أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - محمد علي الشبيبي - 2- الدرب الطويل/ 16















المزيد.....

2- الدرب الطويل/ 16


محمد علي الشبيبي

الحوار المتمدن-العدد: 3246 - 2011 / 1 / 14 - 19:38
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


من (ذكريات معلم) للمربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913-1996)

الليلة الأولى بعد نهار طيب
حين ودعت الموقف في سراي كربلاء إلى بغداد، بصحبة شرطي حسب الأصول، أخرجني ذلك الشرطي بدون كلبجة "قيد" فصاح به شرطي كان يقف بدور الحارس على المدخل بصوت شرس "ليش ما خليت بيده كلبجه؟ مأمن؟ ها، ذوله، لا ترحمهم!".
هذا الفضولي كغيره من صنفه، لا يملك من السلطة إلا هذا التنمر، الذي لا يدل إلا على الروح الكلبية التي نماها فيهم المؤسس الأول "الإنكليز". في أيام الاحتلال البريطاني لعراقنا الحبيب، أسسوا سلك شرطة يدعونهم –شبانه- وقد تقمص هؤلاء نفس سلوك ووحشية وشراسة الإنكليز في معاملة الناس.
ببغداد توجه بي الشرطي إلى مركز شرطة السراي. بعد أن استلمتني إدارته، جرني شرطي آخر إلى التوقيف، تقدم إليّ شرطي مبهوتاً، والدهشة تصرخ بوجهه، أقبل عليّ يصافحني ويقبلني، قلت "من أنت، أرجو أن تذكرني، أنا ناسٍ!"
ردّ علي أنا ناصر ... أنا من ذاق إحسانك، لا حاجة لأسمي، دعني أقوم بالواجب نحوك. لن أنسى طيبك معي ... ويؤسفني إني لم أتذكر لحد الآن من هذا الناصر الطيب؟ ربما كان من طلابي القرويين، فقد خدمت في قرى كثيرة وكنت أندمج مع ذوي الطلاب بصحبة فأزورهم، وأسمر معهم في بيوتهم الخاصة.
حين دخلت إلى الموقف، سلمت على نزلائه، بعد ربع ساعة عاد ناصر يحمل صينية صغيرة فيها طعام –كباب وخبز-، اعتذرت منه وشكرته، وعاد ثانية مع ثلاث بطانيات فصار لدي أربعة.
حياني بعض الحاضرين، ورددت التحية. وحين توجهت إلى برميل في ركن هذه الزنزانة نهض أحدهم يتمشى، كان في بداية الكهولة، أخذ يتمشى جيئة وذهاباً. وكلما أقترب مني يسأل "اعتقدت إنك أخو حسين ومحمد علي، إنك شبيه بهما تماماً!".
حقاً انه ذكي، لم يسبق لي أن رأيته، ولكني كنت أسمع عنه. قال "انه صادق الفلاحي". أعرف انه يعمل في إحدى النقابات التي تتبع قيادة داود الصايغ. أخي محمد علي يعرفه جيداً.
وأستمر الفلاحي "المجاور للشباك، الضابط العسكري بهاء الدين ، صاحبه عريف في الجيش، كلاهما كرديان من جماعة المللا. وأشار إلى آخرين، عسكريان من بلاد السوفيت، كانا في البصرة من الجيش الذي يسلم السلاح الأمريكي إلى الإتحاد السوفيتي. الباقون أحذرهم إنهم سفلة ومجهولون".
