|
لماذا -دولة الرسول- و-الراشدين- لا تَصلُح لنا الآن؟!
شاكر النابلسي
الحوار المتمدن-العدد: 976 - 2004 / 10 / 4 - 12:41
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
-1- خطاب الإسلام السياسي ركز منذ أن نشأ على اعادة الخلافة الإسلامية ليس على الطريقة الأموية أو العباسية أو المملوكية أو العثمانية ولكن على طريقة "دولة الرسول" في المدينة، أو على طريقة "الخلافة الراشدية" بما فيها من فساد وتسيّب ومحسوبية ونهب للمال العام، كما حدث في زمن عثمان بن عفان الذي كان (أقل من ملك وأكثر من ملك بكثير) (هشام جعيط ، الفتنة، 125) الذي لم يستجب لنداءات الإصلاح السياسي والمالي، وكان مصيره القتل الشنيع، وعدم دفنه في مدافن المسلمين، واللعنة التي أطلقتها عليه السيدة عائشة "أم المؤمنين" ولقّبته بـ "نعثل" ومعناها (الضبع الذكر) وكما حدث من انشاق الأمة نتيجة لصراع الديني مع السياسي في ولاية علي بن أبي طالب مما اضطرالسيدة عائشة (أم المؤمنين) السجود شكرا لله عند مقتل علي بن أبي طالب كذلك، كما ذكر أبو الفرج الأصفهاني في ( قاتل الطالبيين) عن أبي البختري. علماً بأن دولة الخلافة الحقيقية لم تدم غير اثنتي عشرة سنة هي مدة حكم ابي بكر وعمر بن الخطاب (632-644م). والخطاب السياسي الحديث الذي تضمن الدعوة إلى اقامة الخلافة الإسلامية نشأ عند قيام جماعة الإخوان المسلمين عام 1928 وبعد سقوط الخلافة الإسلامية العثمانية على أيدي كمال أتاتورك في 1924 ومحاولة الاخوان تنصيب الملك فؤاد الأول خليفة على المسلمين وقيام الشيخ علي عبد الرازق برفض هذا التنصيب من خلال كتابه (الإسلام وأصول الحكم، 1924) علماً بأن اقامة الدولة الدينية على غرار "دولة الرسول" أو "الدولة الراشدية" لم تكن من ضمن وصايا حسن البنا العشر الذتي أوصى بها عند قيام جماعة الإخوان المسلمين، وانما تمت المطالبة باقامة الدولة الدينية وبالخلافة الإسلامية عندما تحولت الجماعة إلى حزب سياسي غير معلن في الأربعينات، والى قوة سياسية دينية في مصر وفي العالم العربي.
-2-
من يقول بأن الإسلام لم يكن ديناً دولة، فهو على خطأ كبير وجهل عظيم بالتاريخ.
وهي محاولة يائسة لابعاد شبح الخلافة الديكتاتورية المتمثلة بالأمويين والعباسيين والمماليك والعثمانيين الذين حكمونا بالحديد والنار وبالقرآن المديني السيفي وليس بالقرآن المكي السلمي طيلة أربعة عشر قرناً.
فقد أخطأ الشيخ علي عبد الرازق في كتاب (الإسلام وأصول الحكم، 1925) عندما حاول الاثبات بأن الإسلام لم يكن ديناً ودولة، ومن الواضح أن هدفه من هذا الكتاب كان سياسياً وليس تاريخياً دينياً محضاً. وكان بصدد مراجعة أفكارة على ذمة محمد عمارة لولا أن أدركه الموت. كما أخطأ الشيخ خالد محمد خالد في كتابه (من هنا نبدأ، 1950) في هذا أيضاً، وقد راجع أفكاره بعد ثلاثين سنة، واعتبر أن الإسلام ديناُ ودولة في كتابه اللاحق (الدولة في الإسلام، 1981) وأخطأ أخيراً محمد الشرفي المفكر التونسي العلماني في كتابه ( الإسلام والحرية: الالتباس التاريخي، 2002) حين نفى في كتابه أن يكون الرسول قد أقام دولة في المدينة (ص156-167) وبأن القرآن لم ينص لا على دولة ولا على خلافة. ولكن القرآن كان أذكى من ذلك بكثير. ولو فعل ذلك لتحول الدين من دين سياسي إلى سياسة دينية، وفي ذلك فرق كبير سوف يغيّر مجرى التاريخ كله، بداية من القرن السابع الميلادي. ومن هنا فإن كل من تصدى لانكار ونفي أن الإسلام لم يكن ديناًُ ودولة، كان على خطأ تاريخي وفكري فادح.
