حين بدأت المسيرة الإصلاحية قبل عام ونصف عام تقريبا، كانت أيضا بمثابة دخول تاريخ جديد من الانفتاح السياسي وتلاقي الإرادتين العليا والشعبية، وكلما اقتربت هاتان الإرادتان من بعضهما لما فيه المصلحة الوطنية والشعبية ضاقت المسافات بين الوطن ونهضته وتنميته الشاملة، لأن الإرادة الشعبية تتطلع بشكل طبيعي إلى ما يرفع من مستواها في الجانب الاقتصادي والمعيشي والمهني والتعليمي، وما يرفع من مستوى الوطن في كل جوانبه أي أن أساس الإصلاحات كانت موجهة إلى الارتقاء بالوطن ليقف على مستوى الدول المتطورة والارتقاء بالمواطن ليحصل على جميع حقوقه بدون لبس أو انتقاص، وفي هذا يتساوى جميع المواطنين، حيث "المواطنية" هي الصفة الشرعية الوحيدة لاكتساب الحقوق بعد أداء الواجبات بعيدا عن كل مقاييس التفرقة أو الطائفية أيا كان شكلها أو مواصفاتها.
وما تحقق خلال الفترة الماضية وما اكتسبته البحرين من سمعة طيبة عربيا ودوليا يدعوان الجميع قيادة وشعبا إلى المحافظة على المسيرة والاستمرار فيها بعيدا عن أشكال الوصاية والتربص التي أصاب نماذجها الذعر والخوف على المصالح الخاصة التي كانت تتحقق وتتعيش على ممارسات الحقبة السابقة. إنهم نموذج المناهضين في الجوهر للتغييرات الإصلاحية في البلاد، والمنافقين في المظهر بتأكيد شكلي ظاهري لتلك الإصلاحات، وقد انقلبوا بين ليلة وضحاها من ديكتاتوريين إلى ديمقراطيين، وركبوا الموجة الجديدة بأسرع مما يتصوره عقل أو يحتمله ضمير أو وعي! لقد بات هؤلاء يكظمون في أنفسهم ويتبرمون بشكل صامت لتعرض مصالحهم أو مكتسباتهم السابقة للتقلص أو الانتهاء، ويتمنون لو تحدث مشكلة أو مصيبة، لتعود الأمور إلى سابق حالها حتى يعودوا مرة أخرى إلى أنماط حياتهم السابقة في إطار "ولاء مصلحي" كان يتحقق لهم من ورائه مكاسب شخصية عديدة يعرفونها هم أكثر من غيرهم! وإذا ما أتيحت أية فرصة فإنهم أول النافخين في أبواب التأجيج والإثارة بين القيادة وعامة الناس وممثليهم الوطنيين. إنهم في ضمائرهم التي تتضح فيما يكتبون أو يتحدثون، يكرهون مفهوم المواطنة ويؤسسون لمفهوم تقسيم المواطنين وأحد تلك التقسيمات الموالون والمعارضون!
هنا تصبح المساواة بين المواطنين على أساس الاعتبارات الإصلاحية الجديدة ليست في صالحهم وتصبح مسألة إعادة الاعتبار لمن يسمونهم بالمعارضين الذين أعادت الإصلاحات السياسية الاعتبار المعنوي لهم في ظل الديمقراطية القائمة على الدستور والميثاق التي لا تعتبر الاختلاف الفكري أو السياسي "جريمة" تتم المعاقبة عليها مثلما كان أيام قانون أمن الدولة السابق، هذا يعتبر إخلالا بمفهومهم "المصلحي" الذي كان قائما على أساس الولاء بثمن أو من أجل السعي إلى الثمن! هؤلاء لا يفهمون أن الاختلافات الفكرية والسياسية حتى لو جاءت بين القيادة وممثلي الشعب هي من أجل مصلحة الوطن، هم يعرفون ويفهمون فقط أنهم يجب أن يكونوا مع السلطة في الصواب وفي الخطأ لأن بإمكان هذه السلطة أن تحقق لهم مآربهم وتطلعاتهم الشخصية، وبالتالي أي تعديلات أو إصلاحات تضر بتلك المصالح الشخصية يجب أن يحاربوها في الخفاء، وان أمكن بطرق وأساليب ملتوية ان يحاربوها في العلن، وان يدقوا اسفين الشك بين القيادة والشعب ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا! هؤلاء الذين لونوا أنفسهم في الماضي ويركبون موجة الحاضر يريدون اليوم ابتزاز الجميع، القيادة والمعارضة بل المزايدة على الوطنية والولاء باعتبارهم نموذجا لها أو نموذجها الأصلح! بل تصل بهم "المواصيل" إلى التباكي (بشكل تلميحي غير صريح) على قانون أمن الدولة وعلى أيام عزهم السابق الذي كان يتصدر الواجهة الرسمية أو ما وراء الكواليس لقمع المواطنين أمنيا أو إداريا أو خدماتيا أو إعلاميا أو صحفيا.