أطلت وقوفي بحجة التبول، لأستوعب هذه الملاحظات، فهي نافعة في مثل هذه الزنزانة. وحين عدت إلى المكان الذي احتجزته، قدم لي الضابط "بهاء الدين" بعض المجلات، منها "كل شيء والدنيا" وبعد الاستفسار عن راحتي، قال "لا تأكل سيأتي غداؤنا ونأكل سوية". وفعلاً وصل طعامه، وطعام الفلاحي، فأكلنا سوية. وقدموا منه إلى العسكريين السوفيتيين، كانا كبيرا السن، أحدهما مريض. أحد الموقوفين كان مساعد سائق، في سن شاب مراهق، أحدى عينيه عوراء. فاجأنا يتذمر "شلون هاي عيشة ويه ها الملاعين الوالدين كلهم قمل!". مشيراً بذلك إلى السوفيتيين.
صرخ به الضابط تأدب، هذا القمل صار فيهم من بلادك، وليس من بلادهم، ولو كنت موقوفاً أو سجيناً عندهم، لما اختلفت حياتك عنها خارج السجن. إنهم غرباء فتأدب معهم. لكن هذا كان صلفاً. فهدده الضابط، أن يخرجه من هنا إلى موقف آخر.
فتحت المجلة، رحت أقلب صفحاتها. صدفة غريبة أن أجد فيها هذا العنوان "تيموشنكو القائد السوفيتي من أصل عربي مسلم". وفي الكلمة تفصيل عن أسرته كيف ومتى أقامت هناك.
من نزلاء الموقف موقوف تركي، أعور أيضاً، على رأسه طربوش أحمر "فينة" كان يتحدث مع السوفيتيين بالفارسية. قدمت المجلة مفتوحة على الصفحة التي فيها صورة تيموشنكو. وأشرت إلى التركي أن يترجم لي ما يقولان. أخذها أحدهما وقدمها لصاحبه المريض، وهو ينبهه بلهجة تنم عن فرح غامر وابتهاج، ويقول له "دَ داش، تيموشنكو!؟" وأبرزها أمامه. قال التركي، انه ينبهه إلى صورة تيموشنكو. ثم تطوع التركي ليقص عليّ حكاية توقيفهم.
- كانا قد أجيزا ليتوجها لزيارة العتبات المقدسة، الكاظمية، كربلاء والنجف. فالقي عليهما القبض، بتهمة إنهما يتجولان ليتصلا بالفلاحين، مع العلم إنهما لا يتكلمان العربية ومن سكنة باكو السوفيتية.
حين كنا نتناول الطعام جاء الطعام المفروض من المركز. انه من التمر الرديئ والصمون الأسود المتيبس. مما دعى الضابط إن ينبه الأعور ثانية، فقال:
- أتقبل أنت أن تعطى في حال مرضك تمر وصمون؟ هذه هي معاملة حكومتك لغريب يقع في أسرها. كم حاولوا أن تبلغ سفارتهم، ولا أحد يتطوع فيعلمهم بأمر هذين؟.
الأعور لم يعد إلى الكلام، لعله أدرك الخطأ.
في الساعة الثانية عشر ليلاً فتح شرطي باب الزنزانة، وناداني "المعاون يريدك". وحين دخلت، وجدت في غرفة المعاون شخصاً بديناً بالزي الاعتيادي، على رأسه صدارة وطنية. سلمت، فاستقبلني بوجه باش، وأشار المعاون إليه: أن استلم.
قال الرجل، تفضل! وسرت مع الرجل جنباً إلى جنب دون أن يضع في يدي "الكلبجة" في التحقيقات الجنائية، أدخلني في غرفة فيها رجل أقرب إلى الشباب منه الكهولة، أنيق المظهر، فسلمت. وأشار إلى كرسي فجلست، وتوجه إليّ "أهلاً علي، شلونك، أنشاء الله مرتاح! أنا المفوض محمد علي حسون!"
- انشاء الله. وددت لو ضحكت من هذا السؤال وجوابي. يبدو وكأننا متعارفان منذ القدم. وبلطف دخل في الحديث معي. قال "أرجو أن لا تنزعج من بضع أسئلة، ربما تكون في صالحك!".