-3-
لقد كان الإسلام تاريخياً ووقائعياً ديناً ودولة.
بل إن الإسلام كان دولة قبل أن يكون ديناً كاملاً!
وعلى العلمانيين – وأنا منهم – أن يعترفوا بذلك. ولكن عليهم في الوقت نفسه، أن ينفوا علمياُ ومنطقياً وواقعياً امكانية قيام خلافة إسلامية الآن، أو دولة دينية الآن على غرار "دولة الرسول" أو "دولة الراشدين" التي تعتبر في الأدبيات السياسية الدينية الكلاسيكية والحديثة هي الدولة المثالية التي يسعى دعاة الإسلام السياسي اى اقامة مثيل لها. وهذه هي مهمة العلمانيين الأساسية الآن، وليس نفي وقائع تاريخية دامغة، لا مجال لنفيها أو انكارهاعلى الإطلاق.
فالنبي محمد، لم يكن نبياً فقط كما قـال كثير ممن نادوا بفصل الدين عن الدولة، وعلى رأسهم علي عبد الرازق الذي قال: "إن محمداً ما كان إلا رسولاً لدعوة دينية خالصة للدين. لا تشوبها نزعة مُلك ولا حكومة. وما كان إلا رسولاً كإخوانه من الرسل" (الإسلام وأصول الحكم، ص154) وهذا غير صحيـح. كما أنه غير صحيح أن "النبي لم يكن في وقت من الأوقات ملكاً أو رئيس دولة، وإنما ظل النبي الرسول" (محمد خلف الله، النص والاجتهاد والحكم في الإسلام، ص43). وما قول الرسول لعمر بن الخطاب: "مهلاً يا عمر، أتظنها كسرويّة، إنها نبوة لا مُلك" إنما جـاء رداً على الذين يريدون منه أن يحيا حياة باذخة مُترفة كحياة الملوك العظام، وهو المُرسل للفقراء والأشقياء. ولكن الرسول كان يظهر كرئيس وزعيم دولة ليس من خلال تصرفاته الاجتماعية والرسمية، ولكن من خلال أفعاله السياسية والعسكرية والإدارية والتنظيمية والاقتصادية. فكان الرسول يريد إقامة دين ودولة في آن واحد، وإن كـانت غاية هذه الدولة نشر الإسلام بالدرجة الأولى. ذلك أن الدولة لم تكن ركناً صريحاً أو أصلاً رئيسياً من أركان الإسلام وأصولـه، وإنما كانت مُستلزماً وواجباً ضمنياً من واجبات ومستلزمات وأدوات نشر الإسلام والتي بدونها فإن الإسلام سيظل محصوراً ومهدداً، في مساحة محددة كما قال خالد محمد خالد، في (الدولة في الإسلام، ص25).
فالإسـلام لم ينتشر بالدُعـاة والهُـداة فقـط وإنما بالفتح (الحرب) أيضاً. والفتــح لا بُدَّ له من دولة. فالدولــة أدت إلى الفتح، والفتح أدى إلى الغنائم، والغنائم كانت بسبب النصر الذي حققه المسلمون، فتعزز الديـن وانتشر وقوي. فحفظُ الذِكْرِ لا بُدَّ له من سلطة، وهو ما توفره الدولة القوية.
