حاتم سلمان
الحوار المتمدن-العدد: 214 - 2002 / 8 / 9 - 03:41
المحور:
اخر الاخبار, المقالات والبيانات
قبل أن أدخل في التاريخ والتحليل، استميح القارىء عذراً اذا أثقلت عليه ببضعة سطور عن تجربتي الشخصية.
ولدتُ في العام 1951، واستفقتُ على هذه الدنيا وأنا أرى جدران بيتنا مزدانة بصورة كبيرة لجمال عبد الناصر واخرى للامير فخر الدين، ثم كان هناك اطاران خشبيان يحتوي اولهما على حوالي عشر صور لأعلام النهضة من امثال سليمان البستاني واليازجيين وجمال الدين الافغاني ومحمد عبده وقاسم امين ورشيد رضا، الخ. وكان الاطار الثاني يحتوي على نفس العدد من صور مناضلين عرب كبار امثال احمد عرابي وعبد القادر الجزائري وعمر المختار وعبد الكريم الخطابي وصولا الى بن بلا وطبعا، كمال جنبلاط. وعندما اتذكر هذا اليوم افهم ان والدي رحمه الله كان ناصرياً متقدماً، وانني ترعرعت في اجواء هذا المنحى السياسي والثقافي.
وتوفي ابي فجأة في حادث مفجع عام 1966، وكنت في الخامسة عشرة من العمر، وعلى غير عادة المراهقين، كنت متعلقا بأبي تعلقا شديدا لكونه كان استاذي فضلا عن كونه ابي. ولم استطع استيعاب الصدمة الرهيبة فأصبت بانهيار عصبي لا ازال اعاني من آثاره بين الفينة والفينة حتى اليوم. وفي خضم هذه المأساة الاولى والاكبر في حياتي، بدأت بالتقرب من شيوعيي بلدتي (الرملية قضاء عاليه) وبالتالي بدأت علاقتي بالفكر الماركسي. وليس صعباً عليّ اليوم، وقد قرأت فرويد، فهم ان هذا التقرب كان نوعا من العزاء (السحري) لي. ولكنني بقيت لسنوات حذراً من الحزب الشيوعي لسبب واحد فقط هو التباس موقف الحزب من القضية القومية ومن جمال عبد الناصر. ولم احسم الامر إلا بعد ان اطلعني صديق العمر المناضل فايز ابو علي على وثائق المؤتمر الثاني وخاصة الوثيقة الشجرة <<خمسة وعشرون عاما من النضال>>. ويومها عرفت ماذا تعني عبارة (النقد الذاتي)، وكيف ان المؤتمر الثاني قد أعاد تصحيح موقف الحزب من القومية العربية، وحسمت أمري وانتسبت الى الحزب بعد ذلك بعام واحد.
وانني اتذكر بمرارة اليوم ان مئات، وربما آلافا من الشباب امثالي، اتخذوا منحى سياسيا مختلفا لنفس السبب. ولعلهم قالوا فيما بعد: <<لات ساعة مندم>>. كما اغتنم فرصة الحديث عن المؤتمر الثاني، لاؤكد على صحة تقويم كريم مروة له، ولان اقول بصراحة تامة ان الحزب الشيوعي اللبناني هو اليوم بأمس الحاجة الى مؤتمر من نفس المستوى والقدرة على اعادة البناء المتصدّع. لقد تراكمت الأمور بما يكفي ويزيد ولم يعد هناك مجال للسكوت وترك ما أسميته <<الأخطاء القاتلة>> يستمر. وإلا فإن غيوما سوداء كثيرة ستغطي التاريخ النضالي العريق لهذا الحزب.
لن ادخل في عملية تنظير شائكة لنشوء ما تم التعارف في اوروبا على تسميته (الدولة الأمة) (Nation, State)، ولا في تنظيرات لينين عن المسألة القومية وحق الامم في تقرير مصيرها، اذكر فقط بأن وحدة المانيا ووحدة ايطاليا قد تحققتا بالقوة، وذلك برسم الذين يقولون ان عبد الناصر كان يريد تحقيق الوحدة العربية بالقوة. اما اختلاف الظروف التاريخية، فسيأتي الكلام عنه بعد حين.
ومن الافضل أن أبدأ برواية مسرحية لا ادري اذا كانت مضحكة ام مبكية، فشر البلية ما يضحك، كما يقولون.
