لم تكتف الولايات المتحدة بالحديث عن " اطر عامة " لإستراتيجيتها الكونية الجديدة التي بدأت تكتسب معالم أكثر وضوحا بعد احداث 11 سبتمبر 2001، بل انها على ما يبدو عازمة على مواصلة جهودها لبلورة قواعد محددة لعقيدتها العسكرية الجديدة تنص على الحق في توجيه الضربة الاولى الى الدول التي تملك اسلحة دمار شامل.
ومبدأ الضربة الأولى سيقر ضمن وثيقة شاملة عن الاستراتيجية الأميركية. وتحدث عنه لأول مرة الرئيس الأميركي في أول حزيران الماضي عندما قال إن الجيش الأميركي يجب أن يكون مستعدا لتوجيه ضربات وقائية لان سياسات الحرب الباردة التي تقوم على الردع والاحتواء لا تناسب عالم ما بعد الهجمات التي تعرضت لها الولايات المتحدة في 11 أيلول الماضي. وفي حديثه هذا، أعلن الرئيس بوش صراحة ان الولايات المتحدة على وشك الانتقال من استراتيجية الردع والاحتواء, إلى استراتيجية (الهجوم الوقائي). وقال: (إذا ما انتظرنا كي تنضج التهديدات, سنكون انتظرنا طويلاً. إن أمننا يتطلب من كل الاميركيين أن يتّحلوا ببعد النظر والتصميم, وان يكونوا مستعدين للقيام بهجمات وقائية استباقية حين يكون الأمر ضرورياً للدفاع عن حريتنا وعن أرواحنا).
وقال بوش متوجها الى الاكاديمية العسكرية الاميركية في وست بوينت انه لن يقبل ان يقوم "طغاة مختلون" بتطوير اسلحة بيولوجية او كيميائية او نووية وتزويد مجموعات ارهابية بها.
ونقلت الصحيفة المذكورة عن مصادر رفيعة المستوى في الادارة الاميركية ان مجلس الامن القومي سيضع قريبا هذه العقيدة الاستراتيجية الجديدة التي تنص على عمليات "احترازية" او "عمليات تدخل دفاعية". واستنادا الى تصريحات مسئولين اميركيين كبار فإن المبدأ الاستراتيجي الجديد يبعد كثيرا عن سياسة " الحرب الباردة " التي تقوم على الردع والاحتواء وسيكون جزءا من اول استراتيجية للامن القومي من المتوقع ان تنشر تفاصيلها في الخريف المقبل.
وكما معلوم فقد كانت الولايات المتحدة تعتمد حتى الان عقيدة "الردع"، القائمة على اقناع الخصم ، ولا سيما الاتحاد السوفياتي ابان " الحرب الباردة "، بانه قد يتم القضاء عليه اذا ما بادر الى ضرب الولايات المتحدة.
وتابعت الصحيفة ان مثل هذا التغيير الذي يثير مناقشات وجدل بين الخبراء العسكريين، لا يستبعد اللجوء "في نهاية المطاف" الى الاسلحة النووية، ولا سيما لاختراق مواقع محصنة شديدة المقاومة ومخبأة تحتوي على مخزون من الاسلحة البيولوجية او الكيميائية. وضمن هذه الاستراتيجية سيضاف للمرة الاولى تعابير من قبيل : «الوقائي» و «التدخل الدفاعي» بإعتبارها خيارات رسمية لضرب " دول معادية " او جماعات «تبدو» عازمة على استخدام اسلحة الدمار الشامل ضد الولايات المتحدة.
واعتبر العديد من المحللين هذا التوّجه أكبر تغيير في الاستراتيجية الأمنية - العسكرية منذ حقبة أربعينات القرن العشرين حين أسس الرئيس هاري ترومان الـ(سي آي إي) والـ(اف بي آي) والبنتاغون. فهذه الاستراتيجية ستبتعد عن مبدأ عمره اكثر من نصف قرن في السياستين الدفاعية والخارجية الاميركية هو الاحتواء والردع، وتقترب من نظرية (التدخل الدفاعي) و(الهجوم الوقائي).
وطبيعي أن مثل هذه النقلة النوعية ستجبر المؤسستين العسكرية والاستخبارية الاميركية على تنفيذ تبدلات واسعة في تركيبتهما وسياساتهما. وذلك على مستويين:
الأول, مستوى المفاهيم, حيث سيتطلب الأمر تغيير العقلية العسكرية الاميركية التي تعتبر الهجمات المفاجئة عملية (غير مشّرفة).