ومن هنا لم يكُ النبي على هذا النحو نبياً فقط، وإنما كان حاكماً سياسياً وقائداً عسكرياً أيضاً كما لم يكن أي نبي أو رسـول آخر من قبله. وكان الرسول "يدرك بأن بناء الدولة الإسلامية جزء من مهمته كنبي ورسول" (خالد محمد خالد، الدولة في الإسلام، ص25). كما أن براعته التي أظهرهـا في القيادة السياسية والقيادة العسكرية كانت من مستلزمات الحُكّـام العظام في العصور الكلاسيكيـة.
فالرسول عندما دخل المدينة مهاجراً كان أول عمل قام به وقبل أن يكتمل الإسلام، إذ كان أمام الإسلام عشر سنوات أخرى لكي يكتمل، وقبل أن يرسخ الإسلام، وقبل أن يدعو إلى الإسلام في المدينة أن أسس "دولة المدينة" أو "دولة الرسول" في المدينة، وكانت دولة غير دينية وغير اسلامية. بمعنى أنه أشرك فيها الكفار من الأوس والخزرج، كما أشرك فيها اليهود وأقام لها كياناً سياسياً واضحاً. وكان الخليفة أبا بكر هو ولي العهد الذي تسلم حكم هذه الدولة من بعد رحيل الرسول وتبعه الخلفاء الثلاثة الآخرون الذين ذهبوا قتلاً للأسف الشديد.
إذن كان هناك دولة. والإسلام دين سياسي بالدرجة الأولى. ولذا، فهو الدين السماوي الوحيد الذي اقام دولة باسمه. فلا موسى وأتباعه أقاموا دولة، ولا المسيح وحواريه أقاموا دولة، لا قبل أن تكتمل ديانتهم، ولا بعد أن اكتملت.
-4-
إن الدلائل على "حاكمية" النبي محمد المميزة التي لم نقرأ مثيلاً لها في تاريـخ الأنبياء والرسل الآخرين، تتضح من خلال الحقائق والوقائع التاريخية التالية:
1- كان الرسول قبل هجرته من مكة إلى المدينة قد خطط لبناء دولة في المدينة بعد هجرتـه إليها. وهو لم يقل لنا هذا قبل الهجرة. ولكن العقد السياسي والعسكري والاجتماعي الذي وقّعه مع قادة وزعماء الأوس والخزرج في مكة فيما عُرف بـ "بيعة العقبة" كان الخطوة الفعلية الأوليـة لبناء هذه الدولة الدينية السياسية المقبلة. وبعد هجرة الرسول إلى المدينة بدأ الرسول بتكوين دولـة مدنية ليست قاصرة على المسلمين ولا هي بدولة للمسلمين فقط، وإنمـا أشرك فيها اليهود أيضاً دون أن يشترط عليهم التحـول إلى الإسلام (سمير أمين وبرهان غليون، حوار الدين والدولة، ص99) .
وكان مجتمع "دولة النبي" متعدد الأثنيات واللغـات والديانات (كما هو الحال في المجتمع الأمريكي الآن) ووضع الرسول لهذه الدولة دستوراً يشتمل على سبعٍ وأربعين مادة تنظيمية لشؤون الحرب والسلم والمال والحدود الجغرافيـة والعلاقات الداخلية والخارجية. وهو ما أطلق عليه مؤرخو الإسلام "الصحيفـة"، أو "الكتاب" (مونتجومري وات، محمـد في المدينة، ص337). وأُطلق على رعايا هذه الدولة "أهل الصحيفة" أو "أهل الكتاب" ولم يُطلق عليهم "أهل الإسلام". ومن هنا تكوّنت عناصر الدولـة: الزعيم والقائد، الرعايـا، والدستور الموضوع. وتمت إقامة أول دولـة عربية – غير قاصرة على المسلمين – في التاريخ بزعامة الرسول من اليهود والعرب. وكانت أبرز القبائل اليهودية التي انضوت تحت راية هذه الدولة: بنو النجار، بنو عوف، بنو الحارث، وغيرهم.
2- "أعلن النبي أن اليهود والعرب يؤلفون أمة واحدة ،دون تمييز بينهم في العِرْق أو الدين أو الانتماء القبلي" (جوزيف مغيزل، العروبة والعَلْمانية، ص139).