نحن في الخامس عشر من ايار عام 1948، ويسمع العالم ان رجلا اسمه ديفيد بن غوريون قد اعلن عن قيام دولة جديدة على حوالي 55% من ارض فلسطين التاريخية، اسمها اسرائيل وكان الاتحاد السوفياتي اول دولة اعترفت بها في العالم، في ظل حكم (ابو الشعوب) جوزيف ستالين... ودبت النخوة والشهامة العربية، واتفق اصحاب الجلالة والفخامة في مصر ولبنان وسوريا والاردن والسعودية والعراق على اعلان الحرب بهدف تدمير اسرائيل، وعلى عقد راية قيادة الجيوش العربية للملك الاردني (الهاشمي) عبد الله بن الحسين، الذي كان هاشميا فعلا، ولكن ليس من سلالة اهل البيت (سلام الله عليهم) بل من احفاد ابي لهب، الهاشمي هو ايضا... وبما ان (القائد العام) لم يكن خريج اي كلية حربية، فقد اسند القيادة الفعلية لضابط بريطاني عميل لبريطانيا أنعم عليه بلقب باشا وسلّمه قيادة جيشه. وهنا يفتح الستار على واحدة من اكبر المهازل في التاريخ: غلوب باشا، العميل للمخابرات البريطانية، مكلف بقيادة سبعة جيوش عربية في حرب تهدف لتدمير مخطط أعدّته المخابرات البريطانية نفسها. ولا داعي للافاضة في الكلام، فكل التفاصيل معروفة.
وكان قد سبق ذلك، ان الثورة البلشفية المنتصرة، (فعلا؟)، قد فضحت وثيقتين سريتين هما (وعد بلفور) و(اتفاقية سايكس بيكو)، ولم يكن لفضح هاتين الوثيقتين اي تأثير فعلي على علاقة حكام العرب ببريطانيا وفرنسا.
المهم ان اصحاب الجلالة والفخامة (تفهّموا) هزيمة جيوشهم في فلسطين. ولكن، ولسوء الحظ، فإن الشعوب العربية، بما فيها افراد الجيوش والضباط الصغار لم يكونوا على هذا التفهّم، وراحت النار تتأهب للخروج من تحت الرماد. وفي صبيحة 23 يوليو تموز من عام 1952، سمع العالم من اذاعة القاهرة ان مجموعة تسمي نفسها <<الضباط الاحرار>> قد قلبت حكم الملك فاروق في مصر. ولا يخفى على احد ان هذا الخبر شكل النواة الكبرى لكرة الثلج التي سحقت في طريقها معظم الذين تفهمّوا الهزيمة. ولكن، وهنا لكن كبيرة لا قائد الضباط الاحرار، ولا قاتل الملك عبد الله، ولا من أسقطوا جميل مردم، ولا من اسقطوا حكم عبد الإله نوري السعيد، كل وهؤلاء ما كانوا يملكون فكرا سياسيا واضحا، ولا خطة معدّة باتقان لما سيفعلونه بعد استلام السلطة، وقد عبر جمال عبد الناصر عن هذا الواقع بعد سنوات بقوله: <<لقد كنا نعمل على هدى مبدأ تجربة الخطأ والصواب>>.
وكان لا بد للشيوعيين العرب، وللمركز السوفياتي اولا، ان يتعاملوا مع الاحداث بحذر شديد. فقد سبق ذلك صدور قرار تقسيم فلسطين الى دولتين: واحدة صهيونية واخرى عربية، ولم يستخدم سفير ستالين في مجلس الأمن حق الفيتو لإسقاط القرار. وسبق ايضا ان طلع بعض الشيوعيين بشعارات من نوع (الاخوة بين البروليتاريا اليهودية والبروليتاريا الفلسطينية) علما بأن هذه الاخيرة لم يكن لها اي وجود.
وتوالت الأحداث، وتقلبت مواقف الشيوعيين من عبد الناصر حسب تقلب علاقات الاخير بالاتحاد السوفياتي، التأييد الحماسي عام 1956 (تأميم قنال السويس والعدوان الثلاثي) وبين العداء السافر 1958 (الوحدة المصرية السورية المرتجلة).
