كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 973 - 2004 / 10 / 1 - 13:17
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
قبل أن ينتقل السيد الدكتور خير الدين حسيب إلى معالجة موضوع أهداف الولايات المتحدة في العراق والمنطقة يتحدث عن الجوانب الإيجابية في سياسات النظام ويبرز قضايا محاربة الأمية والتصنيع حيث أحس بالفخر والاعتزاز لما تحقق في العراق من منجزات في عهد هذا النظام الاستبدادي الشرير, ثم يقول ما يلي: " ... هذا لا يعني تبرئة النظام من سلبياته, وهي كثيرة, ولكن من حق الجيل الحالي والأجيال القادمة أن تعلم حقيقة ما جرى وأن تطلع على الصورة كاملة" (جريدة القدس اللندنية, ص 2). إن هذا النص لا يحاول التخفيف من طبيعة النظام ومن طبيعة سياساته ويحولها إلى مجرد سلبيات فحسب, بل يحاول أن يمنح النظام تزكية لا يستحقها إلا ممن يماثله في الفكر والممارسة. فما ارتكبته الدكتاتورية الغاشمة في العراق لم تكن أخطاءً ولا سلبيات بأي حال, بل كانت سياسات مرسومة وخطط جاهزة وجرائم بشعة ومديدة ارتكبت بحق الشعب العراقي كله. وإذا كنا في الحلقة الأولى قد أشرنا إلى ما تعرض له الكرد والعرب الشيعة والقوميات الأخرى من معاناة وقتل وتدمير, فأن معاناة العرب السنة لم تكن قليلة في مناطق كثيرة من العراق, سواء أكان ذلك بالنسبة للموصل أم سامراء والفلوجة أم الرمادي وديالى أم في بغداد وغيرها. إذ كان النظام ينزل جام غضبه على العشائر والعوائل أو حتى المناطق التي يشك في ولاء بعض أبنائها العاملين في القوات المسلحة أو الذين يتهمون بالتآمر على الحكم أو محاولة اغتياله مثلاً, ولم يكن عبثاً هروب العديد من الضباط البعثيين من مدن عراقية معروفة بوجود أكثرية سكانية من أتباع المذهب السني فيها.
أما عن المقابر الجماعية فيقول الدكتور خير الدين حسيب ما يلي: "كانت هناك فعلاً مقابر جماعية مع كل فظاعتها, إلا أنها لم تكن للمعارضة فقط, فثمة مقابر جماعية للجيش العراقي الذي كان منسحباً من الكويت, لهذا كان بعض الموتى فيها بملابس الجيش العسكرية, كما كانت هناك مقابر جماعية للبعثيين الذين قتل منهم في هذه الأحداث ألفان ... أرجو أن نتعامل مع هذه الأحداث برفق, خاصة بالنسبة إلى المستقبل بعد أن حصل ما حصل, وعسى أن يأخذ الأخوة العرب درساً من هذا". (راجع نفس المصدر السابق)
لا أدري كيف يريدنا أن نأخذ الأمر برفق ونحن نتحدث عن أكثر من 262 مقبرة جماعية اكتشفت حتى الآن. وهي تضم عشرات الآلاف من الناس ليسوا كلهم من مناطق معارك البصرة, بل من مناطق أخرى كثيرة من العراق. فقد عثر على المقابر الجماعية في كردستان العراق وفي وسط وفي مناطق عديدة من الجنوب, إضافة إلى البصرة. والحديث لا يمس المعارضة السياسية للنظام فقط, بل الحديث يمس أيضاً ضحايا النظام على امتداد العقود الثلاثة والنصف التي حكم فيها العراق. أليس الجنود الذين قتلوا بسبب سياسات النظام هم من ضحايا النظام ذاته؟ أليس البعثيون الذين قتلوا هم أيضاً من ضحايا النظام ذاته الذي تسبب في قتلهم؟ أليس الشباب الكرد الفيلية الذين قتلوا هم من ضحايا النظام؟ أليس عشرات آلاف القتلى الذي صفاهم النظام بأساليب مختلفة في معتقلات وسراديب الأمن وأقبية المخابرات والسجون العراقية ودفنهم في تلك المقابر الجماعية من ضحايا النظام الاستبدادي؟ كم كان بودي أن يكون الدكتور حسيب أكثر رفقاً بالضحايا لا بالجلاد الذي ينبغي أن نحاسبه ليتعلم كل العرب من هذا الدرس القاسي والمرير. إن الإنسان الذي يقتل يا سيدي الفاضل, أياً كان هذا الإنسان, هي جريمة بشعة ينبغي أن نستنكرها جميعاً بغض النظر عن القاتل, فكيف وأن القتل قد شمل مئات الآلاف من الناس الأبرياء ومن مختلف القوميات والأديان والمذاهب والاتجاهات الفكرية والسياسية. لكم أنت رحيم على نظام صدام حسين الاستبدادي, وكم أنت ظالم وشديد القسوة على ضحايا هذا النظام! لا أدري كيف ساهمت في تكوين منظمة حقوق الإنسان ودفعتني للاشتراك بها حتى أنكم تبرعت مشكوراً بدفع اشتراك السنة الأولى في عضوية المنظمة العربية لحقوق الإنسان.
