|
ملاحظات حول بيان ليبرالي سوري
جورج كتن
الحوار المتمدن-العدد: 976 - 2004 / 10 / 4 - 10:39
المحور:
اخر الاخبار, المقالات والبيانات
أثار بيان التجمع الليبرالي في سوريا جملة من المسائل حول تيار سياسي جديد تتشكل ملامحه في المنطقة العربية ممن وعى المغزى الحقيقي للمتغيرات الدولية منذ حرب الخليج لعام1991 وانهيار الأنظمة الشمولية في الدول الشرقية. تلقى التيار دفعاً كبيراً بعد سقوط النظام العراقي وسمي تياراً ليبرالياً أو تياراً رابعاً عقلانياً واقعياً أو نهضوياً تنويرياً، والعدد الأكبر من دعاته أتوا من التيارات القومية والاشتراكية والإسلامية، بعد أن تغلغلت مفاهيمه السياسية فيها دون أن تحدث تغييراً جذرياً في توجهاتها. التيار الليبرالي قام بمراجعة شاملة للثوابت والأهداف والشعارات القديمة، وقطع الخيوط مع أوهام الأيديولوجيات معتمداً على الوقائع وإعمال العقل وليس النقل من النصوص، للبحث عن مفاهيم جديدة أكثر إنسانية. وهو يضم كل من يرى أن الحرية هي الحاجة الأولى للبشرية وأن حدود الوطن هي حدود المواطن الحر، وأن السيادة الوطنية المطلقة التي تتخفى وراءها الأنظمة الاستبدادية و/أو الفاسدة بدأت بالتآكل، وأن معيار وطنية أي نظام ليس سياسته الخارجية بل مدى احترامه لحقوق الإنسان. وهو تيار يمكن أن يضم كل من يعتبر أن القومية لا تعني تذويب وتعريب وتهجير الشعوب المتعايشة مع العرب، بل تأييد حقوقها القومية ومنها حقها في تقرير مصيرها، فالعروبة رابطة حضارية ثقافية لا تمنع التركيز على أوضاع الكيانات القطرية التي ترسخت تمايزاتها بحيث أن الاتحادات المستقبلية في المنطقة تعتمد على المصالح الإنسانية والمادية المشتركة وليس على الانتماء القومي، وقوة أي بلد لا تأتي من اتساعه أو توحده مع بلدان أخرى بل من الديمقراطية والمشاركة الشعبية والمجتمع المدني الناشط وتوجيه كافة الجهود والموارد للتنمية. ويصنف ليبرالياً من يعي ضرورة السلام القائم على إنهاء الحروب في المنطقة لإيقاف نزف الطاقات البشرية والمادية بلا طائل، وخاصة إنهاء الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي بحلول واقعية، وكل من يعي أن إيقاف العنف العشوائي الإجرامي والانتقال للديمقراطية في العراق، يعني المشاركة في العملية السياسية الجارية باستحقاقاتها الانتخابية والدستورية كطريق لإنهاء وجود القوات الأجنبية. كذلك من يعي نشوء مصالح إنسانية مشتركة متعدية للحدود كنتيجة لمسيرة العولمة، وبالتالي من يتخذ موقفاً عقلانياً من العولمة لتعزيز جانبها الإنساني والتقليل من تأثير جوانبها السلبية على الشعوب المتخلفة، ومن لا يرى في الغرب وأميركا شراً مطلقاً أو خيراً مطلقاً بل سياسات متعددة يعارض الضارة منها وخاصة الانحياز لإسرائيل على حساب الحقوق الفلسطينية. فالحضارة الغربية الناجحة أصبحت نموذجاً للتعميم، لا يمكن لجزيرة الاستبداد العربية والإسلامية أن تظل بمنأى عن مفاعيله، من نهضة وتنوير وحداثة وإصلاح ديني وتعليمي وحريات وانفتاح ومعرفة وعلوم وتكنولوجيا وازدهار واستثمارات متعدية للحدود... ويعتبر ليبرالياً من يرى أن تعدد القطبية الدولية مرحلة تخطاها العالم، فإذا استفاد العرب في الماضي من صراع