جعفر المظفر
الحوار المتمدن-العدد: 3251 - 2011 / 1 / 19 - 15:01
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
واجه النظام الأمريكي في الأيام الأخيرة معضلة وضعته على محك المراجعة للأهم من مفاصل خطابه السياسي والثقافي وجعلت اللعبة السياسية الداخلية كاملا في مواجهة عيوب بنيوية خطيرة.
ليس هناك نظام خال من العيوب وليس هناك مجتمع مثالي, والدول والمجتمعات التي تدعي بذلك تضع نفسها في مأزق يصعب عليها الخروج منه دون خسائر فادحة. وفي المرحلة الأخيرة وحيث تحققت لهذا النظام انتصارات سياسية عالمية مهمة كان في مقدمتها انهيار الإتحاد السوفيتي فإن مفكرين كبار سعوا إلى التأكيد على مثالية المجتمع الرأسمالي وخلوه من العيوب الأساسية, لكن مرحلة حكم الرئيس بوش الابن سرعان ما دعت إلى إعادة دراسة نواقص هذا النظام بعد فشلها في معالجة موضوعة الإرهاب من خلال حربين (أفغانستان والعراق), اللتان لم تنتجا غير الدمار والموت والتمزق والتخلف, وعادت آثارهما لتنعكس على الداخل الأمريكي مما ساعد على نشوء انهيارات اقتصادية وتراجعات فكرية وأخلاقية.
ولقد ترتب على هذه التراجعية السياسية والفكرية ظهور موجات من الرفض الإيجابي والسلبي. وبينما دعى الإيجابي منها إلى ضرورة مراجعة العمق الفكري والأخلاقي للمجتمع الأمريكي نفسه ورفض سياسة العزة بالإثم, نرى أن الأزمة الاقتصادية الخانقة سرعان ما أتاحت لقوى اجتماعية وسياسية منافذ للهروب من مواجهة الأخطاء الأخلاقية والسياسية الحقيقية, ومحاولة العمل على إيجاد تناغمات حقيقية بين الدور الأمريكي والعالم المتغير, فوجدت إن أفضل طريقة لحل الأزمات المتفاقمة هي الطريقة السلفية التي تدعو الأمريكيين إلى العودة لقيم الآباء المؤسسين, حتى بت تعتقد, وأنت تطلع على فكر هذه الحركات, على أن الإسلام ليس وحده الذي يشكو من التراجعات السلفية,مما أكد على إمكانية أن تكون لكل مجتمع ودين سلفيته الخاصة وصحابته المعرفين بدور رسالي, وهي مهمة قد يقوم بها هنا ما يسمى بالآباء المؤسسين.
لقد كان من بين أهم حركات الرفض السلبي التي تصاعدت في السنة السابقة هو "حزب الشاي" الذي إستطاع بالفعل وخلال فترة محدودة جدا أن ينجح في إحداث تغييرات هامة على الخريطة الفكرية والاجتماعية والسياسية لأمريكا, حيث ذكر أن أعضاءه ومؤيديه والمحيطين به قد تجاوزا رقما كبيرا. وقد تكون هناك كالعادة مبالغة حقيقية في الرقم, لكن حتى مع تقسيمه على اثنين فإن المتبقي سوف يعتبر رقما إكتساحيا عاليا. ويمكن قراءة هذا التأثير والتغيير من خلال مساهمة هذا الحزب في فوز أغلبية النواب الجمهوريين البالغ عددهم ستين نائبا والذين استطاعوا في الانتخابات النصف تكميلية في أواخر العام الماضي على إزاحة الديمقراطيين لتشكيل أغلبية مجلس النواب.
غير الأرقام في حياة أمريكا هي غير ثابتة ولا يمكن أن تعتمد لتأسيس نظريات تاريخية, فالرأي العام الأمريكي غير مؤدلج, إذ أن بإمكان الجمهوري أن يصوت لرئيس ديمقراطي, والتغيير هنا مباح بما يتفق مع غياب الأدلجة أولا ووجود نظام ديمقراطي وآليات تمنح المواطن حق ذلك التغيير وتعتبره لازمة من لوازم بقاء وتطور النظام السياسي نفسه, فلا عجب بالتالي أن يضم الحزب الجديد أغلبية من الجمهوريين وأخرى من المستقلين, وأن يضم أيضا نسبة من الديمقراطيين وصلت إلى حدود العشرة بالمائة, وهذه النسبة الأخيرة, وليست النسبتين الأوليتين, هي التي تعبر حقا عن انفتاح النظام الأمريكي, واستعداد المواطن للتحرك والخيار الحر, لكنها هنا تأتي هذه المرة للتعبير عن حالة ضياع لم يستطع الديمقراطيون والرئيس أوباما, أو لم تسمح لهم الظروف, بسبب قصر المدة من جهة, وفداحة الأزمة من جهة أخرى, على تقديم إجابات منتجة, وخاصة فيما يتعلق بالوضع الاقتصادي المتردي الذي يشكل أهم عامل مؤثر في توجيه الأفكار والآراء والخيارات والقرارات.
