|
ثورة تونس نحو الاستقلال الحقيقي والتنمية الحقيقية
خليل كلفت
الحوار المتمدن-العدد: 3257 - 2011 / 1 / 25 - 23:13
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
ثورة تونس نحو الاستقلال الحقيقي والتنمية الحقيقية بقلم: خليل كلفت
1: منذ أكثر من شهر تتواصل في تونس انتفاضة شعبية عاصفة كبرى تزداد اتساعا وعمقا ووعيا كل يوم في مسيرة عنيدة بدأت بالاحتجاجات الاجتماعية وانتهت إلى شعارات الثورة السياسية. وبنجاح هذه الانتفاضة في الإطاحة بنظام زين العابدين بن على، حيث لم تعد الإطاحة ببقاياه سوى مسألة وقت، يمكن القول إن ثورة سياسية قد تحققت في تونس. 2: تتمثل الثورة السياسية بوجه عام في إحلال نظام سياسي محل نظام سياسي آخر مختلف. ويمكن أن يبقى النظام الجديد ضمن نفس النظام الاجتماعي السابق، ضمن نفس نمط الإنتاج، أي دون الانتقال من نمط إنتاج إلى آخر، غير أنه يمكن أن يفتح الطريق أمام ثورة اجتماعية تنقل المجتمع من نمط إنتاج إلى نمط إنتاج آخر، مثلا من الإقطاع إلى الرأسمالية، أو من الرأسمالية إلى الاشتراكية. ويمكن أن تحدث الثورة السياسية من خلال تطورات تقودها انقلابات عسكرية من نوع أو آخر، ومنها الانقلاب العسكري الذي يؤيده الشعب ومثاله البارز هو ثورة 23 يوليو 1952 السياسية في مصر، كما يمكن أن تحدث من خلال تطورات ثورات شعبية تبرز داخلها إحدى قواها الأكثر تنظيميا وفاعلية وتكون قادرة على الانفراد بقيادة النظام الناشئ عنها وتفريغ الثورة الشعبية من محتواها والمثال البارز هو الثورة الإيرانية التي نشأ عنها النظام الثيوقراطى الخميني. ويتمثل الخيار الأفضل أو الظرف الأفضل بالأحرى في أن تكون الثورة السياسية شعبية وديمقراطية مهما يلعب فيها الجيش أو أي أجهزة أخرى دورا إيجابيا ما في بعض مراحل تطورها في اتجاه المساعدة على انتصار الثورة الشعبية. والثورة التونسية الحالية ثورة سياسية شعبية، فلم تكن ثورة شعبية اندلعت لتأييد انقلاب عسكري، كما أنها ليست ثورة شعبية يمكن أن تركبها قوة سياسية مثل الخمينية حيث لا توجد داخل ثورة تونس قوة أكثر سيطرة ونفوذا من القوى السياسية الأخرى. وبالتالي فإن الأمل كبير في تطورها في الاتجاه الصحيح بحيث لن يكون من السهل على أحد القيام بسرقتها وتصفيتها، على الأقل في المدى المنظور. 3: وهى ثورة سياسية لأنها أطاحت بنظام سياسي وتتجه إلى إحلال نظام سياسي مختلف محله، وذلك ضمن الإطار التاريخي العام للنظام الاجتماعي الذي تتجسد فيه حالة العالم الثالث. والنظام السياسي الذي تجرى الإطاحة به نظام سلطوى، وشمولى، وفاشى، وديكتاتورى، وبوليسى، ومطلق، وشخصى، وإدماجى (كورپوراتى: يدمج الدولة والحزب والنقابة وكل شيء فى كيان واحد يصادر الحياة السياسية والفكرية والنقابية والسياسية). وبمجرد نجاح الانتفاضة فى الإطاحة ببقايا النظام البائد بقيادة ما يسمى بحكومة الوحدة الوطنية، ولم يعد هذا النجاح على كل حال سوى مسألة ساعات أو أيام، سيحل محله نظام سياسى مختلف تماما يتمثل فى جمهورية ديمقراطية تعددية تقوم على دستور جديد يطلق حريات تكوين الأحزاب والحركات والجمعيات والنقابات ويطلق حرية التعبير والصحافة والإعلام، إلخ....