|
ثورة مصر: ثورة طاهرة في بيت دعارة
نهرو عبد الصبور طنطاوي
الحوار المتمدن-العدد: 3270 - 2011 / 2 / 7 - 07:31
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لكل فئة مجتمعية في أي بقعة من بقاع الأرض داخل الجماعة (الأم) ثقافتها ومفرداتها وفكرها ومعتقداتها وأساليبها وقانونها الخاص، ففئة الصحفيين مثلا لها ثقافتها ومفرداتها وفكرها ومعتقداتها وأساليبها وقانونها، وكذلك فئة الأطباء، وكذلك فئة القضاة، وكذلك فئة السياسيين، وكذلك فئة رجال الدين، وغيرها من الفئات المجتمعية الأخرى، ولكل فئة مجتمعية لونها وطقوسها ومصطلحاتها الخاصة التي تميزها عن بقية الفئات المجتمعية الأخرى داخل الجماعة (الأم)، ورواد بيت الدعارة في مصر والعاملين فيه والقائمين عليه هم كذلك فئة مجتمعية من الفئات التي تتكون منها الجماعة (الأم).
لقد كشفت كثير من الأفلام السينمائية المصرية التي تم إنتاجها منذ الثلاثينات من القرن الماضي وحتى الآن عن سمات وثقافة هذه الفئة، وأوضحت بجلاء قاموس هذه الفئة ومفرداتها وبنيتها الفكرية والثقافية والقيمية والأخلاقية. بل وألقت الضوء على جانب هام وخطير تتميز به فئة أهل الدعارة في مصر، ألا وهو الخلط أو المزج الفكري والسلوكي الفج بين ما هو طاهر وما هو نجس، بين ما هو برئ وما هو مشبوه، بين ما هو حق وما هو باطل، بين ما هو خير وما هو شر، هذا الخلط أو المزج هو ما يميز أهل الدعارة في مصر عن أهل الدعارة في أي مكان آخر من أرض الله، فالدعارة في كثير من بلدان العالم هي مهنة مقننة مشروعة لها ضوابطها وقوانينها وتراخيصها وجديتها ووضوحها وصراحتها، وتمارس في وضح النهار والشمس ساطعة، أما في مصر وكل الدول العربية فالدعارة عمل فاضح ومحرم ومجرم وغير شرعي ولا قانوني، وفي الوقت ذاته تمارسه جميع فئات المجتمعات العربية وخاصة المجتمع المصري بشكل منافق ملتوٍ غائم وقح، في الخفاء والعلن، متسترة بلافتات وشعارات تبريرية عصية على العد أو الحصر.
من الملامح الفكرية والقيمية لرواد بيت الدعارة في مصر هي تلك الازدواجية وذلك التناقض الصارخ الفاضح في معتقدات وأفكار وسلوكيات ومفردات هذه الفئة، من تلك الملامح أن كثيرا من رواد بيت الدعارة والعاملين فيه والقائمين عليه يؤدون الصلوات الخمس بانتظام، ويصومون شهر رمضان، ويتلون القرآن الكريم، ويتلون بعض الأذكار النبوية، ويكثرون من الصدقة على الفقراء والمساكين، ويعينون المحتاج، ويتبرعون بأموال كثيرة للمستشفيات والجمعيات الخيرية وبناء المساجد، وفي الوقت نفسه يعتقدون بحرمة الدعارة ويلعنونها ويلعنون كل من يتعاطاها، ويتأففون ويتعففون عن ذكرها في العلن أو الحديث فيها جهرة، بل لقد حصر المصريون والعرب الدعارة في الفتيات والنساء اللائي يعملن كراقصات فيديو كليب، أو فيمن يعملن في الملاهي الليلية، أو فيمن يعملن في البغاء وممارسة الجنس مقابل المال فحسب، وتغافلوا تماما عن أن الدعارة والعهر الحقيقيان هما في الأصل ثقافة وفكر قبل أن يكونا سلوكا وأفعالا، فالدعارة أو العهر يظهران ابتداءً كفكرة تنبت في رأس الإنسان، رجلا كان أو امرأة، ثم تترجم تلك الفكرة إلى واقع حقيقي يمارس على الأرض. وقد تكون تلك الفكرة سياسية أو اقتصادية أو ثقافية أو فكرية أو إعلامية أو دينية أو جنسية، ويخطئ من ظن أن الدعارة والعهر لا يمارسان إلا بأجساد النساء فحسب،