في الحياة السياسية الأمريكية هناك معادلات أساسية يجب أن لا تُخترق أو تَختل, أولها.. أن المصالح الإستراتيجية الأمريكية والأمن القومي الأمريكي هي أمور يجب أن لا يختلف عليها اثنان سواء كان المرء سياسيا أم لا, ديمقراطيا أم جمهوريا, أو من أنصار حزب الشاي أو حزب القهوة.
وثانيها, أن الاختلاف بين الحزبين الرئيسين هو إختلاف على البرامج والمناهج وليس على المبادئ والعقائد الرأسمالية الرئيسة. هذان الحزبان, ورغم الاختلاف بينهما, هنا أو هناك, هما نتاج للنظام السياسي نفسه, اي أنهما أبناء النظام الرأسمالي السياسي والاجتماعي والأخلاقي وليسا آباء له, فهما على هذا الأساس - منتج لمعمل - وليسا - معمل لمنتج -, فإن تطلب التغيير فسيكون محدودا بقياس الإنتاج لا بهوية المعمل أو عائديته.
من الأكيد أن ذلك يوضح كيف أن الديمقراطية هي أيضا غير مطلقة, بمعنى أنها خاضعة إلى ظروف الزمان والمكان. الديمقراطية العراقية مثلا هي صراع, ليس على نوعية إنتاج المعمل وإنما على المعمل نفسه من حيث طبيعته وعائديته مما يعكس حالة نقيضة للحالة الأمريكية ذاتها, ويدعو إلى التأني قبل الالتزام بشكل الديمقراطية التي تكفل أن يكون هناك تناغم حقيقي بين المشكلة والحل.
إن شكل المعمل العراقي ونوعية إنتاجه لم تتحدد بعد, والمطلوب من قوى الديمقراطية أن تحسم طبيعة المعمل أولا لكي تحدد بعد ذلك هوية المنتج. ولهذا يمكن أن نفهم أن الصراع بين قوى الديمقراطية الأمريكية هو صراع تنافسي سلمي, لأنهما أبناء لأب واحد, ويعيشون تحت سقف واحد, في حين أن الصراع بين قوى الديمقراطية العراقية هو صراع يميل إلى العنف الذي بإمكانه أن ينفجر في أية لحظة خاصة إذا انسحب العراب الأمريكي من مواقع التأثير على الأطراف المتواجهة, فهو صراع على المعمل لا على المنتج, وهو لا يجري بين أخوة يعيشون تحت سقف واحد وإنما بين ناس مختلفين ويعيشون تحت سقوف مختلفة " طوائف وأعراق وبرامج". فإذا ما حدث أن خمد الصراع ليحل محله التعايش فسيتم وفق مبدأ المشاركة وتوزيع الغنائم, وهذا ليس من حال الديمقراطية الحقيقة في شيء, لا من قريب ولا من بعيد, لأنها في حالة كهذه نظام لتوزيع الغنائم بصورة سلمية تشاركية ووفق النسب الطائفية والعرقية وليس وفق الاستحقاقات الوطنية.
في الفترة الأخيرة كان هناك ثمة اختلاف في الخطاب الأمريكي السياسي . بعد التدهور الاقتصادي الخطير وارتفاع معدل البطالة كان هناك من يحتاج إلى شروحات لا تقف أمام الشكل وصارت هناك ضرورة في البحث عن الخلل في عمق النظام, لكن هناك ثمة إشارات توقف حمراء أمام كل محاولة للبحث عن الخلل في عمق النظام السياسي, وحتى أن محاولات إصلاح النظام الاقتصادي على يد أوباما والديمقراطيين سرعان ما وجدت مقاومة قوية وإدانات عميقة من قبل الجمهوريين الذين ما أن حققوا أغلبيتهم البرلمانية المريحة في الانتخابات النصفية الأخيرة حتى أطاحوا بلب تلك المشاريع الإصلاحية الذي تناول تعديلا لقوانين الضمان الصحي, ولو كان لذلك الفوز أن يتحقق قبل البدء بسياسية إقراض البنوك لما تمكن أوباما على وقف أوإبطاء عملية الانهيار التي واجهها القطاع المصرفي.
كل شيء يجب أن يترك للسوق وقوانينه لكي يعدل الاقتصاد ولو تطلب الأمر زمنا أكثر, هذا ما نادى به الجمهوريون للوقوف ضد مزيد من تدخل السلطة في النشاط الاقتصادي الحر, فالجمهوريون الذين يدعمهم كبار الرأسماليين كانوا قد اشتقوا معادلة أساسية تقول, إن مزيدا من نمو حجم السلطة ودورها يؤدي بدوره إلى تراجع أكيد على مستوى الحريات الفردية التي تشكل أساس النظام الليبرالي الأمريكي, ولم يعد غريبا أن تتطور المواجهة إلى حد اتهام الرئيس أوباما بالشيوعية, وبدى أن كبار المتطرفين الجمهوريين قد استعادوا عافية خطابهم السياسي الذي كان حجبه سطوع شمس أوباما بعد أن وجدت منافذ لأضوائها عبر السحب التي تجمعت في عهد بوش الابن.