3- كان لدولة الرسول جهازها العسكري والمالي والإداري والقضائي. وكان للرسول - كحاكم أعلى وكرئيس دولة - مستشارون ووزراء يديرون مصالح ووزارات. فمن المستشارين كان "هيئة العشرة" من المهاجرين الأوائل، ومن "هيئة الإثني عشر" كان نقباء الأنصار. وهؤلاء كانوا بمثابة مجلس شورى أو برلمان النبي. أما التشكيل الإداري والسياسي لهذه الدولة، فكان على النحو التالي:
- وزارة التربية والتعليم، وتشمل إدارات: تعليم القرآن، تعليم الكتابة والقراءة، الإفتاء، تعليم الفقه، والإمامة.
- وزارة الحج، وتشمل إدارات: السقاية، وإمارة الحج.
- وزارة الخارجية، وتشمل إدارات: السفراء، والتراجمة.
- وزارة الإعلام، وتشمل إدارات: الشعراء، والخطباء.
- وزارة الدفاع وهي أقوى وأوسع وزارة، وتشمل إدارات: أمراء القتال وجنده (ما يُعرف اليوم برئاسة الأركان ) ، كتّاب الجيش، فارضو العطاء (ما يُعرف اليوم بالإدارة المالية ) ، العرفاء من رؤساء الجند. الحرس النبوي، المستخلفون على المدينة (ما يُعرف اليوم بالحرس الوطني) ، مستنفرو الناس للقتال (ما يُعرف اليوم بدائرة التعبئة العامة ) ، صـاحب السلاح (ما يُعرف اليوم بأمين المستودعات العامة للجيش) ، القائمون على متاع السفر (ما يُعرف اليوم بدائرة النقل العسكري) ، خاذلو الأعداء (ما يُعرف اليوم بدائرة الاستخبارات العسكرية ) ، ومبشرو النصر (ما يُعرف اليوم بدائرة التوجيه المعنوي والإعلام والمصدر المسؤول أو الناطق الرسمي).
- وزارة المالية، وتشمل إدارات: عمّال الجباية والخراج، عمّال الزكاة والصدقات، والخارصون للثمار (ما يُعرف اليوم بدائرة ضريبة الدخل أو الإنتاج. و"الخرص" هو تقدير إنتاج الشجر من الثمر بالظن والتخمين).
- وزارة الداخلية، وتشمل إدارات: صاحب العسس (ما يُعرف اليوم بمدير الأمن العام) ، العين (ما يُعرف اليوم بدائرة المباحث والاستخبارات )، السجّان (ما يُعرف اليوم بمدير عام مصلحة السجون) ، المنادي (ما يُعرف اليوم بالناطق الرسمي أو المصدر المسؤول بوزارة الداخلية) ، ومُقيم الحدود (ما يُعرف بالجلاد والسيّاف ).
- وزارة الصحة وتشمل إدارة متولي التطبيب والعلاج.
- وزارة الأوقاف، وتشمل إدارات: فارضو المواريث، فارضو النفقات، إمامة الصلاة، والآذان.
- وأخيراً، الديوان النبوي، ويشمل إدارات: الكتابة، الترجمة، الخاتم، والحجابة (الحجابة تعني بلغة اليوم التشريفات في الديوان الملكي أو الجمهوري أو الأميري. والحاجب هو رئيس التشريفات. والتشريفات كلمة تركية تعني الاستقبال والتوديع).
وهذا التنظيم السياسي والإداري والعسكري لم يكن موجوداً كله وبهذا التفصيل عند العرب قبل الإسلام. ولا بُدَّ أن النبي قد استعان بخبراء غير عرب وغير مسلمين من البيزنطيين في الشـام والساسانيين في العراق والفرس في إيران وغيرهم، لإقامة هذا الكيان السياسي والإداري في دولته الجديدة.
