الخميس 08 أغسطس 2002 11:51
قبل انتهاء الصيف سيصبح آليبتيكين جاقماق ومساعداه عاطلين عن العمل، وقال في لقائه مع الصحافيين إنه لم يقم، خلال الثمانية عشر عاما الأخيرة، بأي عمل في مكتبه عدا حل الكلمات المتقاطعة، ولذا فهو مسرور بإحالته على التقاعد. وجاقماق هو الجلاد الرسمي الذي ينفذ أحكام الإعدام شنقا في أحد سجون اسطنبول ذات الحراسة المشددة. ويأتي انتهاء عمله بعد إلغاء البرلمان التركي لمهنته عندما ألغى عقوبة الإعدام.
وبصدور هذا القانون التاريخي أزيل الخطر عن تسعة وأربعين محكوما بالإعدام، وكان بعضهم في طابور الموت منذ سنة 1984 حينما أصدر رئيس الوزراء الأسبق توغورت أوزال قرارا بتجميد عقوبة الإعدام.
ولحد الآن لم تلغ تماما عقوبة الموت إلا في خمسين من 200 دولة تنتمي إلى الأمم المتحدة. وكانت اليابان وألمانيا الفيدرالية أول دولتين تتخليان عن عقوبة الإعدام بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة. ثم تبنت البلدان الاسكندنافية هذا القانون في فترة الخمسينات والستينات. أما بريطانيا فانتمت إلى مجموعة البلدان المحرمة لعقوبة الإعدام سنة 1968، لتتبع فرنسا خطاها سنة .1980 ثم قامت البرتغال وإسبانيا واليونان بالتخلي عن عقوبة الإعدام بعد انتهاء أنظمتها الدكتاتورية. وفي أميركا هناك 22 ولاية تخلت عن عقوبة الإعدام بشكل قانوني أو فرضت تجميدا له، وفي الشهر الماضي اعتبر القاضي الفيدرالي بنيويورك عقوبة الإعدام محرَّمة قانونيا في حالة القضايا المطروحة على صعيد فيدرالي.
وجاء القرار التركي ليعيد فتح باب النقاش الذي ظل يدور لعدة عقود حول إمكانية البلدان الإسلامية التخلي عن عقوبة الإعدام. وهناك حملة تدور حاليا في إندونيسيا لإلغاء عقوبة الإعدام، بدعم من رئيسة الجمهورية ميغاواتي سوكارنو بوتري، وتم التوقيع على عريضة تأييد وقّعها ستمائة مثقف. وتعد اندونيسيا أكبر بلد مسلم من حيث عدد السكان، وحثت هذه المبادرة الكثير من الإيرانيين للمطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام، ومن بين المساندين هناك أعضاء في البرلمان الإيراني. وتجدر الإشارة إلى أن العديد من البلدان ذات الأغلبية المسلمة جمدت عقوبة الإعدام، وهذه البلدان هي ألبانيا والبوسنة الهرسك وماليزيا، وهناك ضغوط تُبذل لإلغائها تماما فيها. ويأمل المعارضون لهذه العقوبة أن تتبنى على الأقل بعض البلدان العربية الصغيرة مثل عُمان وقطر والبحرين قريبا قرارا بتجميد عقوبة الموت.
وليس مثيرا للدهشة أن تظل معارضة إلغاء عقوبة الإعدام قوية في العالم الإسلامي. إذ أن سبعين في المائة من عمليات الإعدام التي جرت في العالم خلال العقدين السابقين كان مكانها العالم الإسلامي. والكثير من هؤلاء المعدومين أدينوا بارتكابهم لـ«جرائم سياسية»، أي أنهم كانوا معارضين لأنظمة بلدانهم. ففي إيران لوحدها أعدم ما لا يقل عن 28 ألف شخص بين عامي 1979 و.2000
وتأتي معارضة إلغاء عقوبة الإعدام من شخصيات دينية وعلمانية داخل المجتمعات الإسلامية. فمعظم المنظمات العلمانية مثل الحزب القومي التركي يستخدمون في محاججاتهم ضد إلغاء العقوبة الحجج التي يستخدمها المعارضون للإلغاء في الغرب. والحجة الأساسية في هذا الجدل هي أن عقوبة الإعدام رادع قوي أمام اقتراف الجرائم المريعة. لكن أنصار إلغاء العقوبة يرفضون هذا الزعم، منطلقين من إحصائيات معارضة لهذه الحجة. فعلى سبيل المثال يتجاوز عدد الجرائم المريعة في الولايات الأميركية التي ما زالت تتبنى عقوبة الإعدام ما يضاهيها من جرائم في تلك الولايات التي ألغت العقوبة. وفي فرنسا انخفض عدد الجرائم الكبرى قليلا عما كان عليه قبل تحريم عقوبة الموت. لكن كل ذلك لم يغير شيئا من حقيقة كون عدد المعادين لإلغاء الإعدام في البلدان الغربية يشكل نسبة ثلثي عدد سكانها.
