|
بعد الزّين إقرأ على تونس السلام...!
باهي صالح
الحوار المتمدن-العدد: 3249 - 2011 / 1 / 17 - 19:06
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
محمّد البوعزيزي الشابّ التّونسي فقد الأمل و لم يبقي بحوزته من وسيلة للتّعبير عن احتجاجه و يأسه و انسداد كلّ الطّرق في وجهه غير إحراق نفسه، و كان إقدامه على هذا الفعل بمثابة القطرة الّتي أفاضت الكأس أو الشّرارة الّتي أشعلت سخط و تذمّر الشّعب و فجّرت غضبه و نفاذ صبره من استغوال نظام زين العابدين بن علي و استحواذه هو و زوجته و عائلتيهما على السّياسة و جزءا من ثروة البلد و مقدّراته على مدى ثلاثة و عشرين عاما..و كانت انتفاضة شعبيّة أثارت إعجاب و استحسان العالم لأنّها زلزلت الأرض تحت أقدام أحد أشرس و أعتى نظام قمعي بوليسي عرفته الدّول العربيّة في العصر الحديث...!
أجل...جميل أن يتحرّر التّونسيّون...و جميل أن يستنشق شعب تونس نسمات الحرّية بعد أن كتم نظام بن علي أنفاسه لأكثر من عقدين...و جميل أن يفكّر المواطن التّونسي و أن يقول ما يريد دون أن يخاف من البوليس و المخابرات أن تعتقله أو تُداهم بيته ليلا... و جميل أيضا أن تُفتح الأبواب على مصاريعها و يُسمح لجميع المواطنين بكلّ إتّجاهاتهم و إيديلوجيّاتهم المختلفة بالمشاركة السّياسيّة و بالتعدّدية الحزبيّة، و أن يصبح للتّونسيّين الحرّية الكاملة في أن يفكّروا و يناضلوا و يشاركوا و يدلوا بأفكارهم و أرائهم دون خوف أو عُقد... و الأكثر جمالا أن تُدار انتخابات حرّة و نزيهة يختار فيها أهل تونس رئيسهم و ممثّليهم في البرلمان و المجالس البلديّة و الولائيّة و غيرها...
و لكن الخوف أن تنزلق الأوضاع إلى ما يُحمد عقباه، و الخوف أيضا أن تجرف إخوتنا التّوانسة الحماسة و يأخذهم الغرور بما لم يحلموا يوما بتحقيقه، و تنسيهم فرحتهم و ابتهاجهم بتحرّرهم المفاجئ من القهر و الديكتاتوريّة...مشاعرهم ظلّت مكبوتة طوال عشرات السّنين و هي تغلي و تعتمل و تتفاعل خفية داخل نفوسهم مثل صهارة قلب الأرض و فجأة تنفجر مثل البركان دون سابق إنذار فلا يعرفوا كيف يتعاملون أو يكيّفون أنفسهم بوضع لم يعرفوه و لم يألفوه منذ إستقلالهم...!
الحرّية و الديمقراطيّة ليس بِدل أو قمصان بمقاسات تُطابق و تُناسب كلّ من يلبسها، لأنّ الحرّية قبل كلّ شيء هي وعي و مسؤوليّة، أمّا الدّيقراطيّة فهي خراب بيوت إن حاولت مجتمعات لم تنضج سياسيّا و ثقافيّا إن تُطبّقها و تحقّقها بين مواطنيها...
أخاف على تونس أن يتكرّر سيناريو بلدي الجزائر في أكتوبر سنة 1988 عندما انتفض الشّباب الجزائري على القهر و الجوع و جبروت حزب جبهة التّحرير الوطني...و كيف أنتهى الأمر في بداية التّسعينات إلى إطلاق الرّئيس الأسبق الشّادلي بن جديد للحرّيات و فتح الباب أمام جميع فئات و أطياف المجتمع الفكريّة و الإيدولوجيّة بما فيها الإسلاميّة...لا زلت أذكر كيف دخل المستنفعون و المسترزقون و صائدوا الفرص و المصالح في سباق محموم على تقديم ملفّات و طلبات التّرخيص بإسم الحرّية و التعدّد لتشكيل أحزاب و جمعيّات سياسيّة تحت مسمّيات و شعارات مختلفة حتّى فاق عدد المرخّص لهم في ذلك الوقت أكثر من ستّين حزبا وجمعيّة أغلبها لا تتجاوز شعبيتها الأفراد المؤسّسين لها...ولا زلت أذكر الزلزال الّذي أتت به حرّية الرّأي و التّفكير و تلك الحالة الهيستيريّة الّتي أصابت المجتمع الجزائري كبيرا و صغيرا، نساء و رجالا، إثر فتح الفضاء الإعلامي بكلّ أنواعه الحكومي و الخاصّ و تمكين الجميع دون استثناء أو إقصاء لأحد بأن يفضفضوا و ينفّسوا عن أنفسهم و يقولوا ما يشاءون و يفرغوا كلّ ما تجمّع في جعبتهم و ما كتموه في قلوبهم منذ الإستقلال...