، كما تقوم على التزام نابع من طبيعة الانتفاضة الشعبية وأهدافها بتغيير سريع يركز على القضاء على الفساد ورفع مستويات معيشة طبقات الشعب العاملة والكادحة التى عانت الإفقار المتواصل والبطالة والجوع بمستويات كارثية هى الوجه الآخر للفساد. ولا جدال فى أننا سنكون بذلك أمام ثورة سياسية شعبية حقيقية. 4: على أن الخطر المباشر الذى تواجهه الثورة التونسية منذ بدايتها الأولى يتمثل فى الثورة المضادة قبل وبعد الإطاحة بالطاغية. وتتمثل إستراتيچية الثورة المضادة فى محاولة إنقاذ النظام من خلال ما يسمى بالحكومة الوطنية تحت سيطرة رجال بن على مع تطعيمها وتزيينها بأحزاب متعاونة وإقصاء الأحزاب والقوى والحركات التى ظلت مستبعدة طوال العمر المديد لنظام بن على. غير أن الثورة الشعبية يتغلغل فيها الوعى بصورة متزايدة العمق بفضل قوة الانفجار الشعبى وعمق دواعيه وبفضل المزيد والمزيد من الاندماج بين الشعب التونسى والطليعة السياسية والنقابية والفكرية التونسية، ويمكن القول إذن إن الشعب التونسى يوشك على الإطاحة بهذه الثورة المضادة المتمثلة فى رجال العهد البائد الذين يحاولون خداع الشعب بالتنازلات والوعود المتوالية تحت الضغط الشعبى المتواصل، وكذلك بالقمع والترويع بكل قسوة. 5: والجمهورية الديمقراطية التعددية شعار سليم، وينبغى أن يحدد أسسها دستور جديد يطرحه على الشعب مجلس تأسيسى تحت أى اسم بعد أن تشرف على تكوينه حكومة إنقاذ تحت أى اسم تضم طليعة كل القوى الحية، بأحزابها وحركاتها ونقاباتها إلخ.، التى ظلت محظورة فى ظل نظام بن على، من خلال تعددية حقيقية. على أن ما يبدو غائبا أو باهتا فى الشعارات السياسية التونسية المتداولة الآن يتمثل فى شعارىْ الپرلمانية والعلمانية، رغم أهميتهما الحاسمة كضمانتين أساسيتين للديمقراطية التعددية للنظام الجديد. 6: وبدلا من الاندفاع نحو الترشح أو الترشيح لرئاسة الجمهورية، كما تفعل قيادات سياسية تونسية بارزة فى الوقت الحالى (منصف المرزوقى وراشد الغنوشى وغيرهما)، ينبغى التخلى عن مبدأ الجمهورية الرئاسية لصالح الجمهورية الپرلمانية، لتحل محورية الپرلمان المنتخب محل محورية رئيس الجمهورية، باعتبار الپرلمان المركز الحقيقى للسلطة التشريعية والرقابية للدولة، ويكون رئيس الوزراء (أو الوزير الأول)، القادم من خلال انتخابات نيابية، مع حكومته مسئولا أمامها. ولا شك الآن فى أفضلية الجمهورية الپرلمانية على الجمهورية الرئاسية، كما تشهد التجربة التاريخية لهذين النوعين من الجمهورية اللذين تحوَّل النوع الرئاسى منهما إلى نوع من النظام الهجين الجمهورى-الملكى الأوتوقراطى الذى يقوم على التمديد والتوريث؛ التمديد مدى الحياة للرؤساء والتوريث للأولاد أو الأقارب أو الأصهار، بحيث صار النظام الملكى هو السائد فى العالم الثالث بوجه عام، وفى المنطقة العربية بوجه خاص، ليس من خلال النظام الملكى الوراثى التقليدى القديم برئاسة ملك فقط، بل كذلك من خلال النظام الجمهور-ملكى الوراثى الجديد برئاسة رئيس جمهورية. 