أجبت "لابد من الإجابة ولا مجال للانزعاج". وراح يسأل، الاسم الثلاثي واللقب، المسكن، العمل، الأب، الأخوة وعمل كل واحد منهم، هل لي ميول واتجاهات سياسية، ارتباط بجمعية أو حزب. وفي الساعة الثانية غادر الغرفة، بعد أن قال، لحظة سأعود. وحين عاد إلى حيث كان جالساً، جاء بعده شخص يحمل صينية شاي. وشربت، وهو يحاور دون أن يسجل من الحديث شيئاً، وكأنه حديث ودي. ونهض ثانية وعاد فأشار أن أتبعه.
دخلنا غرفة واسعة فيها اثنان، أحدهما "عباس الديك" بطل المصارعة المعروف، أما الثاني فكان ضخم الجثة، ذا رقبة غليظة، كان لحمها ذا طيات، على عينيه عوينات من نوع "كعب بطل" كما يعبر العامة. نهض هذا وكأنه حيوان تهيأ لاستقبال فريسته. قال بانفعال:
- ولك وين كنت؟ وقبل أن أجيب، خرج عن هدوئه وراح يلعن ويشتم، ولم يتحرج أن يضمن شتائمه أقذر الكلمات والفشر، ولم يستثني أحداً من رجال الأسرة، ممن هو أبعد أن يكون عن كل تهمة، اللهم إلا إنهم ليسوا من جماعة صاحب الفخامة، وتطورت شتائمه، وكانت شتائم من نوع الكفر والاحتجاج على الله، وقذف بوجهي آخر تهديد بذيئ "الليلة أنـ... ربك؟!" وكرر ولك وين، بيا سرداب بيا بيت، كنت مختفي؟
والتفت إلى المفوض محمد علي، أخذه، ذبّ الليلة بالطامورة، وباكر أراوي ربّه بعيونه.
وعدت للغرفة مع محمد علي. بعد أن استرجعت أنفاسي، جاء الشرطي يطلب أحضاري إليه ثانية، وذهبت بصحبة المفوض محمد علي. هذه المرة لم يكتف بالسباب والشتائم، بل أنهال عليّ بالركلات والكفخات أيضاً. أترى أيصح أن أتهم "الديك" الذي لازم مكانه في كلا المواجهتين بالصمت؟ يبدو انه من صنفهم، وإلا ما معنى وجوده بهذا المكان المشؤوم؟ وفي هذا الوقت؟ وعدت إلى حيث كنت، وكأن رأسي قد تورم، وفاجأني صداع شديد. بعد استراحة وجيزة، قلت بلهجة متعب، تقطعت أنفاسه "أرجو أن تعود إليه أنت، فقد بدا لي من حديثه، أن في الأمر توهم، واشتباه!".
- كيف
قلت "لقد كرر علي قوله، وين كنت!؟ كنت معلماً، وفصلت، وأخذت أراجع الوزارة من أجل أن أحصل على التوقيفات التقاعدية، وستأجرت حانوتاً، بقيت أباشر العمل فيه لإعاشة عائلتي، استغرقت مراجعاتي لهذا ما يقارب الثلاثة شهور، وحتى استدعائي وجلبي إليكم مخفوراً منذ يوم 1/3/1947، فمتى اعتبرت متخفياً؟ أحين كنت معلماً، أمارس التعليم في مدارس رسمية، أم حين فصلت، أم حين راجعت الوزارة، أم عندما فتحت حانوتاً، ويعرف كل الناس هذا عني؟!".
ونهض المفوض، وعاد بعد دقائق يستدعيني لمواجهته، كان أسمه "نايل عيسى" وجدته قد غير لهجته، فقال بصوت اعتيادي "يابه العفو، آذيناك، صحيح مو أنت. أنت شسمك؟"
فأجبته: علي. ردّ عليّ، هذا هو السبب، تشابه الأسمين. والتفت إلى المفوض "رجعوه إلى الموقف، وبكره نطلب أطلاق سراحه!".
