|
قناة الجزيرة وعقدة الحرب الصليبية
منعم زيدان صويص
الحوار المتمدن-العدد: 3262 - 2011 / 1 / 30 - 02:07
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
في مقابلة مع رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان على قناة الجزيرة الفضائية بتاريخ 12 يناير 2011 سأله مقدم برنامج بلا حدود احمد منصور السؤال التالي: "بعد أحداث كنيسة الإسكندرية ظهرت تصريحات لبابا الفاتيكان ورئيس وزراء إيطاليا ورئيس فرنسا ومستشارة ألمانيا وكأن المسيحيين مستهدفون في المنطقة ويطالبون بحماية لهم، وهذا شيء سبب صدمة في كثير من الدول الإسلامية، أنت قمت بافتتاح كنائس حتى للأرمن في تركيا لم تكن مفتوحة، كانت مغلقة منذ عشرات السنين، هل المسيحيون في العالم العربي والإسلامي فعلا تحت التهديد أم أنها معالم حرب صليبية جديدة من قبل القادة الغربيين؟"
كان منصور يسأل أردوغان أن يعلق علي دعوة البابا "لحماية المسيحيين" العرب في العراق ومصر بعد الهجوم على كنيستين في بغداد والإسكندرية. ولا أدري كيف يمكن لأحد، وخصوصا إنسان متعلم وخبير إعلامي، أن يفسر دعوة البابا هذه أو دعوات الأوربيين المشابهة لها بأنها "معالم حرب صليبية." ولماذا يريد الغرب أن يشن حربا دينية ويحتل أرضا إسلامية أخرى؟ لقد جمع الغرب كل قواه ليشن حربا على القاعدة وطالبان في أفغانستان، لأنه خائف منهم، ولا يزال يحارب لتثبيت حكم كرزاي بدون نجاح كل هذه السنين، فكيف يستطيع أن يأتي بجيوشه ليحتل دول في الشرق الأوسط مليئة بالسكان المعادين للغرب، حيث المسيحيون أقلية لا حول لها ولا قوة ولا يمكن أن تشكل مشكلة لهذا أو ذاك؟ ما الذي يجعل أوروبا الغربية وأمريكا تفعل ذلك وهم أنفسهم الذين أعلنوا الحرب على الصرب في البلقان ليؤمٌنوا دولة لمسلمي البوسنة والهرسك في قلب أوروبا سنة 1995 ودولة أخرى لألبان كوسوفو سنة 2008؟ لماذا لم يشن الحلفاء الغربيون حربا صليبية، أو غير صليبية، على تركيا بعدما انهزمت في الحرب العالمية الأولى ويسترجعوا القسطنطينية -- إستانبول -- درة المدن المسيحية، من الأتراك المسلمين ويُرجعوا اياصوفيا كنيسة كما كانت في عام 1453 قبل أن يحولها العثمانيون إلى مسجد؟ لماذا لم يبقى الإنجليز في منطقة بلاد الشام ويستولوا على القدس وبيت لحم إلى الأبد بعد الحرب العالمية الأولى عندما سقطت كل هذه البلدان بأيديهم، ولماذا سمحوا للجيش الأردني المسلم، الذي كانت قيادته انجليزية في ذلك الزمان، باحتلال القدس وبيت لحم وتوحيد الضفة الغربية مع الأردن إلى أن ضيعها العرب -- شعوبا وحكاما -- عندما اجبروا الأردن، اضعف دول المواجهة، على دخول حرب خاسرة مع إسرائيل سنة 1967؟ إن المسلمين في بريطانيا وفرنسا وايطاليا يعدون بالملايين فلماذا لا تشن عليهم الشعوب الأوربية الحرب ولماذا لم يقتل أي مسلم في أي بلد أوروبي في عملية ثأرية ضد تقتيل مئات المسيحيين في الدول العربية؟ يقول احمد منصور في سؤاله: "وكأن المسيحيين مستهدفون." أليس هذا سؤالا غريبا؟ وماذا تسمي هذا إن لم يكن استهدافا؟ ماذا تسمي إعلان القاعدة الحرب على المسيحيين في العراق وتقتيلهم في كثير من المدن العراقية وتهجير ما تبقى منهم؟ ماذا تسمي البيان الذي أصدرته القاعدة في العراق ضد أقباط مصر قبل هجوم الإسكندرية؟ ألا يحق لبابا الفاتيكان، أو أي أوروبي آخر، أن يطلب من الأنظمة العربية أن تحمي رعاياها من المسيحيين كما تحمي الأنظمة الأوروبية رعاياها من المسلمين رغم أن المسيحيين العرب هم سكان أصليون في البلدان العربية والغالبية العظمى من المسلمين الأوروبيين هم مهاجرون؟ ألا يحق لإيران والشيعة في العالم أن يسألوا الحكومة الباكستانية أن تحمي رعاياها الشيعة الذين يقتلون بالعشرات يوميا وهم يصلون في مساجدهم؟ هل يعجبك تصرف العرب -- شعوبا وأنظمة -- تجاه تقتيل الشيعة في العراق في مساجدهم وبيوت عزائهم بينما هم -- العرب -- مشغولون مع قناة الجزيرة في الجدل حول ما قاله المفاوضون الفلسطينيون، أو لم يقولوه، ونشر الفوضى والفرقة بين الفلسطينيين لكي يسهل على إسرائيل أن تطردهم تدريجيا من أرضهم؟