القطبين جزئياً أو نسبياً، فالكون لم يعد يتحمل صراعات أقطاب بعد تضخم ترسانات أسلحة الدمار الشامل المهددة بالقضاء على الحياة البشرية، فمصلحته التوحد حول قطب واحد، ليس دولة واحدة مهيمنة، بل كتلة من الدول ترفض صراع الأقطاب وتعلي التنافس السلمي بين الأمم، تتوسع لتضم معظم دول العالم المتوافقة على السلم والمصلحة البشرية الواحدة ونشر الديمقراطية في مجال العلاقات الدولية، الذي يؤدي لمؤسسات أممية تسمع فيها أصوات الدول والشعوب الصغيرة. في مثل هذه العولمة لا يرى الليبرالي أنه يمكن الفصل بين دور الخارج والداخل فالاثنان متلازمان ومتبادلي التأثير. الليبرالية بشكل عام لا يمكن أن تكون سياسية فقط فهي أيضا اقتصادية واجتماعية وثقافية، فالتلازم بين اقتصاد السوق الحر والحريات الديمقراطية غير قابل للفصم، والنظام الرأسمالي لا يمكن تجاوزه لفترة طويلة قادمة، ما يمكن عمله النضال من أجل ضمانات اجتماعية للطبقات محدودة الدخل تشمل تعويضات البطالة والشيخوخة، وهيئات عامة لمراقبة الأسعار والأجور ،وتأمين الخدمات الصحية والتعليمية والترفيهية... الليبرالية ليست جديدة في المنطقة فقد طبعت توجهات الجيل النهضوي العربي الأول، وكانت عماد القوى السياسية والشعبية التي عملت للاستقلال الوطني في النصف الأول من القرن العشرين ومنها الأحزاب الديمقراطية اللبنانية والحزب الوطني الديمقراطي العراقي وحزب الوفد المصري وحزب الأمة والاتحادي السوداني وحزب الشعب والوطني السوري...إلا أن الانقلابيين العسكريين الذين ادعوا أن حركاتهم "ثورية" قطعوا الطريق على تطورها بعد اتهامها بالرجعية والعمالة، وهي نفس الاتهامات التي يوجهها بقايا الانقلابيين لليبرالية الراهنة. وإذا كانت ملامح التيار الجديد الليبرالي غير محددة بدقة بعد، فأن توجهاته المختلفة لن تكون توجهات موحدة لجميع أطرافه، فتفاعل مكونات التيار لن تنتج برنامجاً واحداً بل برامج متعددة يجمع بينها الحرية كهدف رئيسي، والحوار المفتوح كوسيلة للوصول لقواسم مشتركة غير مقدسة قابلة للنقد ثم النقض عند أية وقائع جديدة. التيار الليبرالي ليس بديلاً للتيارات الثلاث إلا أنه يعمل للتأثير في مواقفها ولا يستبعد التحالف مع بعض أطرافها من أجل أهداف مرحلية. فقد صعد نتيجة فشلها وتراجعاتها: فالتيار القومي بدء الانكماش منذ الستينات وسقطت مؤخراً أهم قلاعه، النظام القومي الشوفيني العراقي بانهيار يشابه تدهور المفاهيم القومية في أوروبا إثر القضاء على الفاشية الألمانية والإيطالية. كما تلاشت التيارات الشيوعية والاشتراكية بعد الانهيار المدوي لأنظمة الدول الاشتراكية. كما أن التيار الإسلامي في طريقه للفشل، ففي السودان وإيران أثبت الإسلاميون أن الديمقراطية لا يمكن أن تتوافق مع الإسلام السياسي، وفي السعودية والجزائر ومصر والعراق تحول الإسلاميون بشكل متزايد للإرهاب المدان بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. هذا الفشل سيؤكد أن فصل الدين عن الدولة رافعة أخرى إلى جانب الحريات للنهضة والتقدم. يتمسك الثلاثي المحافظ القومي الاشتراكي الإسلامي بالأمجاد الغابرة وويراهن على عودة "أيام العز"، أيام الخلفاء الراشدين وعبد الناصر ولينين وستالين، مثلما