هكذا إذن. لقد فهمت الآن من يقصدون، ولكن ألم يتحروا دار أبي بسببه عدة مرات؟ فما معنى هذا إذن؟ وأعادني نفس الشرطي الذي جلبني. كان ثرثاراً، أو أن هذا المطلوب منه أيضاً. كان ينصحني "انك رجل تبدو عاقلاً ومحترماً، لهذا كان الأحسن أن لا تحاول المغالطة، قول، أعترف، وأنطي التوبة، ومن تاب، تاب الله عليه ... تعرف لو أنت تقول الحقيقة شلون أتريح نفسك".
وجدت الموقوفين جميعاً يغطون في نوم عميق، وحين فتح الشرطي باب الزنزانة أحدثت صوتاً فأستيقظ ذوو الشعور منهم، وأقبلوا عليّ يهونون علي الخطب، لا بأس، ونرجو أن تكون اجتزت المحنة دون خذلان. قال أحدهم: خذ راحتك.
انطرحت على فراشي، وسرعان ما نمت كمن عبّ من الخمرة أكثر مما يحتمل. وفي الصباح عند الفطور أنبأتهم بموقف "نايل عيسى" أولا وأخيراً. وبدا دوام الدوائر، فاستدعيت إلى دار التحقيقات. هذه المرة إلى غرفة معاون آخر هو "عبد الرزاق عبد الغفور". هذا كان أسمر بشرة الوجه، رشيق القوام، في عينيه انحراف في حول بسيط يكاد لا يبين. أنيق المظهر مثل صاحبه "الحسون".
حين أدخلت الغرفة لم يكن حاضراً، لذا أغلقها الشرطي علي. وحين جاء هو بدا متجهماً، وتوجه إلي "أسمع علي. أنا أعرف أنك لست أنت المقصود. المقصود هو أخوك محمد علي. ولهذا سوف لن أطلق سراحك حتى تتعهد بالبحث عنه أو تدلنا عليه، فأنت تعرف طبعاً أين هو الآن؟!".
توقفت عن الإجابة قليلاً، خفت أن يكون كزميله نايل، ولا أدري لماذا وكيف أنطلق لساني، وبشكل نقاش، حيث بدأت بقولي "أنت بالطبع مسلم، والآية الكريمة تقول -ولا تزر وازرة وزر أخرى- هب أن لأخي ذنب، فما شأني أنا؟ أنا رجل متزوج، لي عدد من الأطفال، وأنا أدير حانوتاً بسيطاً لأعاشتهم. ولا أعلم عن أخي أين يقيم ولماذا تبحثون عنه؟".
ردّ علي "أنا مستعد لتزويدك بما تحتاج من مال لتبحث عنه، وتخبرنا لنتولى القبض عليه!"
- أنا كأخ لا يمكن بحال من الأحوال أن أقوم بهذا، ولو إني أعلم عن محل إقامته لأخذت والدتنا لرؤيته فهي تكاد تموت جزعاً وإشفاقا عليه. هل تريدني أن أجوب البلاد وأنا لا أعرف عنه شيئاً؟
- أنا خارج. سأغيب مقدار ساعة، عليك أن تنهي هذه الأعذار. وعند عودتي إذا لم تكشف عن محل وجوده فسوف لن أطلق سراحك، وتعرف ماذا يحصل لك؟!
وعاد بعد ساعة بالضبط. يبدو عليه الأسف، وقال "أنا آسف إن الحاكم قد أفرج عنك، وأشار إلى الشرطي، دعه يخرج". قلت: لا. أرجو أن يذهب معي إلى مركز السراي، لأتسلم حاجاتي. ولكي لا يعيدوني إلى الموقف. أشار الشرطي بالموافقة. أما هو فغادر الغرفة بصمت.
