سلام كوبع العتيبي
الحوار المتمدن-العدد: 3249 - 2011 / 1 / 17 - 15:25
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
حتى اليوم . لم تخرج البشرية روائيا امتزج بها وامتزجت به , ودرس أركانها وطاف في كهوفها .. مثل هذا الكاتب الروسي العظيم .. تيودور دستيوفسكي . كصمود الشاعر العظيم ( بوشكين ) . لقي من اضطهاد القيصر ومخابراته .. ماكان خليقا إن يقتل عبقريته ويهدر فنه ويحرم العالم من روائع أنتاجه ( الأبله , الجريمة والعقاب , مذلون ومهانون , الإخوة كارامازوف , الشياطين , الفقراء , بيت الموتى , الليالي البيضاء
ومئات أخرى من أورع أنتاج العقل البشري , وكلها كتبت في ظروف بالغة القسوة , شديدة الإلحاح على خالقها بنوبات الصرع وملذة الحاجة وخوف الطرقات المرعبة على الأبواب لزوار الليل كما حدث لليلة الثاني والعشرين من ابريل عام 1849 ... افتح باسم القيصر .
***
كان قد عاد لتوه في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل من بيت المفكر الروسي بيتراشوفسكي وتحدث طويلا مع رفاق الفكر في الحالة المزرية التي تردى أليها المواطن الروسي والقهر المدمر لكل الطاقات الذي يأخذ به القيصر الرجعي يقولا الأول كل رعاياه ( طرقات سريعة على الباب ) .. افتح باسم القيصر . وتستمر الطرقات على الباب . ويخرج أليهم دستيوفسكي :
- ماذا هناك ياسيدى الضابط
- أنت تيودور ديستويفكسي ؟.
- ليس في روسيا كلها من لا يعرف على أني تيودور ديستويفسكي . لماذا تقتحم الدار أنت وجنودك على هذا الوجه ياسيدي الضابط ؟.
- اقبضوا عليه .. أنت مقبوض عليك باسم القيصر .
- بأيه تهمه ياسيدي ؟.
- لا تناقش .. خذوه .
- أرجوك . إنني بثياب النوم . دعني أبدل ثيابي .. الليلة باردة .
- خــــــــــــذوه
- هكذا بثياب النوم ؟. دعني أبدل ثيابي , الليلة باردة .
- خــــــــــــــذوه .
- هكذا ؟.. بثياب النوم ؟. هه . أي عار.
- ستأتيك ثيابك في السجن .
- سجن ؟.
***
في زنزانة رطبة قذرة من زنزانات قلعة بول وبطرس, وضعوا عظم كتاب روسيا قاطبة.
لم يخطر بباله قط انه عادى القيصر في أي كلام قاله في دار صديقه بيتراشوفسكي . ومع هذا , فالمحقق يؤكد بصوته الجاف البارد المعادي :
- أنت متهم بالتأمر مع ثلة من أعداء القيصر العدميين على قلب نظام الحكم .
- سيدي هذه أبشع تهمة. ليس في كتاباتي كلها , ما يشير إلى إنني أفكر في شئ كهذا .
- هه . الذي تكتبه شئ والذي قلته وفعلته مع أصحابك العدميين شئ أخـــــــــــر .
- إنني لم اقل شيئا . ولم افعل شيئا . وانأ .. ويقاطعه المحقق :
- إن مجرد الاحتجاج على أوامر القيصر باعتقالك .. جريمة في حد ذاتها ولهذا , أنصحك فانا من قرائك المعجبين بفنك , إن تكف عن الاحتجاج وتعترف بكل أمانة بمخططات البكباشيين العدميين بقلب نظام الحكم .
- إن هذا الاعتراف المفروض كذب ياسيدي لا اقدر على إن أصل إلى مستواه .
- إذن في هذه الحالة , لم يرحمك القضاة . النفي هو دون شك عقوبتك ولكن الاعتراف يعطي قضاتك الحق في استخدام نفس الظروف المخففة لصالحك.
- اجل . إنني لم اتامر على قلب نظام الحكم . وليس عندي ما أقوله ردا على تهمة كهذه .
***
على طول ما تبقى من العام, وهم يحققون مع المقبوض عليهم.
ستة وعشرون رجلا من أصحاب بيتر اشو فسكي , دخلوا التاريخ الروسي تحت اسم الديسمبريين .
ففي الثاني والعشرين من ديسمبر عام 1849 للميلاد .. انزلوا السجناء جميعا من زنزاناتهم .. أنزلوهم إلى العربات . وتساءل الديسمبريون :
- لماذا ينزلوننا من زنزاناتنا ؟.
وتجاسر دوستو فسكي وتقدم إلى الضابط وسأله : ستأخذوننا إلى أين ياسيدي الضابط ؟. ويأتيه الجواب
- ليس من حق أن تسال. وواجبي يمنعني من إن أجيبك .
