|
مقاربة الحدث التونسي
بلند حسين
الحوار المتمدن-العدد: 3277 - 2011 / 2 / 14 - 12:52
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
القمع والاستبداد أولاً، الفساد والمحسوبية ثانياً، والبطالة ثالثاً ... هي باختصار انجازات حقبة مابعد الاستقلال(أي حقبة بورقيبة). لكنْ هذا الثالوث استشرى وتغوّل في عهد خلفه(زين العابدين بن علي)، منذ تسنمه سدة الرئاسة عام 1987م في إنقلاب أبيض. ومن المفيد قوله، إن مرتكزاً واحداً من هذا الثالوث يكفي لنفاذ صبر الناس وتداعي الهرم السياسي وانهياره، فما بالك بالمرتكزات الثلاثة مجتمعة !. انطلقت الشرارة ـ التي أشعلت لهيب الانتفاضة الشعبية في طول تونس وعرضها ـ من(سيدي بوزيد). فحين تعذر على (محمد بوعزيزي/26 سنة)، الشاب الحاصل على مؤهل جامعي، الظفر بوظيفة تؤمن له لقمة العيش، صمّم على احترافِ مهنة بائع خضرة متجول على بسطة، إلا أن جلاوزة النظام أهانته وسدّت عليه هذا المنفذ أيضاً، فما كان منه إلا أن أضرم النار في نفسه في 17 ديسمبر 2010م. ورغم تصدي رجال الأمن بوحشية للجماهير المنتفضة، ووعود(بن علي) الخلبية التي جاءت متأخرة جداً، في الكلمة المتلفزة الأخيرة التي جاء فيها: (فهمتكم...فهمتكم)، لتهدئة الشارع الثائر، ورغم مساعيه لاخفاء قبح الواقع المزري بمَكْيَجَتِهِ من خلال إضفاء المزيد من الألوان الفاقعة عليه أو الترويج للصورة الظاهرية للاستقرار، إلا ان جهوده ذهبت أدراج الرياح، وعجز عن إنقاذ ما يمكن إنقاذه، لأن الجمرة المتقدة كانت تحت الرماد، فما كان منه إلا أن فرَّ، هو وزوجته حاكمة قرطاج(ليلى الطرابلسي)، لينفذا بجلدهما ويُهَرِّبا ما قلّ وزنه وغلا ثمنه. لكنْ سرعان ما يتبادر إلى الذهن هذا السؤال: لماذا ردّد(بن علي) يا تُرى: "فهمتكم...فهمتكم" بعد 23 سنة من البطش؟. فيجيب أحدهم: لأن المرؤوس لايجيد في ظل الأنظمة الدكتاتورية سوى التفوه بعبارة(تمام يا أفندم) أمام رئيسه. في مقام كهذا، سرعان مايتداعى إلى الذهن المثل الدارج: إن كنت تدري فهي مصيبة وإن كنت لاتدري فالمصيبة أكبر. كان سبب العاصفة أو الانفجار هو الاحتقان الجماهيري إزاء سياسات الطاغية واستبداده، رغم توهمه للوهلة الأولى بأن الوضع بات تحت السيطرة، لكنَّ الجيش سرعان ما خيَّبَ أمله، مثلما تخلى عنه حلفاؤه. فرفضت فرنسا استقباله، حرصاً على مشاعر الجالية التونسية التي آزرت الثورة منذ البداية، والرئيس الأمريكي(باراك أوباما) بدوره أشاد بشجاعة الشعب التونسي، خلافاً للموقف الرسمي العربي المزري، الذي إلتزم الصمت أو أظهر إمتعاضه إزاء الحدث(العقيد القذافي)، ربما خوفاً من أن تنتقل العدوى إلى الجوار. مامن شك ان الاعلام العابر للحدود لعب دوراً هاماً في تقويض أركان هذا النظام الشمولي، من خلال نقله الأحداث أولاً بأول، كما اثبتت ثورة الاتصالات للقاصي والداني عجز أساليب الرقابة التقليدية في حجب الحقائق عن الرأي العام، فضلاً عن الشفافية التي اتسمت بها وسائل الاتصال المعاصرة في نقل الخبر، فألجمت بذلك أبواق النظام التي كانت تبحث عن مبرر ما، لِكَيل التُّهَم للمنتفضين، من قبيل وصفهم بالمشاغبين أو الارهابيين أو الاستقواء بالخارج، أعني تلك الترّهات التي واظبت ماكنة الأنظمة القمعية العربية على إنتاجها على مدى عقود. وقد يكون ضرورياً بمكان الاشارة هاهنا إلى خطط التنمية التونسية، المعتمدة على السياحة والاستثمارات الخارجية أساساً، تلك التي تركزت على المناطق الساحلية فيها، في الوقت الذي ظلت المناطق الداخلية محرومة من هذه التنمية. لكنْ هذه الخطط بدأت بالتعثر مؤخراً، بعد تأثرها بالأزمة المالية التي اجتاحت العالم، مما نجم عن ذلك انخفاض معدلات النمو وانعكاسه المباشر على حياة الناس(الطبقات الدنيا والوسطى خصوصاً). التجربة التونسية إذن جديرة بالتأمل، فجيل الشباب الذي لم يخض غمار العمل السياسي، جيل الفوتبول والسوبر ستار والستار أكاديمي، الذي لايهتم بالشأن العام على حد تقدير بعض المحللين، كَذَّبَ هؤلاء المنظرين حين فجّر الثورة التي قوّضت أركان النظام لحظة الانسداد السياسي، رغم مشاعر الاغتراب عن الواقع ومشاعر الاحباط التي كانت تطفو على السطح لديه. أجل، فالحدث التونسي اثبت أن هذا الجيل يمتلك وعياً رفيعاً في مواجهة القمع والجوع ومستعد للتضحية. هذه الدروس تتطلب بقناعتي من أحزاب المعارضة في كل مكان، مراجعة نقدية واعادة النظر في آلياتها التنظيمية وبرامجها، ومن ثم الكف عن كيل الاتهامات لهذا الجيل الذي واجه القبضة الأمنية بمزيد من الحزم والشجاعة. قد يصح القول بأن هناك ثمة عوامل إضافية ساعدت على نجاح التجربة التونسية، ومنها مثلاً