7: كذلك فإن العلمانية يمكن أن تكون الحصن الحصين أمام تديين السياسة وتسييس الدين اللذين يُحَوِّلان أغلب بلدان المنطقة إلى ساحة لصراعات وحروب صدام الثقافات، ويُرَسِّخان الطائفية على أنقاض المواطنة، ويفرضان نموذجا شموليا إقصائيا فى الحكم. والعلمانية ببساطة هى فصل الدين عن الدولة باعتبارهما مبدأين لا يلتقيان أصلا. فالدولة مجالها حماية الاستغلال والقهر لصالح الطبقة الحاكمة، والدين مجاله الفضائل الكبرى التى بلورتها خلال عشرات ومئات آلاف السنين تجربة طويلة لنوعنا البشرى وصانتها الوثنيات والأديان والفلسفات والقوانين الوضعية التى لا يمكن أن تقوم حياة بشرية صحيحة بدون وضعها فى مكانة عليا باعتبارها المُثُل العليا، مهما كانت أفعال البشر وأخلاقهم دون مقتضياتها، لخضوع حياة البشر قبل كل شيء لمبدأ آخر يتمثل فى الأحوال أو الأبنية الاجتماعية-الاقتصادية، وباختصار لقواعد حرب الكل ضد الكل. وإذا كانت الأصوليات الدينية، ومنها الأصولية الإسلامية، تشوِّه العلمانية على أنها إلحاد وكفر، نتيجة سوء الفهم أو سوء النية، مع أنها ليست فى المحل الأول سوى الفصل بين الدين والدولة، فهى إنما تفعل ذلك لأن العلمانية عقبة حقيقية أمام استغلال الدين فى السياسة من خلال تقديس السياسة الاستغلالية الظالمة وتسييس المقدَّس لنفس الغاية. ولن يحمى مجتمعاتنا العربية، التى تمزقها الصراعات والفتن والحروب الطائفية والدينية إلى حد اضطهاد ومحاربة وتهجير المسيحيين، من السقوط فى هاوية نهائية، سوى العلمانية، التى تعنى فيما تعنى رفض قيام الدولة الدينية لطبقة حاكمة قائمة، أو فى طور التكوين من خلال حركة دينية سياسية تستغلّ الدين لتحقيق غاياتها التى تتمثل موضوعيا، أىْ من حيث النتائج الفعلية، ومهما كانت نوايا مثل هذه الحركة، فى الاستغلال الطبقى. أىْ أن العلمانية تعنى فيما تعنى تحرير الدين والإنسان المتدين وباقى المواطنين من الدولة الثيوقراطية الظالمة القائمة أو المستهدفة. وبطبيعة الحال فإن الأصوليات الدينية-السياسية تقوم على تصور فحواه أن تطبيق الفضائل الكبرى المشار إليها فى حياة البشر إنما هو فى سبيل تحقيق العدل والإنصاف والمساواة، غير أن التجربة التاريخية للحكم الثيوقراطى خلال آلاف السنين تُثْبِت بما لا يدع مجالا للشك أن هذا التصور المتفائل ليس سوى وهم خادع ولم يكن طوال ذلك التاريخ سوى سلاح إضافى جبار للاستغلال والقهر، يتمثل فى دولة دينية ليست فى جوهرها الحقيقى سوى أداة أشد فتكا من أى دولة عادية أو مدنية فى أيدى طبقة حاكمة: عبودية، أو إقطاعية، أو رأسمالية. 