أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - محمد عبد المجيد - البشرة البيضاء للعنصرية















المزيد.....

البشرة البيضاء للعنصرية


محمد عبد المجيد
صحفي/كاتب

(Mohammad Abdelmaguid)


الحوار المتمدن-العدد: 970 - 2004 / 9 / 28 - 10:18
المحور: حقوق الانسان
    


يؤكد مفكر عصر النهضة قاسم أمين على أن الإنسان كلما ازدادت رهافة جهازه العصبي ازداد بالتالي تحضرا وتمدنا! وكأن قاسم أمين كان يعيش بيننا ليرى بنفسه أن الإحساس البليد نفسه مرادف للتخلف سواء كان صاحبه ينتمي إلى أغنى المجتمعات الغربية الشمالية أو خارجا لتوه من عشش صفيح في أفقر بقع الأرض قاطبة.
مرات عديدة تمنيت أن أكون بليد الإحساس لأحمي نفسي وعقلي وصحتي وضغطي من كل أسلحة الدمار الشامل التي تستخدمها العنصرية ولكنها تفتك فقط بالإنسان الذي حباه الله جهازا عصبيا يلتقط إشارات العنصريين ولو كانت نظرة وسني أو تغييرا طفيفا في لهجة الحديث أو ارتفاعا ملحوظا في نبرة الحديث تأخذ منحى التوجيهات والأوامر وليس التلاطف بين شخصين! العنصرية كالحرباء تتلون وتتغير وتختفي وتظهر عشرات المرات، لكنها في ذات الوقت تحتاج لعين مدربة على متابعتها وأذن اكتملت فيها أجهزة استقبال فائقة الحساسية لالتقاط درجة ارتفاع وانخفاض الصوت أو طريقة الحديث، أو الكلمات ذات الخصوصية الشديدة التي لا يستخدمها النرويجي عندما يتحدث مع أحد مواطني بلده. العنصرية مشاعر بالتفوق تختلط فيها كراهية متميزة وهي لا تمر على العقل إلا لماما، ولكنها قادرة على أن تستدعي الدين واللغة والتاريخ المزيف وإحصاءات كاذبة وحوادث فردية وجرائم قام بها أجانب ذوو بشرة سمراء لوحتها شمس الجنوب. والعنصرية في النرويج لا تصدق أن المسيح عليه السلام أسمر اللون ولم تلده أمه تحت جذع نخلة في أوسلو أو في استكهولم، ولم يساقط عليها رطبا جنيا، فقد صنعت العنصرية المسيحية البيضاء في أوروبا، حتى أن جنوب أفريقيا في زمن التمييز العنصري، كان للبيض فيها مسيحهم الأبيض في كنيسة أنيقة في الأحياء الراقية لجوهانسبرج وكيب تاون وبريتونيا، وكان للفقراء السود مسيحهم الأسمر الذي يلجأون إليه في كنيسة متهالكة يدخلها حفاة شبع عراة يتضورون جوعا، ويلوذون بالسماء من ظلم أهل الأرض. العنصرية في النرويج تجد نفسها، ولها عقل جماعي تحركه قوى خفية تستمد طاقتها من أحداث كل يوم وحكاياته وعناوين الصحف ونشرات الأخبار وتقارير الشرطة وتهويلات وكالة الأنباء، وبعد الحادي عشر من سبتمبر فتحت النرويج ذراعيها لتلقي نفايات حملة الكراهية الأمريكية الموجهة ضد المسلمين والعرب. والعنصري تزداد قوة بصره أضعافا مضاعفة وهو يتابعك بعينين زرقاوتين وأنت تتجول في سوبر ماركت أو تصف سيارتك لثوان معدودة في غير موقعها أو تتلعثم ولا تسعفك اللغة أمامه أو ترتكب خطأ بسيطا ويسيرا، فينظر إليك نظرة كأنها تحمل معها رؤوس الشياطين وكراهية مقيتة لهذا المتخلف القادم من كوكب آخر أو من العالم السفلي. والنرويجي يلجأ إلي اللغة كلما استعصى عليه منطق أو تحليل موضوعي أو معلومات كافية، فاللغة النرويجية هي خط الدفاع الأول الذي يحمي النرويجيين ويشعرهم بأن الأجانب أقل شأنا، وليس المهم هنا أن تجيد اللغة وتملك ناصيتها وتعرف آدابها وشعرها وقواعدها، لكن اللغة العامية الدارجة وبأي لهجة هي مركز ثقل تربط النرويجيين برباط قوي يجمع المثقف والجاهل في بوتقة وطنية واحدة.
لهذا يعاني أبناء الجيل الأول من المهاجرين من عنصرية مقيتة كريهة لأن اللغة لن تكون جزءا من ثقافة المهاجر واللاجئ والمغترب، حتى لو كان يفهم ويكتب ويستوعب ويناقش ويقرأ الصحافة وبعض الكتب الخفيفة، فجيل المغتربين الأول يحمل معه ثقافة أخرى تصطدم بطبيعة الحال بثقافة أهل البلد المضيف.
إذا أراد النرويجي أن يفصلك عنه فصلا تاما وأن يجعل المسافة بينك وبينه كأنها نفس المسافة بين حضارتين يبدأ سؤاله بصوت مسموع وحاسم وتوجيهي: هل تتحدث اللغة النرويجية؟ حتى لو كان قد سمعك من قبل ولو كنت تعمل في مكان معظم رواده من أهل البلد، فإنه يتجاهل كل ذلك ويبدأ بسلاحه الوحيد الذي يستخدمه ويمنحه القوة والتفوق عليك، إنها اللغة.
هل لديك صديق نرويجي تخرج معه، ويقوم بزيارتك ويستضيفك ويتحدث معك في أمور وشئون كثيرة ليس من بينها الطعام الحار الذي تنفذ رائحته من مطبخك إلى أنفه؟ لا أظنك في حاجة لأي جواب على هذا السؤال فهذه العلاقة لن تقوم لها قائمة وأنت من الجيل الأول للمهاجرين حتى تقوم الساعة!