إن المتربصين بالمسيرة الإصلاحية الذين يقبعون اليوم خلف الستار أو في الظلال أو في الواجهة في جهات وأماكن مختلفة سرعان ما يطلون برؤوسهم بين الفينة والأخرى، وحين تأتي الفرصة الملائمة للتعليق أو الحديث عما يحدث من اختلافات في وجهات النظر بين القيادة والشعب، فإنهم يسارعون إلى إضرام المزيد من النار بروح من يتصيد في البرك الآسنة، أو بروحية انتهازية ينطبق عليها المثل القائل "حق يراد به باطل" والمتابع الذي يعتقدونه غبيا قادر دائما على قراءة ما بين السطور سواء في الكتابات أو في الحوارات أو في الأحاديث،
في الوقت الذي يتصور هؤلاء أنهم يمارسون "أدوارهم الانتهازية" بموضوعية مدعاة، والكلمات كثيرا ما تفوح منها رائحة محاولات إثارة الشكوك بين القيادة والناس أو ممثلي الشعب، بل إن المزايدة تبلغ مدى أكبر حين يلبسون لباس الناصح للقيادة التي كأنها لا تعرف ما يحدث في واقع البلد، فيأتي هؤلاء لتحريضها على ما ارتكبت يداها من خطأ في نظرهم حين بادرت إلى الإصلاح والانفتاح السياسي لمواطنين في نظرهم أيضا لا يستحقون لا الانفتاح ولا إعادة الاعتبار ولا التعامل معهم على أساس المواطنية! بالطبع هم لا يقولون ذلك مباشرة في العلن، وإنما كلما حانت الفرصة لمحوا إليها تلميحا، وأحيانا تلميحا واضحا أكثر مباشرة من المباشرة نفسها، واللبيب بالإشارة يفهم، اما في الخفاء فيقال ما هو أكثر! لكأن المسيرة الإصلاحية خلت اليوم من الشوائب أو التعطيل من موظفي الجهات التنفيذية فلم يبق لها سوى إطلالة هؤلاء المنتفعين لكي يضمنوا تلكؤ هذه المسيرة لأسباب أخرى، وكأنه لا يكفي أيضا ما يحدث في الجهة الشعبية من تناحر القوى الوطنية لخلل في وعيها أو في ارادتها، ولا يكفي ما يطفح على السطح من اختلال التوازن بين القوى الوطنية، والتحرك على أساس الطائفية الدينية أو السياسية أو القبلية أو العشائرية، حتى يأتي هؤلاء ليزيدوا الطين بلة بتوسعة المسافة بين هؤلاء معا والقيادة السياسية وعلى أساس أفكار غريبة أو من نوع جديد!
وفي الوقت الذي تتجه فيه الأنظار العربية والعالمية إلى تجربة البحرين وكيفية اجتيازها الامتحان القادم في الانتخابات البرلمانية والتأسيس للإرادة الشعبية باعتبار الشعب مصدر كل السلطات الذي هو عنوان الدستور والميثاق والحياة الديمقراطية القادمة في ظل البرلمان، نجد هناك من يستمر في زرع الشكوك حول المواطن باسم الوطن وحول الوطنية باسم الوطنية وحول الولاء باسم الولاء الخ. هؤلاء المتربصون في دواخلهم بالمسيرة الإصلاحية لا يريدون أن يصدقوا أن الزمن قد تغير، وان الحكمة السياسية هي التي تعيد الروح للدستور، وللمواطنية قيمتها ومعناها، وان القيادة حين بادرت بالإصلاحات السياسية والانفتاح السياسي وبإعادة الحياة الديمقراطية مدعوة من كل المخلصين إلى الاستمرار فيها وتعميقها مهما بدت المآخذ على بعض العناوين الإصلاحية اليوم واضحة. هؤلاء لا يريدون أن يصدقوا أن المواطنة الحقة هي السواسية أمام القانون والدستور والميثاق في الحقوق السياسية والمدنية بغض النظر عن الاختلاف الفكري أو السياسي أو العقدي أو المعتقدي أو من كان مواليا للحقبة السابقة ومن لم يكن!
هؤلاء غير قادرين بعد على استيعاب الشكل الجديد للمعادلة السياسية بين القيادة والمعارضة أيا كانت اتجاهاتها، غير قادرين على فهم أن الولاء والوطنية هما للوطن ولمن يخدم هذا الوطن ويسعى إلى نهضته الحقيقية دون انتظار مقابل، إلا ما يستحقه المواطن بشكل طبيعي وقانوني من حصوله على حقوقه المكفولة في الدستور والميثاق بعيدا عن مزايدة المزايدين أو نصائح المنافقين للسلطة، وبعيدا تحديدا عن طلب ذلك المقابل "الابتزازي" لمفهوم الولاء والوطنية على حساب الغالبية العظمى. متى يفهم هؤلاء أن الجميع مواطنون وبنفس الدرجة ولهم جميعا حق الاعتبار المعنوي والوطني والفكري (رغم اختلافهم) بدون تحريض ضدهم؟! متى يخرج هؤلاء من كهفهم المظلم إلى اطلالة النور الجديد؟