8: ينبغى أن تكون هذه الثورة السياسية الشعبية التونسية ثورة ضد الاستقلال الوطنى كما تحقق فى تونس وغيرها فى المنطقة العربية والعالم الثالث. ومعنى هذا أنها ينبغى أن تكون ثورة ضد التبعية الاستعمارية المعروفة بالاسم الخادع: الاستقلال الوطنى. وبدلا من الاستقلال بمفهوم القانون الدولى، رغم بقاء التبعية الاستعمارية الاقتصادية والسياسية، تنطوى هذه الثورة السياسية على إمكانية الاستقلال الحقيقى الذى يقف على أسس متينة من الديمقراطية التعددية الشعبية. والحقيقة أن الاستقلالات الناشئة عن انقلابات عسكرية، وحتى عن انقلابات عسكرية أيدها الشعب، بل حتى أى ثورة شعبية مغدورة جرت سرقتها وتصفيتها على يد قوة سائدة من قواها، كانت استقلالات مفرغة من محتواها، وكانت تبعية تحت الاسم التنكرى للاستقلال، مما أدى إلى إخفاق الاستقلالات والتنميات التى اتضح أنها كانت تخفى التبعية الاستعمارية والتخلف والاستغلال الاقتصاديين والفساد الشامل والقهر السلطوى. ولم يكن زيف الاستقلال ناشئا بالضرورة عن فساد الانقلابيِّين، ذلك أنه كانت هناك أيضا انقلابات عسكرية لشباب مخلصين ثاروا من أجل أوطانهم بدوافع وطنية نبيلة، غير أن الانقلابيّين بكل أنواعهم الوطنية والعميلة كانوا يقومون بأدوارهم ضمن إطار تاريخى غير موات لأى تقدم جذرى، وهو إطار تمثَّل فى واقع اجتماعى-اقتصادى نشأ عن التحولات الاجتماعية-الاقتصادية-السياسية-الثقافية التى جرت فى المستعمرات وأشباه المستعمرات منذ أواخر القرن التاسع عشر فى أغلب البلدان وقبل ذلك بكثير جدا خاصة فى الهند والجزائر (مع الوضع الخاص لأمريكا اللاتينية من حيث طبيعة المستعمِر الأصلى ومن حيث طبيعة تلك المستعمرات). وذلك منذ استقرار ما بعد الكولونيالية؛ وليس المقصود بهذا عهد ما بعد الاستقلال بل العهد الذى يبدأ بالاحتلال الكولونيالى ويستمر فى عهد ما بعد الاستقلال، ذلك أن عهد ما بعد الاستقلال لا يمكن إلا أن ينطلق من حقائق البنية التى أقامها عهد الاستعمار الكولونيالى والذى كان قد قام بدوره على أنقاض النظام التقليدى الموروث عبر القرون فى كل بلد كان قد تخلف عن أن يكون جزءًا من التطور الرأسمالى الأوروپى العام. والمهم هنا أن النظام الاجتماعى الاقتصادى الذى نشأ عن الكولونيالية واستمر بعد تصفيتها المزعومة كان لم يَعُد النظام التقليدى الموروث، غير أنه لم يتحول إلى نظام رأسمالى بالمعنى الصحيح، كما أنه لم يكن نظاما انتقاليا فى اتجاه طريق التطور الرأسمالى الذى كان قد صار طريق مسدودا. وصارت تلك البلدان مجرد ساحة للاستغلال الاستعمارى الذى كان يقتضى بالضرورة إعادة خلقها على صورة الغرب أىْ كموضوع لاستغلاله المتواصل بعيدا عن الرأسماليات القومية التى لم تنشأ فى هذه البلدان لأنها لا تقوم إلا على أساس بناء صناعة حديثة شاملة مكتملة الحلقات، وبعيدا عن الاستقلالات الوطنية المزعومة والتنميات الاقتصادية-الاجتماعية التى انتهت إلى الإخفاق فى نهاية المطاف. 