4- من الملاحظ أن أخبار الرسول في التاريخ الإسلامي لم تكن أخباراً دينية خالصة فقط بقدر ما كانت أخباراً سياسية وعسكرية وإداريـة أيضاً. بل إن معارك الرسول وحملاته العسكريـة وغزواته وبعثاته السياسية إلى الدول المجاورة احتلت حيزاً كبيراً من السيرة النبويـة كما لم تحتلها في أي سيرة نبوية أخرى من قبـل. وهـو ما يشير إلى أن حياة الرسول كانت مُكرَّسة في جزء كبير منها إلى إقامة دولـة ذات تقاليد عسكرية وإدارية وسياسيـة كذلك. وهو ما أورثـه الرسول للخلفاء الراشدين من بعده، الذين لم يبدأوا بناء الدولة من الصفر، ولكنهم وجدوا أمامهم أُسساً أكملوا بناءها.
5- لم تكن صفات النبي في التاريخ الإسلامي أنه نبي فقط، ولكن كانت من صفاته الشخصية: القائد، سائس الأمة، الأمير، ولي الأمر، الإمام. فقد قام النبي أثناء حياته – كما لم يقم أي نبي آخر– بالبدء في بناء الدولة خارجياً. فهو الذي عيّن باذان بن ساسان أول الأمراء الحكام من المسلمين في اليمن، وخالد بن العاص والياً على صنعاء أيضاً، وابن أبي أمية المخزومي والياً على كندة والصدف، وزياد بن أمية الأنصاري والياً على حضرمـوت.. الخ. ولنلاحظ هنا أن الرسول هو الذي بدأ مبدأ "التعيين" في التاريخ السياسي الإسلامي المناصب السياسية والإدارية والقضائية باختيار شخصي. ولم يترك الأمر في التعيين منذ البداية للانتخاب من قبل المحكومين. في حين أن مبدأ الانتخاب كان سائداً منذ زمن طويــل، ومن أيام الإغريق كعنصر من عناصر الديمقراطية.
وهذه كلها إجراءات سياسية وإدارية بحتة، قام بها الرسول انطلاقاً من اعتبارية شخصيته الدينية والسياسية في الوقت نفسه، وانطلاقـاً من مهمته كمؤسس "لمُلك ديني" استمر قيامـه ستة قرون (632-1258م) محصوراً في قبيلة واحدة وهي "قريش". وهكذا فإن الرسول عندما مات "ترك ديناً مكتمـلاً ودولة مهيمنةً على الجزيرة العربية كلها، مترابطين بشكل لا يقبل الانفكاك. كما أن وفاة النبي طرحت مسألة حقيقية واحدة، وهي مسألة الحفاظ على إنجازه من دين ودولة"، وليس على الإنجاز الديني فقط كما قال هشام جعيط في ( الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر، ص33، 34).
-5-
من هنا، فإن القول بأن مهمة الرسول كانت مهمة دينية فقط، تنحصر في الدعوة الدينية فقط، مثله مثل باقي الأنبياء والرُسل من قبله، قول غير سليم.
والقول بأن النبي كان نبياً فقـط، وليس بذي سلطان سياسي قول غير صحيـح أيضاً. والذين يقولون هذا القول ويرددونه ويركزون عليه، يريدون من وراء ذلك الخير والتكريم الجميل للرسول بأن يرفِّعوه إلى مرتبة روحانية مطلقة، بعيداً عن أوساخ السياسة ونجاسات الرئاسة، وتدعيماً لمقولتهم في فصل الدين عن الدولة، وبأن النبي كان نبياً داعية لدين فقط، ولم يكن زعيماً أو قائداً سياسياً. وما فعله النبي محمد في أواخر حياتـه من نشاط وإجراءات سياسيـة وإداريـة ومالية كانت إجراءات وقرارات لم يقم بها أي نبي أو رسول آخر في تاريخ الأديان البشرية كلها، حيث اقتصرت مهمة الأنبياء والرسل من قبل على الدعوة الدينيـة فقط، دون ممارسة أي سلطان سياسي أو إداري، كما فعل النبي محمد. وكان النبي محمد بذلك أول وآخر الأنبياء الذين جمعوا بين الدالين: الدين والدنيا (يُستثنى من ذلك النبي داوود 1000-962 ق.م الذي كان نبياً وملكاً، وكذلك ولده سليمان من بعده. وقد كان داوود ملكاً بأمر السماء لقول القرآن: "يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق").