حيوية المجتمع المدني في تونس، وضعف التيار الأصولي الاسلامي، الذي أغرى أوربا وأمريكا لابداء المزيد من التعاطف والمرونة إزاء التغيير فيها. لكنْ مازال الخوف يخيم في الأجواء، ومازالت تتربص بتونس قوى متعددة المشارب في الداخل تنوي ركوب الموجة، بغية قطف ثمار تجربتها الوليدة والرائدة في العالم العربي وسرقتها، من هنا يمكن توخي الحيطة والحذر الثوري. جدير ذكره ان الجمهوريات العربية قاطبة، ذات الحزب الواحد والجبهات الكرتونية، تعيش نفس الحالة التونسية الموصوفة أعلاها، بعد أن تمكن الاستبداد وفساد البطانة الحاكمة المستشري في جميع المفاصل الاقتصادية والسياسية والادارية، من نخرها حتى العظم. أما الذين مَسّهم اليأس فيمكن أن يتعظوا بقصة موت النبي سليمان، الواردة في سورة(سبأ)، لأنها حبلى بدلالات معبرة على هذا الصعيد. فحين يقف سليمان بن داوود في محرابه وهو يصلي متوكئاً على عصاه، يفاجئه الموت على حين غرة ويمكث على ذلك سنة، والجن ملتهون بانجاز الأعمال الشاقة المطلوبة منهم ولاعلم لهم بموته، حتى تأكل السوسة عصاه، فيسقط على الأرض فيعلمون بموته. فمن الصعوبة بمكان أن تصمد هذه الأنظمة المنخورة ـ مثلها في ذلك كمثل عصا سليمان ـ أمام عاصفة شعب ثائر كالشعب التونسي أو المصري، مادامت الحناجر تردد كلمات الشاعر التونسي(الشابي) وصداها تطن في الآذان: إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر ولا بد لليــل أن ينجلي ولابد للقيـد أن ينكسر إلا أن قوى الاستبداد التي تتربع في قمة الهرم السياسي، ماضية في إستخدم كل أسلحتها في محاربة واضعاف الجماهير وقواها الطليعية، عبر تخويف مَنْ في الداخل والخارج مِنْ عواقب التغيير في الوقت الراهن. ففي الداخل تتبع أساليب الترهيب والترغيب أولاً، أو تشهر بسيف الفوضى التي تعقب أحياناً التغييرات السياسية(العراق مثلاً، متناسية تلك الأجندة التي تسببتها) ثانياً، أو تدّعي بأنها دولة مواجهة(..!)، وهذا بدوره يتطلب التريث في نيل المطالب(أي يتطلب تحمل المزيد من شدّ الحزام على البطون) ثالثاً. قد تنطلي هذه الديماغوجية على شرائح واسعة فتستسلم أو يصيب اليأس روحها المعنوية على أقل تقدير. أما مَنْ في الخارج، أعني القوى المناصرة للتغيير، فتتباهى قوى الاستبداد أمامها بعلمانيتها المزيفة وتخوفها بحتمية قدوم التيار الاسلامي المتطرف، رغم ان تجارب العديد من الشعوب، دلت على صعود هذا التيار وانتعاشه، في ظل أنظمة الاستبداد والفساد وأجواء الفقر المدقع أصلاً.
#بلند_حسين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رائد الشعر العربي المعاصر يُعَطِّرُ الكُرْدَ بشِعْرِهِ
-
همومُ الكردي في المَنْفى
-
التقليد الروماني الذي تلقفته تركيا
-
(هنيئاً لمن يقول بعد اليوم: أنا تركي)!
-
بئس هذا الاعلام المسكون بهوى أنقرة
-
الحِراك التركي: خمرٌ قديم في أوانٍ جديدة !
المزيد.....
-
كيف يرى الأميركيون ترشيحات ترامب للمناصب الحكومية؟
-
-نيويورك تايمز-: المهاجرون في الولايات المتحدة يستعدون للترح
...
-
الإمارات تعتقل ثلاثة أشخاص بشبهة مقتل حاخام إسرائيلي في ظروف
...
-
حزب الله يمطر إسرائيل بالصواريخ والضاحية الجنوبية تتعرض لقصف
...
-
محادثات -نووية- جديدة.. إيران تسابق الزمن بتكتيك -خطير-
-
لماذا كثفت إسرائيل وحزب الله الهجمات المتبادلة؟
-
خبراء عسكريون يدرسون حطام صاروخ -أوريشنيك- في أوكرانيا
-
النيجر تطالب الاتحاد الأوروبي بسحب سفيره الحالي وتغييره في أ
...
-
أكبر عدد في يوم واحد.. -حزب الله- ينشر -الحصاد اليومي- لعملي
...
-
-هروب مستوطنين وآثار دمار واندلاع حرائق-.. -حزب الله- يعرض م
...
المزيد.....
-
عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية
/ مصطفى بن صالح
-
بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها
/ وديع السرغيني
-
غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب
/ المناضل-ة
-
دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية
/ احمد المغربي
-
الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا
...
/ كاظم حبيب
-
ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1)
/ حمه الهمامي
-
برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب
/ النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
-
المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة
/ سعاد الولي
-
حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب
/ عبدالله الحريف
-
قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس
/ حمة الهمامي
المزيد.....
|