وليس أدل على ذلك وأكثر برهانا من رجل الأعمال المعروف الدكتور (حسن راتب) صحاب قناة (المحور) الفضائية الخاصة، هذا الرجل الذي جمع ثروته الطائلة في ظل نظام الرئيس مبارك وبعلمه ومباركته، هذا الرجل منذ اليوم الأول لاندلاع الثورة وهو قابع في استديوهات قناة المحور منذ ثمانية أيام ولم يذهب إلى بيته ولو لساعة واحدة _كما صرح هو بنفسه لكرم جبر مساء الجمعة الماضي في برنامج (48 ساعة)_ لحشد كل جنوده وشياطينه للتشويش على الثورة وتشويه أبطالها الأطهار، فقام باستدعاء أشر خلق الله وأدناهم نفسا وأحطهم خلقا وأخسهم كرامة (هناء السمري) و(سيد علي)، وظلت قناة المحور على مدار الساعة تقدم قصصا وهمية وحكايات زائفة يرويها من استؤجروا من الشباب والشابات للظهور في كل البرامج ليقسموا بالله جهد أيمانهم أنهم كانوا أعضاء في ثورة 25 يناير وتركوها بعدما تيقنوا أن هؤلاء الشباب الذين قاموا بالثورة والمتواجدين في ميدان التحرير هم عملاء لشبكات تجسس يهودية غربية دفعت بهم لقلب نظام الحكم في مصر وأعطتهم مبالغ مالية كبيرة مقابل فعلهم هذا، إلا أن المفارقة الغريبة والمدهشة على الأقل ليس لي، أن الدكتور (حسن راتب) من مريدي الشيخ (محمد متولي الشعراوي) وقد تتلمذ على يديه دينيا لسنوات طويلة وكان من أهم وأقرب أتباعه ومرافقيه كما هو معروف لجميع الناس وكما صرح هو في كثير من البرامج وفي كثير من المناسبات على سبيل الفخر والاعتزاز بهذه التبعية وهذه التلمذة على يد الشيخ الشعراوي( فنعم التدين ونعم التتلمذ).
ومن النماذج التي ألقت الأفلام المصرية عليها كثيرا من الضوء أن العاهرة تمارس الدعارة مع اعتقادها اليقيني بأن ما تفعله حرام، إلا أنها تبرر ذلك بالفقر والحاجة وأنها تنفق على إخوتها الصغار لفقدان عائل للأسرة، أو أنها تمتهن هذه المهنة لتتمكن من الإنفاق على علاج أحد أبويها، وغيرها من المبررات التي تحاول أن تمزج بين النقيضين والمتضادين والمتنافرين بصورة تدعو الجماهير الساذجة لتقبلها واستساغتها بل والتعاطف معها شعوريا، وهل أتاك حديث الراقصة التي صرحت ذات مرة أنها تقرأ سورة الفاتحة وآية الكرسي وأدعية سعة الرزق قبل أن تتعرى أمام الناس لتبيع للناظرين مفاتن ثدييها وأفخاذها وأردافها وهي توقن في مكنون ذاتها أن ما تقوم به من عمل حرام حرام حرام، هذا وناهيك عن أن الدخول إلى بيت الدعارة والاختلاط برواده والعاملين فيه والقائمين عليه يجعلك ترى فصول السنة الأربعة (الشتاء والصيف والخريف والربيع) في ساعة واحدة، فضلا عن أن بيت الدعارة له مفعول كمفعول أقوى أنواع المنظفات لتنظيف رواده والعاملين فيه والقائمين عليه من أي معنى لقيمة آدمية نقية أو خلق إنساني جاد. هذه الثقافة الداعرة وهذا الفكر العاهر بخصوصيته ونكهته المصرية نجحت الأفلام المصرية على مدار عشرات السنين أن تطبع به قطاعات عريضة من الشعب المصري، حتى أثرت تأثيرا كبيرا في تشكيل وعيه وفكره وثقافته وسلوكياته، حتى وإن لم يمارسوا الدعارة بصورتها الفعلية التقليدية، وبالتالي يستطيع أي أحد أن يلحظ بكل وضوح وجلاء هذه الثقافة وهذا الفكر في سلوكيات الإعلاميين والمثقفين والمفكرين المصريين، وكذلك يستطيع أي أحد ملاحظتها بصورة جلية في قادة وأعضاء أحزاب (المعارضة) المصريين، وكذلك في رموز النظام الحاكم وأعضاء الحزب الوطني، وكذلك في الفنانين والفنانات المصريين، وكذلك في أعضاء البرلمان، وفي الموظفين الحكوميين، وفي قطاعات كبيرة من عوام الشعب المصري، وفي قيادات وأفراد أجهزة الأمن، بل وطالت حتى التيارات الدينية ذاتها، فما أن تشاهد أو تنصت لحديث أي إعلامي أو إعلامية، أو أي مذيع أو مذيعة، أو أي صحفي أو صحفية، أو أي سياسي أو سياسية، أو أي مفكر أو مفكرة، أو أي معارض أو معارضة وخاصة في هذه الأيام إلا وتشعر كأنك تشاهد وتنصت لحديث قواد أو عاهرة يعملان في ملهى ليلي، إلا من رحم ربك وقليل ما هم، فلقد عمل الرئيس مبارك ومعاونيه وأركان حزبه وتابعيه على مدى ثلاثين عاما بكل قوة وإصرار وترصد على ترسيخ وتجذير هذه الثقافة وهذا الفكر في نفوس قطاعات عريضة من الشعب المصري، حتى تحولت مصر في عهد الرئيس مبارك إلى بيت دعارة كبير في صورة وطن.