وكـان الإسلام بذلك جامعاً أيضاً لهاتين الدالين: دال الدين ودال الدنيا. وتلك حجة قوية اليوم في أيدي الجماعات الإسلامية والتيار السياسي الإسلامي الداعي إلى إقامة الدولة الدينية. وهذه الحجة نفسها هي التي دحضت بقوة الدعوات الحديثـة المحدودة والقلقة لفصل الدين عن الدولة، كدعوة علي عبد الرازق وخالد محمد خالد ومحمد خلف الله والعلمانيين عموماُ وغيرهـم. وجعلت بعض من قالوا بفصل الدين عن الدولة يتراجعون عن مقولاتهـم – بفعل عقدة الذنب الدينية المتأصلـة في المصريين كأمة دينية منذ أيام الفراعنـة - ويربطون بين الدين والدولـة وينادون بقيام دولة إسلامية كما فعل صراحــة خالد محمد خالد في كتابـه "الدولة في الإسلام"، وكما كان ينوي عملـه علي عبد الرازق لولا أن أدركـه الموت، كما يقول محمد عمارة.
-6-
ومن هنا، كان الإسلام قد بدأ منذ أيامه الأولى سياسياً، واستمر كذلك إلى الآن. ومن الباحثين كمحمد محمود المفكر السوداني من يقول لنا بأن "دولة المدينة" التي أسسها النبي واستمـرت حتى نهاية العهد الراشدي كانت دولة " لا تختلف عن الدولة البيزنطية أو الدولة الساسانية من حيث علاقة المركز بالأقاليم المفتوحة. وكذلك من حيث سير دولة المدينة بعيداً عن الهيمنة الدينية وسيطرة الخطاب الديني. ومن هنا ظهر جيل من الولاة على الأمصار تشوب سمعتهم الدينية الشكوك إلا أنهم فرضوا أنفسهم بحكم قدراتهم الإدارية".
ومن هنا أيضاً، فإن الإسلام على خلاف مع الأديان الأخرى التي بدأت روحانية وانتهت سياسية كالمسيحيـة واليهودية. فالإسلام ابتدأ وانتهى سياسياً وما زال ديناً سياسياً، بدليل هيمنة رجال الدين على القرار السياسي العربي الآن وفي أكثر الدول علمانية (مصر، الأردن، المغرب، سوريا.. الخ)، ومنذ أربعة عشر قرناً.
ومن هنا كذلك، فمن الصعب على العربي المسلم في الماضي والحاضر أن يفصل بين الدين والدولـة بعد مضي هذا التاريـخ الممتـد، والربـط المتصـل بين الدين - كأيديولوجية سياسيـة – وبين الدولة.
فكانت السياسة والرئاسة في الدولة العربية – الإسلامية الأولى في العهد الراشدي لا تعني نشر الدين وتطبيق تعاليمه فقط، ولكن التوسع في الفتوحات وامتلاك الأراضي المفتوحة وجمع الأموال من الزكاة والجزية وغنائم الفتح، باعتبار أن الاقتصاد الإسلامي في ذلك الوقت قد تحوّل من "اقتصاد تجارة" الى "اقتصاد حرب"، حيث لا نهضـة اقتصاديـة ولا نهضة علمية ولا نهضة اجتماعية تُعنى بها السياسة. فالدين هو السياسة والرئاسة باعتبار أن الحاكم السياسي كان "أمير المؤمنين" فقط، وليس "أمير المواطنين" كافـة من المؤمنين وغير المؤمنين. وفي هذا اللقب السياسي/الديني – والذي ما زال سارياً حتى الآن - ما يشـرح لنا كثيراً من المهام المنوطة بالحاكم السياسي في الحكم العربي – الإسلامي.