بعد هذه الملاحظة السريعة أحاول مناقشة الدكتور حسيب وفق الموضوعات التالية:
1. حول الأهداف المعلنة وغير المعلنة للولايات المتحدة الأمريكية.
يتحدث الدكتور حسيب عن أهداف الولايات المتحدة غير المعلنة ويلخصها في موضوع النفط وحماية إسرائيل وإعادة ترتيب خريطة الشرق الأوسط والمشروع الجديد (الشرق الأوسط الكبير) الذي كشف أحد مساعدي بوش الابن أنه يهدف إلى تغيير هوية المنطقة العربية إلى شرق أوسطية. (راجع نفس المصدر ص 3). أما الأهداف المعلنة فهي وجود أسلحة الدمار الشامل التي لم يعثر عليها وعلاقة نظام صدام بجماعة بن لادن.
كان موقفي, كما يعرف الدكتور حسيب, ضد حرب الخليج الثانية وضد حرب الخليج الأخيرة التي أطلق عليهما صدام حسين أم المعارك وأم الحواسم, ونشرت العديد من المقالات وحضرت الكثير من الندوات بهذا الشأن. وكنت ضد "قانون تحرير العراق" الذي أقره الكونغرس الأمريكي في عهد كلنتون في عام 1998, لا حباً بالنظام بل قناعة مني بأن مهمة إسقاط النظام هي من مهمات الشعب العراقي وقواه السياسية وحدها, وبدعم معنوي وسياسي من جانب الرأي العام العربي والعالمي والمجتمع الدولي. وأن الحرب لا تلد غير المزيد من المشكلات والتداعيات ولا تجلب الديمقراطية بالضرورة إلى البلد المعني كما حصل في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وإذا استعدنا أحداث فترة ما قبل الحرب يفترض أن نتذكر بأن الرئيس الأمريكي بوش الابن قد برر الحرب, وفق الخطاب الذي ألقاه في الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل اندلاع الحرب بفترة وجيزة, لأسباب أربعة, وهي:
1. بسبب السياسات الماكرة والمخاتلة التي مارسها صدام حسين بشأن مدى امتلاكه أسلحة الدمار الشامل وسقوط مصداقيته أمام العالم عموماً.
2. بسبب السياسات الدكتاتورية والإرهاب الدموي والعنصرية التي كان يمارسها نظام صدام حسين ضد الشعب العراقي وضد الشعب الكردي والقوميات الأخرى بشكل خاص.
3. وبسبب علاقات أجهزته الأمنية بالقوى الإرهابية الدولية, وخاصة جماعة القاعدة, وخشية وصول أسلحة الدمار الشامل إليها عبر النظام العراقي.
4. اعتبار النظام مصدر قلق وخشية في المنطقة بسبب اعتداءاته وحروبه ضد جيرانه من الإيرانيين والعرب, إذ أن النظام نفسه شن الحرب ضد إيران وغزا الكويت واعتبرها المحافظة العراقية التاسعة عشر.
