدعي الديمقراطية,أن تصبح ديمقراطية دون أن تمتلك برنامجاً للعمل الديمقراطي يجعلها قادرة على الدخول إلى نسيج المجتمع.لأن التحول والبناء الديمقراطي ليس عمل تقوم به أقلية إنقلابية. إنما أغلبية المجتمع.وعندما لا يقوم المجتمع بذلك يصبح الحديث عن الديمقراطية وبنائها لا معنى له.
ثالثاً: ليس من المفيد هنا الدخول في تفاصيل البرنامج الديمقراطي المنشود لأن ذلك يصبح نوعاً من التنظير الفاشل .باعتبار أن برنامجا كهذا يأتي حصيلة حوارات عديدة وهي غير معقدة بين من يبحثون عن رؤية واضحة لدور الحركات الديمقراطية والسلمية في المرحلة الراهنة,مرحلة البناء الديمقراطي.
إلا أنه يمكن التوقف عند بعض المسائل الهامة :
1 - ضرورة التخلي حالياَ عن البرنامج الديمقراطي الانقلابي الذي يتم طرحه في سوريا منذ أربع سنوات , كشعار( يدعو إلى إسقاط السلطة , أو يدعو السلطة إلى إسقاط نفسها (عبر أشكال مختلفة), و إفساح المجال أمام انتخابات حرة و تداول سلمي للسلطة , و إلغاء المادة رقم (8) من الدستور التي تعتبر حزب البعث قائداً للدولة و المجتمع .. الخ) . ليس لأن برنامجاً كهذا غير لازم للبناء الديمقراطي بل لأنه أولاً: يفتقر لأهم شيء في تحقيقه : و هو غياب المجتمع .وهو الوحيد القادر على تحقيقه. فالمعارضة الديمقراطية تتحدث الآن باسم المجتمع . دون أن يكون لهذا المجتمع أي دور , أو أية أهمية في تحقيق أهدافه التي يضعها له المثقفون . و هذا ما يجعل البرنامج الديمقراطي شعاراً فقط . مع وقف التنفيذ.وثانياً:لأنه ينظر إلى السلطة ككتلة صماء للاستبداد دون أن يفسح المجال لإمكانية وجود قوى حقيقية قد يكون لها دور هام في البناء الديمقراطي.
2- أن يتضمن البرنامج الديمقراطي في المرحلة الراهنة فقط : الدعوة إلى حرية التعبير و الاعتقاد , و أن حرية المواطن حق مقدس كما ورد في الدستور، و إصدار قانون لحرية الصحافة والمطبوعات , وتعديل قانون الطوارىء ليشمل المتعاونين مع إسرائيل فقط, و حرية تشكيل جمعيات المجتمع المدني المستقلة عن الدولة , والتي يجب على الدولة أن تدعمها , وجمعيات حقوق الإنسان ,وجمعيات الدفاع عن المرأة ( وتعديل قانون الأحوال الشخصية), وقانون للأحزاب ينظم الحياة السياسية في الوطن ,وحقوق الأقليات الثقافية والقومية.
3- أن يتم ابتداع أدوات ووسائل جديدة للتعبير عن الرأي, و أن يتم على الأرض تكريس هذه الوسائل السلمية للتعبير والتي هي غريبة عن مجتمعنا حتى الآن . كالاعتصام , و التظاهر السلمي , والتظاهر الصامت , والإضراب عن الطعام ,والمنتديات الثقافية........... الخ وأن يتم ذلك ليس تجاوباً مع مناسبة طارئة فقط , إنما ضمن برنامج شهري أو سنوي يهدف إلى تكريس هذه الوسائل , و نقلها للمجتمع تدريجياً حتى تصبح مألوفة و طبيعية لديه حتى يصبح قادراً للدفاع عنها.وبذلك يمكن للقوى الديمقراطية أن تقترب من المجتمع,وأن تتشكل ذاتها كقوى ديمقراطية فعلية.وبدون ذلك تبقى هذه القوى ديمقراطية في مجال الادعاء أو الإمكان وليس الفعل.
4- أن يتم العمل عبر الوسائل المختلفة على نشر و تعميم الثقافة الديمقراطية ( و حتى بين المثقفين أنفسهم ) بين أفراد المجتمع السوري , لبدء العمل الديمقراطي في سوريا . والمقصود هنا بالثقافة الديمقراطية معناها الواسع والذي يشمل المعرفة,والسلوك اليومي للأفراد وعلاقاتهم فيما بينهم وعلاقتهم مع الدولة,...فثقافة الديمقراطية,أو ثقافة الحرية,ليست تلقين وحشو للمعلومات,بقدر ما هي سلوك وامتلاك فعلي للقيم.لقيم جديدة تتجاوز العشائرية والمذهبية والعرقية والعصبيات المختلفة باتجاه المواطنة. و هي بداية تبدو كأنها من الصفر وهي كذلك . لأن المجتمع في سوريا – كما أشرنا سابقاً- ما زال بعيداً عن الثقافة الديمقراطية , و أن يكون حاملاً لها . لكن بهذه البداية يمكن القول بأننا نضع الأسس الأولى لتشكل حامل اجتماعي للقيم الديمقراطية , و التي لا يمكن أن يقوم أي نظام ديمقراطي بدونها .