وهذه النظرة للحكام لم تكُ قاصرة على الدين الإسلامي وحده، بل هي شملت المسيحيـة أيضاً في فترات مختلفة، وكانت تياراً سياسياً جارفاً، عبَّر عنه الفيلسـوف الهولنـدي باروخ سبينوزا(1632-1677) حين ربط بشدة قوية بين الدين والسياسة، واعتبر السلاطين هم الأمناء والشُرّاح ليس للحق المدني فقط، ولكن للحق المقدس أيضاً.
من جهة أخرى، "فإن الإسلام لا يتسع لمعرفة أي فصل ما بين الدين والدولة، فأفراد الأمة الإسلامية هم عبيد الله، وشرائع الأمة إلهية؛ مُلْكها هو مُلْك الله، وجندها هم جند الله، وأعداؤها هم أعداء الله. وهذا يُلزم وجود حاكم واحد على رأس الأمة، إطاعته واجبة دينياً" على حد تعبير أيمن الياسيني.
وهكذا أجبنا على سؤال العرب الخالد والمحتدم الآن وهو:
هل الإسلام دين ودولة؟
ولكن بقيت الآن الإجابة الأصعب على السؤال الأصعب وهو:
هل "دولة الرسول" و"دولة الراشدين" هذه تصلح لنا الآن، كما ينادي بها أتباع "الإسلام السياسي"؟
هذا هو السؤال الكبير.
جوابنا في المقال القادم، فتابعونا.
[email protected]
#شاكر_النابلسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أيها الأزاهرة: ارفعوا أيديكم عن ثقافتنا
-
هل العرب مسلمون؟!
-
لو أن شيراك قالها حقاً، لكانت عين الصواب!
-
الليبراليون السوريون الجدد ينهضون
-
يا فقهاء الدماء: اهتدوا بهذا الكاردينال!
-
فقهاء سفك الدماء
-
العفيف الأخضر يموت حياً!
-
عرفات وألاعيب الحواة!
-
هل الصدر آخر الدمامل المُتقيّئة في الجسم العراقي؟
-
لماذا أصبح الارهاب خبز العرب؟!
-
قدَمُ عمرو ورأسًُ عرفات!
-
طريق الثورة الملكية الأردنية
-
أيها الخليجيون: احتضنوا العراق!
-
ما هي الثورة الملكية التي يحتاجها الأردن الآن؟
-
إلى متى سيبلعُ الفلسطينيون سكاكين الديكتاتورية نكايةً بإسرائ
...
-
لماذا أصبحَ العربُ عَصْيين على التطبيع؟
-
المهزلةُ الفلسطينيةُ: شَعبٌ كبيرٌ، و-مُختارٌ- صغيرٌ!
-
لماذا يسعى الإخوان المسلمون إلى تغيير الجلود والعهود؟!
-
قرضاويّان، لا قرضاوي واحد!
-
هل حقاً أنَّ القرضاوي يُعتبرُ داعيةً وسطياً معتدلاً ؟
المزيد.....
-
الإمارات تكشف هوية مرتكبي جريمة قتل الحاخام اليهودي
-
المقاومة الإسلامية تستهدف المقر الإداري لقيادة لواء غولاني
-
أبرزهم القرضاوي وغنيم ونجل مرسي.. تفاصيل قرار السيسي بشأن ال
...
-
كلمة قائد الثورة الاسلامية آية الله السيد علي خامنئي بمناسبة
...
-
قائد الثورة الاسلامية: التعبئة لا تقتصر على البعد العسكري رغ
...
-
قائد الثورة الاسلامية: ركيزتان اساسيتان للتعبئة هما الايمان
...
-
قائد الثورة الاسلامية: كل خصوصيات التعبئة تعود الى هاتين الر
...
-
قائد الثورة الاسلامية: شهدنا العون الالهي في القضايا التي تب
...
-
قائد الثورة الاسلامية: تتضائل قوة الاعداء امام قوتنا مع وجود
...
-
قائد الثورة الإسلامية: الثورة الاسلامية جاءت لتعيد الثقة الى
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|