عدت إلى أهلي، ومارست بعد يوم عملي في الحانوت، مرّ أحد معارفي، وهنأني على الخلاص، وقال "أنت تعرف جيران حانوتك، وغطرستهم، فليس غريباً أن تتعرض لوشايتهم. أن جنجون –جيم فارسية- بمثابة –قواد- لأبن السيد المحترم، لهذا ثأر لصاحبه حين سببت له الحجز لأنه رمى بباب حانوتك –الطرقة-، ولو كان أمر توقيفه بيد غير الحاكم ياسين لهان الأمر. ولكن ياسين الذي لم يعرف أن عرف وجهاء البلد حاكماً قبله، لا يعترف بمقامهم. لذا أشعر أبنه –ح- وجنجون عزيز عليه، وقد دبرا أمر ابلاغ مديرية التحقيقات إن محمد علي المتهم الهارب، يعيش في حانوت مجاور لبيتنا؟!". وختم كلامه، لا تتحدث عني بهذا. ومضى لسبيله. هذا الواشي صاحب جنجون بحكم مركزهم في سدانة الروضة الحيدرية ابلغ عني التحقيقات مموها عليهم وهو يعلم إن الاسم الذي قدمه لهم هو أسم أخي محمد علي، ولكن دلهم على حانوتي. والمختفي هو أخي ولست أنا!؟.
أجل أن هؤلاء لا يتركون سفالة لا يرتكبونها إلى حد الجريمة. آباؤهم يعلمون كل شيء عنهم، ولعلهم مثلهم، ولكنهم يبدون وكأنهم الصلحاء. ثم لا يتورعون، ولا يصدهم دين ولا ضمير، عن إيقاع من يكرهون بين شدقي الموت.

أتق شرَّ من أحسنت إليه
بمَ أفسر ما أشاهد من أحلام مخيفة، وهواجس مقلقة، وكوابيس ثقيلة، دائمة مستمرة. لست أومن بالأحلام، ولست بالمريض، فما مصدر كل ذلك. أنا واثق من نفسي، ومنظم في كل ما أعمله، مقاييسي وخطواتي صحيحة، لست أشك فيما خططت وعملت. ألا يكفي هذا؟
هذه الأيام يتراءى لي إني أرى مخاطر. المح صورها في الأفق. لعل مرد كل هذا، تبدل ربان السفينة، ذاك الذي يحس بالخطأ فيسارع لتلافيه، ويدرك الخطر فيبادر كلمح البصر بالتحذير لتجنبه والخلاص منه.
ولكن مهما يكن من أمر، فإن الانخذال إزاء الهواجس والأحلام، والتوقعات، غير مستغرب لواحد مثلي. كنت قبل اليوم لا أحس بشيء من هذا، لأني كنت أجد من يشحذ عزيمتي بالثقة، ويعزز ثقتي بما أراه فيه من هدوء، وحسن تقدير، وبعد نظر.
لم يسبق أن عرضت أمام نفسي مثل هذا التحذير، الذي تعمق في نفسي، وظل يرن في أذني كصدى صوت يتموج في فضاء. انه يكرر عليّ، أن لزمت الحذر، وسرت باتزان، فلا تنس انه يوجد كثير من يفقد هذه الصفات. معك، وفي المقدمة أفراد، يكرهون الموت، ولا يتحملون الألم، فهم إذن مستعدون، أن يبرءوا أنفسهم، ويتنصلوا من كل مسؤولية! ألم تقل، إنك لا تصدق المتبجح، وتخشى اللئيم، وتحتقر البخيل.
أحس في نفسي صراعاً حاداً، هل أستمر، أم أضع للأمر حداً؟
واليوم أرسل إلي المسؤول الحزبي يطلبني. فزادت هواجسي، ولما أصل إليه وأسمع منه ماذا يريد.