إذن الأهداف المعلنة من جانب الولايات المتحدة لم تكن أسلحة الدمار الشامل فقط, رغم أن التركيز جرى عليها لأن بوش الابن كان يريد بذلك بث الخشية في نفوس الشعب الأمريكي وإقناعهم بضرورة الحرب بسبب الخطر القادم من صدام حسين. لم تكن الأسباب المطروحة على المجتمع الدولي كافية لشن الحرب ضد النظام ولم يكن النظام خطراً على السلام العالمي, بل كان خطراً على الشعب العراقي وعلى الاستقرار في المنطقة بالأساس. وكان بالإمكان, حسب تقديري الشخصي, الخلاص منه بطرق أخرى, لو كان الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي راغبين بذلك. ولكن الحرب كانت جزءاً من الإستراتيجية الأمريكية ونهج الحروب الإستباقية للبرالية الجديدة والمحافظين الجدد, وقدم النظام العراقي كل المبررات والحجج الضرورية لشن الحرب عليه.
وبصدد الأهداف غير المعلنة فأن الزميل حسيب لم يأت بجديد. فهو يردد ما قيل قبل الحرب الأخيرة, وما قيل في الخمسينات حين كتب الكاتب الراحل محمد شرارة مقالاً نشر في مجلة الوادي العراقية في عام 1954 بعنوان "أينما تمتد الأصابع الأمريكية يرتفع الدخان". إن الأهداف التي ذكرها السيد حسيب لا تشكل إلا جزءاً من مجمل الأهداف التي تسعى الولايات المتحدة إلى تحقيقها من خلال سياستها في العراق أو في المنطقة. وعلينا أن نفهم بأنها الدولة الأعظم والقطب الأوحد حالياً على الأقل, ولها رغبتها الجامحة في الهيمنة على العالم وفرض سياستها عليه, كما هو حال كل الإمبراطوريات السابقة, سواء أكانت عربية إسلامية أم غير عربية, قديمة أم حديثة. وهي أكبر دولة رأسمالية احتكارية ذات أهداف استغلالية حديثة معروفة لنا جميعاً. لم نقل نحن ذلك, بل قالها السيد بريجنيسكي, المستشار السابق في الأمن القومي الأمريكي قبل أحدث 11 سبتمبر/أيلول 2001 في مقابلة له مع قناة الجزيرة. وعندما يتحدث الدكتور عن الأهداف غير المعلنة حول حرب الخليج الأخيرة فهو مخطئ, إذ أنها معروفة للجميع ومكشوفة أمام الرأي العام العالمي. كما يمكن مواجهة هذه الأهداف ولكن بطرق أخرى غير التي يقترحها الاتجاه القومي اليميني في الحركة القومية العربية. وأجد مفيداً هنا أن أبدي بعض الملاحظات, إذ أنه لم يتعامل مع الحقائق, كما أرى, بالطريقة المناسبة.
• اتجهت سياسة الولايات المتحدة صوب العراق قبل عقود كثيرة, وتبلورت بشكل أكثر وضوحاً في فترة الحرب العالمية الثانية, ثم بشكل أكثر وضوحاً في فترة الأحلاف العسكرية في الخمسينات, ولكنها تعاظمت الرغبة في الوصول إلى بغداد وأصبحت تقف في قلب لعبة الانقلابات العسكرية في أعقاب ثورة تموز عام 1958. والقوميون العرب أول من فسح لهم المجال في التحرك الواسع في إطار الحركات الانقلابية. إذ أن الولايات المتحدة شجعت وعملت على التخلص من حكومة قاسم وساندت بقوة القوى المشاركة في انقلاب 1963, حيث شاركت بعض القوى القومية العربية في هذا الانقلاب البعثي مباشرة, ثم في انقلاب تشرين الثاني 1963 ضد حزب البعث, الذي قام به القوميون, بسبب الإفلاس الشعبي الذي لازم سياسة البعث الفاشية في تلك الفترة وبسبب الصراعات في صفوف البعثيين ومع القوميين, وبسبب مجابهتها لكل القوى السياسية العراقية. ولم تكن السياسة التي وضعتها ونفذتها القيادات القومية في أغلب أطيافها وتشعباتها خلال الفترة الواقعة بين تشرين الثاني/نوفمبر 1963 وتموز/ يوليو 1968 ديمقراطية, بل كانت سياسة استبدادية تعسفية ظالمة. فقد مارست سياسة قمع ضد الرأي الآخر ووضعت المئات منهم في السجون ومارست أجهزتها عمليات الاعتقال