- لقد قلت مرة انك من قرائي. أرجوك إلى أين ؟.
- قلت لك سنأخذ كل العدميين في العربات حتى ميدان ستايمنافسكي .
- رغم البرد ؟. رغم الثلوج ؟.
- هيا هيا . هيا اصعد يا بيتراشوفسكي ماذا يؤخركم أيها الجنود ؟.. ماذا يؤخركم ؟. انزلوا كل الديسمبريين الأشرار . أسرعوا ..أسرعوا . ويلتفت دستويفسكي إلى زميله بيتراشوفسكي ويسأله :
- إلى أين تظنهم سيأخذوننا يابيتر اشو فسكي ؟.
- قال المحقق أنهم ذاهبون بنا إلى ساحة ستايمنافسكي .
- الهي .. هذا مروع .
- ولماذا تراه مروعا ياعزيزي ديستويفسكي ؟.
- لقد شنقوا في ميدان ستايمنافسكي منذ أربعة أعوام , أكثر من ستين رجلا بتهمة التآمر على القيصر . إن هذا ميدان الإعدام .
- لا . لااصدق .إننا لم نرتكب شيئا . مجرد نقلته مخابرات القيصر إليه . آه ياالهي . هل قست قلوب حكامنا إلى حد الإعدام على مجرد الكلمة ؟.
- انك تبالغ يابيتراشوفسكي . لعلهم اقاموا المحكمة بالميدان ؟.
- سنعرف بعد قليل على أي حال .
***
وبلغوا الميدان
على جوانبه . تجمع كثير من الناس جاءوا يشهدون ما سيحدث لطائفة الديسمبريين الذين انزلوا من العربات مقيدة إقدامهم وأيديهم اوقفوهم صفا بعد صف . في كل صف ستة رجال . وبدا كبير ياوران القيصر يقرا الاحكام اسما بعد اسم .. الاعدام .
الاعدام , يعني اتلاف الحياة لسته عشرين مفكرا من خيرة المفكرين .صاح الضابط
- الصف الاول , يتجه يمينا ليواجه طابور الاعدام .. ستة رجال في الصف الاول .. قيدوهم الى العمد الخشبية . وصاح الجنود :
- هيا هيا تحركوا .. تحركوا الى هذا الخط .. تحركوا ايها الاوغاد .. تحركوا .
وتساءل احد المقيدين : اعدام ؟.. اعدام ؟. لا اصدق انهم سيعدموننا اننا تكلمنا في اساليب ترقية احوال المواطنين
ومرة اخرى يصيح الضابط في جنوده :
- جنود طابور الاعدام , استعدوا لاطلاق النار , ستنطلق بنادقكم عندما انطق بالرقم ثلاثة نحو هؤلاء الستة اول دفعة من المحكوم عليهم بالاعدام . استعدوا . واحد , اثنان . وهنا جاء يصيح :
- انتظروا . انتظروا . انني احمل عفوا من جلالة القيصر الى المحكوم عليهم . اعيدوا بنادقكم الى وضع عدم الاستعداد ايها الجنود .
وساله الضابط المكلف بالتنفيذ : ماذا يعني هذا ياسيدي ؟. ماذا لو كنا اطلقنا النار ؟.
- لقد استبدل صاحب الجلالة القيصر الاحكام رحمة بهؤلاء العصاة ..صارت احكاما بالنفي والسجن لمدد متفاوتة .
***
تمثيلية رخيصة من تاليف واخراج مخابرات القيصر لهدم كل معنويات المفكرين الذهبين الى المنفى في سيبيريا .
في تلك الليلة . كتب دستويفسكي رسالته الادبية الشهيرة الى اخيه ميشيل :
- لم تحطمني هذه المسرحية الفاشلة . ولم افقد شجاعتي لحظة واحدة . فالحياة اينما كانت هي الحياة وهي بداخلنا . سنكون في المنفى بين رجال مثلنا . وان يكون المرء رجلا بين الرجال ويظل هكذا ابدا مهما اختلفت الظروف فذلك هو المعنى الحقيقي للحياة .
***
في فجر نفس الليلة .
اسلم دستويفسكي وبقية الديسمبريين .. اسلم قدميه للاصفاد . سلاسل وكوم حديدية تزن عشرين رطلا . وما ان اصعدوه الى العربة التي ستحمله وزملاءه الى سيبيريا .. حتى فاجاته نوبة من نوبات الصرع التي تعاوده بين الوقت والاخر . ما ان راه احد الحرس حتى صاح ضاحكا :
- اهذا الحيوان هو الكاتب الذي تبجلونه ؟. انه اشبه بكلب مسعور . ستمزق اقدامه ومقليه نوبة الصرع هذه . انه يستحق ان يدفن بدلا عن ان نذهب به الى سيبيريا . لم يتمالك احد زملاء ديستوفسكي اعصابه . اندفع نحو الحارس صائحا :
- ابتعدوا . ابتدعوا عنه أيها الأوغاد. انه رغم جريمته في حق جلالة القيصر .. اعظم كتاب روسيا .أ.. اسعفونا بطبيب .. طبيب .. بسرعة .