إن الثورة المصرية العظيمة التي قام بها هؤلاء الشباب الأحرار الأطهار الأنقياء هي ثورة طهر في بلد العهر، فأخشى ما أخشاه على هذه الثورة المجيدة أن يتكالب عليها الداعرون والداعرات والعاهرون والعاهرات كما يحدث في الإعلام الحكومي والخاص الآن، فيتم تقويضها والإجهاز عليها وذبحها ومن ثم يتفرق دمها بين القبائل، ولننظر هل ستكون الغلبة للطهر أم للعهر؟.
نهرو طنطاوي كاتب وباحث في الفكر الإسلامي _ مدرس بالأزهر مصر_ أسيوط موبايل/ 0164355385_ 002 إيميل: [email protected]
#نهرو_عبد_الصبور_طنطاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
احذروا أيها المصريون: هؤلاء يتآمرون عليكم
-
شعوب تستلهم خلاصها من المنتحرين والمحروقين والغائبين
-
البطولة الزائفة للمنتحر التونسي (محمد بوعزيزي)
-
الطائفية الريفية والإجحاف بالمسيحيين
-
مسيحيو مصر ليسوا سواء
-
متى يعتذر المصري المسلم عن انتمائه للإسلام؟
-
الإعلام الخاص يحرض على الفتنة بازدرائه للمسلمين
-
أخطاء الرصد الإعلامي لتوجهات الناس تجاه الفتنة الطائفية
-
هرطقات طنطاوية على دفتر الفتنة (1)
-
نعم لوفاء الإنسان لا لوفاء الكلاب
-
إسرائيل دولة غربية بمرجعية يهودية (6_6)
-
إسرائيل دولة غربية بمرجعية دينية يهودية (5_6)
-
إسرائيل دولة غربية بمرجعية يهودية (4_6)
-
إسرائيل دولة غربية بمرجعية يهودية (3_6)
-
إسرائيل دولة غربية بمرجعية يهودية (2_6)
-
إسرائيل دولة غربية بمرجعية يهودية (1_6)
-
ديمقراطية فقه الدين
-
دعاة الفضائيات والدعوة إلى التقمص وتناسخ الشخصيات
-
الفضائيات الدينية تجعل من الإسلام دينا رجعيا
-
محاولات رهبنة الإسلام على يد دعاة الفضائيات الدينية
المزيد.....
-
عمال أجانب من مختلف دول العالم شاركوا في إعادة بناء كاتدرائي
...
-
مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية شرطة الاحتلال الإسرائي
...
-
أجراس كاتدرائية نوتردام بباريس ستقرع من جديد بحضور نحو 60 زع
...
-
الأوقاف الفلسطينية: الاحتلال الإسرائيلي اقتحم المسجد الأقصى
...
-
الاحتلال اقتحم الأقصى 20 مرة ومنع رفع الأذان في -الإبراهيمي-
...
-
استطلاع رأي إسرائيلي: 32% من الشباب اليهود في الخارج متعاطفو
...
-
في أولى رحلاته الدولية.. ترامب في باريس السبت للمشاركة في حف
...
-
ترامب يعلن حضوره حفل افتتاح كاتدرائية نوتردام -الرائعة والتا
...
-
فرح اولادك مع طيور الجنة.. استقبل تردد قناة طيور الجنة بيبي
...
-
استطلاع: ثلث شباب اليهود بالخارج يتعاطفون مع حماس
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|