العلاقة الوحيدة هي رجل وامرأة ففيها كل شيء، شباب وجنس وحنان افتقدته الفتاة النرويجية في شباب بلدها فسقط قلبها في لسان شاب أسمر يستطيع أن يتغزل بنصف لغة ركيكة وبعض الإشارات وجسد لا يزال في عنفوان رغبته الجنسية!
وتلك العلاقة قد تستمر يوما أو شهرا أو عدة سنوات ويخرج من نتاجها أطفال سمر ببياض مشرب بحمرة ولكنها في غالب الأحوال تنتهي إلى انفصال، ثم طلاق بإئن ثم أولاد عطلة نهاية الأسبوع في كل نصف شهر، أي الذين تضمهم الأم النرويجية إلى حضانتها، ويدفع الأب مبلغا شهريا، لكنه يراهم مرة واحدة كل أسبوعين فيخرج معهم مساء يوم الجمعة، وقد يستضيفهم مع زوجته أو صديقته الجديدة ويشتري لهم بعض الهدايا، ويتجول معهم صباح يوم السبت، ويتحدث في موضوعات يعرف سلفا أنها لتمضية الوقت ولا علاقة لها البتة بالتربية أو بدوره الأبوي، ثم يعيدهم إلى والدتهم النرويجية ظهر يوم الأحد، ويعود هو إلى حياته ووحدته فقد انتهى دوره وليبحث الآن وقبل أن يزحف الشيب كله فوق رأسه عن زوجة من أبناء بلده تطيعه وتتحدث لغته وربما تمنحه أطفالا جددا بعد أن أسدل الستار على أولاده من الأم النرويجية.
العنصرية قادرة على قياس الفروق الثقافية بمهارة شديدة. وكلما اقتربت من الحياة النرويجية خففت قبضتها عليك، فإذا كنت تشرب الخمر وترقص وتقيم حفلات وتتحدث عن حق إسرائيل في الوجود، وتنفر من العنف في الشرق الأوسط، وترتدي ملابسك على الطريقة النرويجية وتلتقط اللهجة العامية بسهولة بغض النظر عن ثقافتك وإلمامك بقضايا حياتية كثيرة فأنت أقل تعرضا للعنصرية من غيرك.
والنرويجي يقاطعك روحيا وفكريا حتى لو كنت معه طوال يوم كامل، وتتحدثان في موضوعات شتى لكنه بفكره ملتصق في عالمه وينتظر بصبر نافذ العودة إلى حياته، وإلى أغنية يفضلها، ونشرة أخبار محلية، ومباراة في كرة القدم بين فريقين نرويجيين أو متابعة أبطال التزحلق على الجليد النرويجيين وهم يحصدون الميداليات الذهبية في جبال الألب أو منتجعات النمسا أو أماكن التزحلق في فنلندا أو هولمن كولين في العاصمة النرويجية.
وسائل الإعلام تؤجج نار العنصرية، وتلتقط الجرائم التي يرتكبها الأجانب ولو كانت في مكان مجهول وبدون شهود، وتقوم بتكبيرها وتحبيشها ووضع بهارات لغوية مستفزة عليها، ونقل كل الأخبار الأخرى من صدر الصفحة الأولى إلى الداخل ليتم وضع عناوين حمقاء تستجدي مشاعر التفوق في مواجهة هؤلاء الغرباء القادمين من.. هناك!
إنه التحالف الصامت والعقد غير الموقع بين الإعلام وبين العنصرية فتقرأ مثلا ( السلطات الإيطالية تعتقل أربعة من العرب الإرهابيين ومعهم مواد كيماوية وخريطة للسفارة الأمريكية) و( طفلة إسرائيلية تلقى مصرعها بأيدي الفلسطينيين) و ( مسلم يقتل شقيقته للدفاع عن الشرف) و ( أب مسلم يرفض زواج ابنته من نرويجي) و( طفلة في باكستان تموت من جراء الختان) ومئات غيرها من العناوين التي تزيد العنصرية اشتعالا وتمنحها صكوك غفران على كل ما ترتكبه من جرائم استعلائية ضد الغرباء حتى لو كان هؤلاء الغرباء يحملون الجنسية النرويجية ولا يفرقهم القانون عن المواطنين الآخرين في أي حقوق أو واجبات، هل جربت العيش في مجتمع يقاطعك كأنك شرقي نجس أو أجرب ينبغي أن يبتعد عنك النرويجي في الترام أو المترو أو دار العرض السينمائي أو الكافيتريا؟
هل جلست في مطعم وأرهفت أذنيك للنادل وهو يسألك طلبك وكأنه يمن عليك بخدمات لا تستحقها؟هل استمعت لبائع وهو يتحدث مع نرويجي يقف في الصف أمامك فإذا أتى دورك بهتت الابتسامة وتغيرت اللهجة والنبرة وبدت هي الأعلى؟ هل لاحظت ردود الفعل على خطأ أو سهو عن صواب في مقابل تسامح تام لو كان مرتكب جريمة السهو نرويجيا؟ هل ذهبت إلى طبيب أسنان لا تعرفه وفتح فمك ونزع إحدى أسنانك التي تؤلمك دون أن يحاول إقناعك بضرورة حشوها، فتستسلم لعرضه نزعها كأنه ينتزعك بنجسك الشرقي من أرضه الغربية الطاهرة؟ هل غضب منك نرويجي في يوم من الأيام وطلب منك أن تعود من حيث أتيت؟
هل يؤذيك السؤال التقليدي الأحمق الذي يطرحه عليك النرويجي ولو قضيت في بلده ثلاثين عاما أو أكثر فيسألك:متى ستعود إلى بلدك عودة نهائية؟
وأخيرا عليك إذا لم تكن قد رصدت العنصرية وهي تقتلك سبعين مرة في كل يوم، وتطحنك أو تهملك، أو تزدريك، أن تشكر الله لأنك بليد الإحساس،
ولن يرتفع ضغط دمك أو تقبض روحك ذبحة صدرية!

محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو النرويج



#محمد_عبد_المجيد (هاشتاغ)       Mohammad_Abdelmaguid#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السلطات السعودية تحارب في المكان الخطأ .. تفريخ الارهاب صناع ...
- هل الخوف والصمت والبلادة صناعة عربية؟
- من الذي يسرق البحر في مصر؟ .. بكائية على أوجاع وطن
- اعترافات جاهل بالشعر العربي الحديث
- كل الجزائريين يبكون، فمن القاتل؟
- من الأكثر ولاء للوطن .. المواطن أم مزدوج الجنسية؟
- سيدي الرئيس حسني مبارك .. استحلفك بالله أن تهرب
- صراع الأبناء بعد وفاة الشيخ زايد .. هل يحكم محمد بن راشد آل ...
- ابتسم فأنت في سلطنة عُمان
- خذ حذرك فالاستخبارات الأردنية تتعقبك
- النقاب حرام .. حرام .. حرام
- نيلسون مانديلا ومنصف المرزوقي انطباعات شخصية
- انتهاكات حقوق الإنسان في لبنان
- دعوة لتنازل الملك فهد عن العرش
- لا شرعية لنظام حكم عربي لا يغلق المعتقلات
- لماذا أحب الفلسطينيين؟ لماذا يكرهني الفلسطينيون؟
- لماذا لا يشتري العربُ موريتانيا
- صديق الغربة .. الصديق المفترس
- التدين البورنوجرافي
- رسالة مفتوحة إلى أم الدنيا.. ماذا فعل بك هذا الرجل؟


المزيد.....




- نتنياهو وغالانت والضيف: ماذا نعرف عن الشخصيات الثلاثة المطلو ...
- زاخاروفا تعلق بسخرية على تهديد أمريكي للجنائية الدولية بشأن ...
- ما هو نظام روما الأساسي الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية؟
- كيف ستؤثر مذكرات الاعتقال بحق نتنياهو وغالانت على حرب غزة ول ...
- إسرائيل تقصر الاعتقال الإداري على الفلسطينيين دون المستوطنين ...
- بين فرح وصدمة.. شاهد ما قاله فلسطينيون وإسرائيليون عن مذكرات ...
- عشرات آلاف اليمنيين يتظاهرون تنديدا بحرب الإبادة في غزة ولبن ...
- 2024 يشهد أكبر خسارة في تاريخ الإغاثة الإنسانية: 281 قتيلا و ...
- خبراء: الجنائية الدولية لديها مذكرة اعتقال سرية لشخصيات إسرا ...
- القيادي في حماس خليل الحية: لماذا يجب علينا إعادة الأسرى في ...


المزيد.....

- مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي / عبد الحسين شعبان
- حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة / زهير الخويلدي
- المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا ... / يسار محمد سلمان حسن
- الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نطاق الشامل لحقوق الانسان / أشرف المجدول
- تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية / نزيهة التركى
- الكمائن الرمادية / مركز اريج لحقوق الانسان
- على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - محمد عبد المجيد - البشرة البيضاء للعنصرية