كلما حصل هجوم على المسيحيين ينبري الأعلام العربي والكتاب العرب، ومنهم من يعيش في الغرب مع الأسف متمتعين بالحرية والعدل والديمقراطية، لاتهام "الغرب والصهيونية" بالوقوف وراءه. فبعد ساعات قليله من الهجوم قالت الجزيرة إن "بعض المصادر" التي لم تسمها " تشك أن أصابع الموساد تقف وراء الجريمة." وهنا يبرز التناقض العجيب. احمد منصور يشك بأن الغرب ينوي إعلان حرب صليبية. وتقارير الجزيرة تلمح أن المؤامرات الغربية هي وراء المحاولات لتهجير المسيحيين. كيف تستطيع الأمم الغربية أن تجد المسوغ لشن حرب صليبيه على العرب بعد تهجير المسيحيين من المنطقة؟ إذا كانت الجزيرة تعتقد أن القاعدة بريئة من دم المسيحيين العرب فلماذا لا تستضيف أحدا من أصدقائها الكثيرين، من أعضاء القاعدة أو من مؤيديهم في لندن وغيرها من العواصم وفي العالم الإسلامي، ليدافع عن القاعدة ويستنكر هذه الأعمال؟
والآن كيف سيكون وقع تلميحات أحمد منصور عن احتمال أن يشن البابا والغرب حربا صليبية على المنطقة لحماية المسيحيين العرب على معظم الجماهير العربية المسلمة المتشبعة بالحقد والكره للغرب؟ أليس من المحتمل أن يخلق هذا التحريض هجمات وتقتيلا إضافيا للمسيحيين، ويبرهن للمترددين من المسلمين أن الذين نفذوا الهجمات على حق، وأن المسيحيين يجب أن يُقتلوا ويُطردوا؟ ألا يقوٌي هذا الإدعاء الذي لا أساس له النزعة الإجرامية المتعصبة؟ ويقول منصور في سؤاله أن تصريحات البابا وزعماء أوروبا "سببت صدمة في كثير من الدول الإسلامية." يريد منصور أن يقول أن ما فعله الإنتحاريون، الذين قتلوا أنفسهم وعشرات غيرهم، لم يسبب صدمة، وإنما الصدمة سببها بضعة تصريحات لزعماء أوروبيين -- نسوها ونسيها العالم بعد أيام من الانفجار.
وكيف أجابه أردوغان على سؤاله؟ لقد تجاهل الزعيم التركي كل هذه النظريات السخيفة وشدد على أهمية أن تحمي الأغلبيةُ الأقلية وتحدث كيف تحمي الحكومة التركية الأقلية اليهودية في البلاد. قال أردوغان، بالتركية، وكانت الترجمة فورية: " الآن نحن هذا التفكير الغربي لا نأخذه مرجعا لنا، نحن كمسلمين ما الذي يجب علينا أن نفعله كمسلمين هذا ما يجب أن نقرره." وقال: "فإن كان لدينا أناس من اعتقادات دينية مختلفة، إن كان هنالك أناس من أديان مختلفة، فإن مسؤوليتنا نحن أن نحميهم، بأموالنا نحن نحميهم، لا يلمسهم أحد، نحن لدينا أمثلة لا تختلف عن هذا، حضارتنا تأمرنا بأن ندافع عنهم ولذلك فأقول لإخوتي المصريين بشكل خاص فيما يتعلق بهذا الموضوع عليهم أن يكونوا محتاطين أكثر، أتمنى أن يكونوا محتاطين أكثر وألا يركضوا وراء بعض محاولات من يريدون أن يضروا الشعب المصري. كما تعلمون للأسف الشديد فإن هناك ألاعيب حاولت أن تلعب بنا، في دولتنا في الداخل، أثناء ما حدث في غزة. لقد قلت أمورا بكل صراحة، أمان المواطنين اليهود الأتراك هي مسؤوليتنا نحن وأقول لكم بأن كل ما يخص اليهود في تركيا سواء كانت السفارات أو الكنس اليهودية أو منازلهم إن كان هنالك أي شخص يحاول المس بهم فلن نسمح بذلك، نعم هنالك من حاول أن يضرهم لكن أقول لكم أوقفناهم، نحن مسئولون بالدفاع عن مواطنينا أيضا، أصلا أليس هذا ما ينُص عليه ديننا؟"
تُصر قناة الجزيرة الفضائية على أن تقنع العرب والمسلمين أن الأوروبيين والغرب بشكل عام يخططون، أو ربما خططوا، لإعلان حرب صليبية عليهم. وكانت الجزيرة أول من قال أن جورج بوش أعلن "حربا صليبية على الإرهاب" وذلك بإعطاء ترجمة خاطئة لكلمة استعملها في خطاب له بعد أيام قليلة من هجمات 11 سبتمبر 2001. لقد نقل الخطاب على مئات من وسائل الإعلام ولكن الكلمة لم تترجم إلى حرب صليبية على أي منها ولم تُفهم أنها كذلك. ولكن الخطأ حصل ولم تحاول الجزيرة تصحيحه ولم تكرره، ولكنه انتقل كالعدوى في وسائل الأعلام الدينية وبين الأئمة والشيوخ وأعتبر كأنه حقيقة مفروغ منها.