ينتظر المؤمن يوم القيامة، ويجمعه رفض الحداثة، والتلاؤم مع العصر بربطة عنق غربية مع عقل ومفاهيم سلفية، فتوشيح شعارات الثلاثي بمفاهيم ليبرالية خلق لدى أطرافه ازدواجاً، وخاصة لدى المعارضات العربية التقليدية التي تشكل وجهاً آخر للسلطات القائمة، فهي تعمل لنفس شعارات وأهداف الأنظمة والفارق الوحيد إدعاءها أنها الأقدر على إنجازها، وهي تتشارك مع السلطات في رفض الاتجاه الليبرالي وتخوينه، وتقف على نفس أرضية السلطة في تحبيذ ثقافة الانتحار والموت، وترجيح تفسيرات المؤامرة، والتهويل والتعميم... وكل ما يشوب العقل العربي من مفاهيم متخلفة، وتضع نفسها في خندق السلطات الاستبدادية ضد أي تأثيرات أو ضغوط أو مساعدة أو مشاركة خارجية في إصلاحات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. يساهم بيان التجمع الليبرالي في سوريا في فتح المجال لحوار واسع حول التيار الجديد، إذ قدم ورقة للنقاش مفتوحة وغير نهائية، وحسناً فعل عندما أكد أنه مشرع الأبواب للجميع على أساس العمل السلمي والعلني واللاعنفي، وعلى أهمية التواصل مع الآخر محلياً وإقليميا ودولياً...لكن نواقصه عدم الإشارة لضرورة العمل لانتقال سوريا للنظام الديمقراطي، رغم أن الديمقراطية البند الأول في أي برنامج ليبرالي، بعناوينها الرئيسية: الانتخابات النزيهة وحرية التعبير وتشكيل الأحزاب والنقابات والجمعيات المستقلة، والعلمانية وتبادل السلطة واستقلال القضاء... كما نسي البيان التأكيد على العمل من أجل تمكين المرأة ومساواتها بالرجل كأساس لأي مشروع نهضوي، والعمل من أجل مستقبل أفضل للأجيال القادمة وللشباب، وإنهاء إبعادها القسري عن المشاركة في الحياة السياسية. كما أن الإصلاح والتطوير لا يقتصر على المجال السياسي بل يشمل الإصلاح الديني والتعليمي، والمسألة الاجتماعية والاقتصادية، فحرية المبادرة الفردية هي دعوة ليبرالية، لكن الليبرالية لم تعد الحركة السياسية للرأسماليين، فالحريات تهم كافة فئات المجتمع التي من مصلحتها أيضاً العمل لضمانات اجتماعية بحيث لا تضر الحرية الاقتصادية بمصالح ذوي الدخل المحدود. كما تجاهل البيان الصراعات في المنطقة وضرورة حلها بالوسائل السلمية التفاوضية لوقف هدر الثروات على الميزانيات العسكرية، كما افتقد الإشارة لتأثيرات العولمة والمسار الإنساني في مجتمعاتنا، فهي ليست مؤامرة دولية للهيمنة والقضاء على هويتنا القومية ونهب ثرواتنا، والخطر الأكبر العالمي هو الفكر الإرهابي المفترض بالليبرالي التصدي له. ويتأرجح البيان بين كونه مشرع الأبواب لكل من "يؤمن برسالته" التي يوضحها في أفكاره الأولية، وبين الترحيب بكل ملتحق "دون أية شروط". فيما الدعوة "للإيمان برسالة" هو تعبير غيبي يتناقض مع العقلانية الليبرالية. رغم ذلك فالبيان جهد مضاف في البحث عن الأشكال الجديدة للتعبير عن الرأي والعمل لتجاوز الأوضاع المتدهورة في المنطقة العربية. إلا أن المفارقة التي أوضحها جهاد الزين حول أن الطبقة السياسية تتحول لليبرالية بينما المجتمع أصولي، كذلك السؤال الذي طرحه عابد الجابري: هل تنجح الليبرالية في البلدان المتخلفة والتي تفتقد لطبقة برجوازية متقدمة؟ تظل قائمة، وهي مسألة بحاجة لنقاش مطول.