والتعذيب والقتل على عدد كبير من السياسيين العراقيين, وخاصة الشيوعيين والديمقراطيين المستقلين. وإذا شاء الدكتور حسيب فبإمكاني تقديم قائمة طويلة حقاً بأسماء شهداء هذه الفترة التي كان هو أحد أبرز النخبة الحاكمة والمسئول عن العملية الاقتصادية في العراق, وكذلك تقديم قائمة بأسماء أولئك الذين كانوا في السجون وعانوا مرارة التعذيب وهدر الكرامة, تماماً كما عانه هو في معتقل البعثيين في عام 1968 حتى عام 1971. وقد حصل دعم أمريكي واضح لهذا الانقلاب من خلال مجموعة من الضباط والمدنيين المرتبطين بالولايات المتحدة وسياستها في المنطقة. من هنا جاءت محاولات بعض القوى القومية للقيام بمحاولات انقلابية ضد عبد السلام محمد عارف ومن ثم ضد أخيه عبد الرحمن محمد عارف للخلاص من تلك السياسة الخاطئة التي كانت تمارسها الجماعات القومية بحجة الاقتراب من سياسة ومواقف جمهورية مصر العربية. وأذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر محاولة انقلاب السيد عارف عبد الرزاق في عام 1966, وكان رئيساً للوزراء حين أراد الانقلاب على رئيسه عبد السلام محمد عارف. كانت سياسة القوى القومية في أعقاب انقلاب عارف ضد البعثيين أهدأ نسبياً وحاولت التخفيف من الوضع الإرهابي الذي أشاعه البعثيون في البلاد, ولكنها استمرت على طبيعتها الاستبدادية والتعسفية. ومن عاش تلك الفترة في العراق يستطيع تقدير تلك السياسات الاقتصادية والاجتماعية ومصادرة الحياة السياسية والحزبية, في ما عدا حزب الاتحاد الاشتراكي, التي مارسها الحكم القومي اليميني, ومحاولات منح عقود امتياز لشركات نفط أجنبية فرنسية وإيطالية والتي يمكن العودة إليها في كتابات الكثير من العراقيين حينذاك. ولنا في ذلك دراسات ومواقف يعرفها الزميل حسيب جيداً وما يزال حتى الآن, ورغم مرور عشرات السنين يتذكر بمرارة الانتقادات العادلة التي مارسها الصديق الدكتور عصام الخفاجي على إجراءات التأميم التي اتخذت في عام 1964 ضد القطاع الخاص العراقي الضعيف, وقبل ذاك الدراستين اللتين نشرتا لي في مجلة الطليعة والطريق اللبنانيتين حول نفس الموضوع. وكان المبادر إلى إصدار تشريعات التأميم المجموعة التي يقف على رأسها الدكتور خير الدين حسيب.
• لقد كان البعثيون والقوميون يحملون غيظاً وحشياً ضد الشيوعيين والقوى الديمقراطية وأتباع عبد الكريم قاسم وتسببوا في إرسال الكثير من البشر إلى القبر بسبب مواقفهم الفكرية والسياسية, وكانوا في ذلك منسجمين تماماً مع سياسة الولايات المتحدة في المنطقة حينذاك. دعني يا سيدي الفاضل أذكرك بالبعض ممن ساهم في المجازر التي ارتكبت في العراق حينذاك وفي مقدمتهم عبد السلام محمد عارف وعبد الغني الراوي ورشيد مصلح وصبحي عبد الحميد وغيرهم. وأيدت الولايات المتحدة الأمريكية بحرارة انقلاب 1968 بسبب علاقتها المتينة بالجماعة التي شاركت في الانقلاب ممن كان محسوباً على التيار القومي, وبشكل خاص مسئول الحرس الجمهوري ومدير المخابرات العسكرية, إضافة إلى صدام حسين, الذي كان محسوباً على القوى المؤيدة للولايات المتحدة حين كان في مصر بعد هروبه من العراق. كم بودي أن يعود الدكتور حسيب إلى كتابين في هذا الصدد, وهما كتاب "أوكار الهزيمة" للراحل هاني الفكيكي, وكتاب عراق 8 شباط 1963 من حوار المفاهيم إلى حوار الدم, مراجعات في ذاكرة طالب شبيب" لمؤلفه الراحل الدكتور علي كريم سعيد ليتعرف مجدداً على بعض حقائق العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الأمور, رغم أني أعرف أنه عليم بها.