من جانبها تصر المنظمات الدينية على اعتبار عقاب الموت جزءا متكاملا من نظام «القصاص» الذي تتفق عليه الديانات ا لسماوية الثلاث. لكن هذه المنظمات لم تأخذ بنظر الاعتبار حقيقة كون «القصاص» قد صُمم كي يضع أقصى حدود العقاب لا أدناه. والمثل الشائع «العين بالعين والسن بالسن» هو صياغة رمزية لتحديد كون العقاب يجب أن يكون متناسبا مع الجريمة لا أن يتجاوزها. بصيغة أخرى، إذا فقد أحد أبناء عشيرتكم سنا نتيجة صدام وقع بينه وبين شخص من عشيرة أخرى، فذلك لا يعطيكم الحق بإبادة العشيرة الأخرى. فأقصى ما يمكنكم المطالبة به هو كسر سن الرجل المذنب.
وحينما تكون عقوبة الموت طرفا في الحكم فإنه سيتطلب اتخاذ إجراءات حذرة جدا. فالآلية التي تُدفع بها الديّة لعائلة القتيل صُممت لتجنيب الشخص المذنب عقوبة القتل.
ويحاجج بعض الفقهاء الدينيين أنه على الرغم من أن وضع عقوبة الإعدام كأقصى إجراء، لكن تنفيذها تحدده قواعد كثيرة إلى الحد الذي يجعل ذلك من الحالات النادرة.
لكن بعض الجماعات الدينية تدّعي أن فكرة إلغاء عقوبة الإعدام هي جزء من أجندة غربية واسعة تقف وراءها نخبة ليبرالية قوية هدفها الأخير هو تهميش دور الدين في المجتمع.
وما يبعث على الأسف أن القرار التركي جاء بدون أن يسبقه نقاش على الصعيد القومي. إذ أنه أُقحِم في الجلسة الأخيرة التي سبقت إنهاء أعمال البرلمان قبل حله، كجزء من مجموعة إصلاحات اقتصادية وسياسية. ووافق الكثير من النواب الأتراك على إلغاء عقوبة الإعدام لأنهم أيدوا أشياء أخرى تضمنتها هذه المجموعة من القوانين الجديدة.
مع ذلك، يمكن اعتبار القرار التركي كسرا لأحد المحرَّمات القائمة في العالم الإسلامي، ولذلك فقد يفتح هذا القرار الطريق إلى إجراء نقاش صريح حول عقوبة الإعدام.
ومن الممكن أن تكون إحدى قضايا النقاش هي القيام بتجميد عقوبات الإعدام المخصصة لـ«الجرائم» الكبرى. فإن يصدر حكم بالإعدام ضد شخص ما بسبب أفكاره أو نشاطاته السياسية هو بالتأكيد مخالف للإسلام. إذ ليس هناك أي شيء في الإسلام يمنح الحكومة الحق بقتل خصومها المسالمين. ولذا يجب أن تقوم كل الدول بإلغاء عقوبة الإعدام في حالة «الجرائم» السياسية.
ولعل الرأي العام للشعوب المسلمة غير مهيأ حاليا لإلغاء عقوبة الإعدام مباشرة، لكنه بالتأكيد على استعداد لمناقشتها الآن.
الشرق الأوسط اللندنية