9: يتضح مما سبق أنه بدون تنمية اجتماعية-اقتصادية شاملة تقوم على صناعة حديثة متطورة، وتحديث شامل، ومساواة وعدالة اجتماعية، ورفع مستويات المعيشة، يظل بلد ما بعد كولونيالى، مثل تونس، عاجزا عن الاستقلال الوطنى، عاجزا عن الخروج من القفص الحديدى للتبعية الاستعمارية، عاجزا عن تفادى تكرار نفس الكابوس فى الأجل الطويل مع أنه يُزاح الآن دون شك. ويمكن القول إن هذا هو التحدى الكبير الذى يواجه هذا البلد الذى لا يعكس معدل نموه المرتفع نسبيا سوى حجم الخدمات بنسبة أكثر من ثلاثة أخماس (والسياحة بوجه خاص) الناتج المحلى الإجمالى، على حين أن هذا الاقتصاد الهش يقوم على نسبة الربع للصناعة التى لا تعدو أن تكون صناعة خفيفة تقوم على صناعة الملابس والأحذية والصناعة التركيبية للسيارات والصناعة الاستخراجية، مع نسبة العشر للزراعة. فكيف يستطيع هذا الاقتصاد امتصاص البطالة، ورفع مستويات المعيشة بصورة ملموسة ومستقرة، وتحقيق قدر معقول من العدالة الاجتماعية، والقدرة الاقتصادية على استيعاب كل نتائج الحريات الحقيقية؟ ولا شك فى أن استعادة ومصادرة الأموال الطائلة التى سرقها بن على وأقاربه وأصهاره وأعوانه وطبقته يمكن أن تمول الكثير من الاستثمارات، كما أن القدرة الكامنة لتونس على اجتذاب كثير من الاستثمارات يمكن أن تصنع الكثير، غير أن كل شيء يتوقف على العقلية التى سوف يدار بها الاقتصاد: العقلية التى تركز على الاعتبارات الاقتصادية التقليدية من الحجم الكلى للإنتاج، إلى معدل النمو الاقتصادى، إلى التوظيف، إلى الاستثمار، إلى مجرد تنمية الصادرات أو إحلال الواردات، إلخ.، أم العقلية التى تنظر إلى التنمية الاقتصادية-الاجتماعية الشاملة وفى قلبها الصناعة والعدالة كأداة لا غنى عنها للقضاء على التبعية وتحقيق الاستقلال الحقيقى والانتقال إلى النظام الرأسمالى الحقيقى الذى لا يمكن أن تتجاوز حتى مثل هذه التنمية الشاملة نطاقه التاريخى، والذى يعنى الانتقال إليه الخروج من نمط الإنتاج التقليدى الموروث عبر القرون إلى نمط الإنتاج الرأسمالى الذى يشكل المقدمة الطبيعية فى مدى أبعد كثيرا للثورة الاشتراكية والنظام الاشتراكى بعيدا عن الشعارات الاشتراكية الثوروية التى أوضحت التجارب التاريخية العديدة والطويلة حقيقتها الديماجوچية الجوفاء. وهذا الانتقال من نمط الإنتاج القروسطى إلى نمط الإنتاج الرأسمالى عبر الطريق المتعرج المتمثل فى العهد ما بعد الكولونيالى بالمعنى الوارد أعلاه يعنى تحول الثورة السياسية الشعبية العاصفة إلى ثورة اجتماعية بالمعنى الحقيقى؛ فالثورة الاجتماعية لا تعنى قيام ثورة أو نظام بإصلاحات اجتماعية واسعة وعميقة بل تعنى الانتقال من نمط إنتاج إلى نمط إنتاج لاحق، مثلا من الإقطاع إلى الرأسمالية أو من هذه الأخيرة إلى الاشتراكية. 10: غير أن العقبة الكئود التى تسد طريق الاستقلال الحقيقى والقضاء على التبعية الاقتصادية وتحقيق التنمية الشاملة والثورة الاجتماعية إنما تتمثل فى قوة جبارة اسمها الإمپريالية العالمية بقيادة الإمپراطورية الأمريكية وهؤلاء الاستعماريون يحاربون كل تنمية مستقلة، كما تثبت التجربة فى كل أنحاء العالم الثالث. وإذا كنا توهمنا فى زمن ما أن الغرب يريد لنا أن نتحول إلى بلدان رأسمالية بدلا من التحول إلى بلدان اشتراكية فقد اتضح أن هذا مجرد وهم، على حين تتمثل السياسة الاستعمارية الحقيقية