• وقفت الولايات المتحدة الأمريكية إلى جانب حزب البعث وصدام حسين في حربه ضد إيران. وكانت الحرب التي شنها النظام العراقي بالنيابة عن الولايات المتحدة الأمريكية, بسبب رغبتها في الانتقام من أحداث السفارة الأمريكية في طهران والتخلص من الثورة الإيرانية الحديثة من جهة, ورغبة صدام حسين في التوسع والهيمنة والبروز كقائد قومي "يستعيد الأراضي العربية المحتلة من قبل إيران!" أي الأهواز والجزر الثلاث, من جهة ثانية. وقد وجدت الحرب التأييد الكامل من القوى القومية العربية ووقفت إلى جانب صدام حسين بشكل مطلق ومن ذات المنطلقات الشوفينية التوسعية, في ما عدا حكومات مصر وسوريا وليبيا. وهذه الحرب المجنونة لعبت دوراً كبيراً في تسريع سرقة القوى الظلامية في إيران للثورة الشعبية ودفعها باتجاهات دينية متطرفة وضرب القوى الديمقراطية بحجة تنظيف القوى المناهضة للثورة وحماية الخطوط الخلفية للجبهة الحربية. ولم تكن الحرب التي شنها صدام حسين دفاعاً عن الجبهة الشرقية, بل كانت نيابة عن الولايات المتحدة الأمريكية ومصالحها في المنطقة وضد مصالح الشعب الإيراني, كما أنها كانت ضد مصالح الشعب العراقي. وهي الحرب التي تسنى فيها لصدام حسين إنزال أقسى الضربات بالقوى الوطنية والديمقراطية العراقية العربية والكردية, وكذلك قوى التيار الإسلامي, في حين بدأ تعاوناً جديداً غير مباشر مع القوى القومية متمثلة بالتيار القومي اليميني الذي تبلور فيما بعد بالمؤتمر القومي العربي, وكان الدكتور حسيب على رأسه ومؤسسه. وكان السيد الدكتور وميض عمر نظمي هو الممثل المباشر لهذا التيار القومي العربي والمتعاون مع النظام الصدّامي في العراق.
• كانت القوى القومية العربية تعرف باستعدادات النظام لغزو الكويت, الذي بدأ صدام حسين يمهد له منذ فترة مبكرة بعد انتهاء الحرب ضد إيران, وشارك بعض القوميين العرب في بغداد في اللجنة التي شكلها صدام حسين لوضع خطة اقتصادية لإلحاق الكويت بالعراق والتي كان يترأسها الدكتور سعدون حمادي. ولولا أن الأسماء أمانات لذكرنا البعض من هؤلاء, وبعضهم من اقرب أصدقاء الدكتور حسيب وأكثرهم قرباً من فكره, ومن المواظبين على حضور المؤتمرات التي ينظمها. وعلينا أن لا ننسى بأن عدداً كبيراً من القوميين العرب اعتبر غزو الكويت انتصاراً للوحدة العربية وهرجوا لها وساهموا بدعم موقف صدام حسين المتصلب من الانسحاب الفوري من الكويت والتي قادت إلى كارثة حرب عام 1991 لطرد القوات الغازية من أرض الكويت والتي سحقت الاقتصاد العراقي وبنيته التحتية وكل ما بناه الشعب طيلة العقود المنصرمة.
ليست المشكلة في أن تشخيص أهداف الدول الأخرى, وخاصة الدول الكبرى, في المنطقة, إذ أنها من حيث المبدأ معروفة ومكشوفة للجميع, بل المشكلة تكمن في سبل مواجهة هذه الأهداف من جهة, وسبل أعاقة تحقيقها وعدم تسهيل مهمة تحقيق تلك الأهداف من جهة ثانية, كما يفترض أن نعرف بشكل دقيق وموضوعي الأهداف الواقعية التي نسعى إليها لكي لا تختلط الأوراق ونفقد البوصلة من جهة ثالثة.