والثاني, مستوى العتاد, لأن الهجمات الوقائية تحتاج الى أنواع جديدة من الاسلحة لجعل القوات الاميركية أكثر مرونة في الحركة وأكثر قدرة على الفتك السريع.
وعلى الرغم من أن المبدأ يضع استخدام الأسلحة النووية في آخر سلم أولوياته، إلا أنه لا يستبعدها تماماً بصفتها فكرة لا يمكن التفكير بها. إذ يمكن للقوات الاميركية (كخيار أخير) ان تستعمل أسلحة نووية تكتيكية محدودة القوة الحرارية لضرب مخابئ ومستودعات الاسلحة البيولوجية والصاروخية.
والأهم من هذا وذاك، ان الاستراتيجية الجديدة ستلغي مفهوم شن حربين إقليميتين في وقت واحد (على نمط حرب الخليج الثانية)، لمصلحة مفهوم أوسع بكثير: القدرة على الحركة العسكرية في 60 دولة في آن (وإن بمستويات منخفضة الوتيرة).
بيد ان هذا التوّجه الجديد، أثار جدلاً واسعاً في الولايات المتحدة وقسم المخططين والمحللين وواضعي السياسات الى معسكرين:
الأول، المعسكر المؤيد لانقلابية بوش - رامسفيلد. وهو يجادل بأن سياسة الردع - الاحتواء التي طبقت طيلة حقبة الحرب الباردة لم تعد مفيدة الآن في حقبة ما بعد هذه الحرب.
المعسكر الثاني ، ويمثله معارضو الاستراتيجية الجديدة فهم، ومع قبولهم فكرة الهجوم الوقائي كخيار، يحذرّون من تحويلها الى استراتيجية متكاملة لأنها قد تضع الولايات المتحدة أمام مخاطر عدة أهمها وأبرزها خطر التمدد الاستراتيجي الزائد الذي طالما حّذر منه الباحث بول كيندي.
يبدو حتى الآن ان الكفة تميل لمصلحة المعسكر الاول. وهذا ليس سببه فقط التحديات التي أفرزتها احداث 11 أيلول (سبتمبر)، بل أيضا الجهود التي تبذلها الإدارة الاميركية منذ عدة سنوات لبلورة استراتيجية أمن قومي جديدة تمّكن الولايات المتحدة من الحفاظ على تفوقها وعلى زعامتها العالمية في القرن الحادي والعشرين (نظرية القرن الأميركي).
وهذا التوجه بدا واضحاً في التقرير الذي رفعته أخيراً (اللجنة الاميركية للأمن القومي في القرن الحادي والعشرين) إلى البيت الابيض. فقد قالت اللجنة ان الاستراتيجية الاميركية الجديدة ينبغي ان تراعي التوازن بين هدفين اساسيين:
· الاول هو قطف ثمار العولمة بهدف توسيع نطاق الحرية والامن والازدهار للاميركيين ولغيرهم.
· والثاني يجب ان تسعى الاستراتيجية للقضاء على القوى المسببة لفقدان الاستقرار العالمي, بحيث يمكن المحافظة على الفوائد التي يتم جنيها.
واقترحت اللجنة المذكورة المبادئ التالية بوصفها دليلاً لصياغة استراتيجية قومية:
1. يجب ان تجد الاستراتيجية والسياسة جذورها في المصلحة القومية. وهذه الاخيرة تحمل أبعاداً سياسية واقتصادية وأمنية وانسانية.
2. الحفاظ على قوة اميركا التزام طويل المدى ولا يمكن تأمينه من دون القيام بجهود واعية وصادقة. تأمين ازدهار أميركا مسألة حاسمة ستتعرض الولايات المتحدة من دونها إلى الفشل في جهودها لقيادة العالم.
3. تواجه الولايات المتحدة فرصاً غير مسبوقة ومخاطر غير مسبوقة كذلك في العصر الجديد. ان العمل من أجل علاقات بناءة بين القوى الاساسية والحفاظ على دينامية الاقتصاد العالمي الجديد مع توزيع فوائده ومشاركة المسؤوليات مع الآخرين في التعاطي مع المشكلات العابرة للقوميات، هو بحد ذاته الأجندة الديبلوماسية التي ستختبر مقدار القدرة الابداعية الاميركية وقدرتها على القيادة.