***
ولم يات الطبيب
ولم يفق دستيوفسكي من نوبة الصرع . فحملوه مع بقية زملائه كانه متاع بال . وانطلق الموكب الحزين الى سيبيريا .
والقي به بعد رحلة طويلة , في السجن مدينة اونسك ليقضي في معتقلها اربع سنين في صحبة مئات من المحكوم عليهم بالاشغال الشاقة وجلهم من التتار .
ويعمل دستيوفسكي مع السجناء .لا يخلو الى نفسه ولا ينفرد ساعة . فلا يستطيع ان يقرا او ان يكتب الا اذا اصابه مرض وادخل المستشفى .
اربع سنوات من العذاب الرهيب , اثرت تاثيرا قويا في الكاتب الكبير بل .. بدلته تبديلا عميقا .
فبعد ان كان ملحدا عدميا, صار مسيحيا مؤمنا وفيلسوفا اخلاقيا ينصرف باهتمامه الى مشكلة الجريمة , والى الصراع بين الخير والشر . واطلق سراحه لا ليعود الى موسكو او سان بطرسبورغ .. بل ليبقى في مدينة قريبة من اونسك تحت المراقبة .
اقام في كوخ بائس يقيم فيه جندي مع ارملة جندي اخر . في هذا الكوخ كتب اروع اعماله . ولكنه حرم من نشرها بامر القيصر .
ويجاهد اخوه ميشيل في ان يحصل من القيصر على اذن بعودة الكاتب او السماح له بالنشر
- حصلنا لك على اذن بالعمل اذا شئت في دائرة مديرية اونسك .
ولكني لم احصل على أي موافقة بنشر قصصك اوبطبع كتبك . مهلا فلم اياس بعد .
***
ويكتب دستيوفسكي الى اخيه :
- ارسل الى مجلات .ارسل الى كتب المؤرخين الكلاسيكيين . التاريخ مدرسة الكاتب الحق . وارسل الي ايضا كتب الاقتصاديين الجدد . كذا كتب اباء الكنيسة . ارسل الي القران وكتاب انجل في العقل البشري . ان مستقبلي رهن بقراءة هذه الكتب كلها .اذا لم يسمح لي بالنشر بعد عام على الاقل .. قتلت نفسي .
وحصلوا له اخيرا في عام 1855 .. حصلوا على العفو العام على العودة الى موطنه والكتابة والنشر بشرط . فكان رد دستيوفسكي على هذه الشروط :
- اوافق على كل شروطكم . واذا اردتم .. فانا على استعداد لان ابدا كل صفحة من رواياتي بهذه الكلمة .. باسم القيصر الرحيم .
ولم يفهموا السخرية فيما قال
ومن حسن حظه انهم لم ينقلوا ما قال الى القيصر الذكي الرجعي .. نيقولا الاول .
وبدا العالم كله يقرا اروع ما كتب روائي من اعمال . ورغم ان قارئها يعيش في الاجواء الروسية وحدها .. فانها لاتزال المعبر القوي الصادق عن خفايا النفس البشرية في أي ارض عاشت . وكان يحدد موقفه بالنسبة للصبغة المحلية في اعماله قائلا :
- ان واجبنا ان نخلق بنا صورة عي لنا نحن مستندة من ارضنا , نابعة من روحنا , ومن تقاليدنا الشعبية .
وصار اشهر كاتب في روسيا كلها
وانهالت عليه القاب التشريف , خاصة ان مات نيقولا الاول وجاء بول الذي امل الاحرار ان يكون عهده سلام مع اصحاب الفكر
ولكن سنوات السجن والنفي , كانت قد تركت بصماتها على جسد الكاتب الكبير .
افترسته الامراض والعلل . والحت عليه نوبات الصرع وهو يكتب اعظم اعماله :
- ارجو الله ان لا اموت قبل ان انتهي من روايتي الكبيرة .. الاخوة كار امازوف .
***
في السادس والعشرين من يناير عام 1881 .
تلقى دعوة لحضور حفل تكريم اقامته له الاكاديمية الروسية . بعدها بساعة ... تدفق الدم من فمه وسقط في نوبة الصرع نهائية لم يفق منها قط .
وينطفي دستيوفسكي بعدها بيومين .. في العاشرة من مساء الثامن والعشرين من يناير عام 1881 للميلاد
#سلام_كوبع_العتيبي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