لبلداننا فى أن نبقى على ما نحن عليه كشرط ضرورى لسيطرة الإمپريالية والإمپراطورية على العالم. ومن هنا سيكون على الثورة التونسية أن تستغل كل التناقضات التى يحفل بها العالم لتحقيق تنميتها الاقتصادية-الاجتماعية الشاملة بعيدا عن الاعتماد على العلاقات الغربية الأكثر تركيزا على اعتراض سبيل التطور الصناعى فى العالم الثالث، رغم أوضاع فرضت عليها العكس فى بعض المناطق فى الماضى (النمور أو التنانين الآسيوية الأصلية). 11: لم تكن الثورة التونسية عاصفة فى سماء صافية، فقد عانى الشعب الفقر بمقاييس مفزعة، كما عانى الاستبداد بمقاييس مفزعة، واستمر كل هذا زمنا طويلا مثيرا للفزع، ليس فقط خلال أكثر من عشرين عاما من حكم بن على، وليس فقط منذ صار هذا الطاغية رجل تونس القوى فى عهد بورقيبة، بل منذ الاستقلال الاسمى ذاته. وتحت هذا الضغط الاستثائى( الذى كان قد صار مثيرا بقوة لمخاوف الإمپراطورية الأمريكية ذاتها على مصالحها فى تونس والمنطقة) كانت قد تولَّدت إمكانية انفجار هائل إلى حد النجاح فى الإطاحة بمثل هذا النظام. وعندما انفجر الشاب التونسى فأحرق نفسه لم يكن هذا فقط بسبب فقره وبطالته بل ليأسه الكامل فى ظل هذا النظام من أى تحسين ممكن لأحواله هو وأسرته. وإذا كان هذا سببا "اجتماعيا" لمأساة انتحاره فقد كان أيضا سببا "سياسيا" بامتياز، فقد اتضح فى لحظات أن الشعب التونسى كله كان فى مثل حالته، مهيَّئا للانفجار والاحتراق وفتح الصدور للرصاص. وفى مسار سريع عاصف ومتزايد الوعى صار الانفجار الشعبى شاملا من جانب وسياسيا وثوريا من جانب آخر ونجح فى الإطاحة بنظام زين العابدين بن على. 12: وكما أن هذه الثورة لم تكن عاصفة فى سماء صافية كما يقال فإنها لن تهدأ بسرعة وسيكون عليها أن تواصل تأمين مسيرتها وأن تتقدم نحو تحقيق مهامها وأهدافها المباشرة والفورية لتنطلق مسيرتها الطويلة على طريق تحقيق الاستقلال الحقيقى والقضاء على التبعية الاستعمارية وإنجاز الثورة الاجتماعية. غير أن الزلزال التونسى ستكون له من الآن توابع عربية وعالمية بالغة الأهمية. ذلك أن الشعوب العربية تعيش فى أوضاع مماثلة بوجه عام ولكن مع اختلافات أحوال الاقتصاد وغير الاقتصاد فى مختلف البلدان. وإذا تركنا جانبا البلدان النفطية الغنية مع القلة النسبية للسكان (بلدان الخليج وليبيا)، وكذلك البلدان النفطية الغنية ولكنْ الكبيرة السكان (الجزائر والعراق) التى قد يجعلها دخلها الهائل قادرة على خلق توازنات داخلية جديدة وتقديم تنازلات لها وزنها رغم تطور اندلاع الاحتجاجات فى الجزائر والحرب فى العراق، فإن هناك بلدانا صغيرة ومتوسطة وكبيرة من حيث السكان ويمكن القول إنها جميعا فقيرة ولكل منها ظروف خاصة: المغرب والأردن بلدان ملكيان (التمديد والتوريث فيهما شرعيان رغم الفقر الشديد فيهما ورغم اتساع نطاق الحركة الشعبية فى الأردن ولكن مع وجود الجوار الإسرائيلى الجاهز للتدخل عند الضرورة)؛ والأوضاع مهدِّدة بالتفجر فى لبنان الممزق بالطائفية والمهدَّد بتجدد الحرب الأهلية