في كازينو روكسي، انتظرته، حسب ما رسم لي. في هذا الكازينو الهادئ، كثير من الشباب، لا أعرف أحداً منهم مطلقاً، حضر المسؤول. دهشت حين التقيت به، هو ذاك الذي كنت في نفسي لا أرتاح إليه مطلقاً، متبجح، ولئيم، وبخيل، إنه مالك سيف. سبق أن شكاني عند "فهد" لأني من أجل أن نضحك قليلاً، وبسبب دعابة بريئة، وخسارة زهيدة "40 فلساً" ثمن أربعة كؤوس شربت. هو الآن بعد أن جلس وتكلف الرزانة، والعظمة، لكني رأيته هراً وليس أسداً. وضع أمامه على الطاولة علبة سجائر أجنبية، وكمية وافرة من الزبيب الممتاز والفستق الأخضر الرائع!؟. أمر مدهش ومحيّر. كيف هذا اليوم، وهو يعيش على حساب حزب ماليته من تبرعات منتسبيه، عمال وكادحين، وصغار الموظفين، وكل ذلك لم يعد يكفي أبداً. فالضربة اللئيمة التي أودت بالمسؤول المرموق "فهد" وبعض الرفاق الذين كانوا المثل في الصمود والثبات، من لهم غير حزبهم، هم وعوائلهم؟ أجل كيف هنا اليوم، بينما أراني ثورة وانفعالا بالأمس يوم شكاني، ليتجلبب رداء العفة، والتقشف، ونبذ الهوى واللذائذ، ثم يتباهى ويتبجح، رفيق "في رأيي إن الشيوعي يجب أن يفهم فيجعل حتى ضحكته جدية، وأبتسامته لأمر عظيم!". ورده فهد "لا تبالغ يا -كـ...- تريد أن تجعل كل رفاقك في زهد أبي ذر، إن لهم أن يمرحوا، ويرفهوا على أنفسهم في ضحكة بريئة، ودعابة ودية، ويتبادلوا مع الآخرين ما ليس من التبذير أو الاستغلال!".
وبدأ حديثه، فهالني أمره. بدأ بالقابعين بعيداً عن ذويهم وأحبابهم في غرف السجون الكالحة، موطدين النفوس على تقبل كل ما تأتي به الأيام. بالغ في تذمره من صعوبة العمل، فكل أعوانه دون ما يجب، أذلاء، ضعفاء، لا يشعرونك ببأس، ولا ترى فيهم إلا اليأس والخذلان! وقال "كبيرنا يريد أن لا نمشي خطوة إلا بعلمه، ولا نبت برأي إلا بتصديقه عليه. وأخوك؟ ابتلانا بزوجته، يجب أن ندفع لها مخصصات لسكنها ومعيشتها وهي عند أهلها. وأخوك الأصغر، نحن في حيرة من أمره، انه غير مهذب مع العوائل التي يساكنها متخفياً، مطاليبه ورغباته محرجة!".
قاطعته بدفاع مختصر عن كل واحد، دفاعاً يعرف هو مدى صدقه، ولا يقوى على رده.
قال "دعنا من هذا أنا دعوتك لأكاشفك -وطبعاً- هذا أعتبره أمر حزبي! أريد أن تنتقل بعائلتك، أخصص لك بيتاً تسكنه لتكون عضدي في إدارة الأمور".
وضحكت .... وقلت "بين ما تبغي وما جئت له بون شاسع، أنت تريد هذا، وأنا أصارحك عما في نفسي، إني في صراع عنيف مع نفسي، أشعر بضعف ينتابني، بل يسيطر عليّ. ومن الخير أن أتنحى كيلا أخسر شرف الكلمة، وأجني على سواي، بلطمة من شرطي، أو تعذيب في ضربات خيزرانته فينهار بناء، وأكون مثلا ولطخة عار".
وكتبت حين عدت، إلى الذين اعتمدوا عليه، بواسطة مباشرة، عادت تعتذر، إنها فشلت ولم تنجح في تسليم الرسالة ولكنها أدت الغرض شفاها؟!. وجاءت بالجواب يدل على عدم صحة ما أدعت. فعجلت بالتنحي. فأرسل لي عبارة مختصرة "أنت واضع اللبنة الأولى في بناء الحركة في بلدك، فلا تنس ماضيك هذا. عد إلى صفوف حزبك وأعتبر هذا خطأ طارئاً منك".