ويمكننا الادعاء دون تردد إلى أن سياسات صدام حسين والقوى القومية اليمينية لعبت على مدى العقود الأربعة المنصرمة الدور الأساسي والمركزي في تسهيل مهمة الولايات المتحدة في تحقيق بعض أهدافها في المنطقة. أما القوى الديمقراطية, ومنها الحزب الشيوعي العراقي والأحزاب الديمقراطية الكردستانية وبعض القوى القومية العربية ذات النهج الديمقراطي أو اليساري, وكذلك بعض قوى الإسلام السياسي المعتدلة, فكانت ضحية تلك السياسات. وهذا لا يعني أنها لم ترتكب الأخطاء أيضاً. وكانت تلك السياسات لا غيرها هي التي وضعت البلاد على طريق الاستبداد والقسوة وانتهت بالعراق إلى الوقوع تحت الاحتلال الذي نعاني منه اليوم والذي يولول الدكتور حسيب اليوم بسببه ويندب حظ العرب العاثر ويدعو إلى مقاومته بقوى فلول صدام حسين والزرقاوي ومن لف لفهم.
لم يكن التوسع الإسرائيلي على حساب الأرض والشعب في فلسطين بعيداً عن مزايدات القوى القومية والبعثية العبثية التي قادت إلى الواقع الذي نعيش فيه اليوم, مع معرفتنا الكاملة بثلاث حقائق يفترض أن تكون واضحة للجميع, وهي:
1. أن إسرائيل ذات أطماع توسعية على أرض فلسطين كلها وأبعد منها أن توفرت لها الفرصة المناسبة.
2. التأييد المطلق من جانب الولايات المتحدة لإسرائيل ورفضها اتخاذ مواقف حيادية بين الدول العربية والدولة الإسرائيلية, ومنعها تحرك الدول الأوروبية والأمم المتحدة.
3. الموقف غير العقلاني والرافض لوجود الدولة الإسرائيلية الذي تتخذه القوى القومية والإسلامية المتطرفة والعمل بوهم إزالتها, وهو جزء من المزايدات السياسية التي يراد بها خداع وكسب الجماهير, ولكنها لا توصل إلى أية حلول معقولة.
لن تحل هذه المزايدات مشكلة فلسطين, بل السياسة الواقعية والعقلانية. وقد كان الدكتور مالك دوهان الحسن محقاً حين كتب منذ عقود مشمئزاً من سياسات المزايدة والإحباط والضعف التي كانت وما تزال تمارسها الدول والقوى القومية والبعثية العربية يقول ما معناه: وقفنا في عمان نبكي على القدس وسنقف في الشام لنبكي على عمان, وسنقف في بغداد لنبكي على دمشق ...الخ.
أدرك بأن الولايات المتحدة تريد النفط وتريد السيطرة بشكل خاص على وجهة توزيعه والتأثير على أوروبا واليابان والصين وضمان حصة الأسد لها, إذ أن استهلاكها السنوي آخذ بالتعاظم السريع. وهي تسعى إلى إقامة منطقة آمنة لها ولمصالحها وحليفها في الشرق الأوسط. وهي تتعامل مع غالبية النظم العربية في هذا الصدد. وإزاء هذا الوضع يفترض في قوى الحركة الوطنية وضع سياسة تتسم بالحكمة والعقلانية وبعيداً عن ذلك الأسلوب التهريجي الذي يتجلى في البيانات الموجهة إلى الأمة من قبل المؤتمر القومي العربي السنوي. فمثل هذه البيانات لا تعطي ثماراً طيبة وغالباً لا تجد مكاناً لها حتى في رفوف مكاتب المثقفين العرب والجماهير العربية الواسعة.
المنطقة التي نعيش فيها ليست عربية خالصة يا سيدي الدكتور حسيب, فهي عربية من جهة وشرق أوسطية من جهة أخرى وآسيوية من جهة ثانية. وليست كل الأراضي التابعة حالياً للدول العربية هي أراض عربية, بل فيها قوميات أخرى والأرض تعود لها, وأن لم نقر بذلك فالمصيبة أكبر على الدول العربية ذاتها. ومن يزايد في هذه القضية يخسر المزيد من الأرض والخيرات. يقول المثل العراقي "من لا يرضى بالجزة, سيخسر الجزة والخروف". وهو ما يفترض تجنبه.
