|
حين تصنع الشعوب التاريخ وتُسقط الديكتاتورية
محمود عبد الرحيم
الحوار المتمدن-العدد: 3247 - 2011 / 1 / 15 - 15:04
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
ما جرى في تونس حدث تاريخي بكل معنى الكلمة، و يوم الرابع عشر من يناير سيكون، بحق، علامة فارقة، ليس في تاريخ الشعب التونسي وحده، وأنما في تاريخ الشعوب العربية كلها، التى حتما ستستعيد الثقة من الآن في نفسها وقدرتها على التغيير، ذلك الحلم الذي كنا نظن أنه بعيد المنال، تحت وطأة اليد الباطشة لحكام فاسدين ومفسدين، ومعارضة واهنة أو متواطئة تتحرك بحسابات أفقدتها قيمتها وجداوها ومصداقيتها. وما حدث يمكن توصيفه، بالفعل، ك"ثورة شعبية" .. ثورة على الفساد والطغيان والافقار وكبت الحريات، وتكريس التبعية وإغلاق أبواب الأمل أمام الملايين، تلك السمات أو بالأحرى الجرائم التى تتشارك فيها كل الأنظمة العربية بلا إستثناء، التى شاخت على كراسي الحكم الفاقد للشرعية الشعبية. وربما أروع ما في هذه الملحمة الجديرة بالتقدير والفخر أنها جاءت بشكل غير متوقع، وبوتيرة متسارعة، لتؤكد أن امكانية التغيير قائمة أكثر مما نتصور، وانتصار ارادة الجماهير، وهزيمة الديكتاتورية ليست بالمستحيل، وإذا ما انطلق مارد الغضب الشعبي، فلا يمكن للقبضة الحديدية، ولا كل صنوف الترويع والارهاب ولا حتى الوعود الكاذبة، أن يعيدوه للقمم مرة أخرى. ورغم أن الفرح التونسي لم يكتمل بعد، وثمة مخاوف متصاعدة بين النخبة المثقفة لمستها في حديثي مع بعضهم أثناء تبادل التهاني بهروب الديكتاتور، بشأن تكرار سيناريو انتقال السلطة في العام 1987، ليستمر النظام كما هو، خاصة مع إعلان الوزير الأول محمد الغنوشي تسلم السلطة من بن على مؤقتا، والتلميح أن بن على مازال الرئيس الشرعي للبلاد وغائب لمدة مؤقتة، إلا أنه لا يمكن التقليل من حجم ما جرى، حيث أن عقارب الساعة لن تعود للوراء بأي حال من الأحوال، وما بعد الرابع عشر من يناير لن يكون كما كان قبله، مهما حصلت محاولات التفافية وصفقات برعاية فرنسية أو عربية أو بين أركان الحكم في تونس، لإمتصاص الغضب الشعبي وإهدار الثورة، وإفشال طموحاتها في تغيير شامل يشمل كل البنى السياسية والاقتصادية والثقافية، وكل الوجوه التى كانت جزءا من هذا النظام الفاسد القمعي. وربما من أبرز دروس هذه التجربة المدهشة التى يجب أن يعيها الحكام والشعوب العربية معا.. أن رد الفعل الشعبي لا يمكن التوقع بأبعاده، فإشتعال النيران جاء من مستصغر الشرر، فلم يكن أحد يتخيل أن حرق شاب تونسي لنفسه احتجاجا على وضعه الاقتصادي السئ، وعلى المعاملة بإزدراء وتعسف من قبل مسئولين صغار، ستفجر كل هذا الغضب العارم. الدرس الثاني هو أن امتلاك الارادة والاستعداد للتضحية هو الذي يصنع التغيير، وليست الخطب والشعارات وتسجيل المواقف التليفزيونية ثم المضي في سلام، وكأن مهمة التغيير نزهة مجانية بلا ثمن، مثلما يحدث للأسف في مصر التى تم فيها إهدار مئات الفرص، فلولا عشرات الضحايا الذين سقطوا برصاص أمن الديكتاتور بن على، ولولا أن عشرات وربما مئات والاف الشباب كانوا على استعداد لدفع ثمن الحرية والكرامة من أرواحهم ودمائهم، ما تمت كتابة هذه اللحظة التاريخية. الدرس الثالث هي الصدقية في النضال، ووضوح الرؤية والهدف، وليس المتاجرة به أو المساومة الانتهازية والمناورة الرخيصة التى توصل إلى إدامة الحكم الفاسد واعطائه مزيد من الاوكسجين ليطيل عمره في سلطة مفتقدة للشرعية الشعبية، وربما تجسدت هذه الروح بقوة في التجربة التونسية كون الاحتجاجات الشعبية تزعمها الشباب وليس أصحاب ياقات بيضاء ومصالح وحسابات ضيقة، ما جعلها تتحرك بشكل عفوى، بلور سريعا وعي ثوريا ناضجا مستمدا من الحركة على الأرض، يربط المستقبل باللحظة الراهنة، و يمزج الخاص بالعام والمطلب الاقتصادي بالسياسي، والخبز بالحرية، الأمرالذي جعل بن على يفشل في احتواء الشارع، وتوجيه ضربة قاصمة للمعارضين كما أعتاد، رغم أنه لجأ إلى كل حيل البقاء من الترهيب الذي وصل إلى إطلاق الرصاص الحى على المحتجين، ومحاولة تشويه هذه الثورة الشعبية، بوصف ابنائها بأنهم مخربون ومجرمون، وأن ما يحدث وراءه أياد خارجية، أو إطلاق أفراد ملثمين للقيام بهذه الأدوار المشبوهة لترويع الشعب، وفي نفس الوقت سعى للترغيب والإحتواء بالحديث عن إطلاق الحريات العامة وحرية الإعلام، وإقالة وزير الداخلية وحل الحكومة وتخفيض الأسعار، لكنها حيل لم تنطو على شباب واع ومثقف، وشعب وصل إلى قناعة أن من يفسد ليس بمقدوره أن يصلح، ومن