أو العدوان الإسرائيلى أو الأمرين معا، وسوريا فقيرة غير أن أراضيها محتلة وهى مثل الأردن ولبنان والفلسطينيِّين مهدَّدة بإمكانية التدخل والحرب من جانب إسرائيل؛ ويشهد اليمن انفجارا هائلا للحركة الشعبية ولكنْ المتشابكة مع أبعاد أخرى مثل القبائل ودورها والقاعدة والحوثيِّين والحراك الجنوبى والتدخل الأمريكى؛ أما مصر الفقيرة كدولة الغنية كطبقة حاكمة والتى يعيش فيها الشعب نفس الفقر والفساد والقمع ويتحرك أيضا فإن لها حسابات بالغة التعقيد؛ وهناك موريتانيا الفقيرة والتى تتطور فيها حركة شعبية ضد النظام الانقلابى الذى تزين منذ فترة بالانتخابات؛ ويبقى السودان الذى يعيش مهددا ليس بالفقر والقمع والحرب فقط بل كذلك - وكنتيجة لفقر الشعب وقهره - بالتقسيم الأوسع نطاقا من انفصال الجنوب وهذا يعنى أن ثورة شعبية حقيقية فى السودان تبدو ممكنة كما تبدو قادرة على الخروج بالسودان سالما من هذا الوضع رغم العقبة الكبرى التى يمثلها الانقسام الطائفى والعرقى والأقاليمى والحروب الداخلية أمام توحيد الشعب ذاته. ويتضح من هذا أن الحركة الشعبية الاحتجاجية تشتعل أو تبدأ فى الاشتعال فى بلدان منها اليمن والأردن والسودان والجزائر، كما يمكن أن تنضم إليها شعوب بلدان فقيرة واستبدادية أخرى، غير أن ظروفها متنوعة فلا ينبغى التعميم، خاصة أن الطبقات الحاكمة فى هذه البلدان تختلف من حيث مدى التنازلات الاجتماعية والديمقراطية التى يمكن أن تقدمها لتفادى مصير شقيقتها: الطبقة الحاكمة التونسية، وكذلك ضغوط أمريكا والشمال على الأنظمة العربية الحاكمة حتى تتفادى خسارة أنظمة حليفة أو عميلة أخرى. 13: وأخيرا وكما قال أديب عالمى حكيم فإننا نقتل الوقت غير أن الوقت يدفننا. والمقصود أن العامل الزمنى مهم للغاية. وبالتالى يجب أن تتقدم الثورة التونسية نحو تأمين مصيرها ضد سرقة الثورة من الداخل والتدخل من الخارج من جانب دول عربية وغربية، بالإطاحة فورا بنظام رجال ومؤسسات بن على وبتأسيس جمهورية ديمقراطية پرلمانية (غير رئاسية) وعلمانية فى تونس.
#خليل_كلفت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية
/ مصطفى بن صالح
-
بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها
/ وديع السرغيني
-
غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب
/ المناضل-ة
-
دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية
/ احمد المغربي
-
الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا
...
/ كاظم حبيب
-
ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1)
/ حمه الهمامي
-
برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب
/ النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
-
المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة
/ سعاد الولي
-
حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب
/ عبدالله الحريف
-
قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس
/ حمة الهمامي
المزيد.....
|