وأجبت "أصر على ذلك". كان ذلك في 12/10/1947، ولم ألتحق بعد هذا بأي جماعة. إن طبعي مسالم لا أحب أن أعتدي على أحد، ولكني مازلت أعتقد والتزم نفس المقاييس لتفهم الأحداث، مضافاً إلى كل هذا لا أنكر إني حقيقة أدركني خوف ورأيت التجنب خيراً من النذالة وافتراس من اعتبرهم بالاعترافات الصحيحة والمبالغ فيها. فتهلك نفوس بريئة وتدمر عوائل.
ماذا يخبئ لنا الغد؟ لست أدري، ولكن أمر يحدث لا محالة. هذا ستكشف عنه الأحداث. وشعرت وكأني سقطت من شاهق إلى واد عميق. فواحسرتاه، ووأسفاه! ليتني أرى أخي فأهمس في أذنه كلمة عتاب. أين ذهبت فراسته ونباهته ولم يكتشف جبن مالك ونذالته، التي انطلت حتى على نباهة وفراسة فهد؟! وكيف أصرت قيادة الحزب، من داخل السجن، على تسليم مالك المسؤولية واقتنعت بقيادته!؟ وهل حقاً إن ملاحظاتي عنه وصلتهم شفاهاً بالدقة التي دونتها وكما أردتها؟ أو لم تقل الحكمة المشهورة "أتق شر من أحسنت إليه"؟!


يتبــــــــــع



#محمد_علي_الشبيبي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 2- الدرب الطويل/ 15
- 2- الدرب الطويل/ 14
- 2- الدرب الطويل/ 13
- نداء إلى السيد أسامة عبد العزيز النجيفي رئيس مجلس النواب الع ...
- 2- الدرب الطويل/ 12
- أخلاق المسيحيين وأخلاق الطائفيين!؟
- 2- الدرب الطويل/ 11
- 2- الدرب الطويل/ 10
- 2- الدرب الطويل/ 9
- ليس هكذا يا مجلس الوزراء يتم القضاء على الفساد
- 2- الدرب الطويل/ 8
- 2- الدرب الطويل/ 7
- 2- الدرب الطويل/ 6
- 2- الدرب الطويل/ 5
- 2- الدرب الطويل/ 4
- 2- الدرب الطويل/ 3
- 2- الدرب الطويل/ 2
- 2- الدرب الطويل/ 1
- خطأ في موقعي الشخصي
- 1- معلم في القرية/ 22


المزيد.....




- فوضى في كوريا الجنوبية بعد فرض الأحكام العرفية.. ومراسل CNN ...
- فرض الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية.. من هو يون سوك يول صا ...
- لقطات مثيرة لاطلاق صاروخ -أونيكس- من ساحل البحر الأبيض المتو ...
- المينا الهندي: الطائر الرومنسي الشرير، يهدد الجزائر ولبنان و ...
- الشرطة تشتبك مع المحتجين عقب الإعلان عن فرض الأحكام العرفية ...
- أمريكا تدعم بحثا يكشف عن ترحيل روسيا للأطفال الأوكرانيين قسر ...
- -هي الدنيا سايبة-؟.. مسلسل تلفزيوني يتناول قصة نيرة أشرف الت ...
- رئيس كوريا الجنوبية يفرض الأحكام العرفية: -سأقضي على القوى ا ...
- يوتيوبر عربي ينهي حياته -شنقا- في الأردن 
- نائب أمين عام الجامعة العربية يلتقي بمسؤولين رفيعي المستوى ف ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - محمد علي الشبيبي - 2- الدرب الطويل/ 16