و هكذا دخلت البلاد آن ذاك حالة غير مسبوقة من الهذيان و اللّغط بمسمّى الدّيمقراطيّة و الحرّية مكّنت الإسلاميين لأوّل مرّة من الدّخول على الخطّ و تلقّف الفرصة و تشكيل أحزاب دينيّة كان أبرزها حزب الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ..كان لها التّمثيل الشّعبي الأكبر كثمرة مباشرة للمدّ الأصولي و الصّحوة الإسلاميّة المستشرية في ذلك الوقت خاصّة في أوساط الشّباب بحكم أنّها نجحت في تقديم نفسها كمعارضة و كبديل وحيد للنّظام البائد، لقرب شعاراتها من عواطف النّاس و نزعتهم الدّينيّة، و في نفس الوقت كانت فرصة لعودة مباركة و ميمونة إلى الإسلام الصّحيح و نهج الصّحابة و السّلف الصّالح...و كلّنا يعرف كيف حازت الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ في أوّل عمليّة إنتخابيّة حرّة و نزيهة و بكلّ سهولة على أغلب المقاعد في مجالس البلديات و الولايات، و كيف اجتاحت بأغلبيّة ساحقة مبنى البرلمان و حصدت تقريبا شطري المقاعد فيه، و كيف شعر الجنرالات بالخطر على كراسيهم و مصالحهم و هم يرون بساط الحكم و قد بدأ يُسحب شيئا فشيئا من تحت أرجلهم...حينها تدخّلوا و أوقفوا المسار الانتخابي...و بقيّة القصّة تعرفونها...دخلت البلاد في حرب أهليّة و تحرّكت عجلة الرّعب و إلى الآن لم تضع الحرب أوزارها بعد...الضّحايا ثكالى و يتامى و آلاف المختفين و المخطوفين و عشرات الآلاف من القتلى و عشرات المليارات كلفة أعمال الحرق و التّخريب...إلخ
و أنا أخاف على الشّعب التّونسي أن يتكرّر عندهم ما حصل عندنا خاصّة و أقول خاصّة عندما يدخل الإسلاميّون على الخطّ و يشاركون في السّلطة أو تُرخّص الحكومة لأحزابهم أو تبدأ اعتصاماتهم و مسيراتهم و هم يرفعون شعار "الإسلام هو الحلّ"...!
قد يكون الإسلاميّون عندكم قد قضى عليهم نظام زين العابدين بن علي أو يكونوا أكثر انفتاحا و أكثر تفهّما لكنّي صراحة لا أثق فيهم و لا يمكن لخطاب راشد الغنّوشي مثلا عن التّسامح و الحرّية و الديمقراطيّة و التّعايش السّلمي و احترام الرّأي الآخر...لا يمكن له أن يقنعني بصدقهم و إخلاصهم لما يقولون و ما يزعمون..فالخطاب نفسه كنّا نسمعه من عبّاسي مدني و غيره من رؤساء الأحزاب الإسلاميّة عندنا، خاصّة في البرامج الحواريّة المتلفزة أمّا في الأحياء و الشّوارع و على مستوى المساجد فقد كانوا هم و أتباعهم يهاجمون في خطبهم النّاريّة و الحماسيّة الأحزاب الشّيوعيّة و الليبراليّة و يعتبرونهم كفّار مارقين، أمّا الدّيمقراطيّة فهي كفر و زندقة و لا تُقرّها الشّريعة و أمّا الحرّية خارج إطار الديّن فهي فساد و انحلال...!
الإسلاميّون يقولون ما لا يفعلون...الدّيمقراطيّة عندهم ليست من الدّين، إنّها مجرّد مغنم جاءهم من دار الكفر، و هي (أي الدّيمقراطيّة) في حكم الضّرورة بالنّسبة لهم، يحلّ لهم إستخدامها و استغلالها دون غيرهم عندما لا يبقى أمامهم من خيار غيرها فيضطرّون للوصول عبرها إلى الحكم...و إن وصلوا إلى الحكم رموا بالحرّية و الدّمقراطيّة بعيدا و أرسوا حكم الله و شرعه المتمثّل في الكتاب و السنّة...!
إنّ النّضج السّياسي و الثّقافي للشّعوب هو القاعدة الصّلبة الّتي يجب أن يقوم عليه بناء المجتمعات الحرّة و الدّيمقراطيّة، الّتي دفعتها الشّعوب الأوروبيّة من أجل الحرّية و إرساء قواعد النّظام الدّيمقراطي في بلدانهم ليس بخسا و لا هيّنا فقد قام و تأسّس على أنهار من دماء تلك الشّعوب و مئات من السّنين...!
الحرّية لشعوب غير ناضجة سياسيا و ثقافيا هي عبث و فوضى و في هذه الحالة فإنّ الأنظمة الإستبداديّة أفضل و أصلح لها، أمّا الدّيمقراطيّة لمثل هذه الشّعوب فهي مجرّد تهريج و فوضى قد تقود إلى الفتن و الحروب بين أفراد الشّعب الواحد...!