على القوى القومية العربية أن تعترف بالقوميات الموجودة في المنطقة وأن تعترف بحق هذه الشعوب في التمتع بحقوقها المشروعة وبحقها في تقرير مصيرها بنفسها, وأن تتعامل معها بهذه العقلانية التي تساعد على تعزيز أواصر الصداقة والتآلف والوحدة, والعكس لا يقود إلا إلى الحروب والقتل والتشريد والضياع. والقوى القومية العربية جربت ذلك في العراق ومع الشعب الكردي وما تزال تعيش التجربة في الجزائر وفي المغرب وفي السودان. فمتى يعود القوميون اليمينيون إلى صوابهم ويدركون حقيقة العصر الحديث الذي نعيش فيه بكل تعقيداته ومشكلاته وآفاقه.
دعونا نتحدث بصراحة واعية ومسئولة. لا يمكن لسياسات التسلح والقوة والعنف أن تقضي على إسرائيل. فهي دولة قائمة ومعترف بها دولياً وعضو في الأمم المتحدة ومسلحة حتى الأسنان وتحصل على تأييد ودعم أمريكي غير منقطع. وعلينا أن نعمل عربيا وإقليمياً ودولياً من أجل ألزام إسرائيل بتنفيذ جميع قرارات الأمم المتحدة نصاً وروحاً. ومثل هذا الموقف يتطلب شجاعة وتوجهاً آخر غير الأسلوب الذي تمارسه القوى القومية والبعثية منذ سنوات ولم يتغير خطابها السياسي وممارساتها قيد أنملة, إذ أن المزايدة الفارغة بالشعارات ترهق الشعوب العربية وتساعد على اغتصاب حرياتها الديمقراطية بحجة مقاومة إسرائيل والولايات المتحدة ولا تجلب النفع للعرب. وهذه السياسة التي تمارسها القوى القومية اليمينية هي التي تخدم مباشرة سياسة إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة, شاءوا ذلك أم أبو. إن أكثر السياسات التي ألحقت الضرر الكبير بالقضية الفلسطينية هي سياسة المزايدات التي مارستها القوى القومية والإسلامية المتطرفة التي أعطت الحجة لإسرائيل لممارسة سياستها التوسعية والشوفينية والعنصرية ضد العرب, سواء في فلسطين أم في دولة إسرائيل ذاتها. وهي التي تساعدها اليوم على استمرار احتلالها. ونأمل أن يستوعب القوميون العرب هذه الحقيقة ويتوقفوا عندها للتفكير بوعي وعمق ومسئولية أكبر مما حصل حتى الآن.
إن الولايات المتحدة تسعى إلى إقامة مشروع الشرق الأوسط الكبير في إطار توجهاتها العولمية في السيطرة على العالم وتشكيل الكتل الاقتصادية الإقليمية. وأبدت منذ سنوات بعض الدول العربية استعدادها للدخول في هذا المشروع. إن أهداف هذا المشروع واضحة, ولكني لا أجد فيه ما يشير إلى أنه يريد تغيير هوية المنطقة العربية إلى هوية شرق أوسطية. الدول العربية تشكل أكبر تجمع من الدول التي يمكنها أن تكون فاعلة ومؤثرة في مثل هذا المشروع شريطة أن يكون هدف الدول العربية واضحاً. فالمنطقة تمتلك هوية عربية, ولكنها شرق أوسطية أيضاً وغرب آسيوية أحياناً وآسيوية عموماً, كما فيها هويات أخرى غير عربية. ولكن هذا الشعور بالخذلان لدى القوميين العرب والمهيمن على فكرهم يجعل الإنسان يخشى على هويته وثقافته ودينه ونفسه أيضاً, وهو تعبير عن ضعف الثقة بالنفس والهوية والثقافة والدين ويجسد الإحباط الذي يعيشه القوميون العرب, وهو ما يفترض التخلص منه. لا أريد اختصار موضوع مشروع الأوسط الكبير بهذا الشكل السريع, وربما أتناوله في مكان آخر, لكن أملي أن يفهم العرب واقع العالم والعولمة الجارية وموقعنا منها وسبل الاستفادة منها بدلاً من الانعزال عنها.
برلين في 30/09/2004 كاظم حبيب
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