أراني مجبراً على التوقّف قليلا لاضع العنوان العريض لما اريد قوله: مع قيام الوحدة 1958، وقع ما اسميته شخصيا الانشقاق التاريخي في حركة التحرر العربية بين جناحها القومي المتقدم بقيادة جمال عبد الناصر من جهة، وبين جناحها الماركسي المتمثل في كافة الاحزاب الشيوعية العربية باستثناء الحزب السوداني بقيادة الشهيد عبد الخالق محجوب، والشهيد فرج الله الحلو كفرد بتأثير هيبة ونفوذ خالد بكداش بين كل الباقين من الشيوعيين العرب. وعلى قدر ما اسمح لنفسي به من تحليل، اقول ان عنوان الانشقاق الفاجع هو تمسك الجناحين بسياسة: <<من ليس معنا فهو علينا>>، وبكلام ابسط، ورغم كل ما طرأ من ايجابيات بعد ذلك في سياسة الفريقين، فإن الحية لم تغتفر للرجل ضربة فأسه، عليها، ولا الرجل غفر لها لدغتها لأخيه، حسب الرواية الشعبية الشهيرة.
وكريم مروة يروي العديد من وقائع تلك المرحلة، فاضحا بعض الاسرار الرهيبة حول العلاقة المتأرجحة بين العداء المطلق بين الفريقين، وبين وصول الشيوعيين المصريين الى حدّ حل انفسهم والاندماج في (الاتحاد الاشتراكي العربي)، وحسب اوامر الاتحاد السوفياتي في كلا الحالين.
من هو المسؤول؟ كريم مروة يقدر ان الفريقين مسؤولان وهذا صحيح الى حد ما. ولكنني شخصيا غير مقتنع بأنه كان من حق الشيوعيين العرب ان يعادوا جمال عبد الناصر والناصريين مهما كانت أخطاؤه وأخطاؤهم الناجمة عن تشوّش الفكر السياسي الناصري، في حين ان عبد الناصر كان يناضل، على الاقل موضوعيا، ضد اسرائيل وقوى الامبريالية والاستعمار. وهذا يعني ان الشيوعيين فتحوا جبهة ثانية على القائد الذي يقاتل اعدائه واعداءهم معا. وبالتالي، يبدو واضحا ان الشيوعيين ما كانوا يملكون مستوى وعي نظري وسياسي ارقى من مستوى عبد الناصر كما كانوا يدّعون. ومن الأشياء التي تبهر العيون وتبعث على الذهول ان الجميع كان يفهم ضرورة تحالف الاتحاد السوفياتي مع الولايات المتحدة وبريطانيا لسحق العدو الهمجي المشترك المتمثل بالنازية الالمانية والفاشية الايطالية. ولكن نفس الذين يتفهمون هذا التحالف لم يتمكنوا من فهم ان لهم عدوا مشتركا يجب عليهم ان يتحدوا معاً لمحاربته. فمن هنا شيوعيون دوغمائيون حتى التحجر احيانا، ومن هناك قائد عظيم ولكنه عجز عن منع انحراف ثورته نحو الادارة البيروقراطية والاعتماد على المخابرات. وهذا أهم سبب في ما اصاب الجميع بهزائم ساحقة (1967)، نعاني من آثارها حتى اليوم والى أمد غير منظور.
وأعود هنا لرواية كريم مروة (ص 130) عن الشيوعييون المصريين الذين ماتوا تحت التعذيب وهم يهتفون بحياة عبد الناصر وأحييه لعبارته القائلة: <<الامر الذي يذكّرنا بما كان يحصل في الاتحاد السوفياتي ايام ستالين>>. ولكن عذرا يا صديقي كريم. فأنا لا اعلم اذا كنت قد قرأت رواية <<جناح السرطان>> والذي يقول سولجينيتسين فيما ان ضحايا ستالين كانوا يهتفون: <<تحيا اللينينية، يسقط الجلادون الستالينيون>>. والمهم ان هذا الكاتب تعرض للقمع في عهد بريجينيف بعد ستالين باعوام طويلة...
وفي اطار العودة لكتاب كريم. لا بد ان العودة الى واقعة هامة. هو يقول ان مسؤولية استشهاد فرج الله الحلو تحت التعذيب، لا تقع على جمال عبد الناصر شخصيا ولكن على نظامه، رائع. ولكنني كنت اود ان اعرف بماذا يجيب ابو احمد على القائلين بأن مسؤولية انحدار قيادة الاتحاد السوفياتي نحو هاوية الستالينية لا تقع على لينين شخصياً، ولكنها تقع على نظامه الذي لم يستطع القائد التاريخي تحصينه وتحصين ثورته ضد امكانيات الانحراف والانتكاس وصولا الى الانهيار المريع بعد سبعين عاما.