و قد يبدو هذا المشوار طويلاً من جهة , و مكلفاً من جهة أخرى . لكن لابد منه . لبناء ديمقراطي على صعيد المجتمع و الدولة . إذ يعلمنا التاريخ أن الديمقراطية لا تبنى بقرار.إنما عبر صيرورة تاريخية طويلة ومكلفة.
إن تحويل الديمقراطية من شعار إلى برنامج عمل ديمقراطي واقعي , هو الذي يعيدنا إلى الثقة بالمجتمع بأنه صاحب المصلحة بالتغيير , و يصبح التكلم بالنيابة عنه منسجم مع إمكانيات المجتمع و طموحاته.حيث تغدو الديمقراطية فعلاً واقعياً و ليس أوهاماً للمثقفين . و بذلك يمكن الحديث عن اندماج مرحلتي "التفكك و إعادة البناء" , وهو ما ينقذ الوطن من الانهيار .
5- لماذا نريد الديمقراطية ؟
سؤال يصدم للوهلة الأولى العديد من دعاة الديمقراطية الجدد . ضمن "هيصة " الديمقراطية التي نعيشها.إذ هل يمكن طرح سؤال كهذا في الوقت الذي أصبحت به الديمقراطية مطلباً بديهياً في كل دول العالم؟.
يقول د.برهان غليون : "عندما نطرح مسألة الديمقراطية هنا في بلدنا , فنحن لا نطرحها بإطلاق , كما أننا لا نطرحها في الفراغ ولا لذاتها , وإنما لما ننتظر منها من آثار إيجابية في تحقيق جملة من الإصلاحات الهيكلية الأساسية و الضرورية , و في سياق تاريخي محدد ". نحن نريد الديمقراطية من أجل " إطلاق العملية الاقتصادية , وإعادة تأهيل الدولة و تقويمها , و دفع المجتمع ليواكب الثورات العلمية و التقنية , وللارتفاع بهياكلنا السياسية والاجتماعية و الاقتصادية و التقنية ضد إسرائيل و مشاريعها , و مناهضة العولمة" (د.برهان غليون التحول الديمقراطي في سوريا )
فبرنامج العمل الديمقراطي يشكل أحد النقاط الرئيسية ضمن برنامج للعمل الوطني الديمقراطي يعبر عن استجابة حقيقية لاستحقاقات الوطن على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعربية والدولية.فالديمقراطية,وبشكل خاص الديمقراطية السياسية,لا تطرح بإطلاق أو لذاتها.إنما هي وسيلة ضرورية لإعادة بناء الوطن من جديد.وأن يشارك الجميع في هذا البناء.فنحن نطالب بحرية الرأي والصحافة,وحرية تشكيل الأحزاب,من أجل المشاركة في بناء الوطن.
لكن هل يمكن للمعارضة أن تشارك في هذا البناء منذ الآن ؟
والجواب: نعم يمكن ذلك.بشرط أن يتم التخلي عن العقلية الانقلابية التي تؤجل كل شيء إلى ما بعد الانقلاب الجذري.وأن يتم التخلص من المعزوفة الجديدة:الإصلاح السياسي أولاً ثم يأتي كل شيء بعد ذلك.وإذا لم يحصل الإصلاح السياسي فلا يمكن عمل أي شيء! إذ كما أنه من الممكن والضروري أن تشارك المعارضة منذ الآن في البناء الديمقراطي كي تتشكل كقوى ديمقراطية, كذلك من الممكن والضروري أن تشارك منذ الآن في بناء الوطن على الأصعدة المختلفة كي تتشكل كقوى وطنية ديمقراطية.
ودائماً يكون السؤال جاهزاً:هل تسمح السلطة بهذه المشاركة أم لا؟.والجواب بالحقيقة ليس سهلاً .لأن الجواب ليس مطلقاً.
فالسلطة لن توافق على أي شيء يمكن أن تقوم به المعارضة . كما أنه يمكن للمعارضة أن تعمل و تشارك في البناء الديمقراطي ضمن الفسحة الموجودة للرأي الآخر .
ونجد الآن إمكانية قيام المعارضة بالكتابة والنشر سواءً في صحفها الخاصة أو الانترنت و تقيم اجتماعاتها . . و كذلك تعبر عن رأيها بالاعتصام و التظاهر السلمي . . دون أي منع من قبل أجهزة الأمن . . رغم أن هذه الحالة ليست مطلقة , حيث منعت السلطة العديد من المنتديات و الإعتصامات . . لكن هذا لا يعني التوقف والانكفاء . طالما أن المبدأ العام بات متوفراً بأن السلطة لم تقمع مثل هذه النشاطات السلمية .فليس أمام المعارضة سوى التوسع في هذه النشاطات وتطويرها.ومن المفترض العمل على توسيع الفسحة الموجودة .وإلا هل تنتظر المعارضة من السلطة أن توسع لها الفسحة التي قدمتها؟ ومن الوهم أن يتصور من يريد أن يهتم بالشأن العام, أن العمل السياسي في المرحلة الراهنة,وفي المستقبل سيكون بدون كلفة والتي يمكن أن تكون كبيرة.