أنا رأيي أنّه سيأتي يوم يندم فيه التّونسيّون على بن علي و على نظامه...نعم لنظام بن علي مساوئه و مشاكله خاصّة مع اشتداد قبضته الحديديّة و الأمنيّة خلال السّنوات الأخيرة لكن مع ذلك فقد جعل بن علي من تونس طفرة في الاستقرار و الأمن و الآمان، و فلتة فريدة في الاقتصاد و هي الدّولة الّتي ليست لها ثروة نفطيّة أو غازيّة تُذكر مثل كثير من الدّول العربيّة...!
نحن شعوب لا تصلح لها الحرّية و لا الدّيمقراطيّة، الأنظمة الدّيكتاتوريّة مع جرعات محسوبة من حرّية الإعلام، و حدّ مقبول من المرونة السّياسيّة و الأمنيّة و الانفتاح بمعنىdictatorship customized أفضل و أصلح لنا بكثير...أنظروا ماذا فعلت الحرّية و الدّيمقراطيّة في العراق و الجزائر...؟!
كان من الأفضل للشّعب التّونسي أن ينتظر ثلاث سنوات أخرى و ينظر إلى أيّ مدى سيُقدم النّظام على التّغيير و تحقيق وعوده...كان لزين العابدين بن علي الحقّ في فرصة أخيرة...و كان أولى به على الأقلّ في العشر سنوات الأخيرة من حكمه لو خفّف شيئا فشيئا من ديكتاتوريته و زاد قطرة قطرة و بكمّيات محسوبة و صحّية لجرعات الدّيمقراطيّة و الحرّية في سبيل تأهيل و إعداد الشّعب التّونسي و تمكينه من التكيّف بطريقة تدريجيّة كمرحلة انتقاليّة من أجل إستقبال عهد الحرّية و الدّيمقراطيّة دون صدمة أو تشنّج قد تؤدّي إلى التسيّب و الفوضى و ربّما حتّى الاقتتال...!
#باهي_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ثمرة الحبّ....!
-
طرح مفكّر إسلامي يدفع على التقيّؤ...؟!
-
كلمة أفاضتها انتخابات مصر البرلمانيّة...!
-
لماذا يخاف المسلمون من حملات التّنصير...؟!
-
تفنى الأجيال و لكن بعض الأديان تبقى في مواكبة الأزمان...!
-
هل الإسلام دين عنف أم سلام...؟!
-
صديق أدّى العمرة فعاد بدماغ مغسولة...؟!
-
عرس على نهج النبيّ والصّحابة...؟!
-
الإسلام هو أحد أهمّ أسباب تخلّف المجتمعات الإسلاميّة...! (ال
...
-
الإسلام هو أحد أهمّ أسباب تخلّف المجتمعات الإسلاميّة...! (ال
...
-
هل يمكن أن نرسم أكثر من خطّين مستقيمين بين نقطتين...؟!
-
الإسلام هو أحد أهمّ أسباب تخلّف المجتمعات الإسلاميّة...! (ال
...
-
الإسلام هو أحد أهمّ أسباب تخلّف المجتمعات الإسلاميّة...! (ال
...
-
الإسلام هو أحد أهمّ أسباب تخلّف المجتمعات الإسلاميّة...! (ال
...
-
الإسلام هو أحد أهمّ أسباب تخلّف المجتمعات الإسلاميّة...! (ال
...
-
الإسلام هو أحد أهمّ أسباب تخلّف المجتمعات الإسلاميّة...! (ال
...
-
بيت مسعود ( قصّة قصيرة)
-
الإنسان و الأديان...!
-
قيمة الانضباط في مجتمعاتنا...!
-
الجزائريّون و المصريّون في مسرح الدّيكة...!
المزيد.....
-
كيف يرى الأميركيون ترشيحات ترامب للمناصب الحكومية؟
-
-نيويورك تايمز-: المهاجرون في الولايات المتحدة يستعدون للترح
...
-
الإمارات تعتقل ثلاثة أشخاص بشبهة مقتل حاخام إسرائيلي في ظروف
...
-
حزب الله يمطر إسرائيل بالصواريخ والضاحية الجنوبية تتعرض لقصف
...
-
محادثات -نووية- جديدة.. إيران تسابق الزمن بتكتيك -خطير-
-
لماذا كثفت إسرائيل وحزب الله الهجمات المتبادلة؟
-
خبراء عسكريون يدرسون حطام صاروخ -أوريشنيك- في أوكرانيا
-
النيجر تطالب الاتحاد الأوروبي بسحب سفيره الحالي وتغييره في أ
...
-
أكبر عدد في يوم واحد.. -حزب الله- ينشر -الحصاد اليومي- لعملي
...
-
-هروب مستوطنين وآثار دمار واندلاع حرائق-.. -حزب الله- يعرض م
...
المزيد.....
-
عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية
/ مصطفى بن صالح
-
بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها
/ وديع السرغيني
-
غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب
/ المناضل-ة
-
دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية
/ احمد المغربي
-
الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا
...
/ كاظم حبيب
-
ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1)
/ حمه الهمامي
-
برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب
/ النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
-
المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة
/ سعاد الولي
-
حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب
/ عبدالله الحريف
-
قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس
/ حمة الهمامي
المزيد.....
|