لو عاش لينين، لربما كان فعل ولا أحد يجادل في شجاعته على الاعتراف بالخطأ عندما يخطىء. أليست السياسة الاقتصادية الجديدة (النّيب) دليلاً على هذا؟ ولكن عبد الناصر تحمل مسؤولية الهزيمة واستقال، وأنا ارفض ذلك الكلام الساقط الذي يفسر خروج عشرات الملايين في مصر وعلى امتداد العالم العربي وعفوياً (لإجباره) على العودة الى القيادة، بأنه مجرد مسرحية معدّة سلفاً.
اسمح لنفسي بفتح مزدوجين الآن للقول ان ماركس قد بالغ في التقليل من دور الفرد في التاريخ. ويكفي ان نذكر وفاة لينين وجمال عبد الناصر واستشهاد باتريس لومومبا وطبعا، استشهاد كمال جنبلاط لكي يحق لنا ان نعيد النظر في تقدير ماركس لدور الفرد.
والآن إلى أين؟
كما ان الطبيعة عمياء لا تعبأ بالقيم الاخلاقية عندما يحصل زلزال او يتفجّر بركان ويموت الآلاف من الابرياء. كذلك التاريخ له قوانينه التي لا ترحم التي تستمر عملية، اكتشافها باستمرار الحياة البشرية على وجه الارض اتحفظ على القول بأن استنتاجات ماركس من منهجه المادي التاريخي هي استنتاجات علمية، بمعنى انها نهائية غير قابلة للتعديل ولكن هذا الرجل المسكين الذي لم يكن يجد احيانا غير البطاطا المسلوقة كطعام له في حين كان يكتب نظرية ادت الى اكبر هزة سياسية واقتصادية واجتماعية وفلسفية عرفها تاريخ البشر: اقول هذا الرجل الذي لم يكن عالم فلك ولا كانت اكتشافات الفضاء متقدمة في عصره، قال يوماً <<اذا كان الانسان هو الكائن الوحيد المفكر في الكون فإن الفكر البشري يصبح مجرد صدفة>>. واعتقد ان هذا الكلام صحيح لان الكرة الارضية كلها لا تشكل سوى واحد من أصل آلاف المليارات في هذا الكون الفسيح وعندما تكون النسبة ضئيلة الى هذا الحد فمن المؤكد انها صدفة. اقول هذا للذين ظنوا انفسهم قد نعوا العصر الماركسي واقاموا جنازته ودفنوه في مثواه الاخير. ان تفاصيل مبدأ الحتمية التاريخية ليست كلها صحيحة بالضرورة، ولكن هذا لا يعني ان المبدأ غير صحيح، رغم انف فوكوياما وأضرابه. والمسألة هنا بسيطة جدا ويمكن اختصارها بالقول انه ما دام يوجد على وجه الارض بشر جائعون واطفال بلا مدارس ومرضى بلا رعاية صحية ومشردين لا مأوى لهم ونساء يمتهن التخلف كرامتهم وحقوقهم وما زال يوجد شعوب خاضعة للسيطرة والقمع والاستبداد ولنهب لصوص العولمة لخيراتها. اقول اذا كان كل هذا صحيحا فمن المؤكد انه لا يزال هناك مكان لاشتراكية ما. ولست ادعي ولا اقبل ادعاء اي شخص انني او انه يملك تصورا واضحا لما سميته (اشتراكية ما). كنت في الماضي اهتف مع سمير امين <<إما الاشتراكية وإما البربرية>>. ولكنني اليوم اسمح لنفسي وفي ظل وحش العولمة ذي الانياب الذهبية ان ادخل تعديلا يقول <<إما الاشتراكية وإما الفناء>> فقد وصلنا الى البربرية ولا احد يدري اذا كانت البشرية ستفنى ام ستنتصر في صراعها من اجل الحياة فالمسألة منوطة بقيام تحالف بين كل الشرفاء وذوي الارادة الطيبة في كافة ارجاء المعمورة لتتمكن من الانتصار.
وبما ان هذا التحالف لم يُقَم فعليا حتى الآن فإن التنبؤ بمصير هذا الكوكب الصغير الجميل الذي نسكنه يبقى قفزة في المجهول. وكل منا مطالب بالمساهمة في رد خطر الفناء بغض النظر عن الانتماءات السياسية والفلسفية والدينية، فالهدف هو الابقاء على ما سماه المحرر الاميركي العظيم ابراهام لينكولن <<العائلة البشرية>>.
() كاتب لبناني