4. وأخيراً يجب على اميركا ان لا تنسى انها تدافع عن مبادئ أهمها الحرية تحت سقف القانون.
أولويات هذه الاستراتيجية
لقد طور عدد من الباحثين الاستراتيجيين الاميركيين مبدأ (الحروب الاستباقية) أو (الوقائية) بصفته الوجه الآخر لهذه الاستراتيجية السياسية. ويصف الأميركيون أنصار هذا المفهوم الحرب التي يبشّر بها هذا التعبير بأنها (دفاع وقائي) أو (ردع متمدد). لكن خصومه يقولون إنه مجرد نسخة جديدة من ديبلوماسية البوارج الحربية !
ويقول هؤلاء الباحثون الاستراتيجيون أنه (يمكن تحديد المصلحة القومية في هذا العصر الجديد على مستويات ثلاثة: مصلحة البقاء, التي من دونها تتوقف اميركا كما نعرفها عن الوجود، المصالح الحرجة والتي أبعد بخطوة عن مصلحة البقاء، والمصالح المهمة التي تؤثر على العالم حيث مجال عمل الولايات المتحدة ).
وبحسب هؤلاء فإن تحقيق هذه الاهداف في هذا العصر الجديد، يستلزم ان تكون الاولويات كالآتي:
أولاً: الدفاع عن الولايات المتحدة والتأكد من انها غير معرضة لمخاطر العصر الجديد. ويشكل عدم انتشار اسلحة الدمار الشامل الاولوية القصوى في سياسة الامن القومي الاميركي في ربع القرن المقبل . وفي ضوء المخاطر الجديدة الناجمة عن انتشار أسلحة الدمار الشامل والارهاب, يجب ان يكون تركيز الولايات المتحدة على كيفية الاحتفاظ بقوة ردع قوية تجاه كل اشكال الهجوم على اراضيها ومصالحها الاساسية. ويجب أن تعمل مع الآخرين لتقوية التعاون بين وكالات الأمن والاستخبارات والقوات العسكرية لإفشال المخططات الارهابية وحرمان الارهابيين من الملجأ بمهاجمة مراكزهم المالية واللوجستية.
ثانيا : على الولايات المتحدة أن تمتلك قوات خاصة قادرة على محاربة الابتزاز والتهديدات من قبل أولئك الذي يمتلكون أسلحة الدمار الشامل ومن الارهابيين. ان اتساع الخطر الذي تشكله اسلحة الدمار الشامل يدفع هذه الأمة أيضاً إلى دراسة دقيقة لوسائل الردع وظروفه, والتوجه نحو تطوير مبدأ الحروب الاستباقية.
ثالثا : الحفاظ على التماسك الاجتماعي الاميركي والتنافسية الاقتصادية والابداع التكنولوجي والقوة العسكرية. وفي هذا الصدد يجب أن تسـعى الولايات المتـحدة إلى خفـض اعتمادها على الطــاقة النـفطية الأجنبية التي تجعل هذا البلد وحلفاءه عرضة للضغوط الاقتصادية والابتزاز السياسي. ان التطوير المستمر لوسائل الطاقة البديلة وفعالية اكبر في نقل الطاقة والحفـاظ عليـها هي من ضـرورات الأمن القومي ومن ضرورات الاقتصاد والبيئة كذلك.
رابعا : المساعدة على اندماج القوى الأساسية الكـبرى, خصـوصاً الصـين وروسـيـا والـهـند, فـي التيار الاساسي للنظام العالمي الصـاعد. يـجب ان تتعامل الولايات المتحدة مع الصين بشكل بناء وبموقف ايجابي سياسـياً واقتصادياً. ولكن يجب ان تعترف ان التنافس بين الولايات المتحدة والصين قد يزداد مع ازديـاد قـوة الـصـين.
خامسا : يجب أقلمة التحالفات الاميركية والآليات الاقليمية الأخرى مع العصر الجديد. يجب ان يكون حجر الاساس في سياسة أميركا الاقليمية هو الحفاظ على التحالفات والصداقات القائمة وتقويتها. أما على صعيد اوربا فيتعين على الولايات المتحدة ان تكون جاهزة لدعم تطور سياسة دفاع أوروبية مستقلة بشكل متناسب مع وحدة الحلف الاطلسي. وفي منطقة آسيا والمحيط الهادئ، يجب ان يظل التحالف بين اليابان والولايات المتحدة الحجر الاساس في السياسات الاميركية.