لكن يبدو أن الأمر لم يأخذ فترة طويلة, إذ سرعان ما بدأن شمس أوباما بالتراجع خلف سحب التدهور الاقتصادي. وكما هو معروف لا شيء في الساحة الأمريكية يعلو على صوت الاقتصاد, والأمر لدينا معكوس تماما, فالخطاب السياسي الرسمي في العالم الثالث لا شأن له بالواقع الاقتصادي. كل شيء هنا يبدأ بالسياسة وينتهي عندها, أما الأشياء الأخرى فغالبا ما يتراجع تأثيرها بفعل من تحريف السلطة لمعنى السياسة الذي تجرده من أصوله وبنيته الاقتصادية. أما في الدول الرأسمالية فإن الأمر معكوس تماما, إذ لا معنى حقيقي للسياسة خارج محيط الاقتصاد, وقد يصبح الشأن الاقتصادي هو كل شيء, حيث يتراجع الاهتمام بالسياسة الخارجية كثيرا.
وبالإمكان التأكد من ذلك من خلال فحص الخطاب السياسي لكل من الرئيسين بوش وأوباما, فلقد افلح بوش في تحقيق الفوز بالرئاسة الثانية من خلال خطابه ضد الإرهاب وحروبه ضد العراق وأفغانستان, لكن ذلك كان معقولا في زمن كان فيه الاقتصاد معافى, لكن تراجع الخطاب السياسي الجمهوري في الانتخابات الرئاسية التي أوصلت أوباما إلى سدة الرئاسة, وبفعل التدهور الاقتصادي الخطير أساسا, سرعان ما جعل اهتمام الناخب الأمريكي بقضايا العراق وأفغانستان يتراجع بشكل كبير وسريع حتى ان البرامج الانتخابية الرئاسية الأخيرة كانت قد خلت من إشارات جدية للقضية العراقية بشكل خاص.
إن الجمهوريين الذين افقدهم الخطاب الأوبامي توازنهم وشعبيتهم لم يتركوا الساحة لأوباما لكي يعمر فيها طويلا, إذ سرعان ما نظموا صفوفهم من جديد لكي يوجهوا مدافعهم للديمقراطيين, غير ان الأمر تطلب أو إستدعى تغييرا أساسيا في أساليب وآليات المواجهة. الخطاب الجمهوري لم يستعد عافيته بعد, لكن الأمر كان يتطلب اشكالا أساسية للتعبير عن رفض مجتمع استهلاكي كالمجتمع الأمريكي انتظار الإصلاح طويلا, وبوجود خطاب جمهوري اقتصادي عاجز ومسئول بشكل رئيسي عن التراجع الاقتصادي كان لا بد أن تعبر المواجهة عن نفسها من خلال تنظيم جديد يخرج من رحم الجمهوريين ذاته لكنه يتحرك على مسافة تكفل له حق وقدرة الهجوم بصيغ لا تلزمه بتاريخ أو تراث له علاقة بالأزمة.
لقد نشأ حزب الشاي على هذا الأساس وكأنه محاولة للتخلص من إرث ثقيل ومن أية مسئولية عن التدهور, وصار بإمكانه أن يتحدث بخطاب سياسي هجومي ضد أوباما والديمقراطيين, خطاب غير مرهق أساسا بثقل المسئولية عن الهزيمة, وبالإمكان معرفة أن نصف عدد أعضاء الحزب الجديد هم من الجمهوريين ذاتهم الذين كفلت لهم هذه الواجهة الجديدة حرية الحركة وقدرة المبادرة من جديد, كما أن نجاح هذه الواجهة في فرض انتصارات كبيرة للجمهوريين بعد أن أوصل ستين نائبا إلى الكونغرس لكي يضمن أغلبية جمهورية مريحة أكدت من جانبها على نجاح هذا الوليد المضغوط بفعل التراجع والانتكاسة الاقتصادية الخطيرة. وقد جرى الأمر بشكل رئيسي لاستعادة موقع الرئاسة في الانتخابات القادمة بعد سنتين تقريبا من خلال تهيئة مكثفة لحاكمة ألاسكا السابقة السيدة سارة بولن, التي كانت رشحت لانتخابات الرئاسة السابقة كنائبة للسيناتور الجمهوري ماكين والذي خسر بفارق كبير انتخابات الرئاسة الأخيرة لصالح أوباما.
#جعفر_المظفر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