و يمكن للمعارضة أن تعمل الكثير في البناء الوطني الديمقراطي منذ الآن . مثل مكافحة الفساد , البطالة , التعليم . . و غيره وفي القطاعات المختلفة ضمن المجتمع .و لنأخذ مثالاً واحداً وهاماً وهو مكافحة الفساد. حيث يعتبر الفساد من أهم الأخطار التي تقف في وجه إعادة بناء الوطن .وقد كان مكافحة الفساد أحد الشعارات الرئيسية في خطاب القسم.إلا أن هذا الشعار لم يجد من يترجمه على الأرض.فالواجب على المعارضة أن تترجم شعارا كهذا على الأرض.
حيث يمكن للمعارضة أن تعمل على تشكيل هيئات مجتمعية لمكافحة الفساد في القطاعات المختلفة مثل : القضاء , التعليم,الصحة..... ....الخ . بهدف تشكيل هيئة وطنية عامة لمكافحة الفساد , و على الأرجح فإن السلطة لن تعارض جهوداً كهذه إذا كانت أعمال هذه الهيئات موضوعية وواقعية . والسؤال:هل أن السلطة لن تعارض حقاً؟والجواب ببساطة لنعمل أولاً ثم نختبر موقف السلطة.وهذا أفضل بألف مرة من تبرير الكسل بحجة واهية بأنه يمكن للسلطة أن تعارض.!
و يخطئ من يظن أن إلغاء الأحكام العرفية و قانون الطوارئ أهم من مكافحة الفساد أو مكافحة البطالة , أو رفع مستوى المعيشة . واستقلال القضاء ليس أهم من مكافحة الفساد ضمن القضاء ذاته.وهذا لايعني طبعاً أن إلغاء قانون الطوارئ واستقلال القضاء ليس هاماً.
في هذه الحالة فقط يمكن الحديث عن التغيير من تحت إلى فوق , و تتشكل القوى الوطنية الديمقراطية ضمن المجتمع , و في هذه الحالة فقط يمكن الحديث عن انتزاع المعارضة لمكاسب حقيقية ضمن المجتمع .إذ أن الملاحظة بأن المعارضة , لم تنتزع شيئاً بجهودها و سلوكها على الأرض خلال السنوات الأربع الماضية . و كل ما يبدو أنه جديدا . هو تقدمة من السلطة .
نحن بحاجة بالدرجة الأولى إلى تأسيس أرضية لتراكم معرفي و ثقافي و سياسي,يساعد تدريجياً على تطوير وبلورة آرائنا ووسائل عملنا كي يمكن لنا أن نساهم في بناء الوطن. وهذا التراكم ضرورياً للأجيال اللاحقة أيضا.مع خبرتنا بأن الشعارات,والحماسة الأيديولوجية,والخطابات,التي تتعامل مع المشاعر والأحاسيس, لم تعد مفيدة لكسب الشارع أو الرأي المعارض عموماً .ولا تؤسس لأية معرفة,أوعلم,أو تطوير,أو تراكم.إنما أسست في السابق غربالاً لم يجمع خلال نصف قرن قطرة ماء.!
* *
ويمكن القول في نهاية هذا البحث أننا بحاجة إلى حوارات عديدة وعميقة وعلى أوسع نطاق كي ننتج مفهوماً جديداً لليسار الديمقراطي في سوريا,وأن يكون هذا اليسار نتاج التربة السورية.لأن ما تم تقديمه ليس سوى مقدمة أولية لوجهة نظر غير مكتملة ولا يمكن لها أن تنضج وتتبلور إلا من خلال الحوار العميق مع الآخرين.وكذلك الأمر بالنسبة لبرنامج العمل الديمقراطي الذي لا يمكن إنجازه من قبل فرد واحد أو مجموعة قليلة من الأفراد.وكذلك لباقي فقرات هذا البحث والتي اتسمت بالتوصيف أكثر من التحليل.باعتبار أن التوصيف الصحيح يعتبر مقدمة لابد منها للتحليل الدقيق ,والذي يعتبر أساساً للفعل الصحيح.
نحن بحاجة إلى معرفة أكثر , وخطاب أقل . وهدوء أكثر حين الاستماع للرأي الآخر, وتشنج أقل . وعقلانية أكثر , وحماسة أقل , سياسة أكثر وإيديولوجيا أقل .
* * *
انتهى القسم الثاني :............في إيلول (2004-09-03)
مروان عبد الرزاق ..
#مروان_عبد_الرزاق (هاشتاغ)
Marwan#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