ثم واصل احتجاجه، ولم يجعل جذوة الثورة تخبو، بل تزداد اشتعالا يوما تلو يوم، بلا كلل ولا ملل. الدرس الرابع هو كسر حاجز الخوف، فهذه هي الورقة التى يراهن بها الحكام الفاسدين لقمع الشعوب، لكن إذا تم إحراقها، ولم يعد للخوف مكان في الصدور، فسيكون الخوف من نصيب الجلاد وليس الضحية، وهو المعنى الذي لخصه الشاعر الفلسطيني محمود درويش ببراعة بقوله "حاصر حصارك"، ونتيجته مبهرة بلا شك كما رأينا في حالة شاه إيران الذي فر هاربا، وهو السيناريو الذي كرره الديكتاتور بن على، عندما وجد أن عصا القمع والترويع فقدت مفعولها، وأنه لا صوت يعلو فوق الشعب، وحتى من كانوا يدعموه في واشنطن وباريس تخلو عنه بعد أن صار ورقة محروقة وأنتهى دوره الوظيفي كخادم للامبريالية الغربية، واكتفوا بتسهيل هروبه هروب الجبناء المهزومين، بل وإمتداح الجماهير، الذين في السابق سكتوا سنين على قمعهم وانتهاك آدميتهم، فيما كانوا يشيدون بديمقراطية الديكتاتور. أنه فجر جديد نصحو عليه، فليت الرسالة تصل للحكام العرب، علهم يفيقوا من غيهم ويسمعوا صوت الشعوب التى اشتعلت صدورها بالغضب وضاقت بالقهر والاستغلال، و علهم يلحقوا بالقطار الأخير قبل أن يصيبهم ذات المصير الحتمي للديكتاتوريات، وليت الرسالة تصل أولا للجماهير العربية من المحيط للخليج، ليثبتوا لأنفسهم قبل غيرهم أنهم يستحقوا الحياة، مثل أحفاد أبو القاسم الشابي الذي ننحي لهم ولشهدائهم إجلالا، لأنهم برهنوا أنه "إذا الشعب يوما أراد الحياة، فلابد أن يستجيب القدر." *كاتب صحفي مصري Email:[email protected]
#محمود_عبد_الرحيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فقه الاولويات الغائب عن النظام العربي
-
حين تغيب الرؤية الناضجة ويحضر الارتباك والشخصنة
-
فيلما -ابن بابل- و-المنطقة الخضراء-:رسالة مؤدلجة وابتزاز عاط
...
-
القضية الفلسطينية بين أعداء السلام وأعداء أنفسهم
-
عثرات واستعراض واختراق اسرائيلي في مهرجان القاهرة السينمائي
-
حين يدافع الآخر عن قضايانا ونقف ضدها؟!
-
قريب منك:حين نفقد البصيرة ونستردها بالحب
-
-عندما نرحل-:صراع الهوية الملطخ بالدم
-
عباس والتلاعب بالاستحقاقات الوطنية
-
-مرحبا-:حلم المهاجر الغارق في البحر الأوروبي
-
رؤية الحقيقة بدون النظارة الأمريكية
-
-هيروشيما- توثيق سينمائي للجريمة وتحاشي للمجرم
-
السلطة بين المراوغة والشاميرية
-
ابناء بينوشيه:المناضلون ودفع الثمن مرتين
-
قمة سرت التهريجية واهدار المصالح العربية
-
حين يكون للاستغلال ورثة وللنضال حصاد
-
الورقة الايرانية والورقة الامريكية والرهان العربي
-
عفوا عمرو موسى.. الموقف الرصين لا يقتضي شراء الوهم
-
دراما رمضان المصرية :تلميع وتنميط وتشويه
-
مسلسلات رمضان المصرية:استنساخ يكشف عن افلاس درامي
المزيد.....
-
ست ولايات أمريكية تعلن حالة الطوارئ بسبب العاصفة الثلجية
-
زيلينسكي يعرب عن تفاؤله بدور ترامب في إنهاء الحرب الأوكرانية
...
-
ارتفاع محاولات استهداف جنود الاحتلال قانونيا بالخارج
-
أردوغان يتوعد -العمال الكردستاني- بقبضة تركيا -الحديدية-
-
إيران: لم يتم تفتيش دبلوماسيينا في مطار رفيق الحريري ببيروت
...
-
محاولة توقيف جديدة لرئيس كوريا الجنوبية.. طلب للشرطة بالتدخل
...
-
إسرائيل تريد البقاء في جنوب لبنان.. وتخوف من رد فعل بايدن
-
ماذا نتعلم من بلاد الليل القطبي بشأن النوم؟
-
100 قتيل على الأقل في اشتباكات بين الفصائل الموالية لتركيا و
...
-
تفجيرات قرب محطة زاباروجيا وزيلينسكي يعول على ترامب لإنهاء ا
...
المزيد.....
-
عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية
/ مصطفى بن صالح
-
بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها
/ وديع السرغيني
-
غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب
/ المناضل-ة
-
دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية
/ احمد المغربي
-
الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا
...
/ كاظم حبيب
-
ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1)
/ حمه الهمامي
-
برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب
/ النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
-
المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة
/ سعاد الولي
-
حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب
/ عبدالله الحريف
-
قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس
/ حمة الهمامي
المزيد.....
|