الشعوب العربية الإسلامية، من الناحية الثقافية، لا تزال تعيش أحداث القرن السابع الميلادي وكأنها تحصل الآن، فمن باب أولى أن تكون الحروب الصليبية السيئة الصيت، والتي قامت بين القرن الحادي عشر والثالث عشر، لا تزال في مخيلتها لأنها دائما تجتر الماضي وترفض أن تعترف أن الماضي لا يكفي للتقدم إلى الأمام وأن العالم لا يعيش على التاريخ. فلا تجد أحدا في أوروبا أو أمريكا، أو حتى في البلدان الأخرى، يعرف شيئا عن هذه الحروب ما لم يكن متخصصا في التاريخ. وأي شخص يقترح العلمانية السياسية وفصل الدين عن الدولة والتفكير الحر، يُهاجم ويُهدد وتُشوه سمعته.
إن أغلى أمنياتي وأمنيات أي عربي يسعى إلى التفكير الحر وتقدم الشعوب العربية هي أن توجه قناة الجزيرة قدراتها الهائلة ومهارة مراسليها والذين يعملون فيها، إلى تثقيف الشعوب العربية ورفع معنوياتها وتعليمها مبادئ التفكير الحر والتسامح تجاه الآخرين وتبادل الأفكار معهم حتى نستطيع أن نتقدم ونفيد ونستفيد ولا نبقى في القمقم الذي صنعناه لأنفسنا. إن العرب أمة ذكيه ومبدعة وستعود إلى إبداعها إذا سمحنا لها أن تنطلق من عقالها وتبدأ باللحاق بالأمم التي سبقتها. وتستطيع قطر، التي تمول الجزيرة، أن تتبرع من مالها الوفير لدعم البحث العلمي في الجامعات العربية وتشجيع المدارس عل تبني الطرق العلمية والتفكير الخلاق.
إن الجزيرة هي المدافعة عن المتطرفين من كل الأنواع. فهي بوق لليمينيين الإسلاميين المتطرفين والقوميين اليساريين المتطرفين. ورغم أن شعارها هو "الرأي والرأي الآخر" فلم أرها تقدم أي تعليق أو برنامج محايد. فكل برامجها مسيٌسة باتجاه معين يخدم رأيا واحدا لا غير، وإذا حصل أن تطرقت للرأي الآخر فإنها تفعل ذلك لتشويه هذا الرأي ولتظهر أن أصحابه مفلسون. وبما أن نسبة كبيرة من الشعوب العربية تميل إلى الرأي المعادي للعقلانية ولوجهة نظر الآخرين فقد حققت الجزيرة شعبية هائلة في العالم العربي وساعدت على تشجيع الفتن في اليمن والصومال والعراق ولبنان وشمال إفريقيا وغيرها. لقد شجعت حركة فتح الإسلام في لبنان، والزرقاوي في العراق، ووجدت معاذير لجرائم القاعدة في السعودية والأردن وأصبحت بوقا للقاعدة ومؤيديها، فكلما اصدر واحد منهم بيانا تذيعه عدة مرات وتعقد حلقات البحث حوله بمشاركه اكبر مؤيدي القاعدة في أوروبا الذين يعطون الانطباع للملايين من مشاهديها أن نشطاء القاعدة ليسوا إلا مؤمنين ومجاهدين حقيقيين. أما قضية فلسطين فقد استغلتها الجزيرة أيما استغلال واستعملتها كأداة ابتزاز للدول العربية وحققت شعبية هائلة بسبب ذلك دون أن تحقق شيئا لهذه القضية سوى المساعدة في تعميق الفرقة بين الفلسطينيين وتشجيعهم على الاقتتال.
#منعم_زيدان_صويص (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سوريا ولبنان و-قلب العروبة النابض-
-
لماذا يصر العرب على تسليم العراق لإيران؟
-
ردود الفعل على انفجار الإسكندرية -- المقاربة الخاطئة لمعالجة
...
-
فضائية الحوار المتمدن
-
دفاعا عن الحكام العرب!
-
رأيٌ في الحجاب
-
كيف ستؤثر لبرالية الغرب الدينية على المسلمين في عصر الانترنت
...
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|