وتملك الولايات المتحدة مصلحة دائمة وحاسمة في " ابقاء الخليج آمناً ". وهي تقبل بالعبء المترتب عليها في هذا الجانب. من هذا المنظور، تكون الأولوية القصوى هي منع العراق او ايران من نشر قوات دمار شامل.
سادسا : أخيراً, يجب مساعدة المجتمع الدولي على ترويض قوى التفتت التي يساعد على نشرها عصر العولمة. كما ينبغي على الولايات المتحدة ان تلجأ في كل الحالات الى الديبلوماسية الوقائية. أي العمل بالوسائل السياسية والاقتصادية وبالتعاون مع الآخرين لاستباق النزاعات قبل ان تصل الى عتبة العنف الجماعي.
ما هي القدرات العسكرية المطلوبة لتنفيذ هذه الاستراتيجية ؟
يشير الخبراء والباحثون الأميركيون الى ان الولايات المتحدة تحتاج إلى خمسة أنواع من القدرات العسكرية لتنفيذ هذه الاستراتيجية:
1- القدرات النووية للردع ولحماية الولايات المتحدة وحلفاءها من أي هجوم.
2- القدرات الأمنية الداخلية.
3- القدرات التقليدية الضرورية للانتصار في الحروب الاساسية.
4- قدرات الانتشار والتدخل السريع.
5- قدرات على تقديم المساعدة الانسانية.
توضيحات وزير الخارجية الامريكي، كولن باول، تبين أنه لا زال مرتديا بزته العسكرية !!
ومن جهته فقد حذر وزير الخارجية الاميركي كولن باول من ان الولايات المتحدة ستلجأ الى القوة العسكرية «الحاسمة» في اطار حملتها ضد الارهاب اذا لم تسفر الضغوط السياسية والاقتصادية عن النتيجة المطلوبة.
واوضح باول في لقاء ان الاستراتيجية الجديدة لادارة الرئيس جورج بوش القائمة على توجيه ضربات وقائية الى ارهابيين ومنظمات ارهابية ودول معادية للولايات المتحدة، ربما تشتمل على ضغوط لا تصل الى حد العمل العسكري، لكنه شدد على ان القوة اذا استخدمت فإنها ستكون حاسمة. كما انه اكد على اهمية اقناع العالم بضرورة اللجوء الى القوة بتقديم المعلومات اللازمة. واضاف باول ان هناك عدة وسائل يمكن استخدامها في الخطوات الوقائية الى جانب الضربات العسكرية، بما في ذلك الاعتقال والمصادرة الى جانب الاجراءات الدبلوماسية والمالية. وقال ان الضربات العسكرية يجب ان تكون حاسمة اذا صدرت تعليمات بتوجيهها.
وطور وزير الخارجية الاميركي كولن باول توضيحاته مشيرا الى ان السياسة الجديدة للادارة الاميركية القائمة على توجيه ضربات وقائية ضد " ارهابيين ودول معادية للولايات المتحدة " ربما تشتمل على ضغوط لا تصل إلى حد العمل العسكري، لكنه اشار الى ان القوة اذا استخدمت فإنها يجب ان تكون حاسمة. واضاف باول ان هناك عدة وسائل يمكن استخدامها في الخطوات الوقائية الى جانب الضربات العسكرية، بما في ذلك الاعتقال والمصادرة الى جانب الاجراءات الدبلوماسية والمالية. وأكد على ان الضربات العسكرية يجب ان تكون حاسمة، اذ يعتقد انه من الضروري ان يجري توجيه الضربة الوقائية على نحو يزيل الخطر تماما، أي توجيه ضربة حاسمة للهدف المحدد. ويعتبر حديث باول الى حد كبير معبرا عما كان يطلق عليه «نهج باول» عندما كان رئيسا لهيئة الاركان المشتركة خلال حرب الخليج الثانية، اذ اكد مرارا على ان الولايات المتحدة يجب ان تكون حذرة في جانب استخدام القوة على ان تسحق مناوئيها لضمان تحقيق انتصار كامل عند توجيه الضربة.