#جورج_كتن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اليد الممدودة بين الكرد والعرب
-
العلاقات العربية –الكردية في ظل العولمة
-
العملية السياسية العراقية ونخب عربية
-
انسداد الأفق السياسي الفلسطيني _ يا كرسي ما يهزك ريح
-
الخارج يطرق أبوابنا
-
المثقف والحوار الكردي –العربي
-
بين الإرهاب والحكم المطلق والسلفية والإصلاح السعودية إلى أين
...
-
طلال سلمان والعروبة المقاومة
-
جمع الأصفار العربية
-
اشكالية الممارسة الديمقراطية في حركة القوميين العرب
-
خطاب سياسي عربي، زوبعة في فنجان عراقي
-
لكي لا تنزلق الحركات الأصولية للفشل والانهيار
-
قراءة في المبادرات نحو شرق أوسط أفضل
-
نثمن تخلي رياض الترك عن الأمانة العامة
-
حزب ديمقراطي كنموذج مصغر لنظام ديمقراطي قادم
-
مزيد من الحوار حول المسألة الكردية العراقية
-
حلاً إنسانيا للمسألة الكردية العراقية
-
نحو قطع آخر خيوط أوهام الأيديولوجيا وجهة نظر حول مشروع موضوع
...
-
هل نشهد نهاية الديمقراطية الإسلامية؟
-
تفكيك السياسة الخارجية الأميركية
المزيد.....
-
الوكالة الدولية للطاقة الذرية تعتمد قرارا ينتقد إيران لتقليص
...
-
ZTE تعلن عن أفضل هواتفها الذكية
-
مشاهد لاستسلام جماعي للقوات الأوكرانية في مقاطعة كورسك
-
إيران متهمة بنشاط نووي سري
-
ماذا عن الإعلان الصاخب -ترامب سيزوّد أوكرانيا بأسلحة نووية-؟
...
-
هل ترامب مستعد لهز سوق النفط العالمية؟
-
عاجل | مراسل الجزيرة: 17 شهيدا في قصف إسرائيلي متواصل على قط
...
-
روبرت كينيدي في تصريحات سابقة: ترامب يشبه هتلر لكن بدون خطة.
...
-
مجلس محافظي وكالة الطاقة الذرية يصدر قرارا ضد إيران
-
مشروع قرار في مجلس الشيوخ الأمريكي لتعليق مبيعات الأسلحة للإ
...
المزيد.....
-
فيما السلطة مستمرة بإصدار مراسيم عفو وهمية للتخلص من قضية ال
...
/ المجلس الوطني للحقيقة والعدالة والمصالحة في سورية
-
الخيار الوطني الديمقراطي .... طبيعته التاريخية وحدوده النظري
...
/ صالح ياسر
-
نشرة اخبارية العدد 27
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
مبروك عاشور نصر الورفلي : آملين من السلطات الليبية أن تكون ح
...
/ أحمد سليمان
-
السلطات الليبيه تمارس ارهاب الدوله على مواطنيها / بصدد قضية
...
/ أحمد سليمان
-
صرحت مسؤولة القسم الأوربي في ائتلاف السلم والحرية فيوليتا زل
...
/ أحمد سليمان
-
الدولة العربية لا تتغير..ضحايا العنف ..مناشدة اقليم كوردستان
...
/ مركز الآن للثقافة والإعلام
-
المصير المشترك .. لبنان... معارضاً.. عودة التحالف الفرنسي ال
...
/ مركز الآن للثقافة والإعلام
-
نحو الوضوح....انسحاب الجيش السوري.. زائر غير منتظر ..دعاة ال
...
/ مركز الآن للثقافة والإعلام
-
جمعية تارودانت الإجتماعية و الثقافية: محنة تماسينت الصامدة م
...
/ امال الحسين
المزيد.....
|