فايز السايس
الحوار المتمدن-العدد: 970 - 2004 / 9 / 28 - 09:45
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
علينا أن نحمي الديمقراطية , لأنها صوت العدالة القادم .
بهذه الجمله أختتم فرانكلين أخر عباراته التاريخية عن الديمقراطية في مجلس الشيوخ الأمريكي
من منّا يستطيع أن يعيش بلا ديمقراطية , ومن يجرؤ عن الابتعاد عن العدالة , وكيف نتصور مجتمع ما , ينمو ويكبر بدون عدالة وديمقراطية .
من يقيم فينا صلاة الديمقراطية , ومن يأم بجموع الديمقراطيين عندما يولوا وجوههم شطر الديمقراطية , أنا باعتقادي أن الديمقراطية ليس لها قبلة فالديمقراطية قبلتها السماء , أياً كانت الدعوات التي تبحث جوانب واتجاهات تحقيق الديمقراطية فنحن معها , وأياً كان طرحها باتجاه إيجاد مفتاح الحل الديمقراطي أو (( الفانوس السحري )) لتحقيقها فنحن أيضاً معها .
في العديد من المحاضرات التي ألقيتها في مراكز دراسات دولية وفي عدة عواصم أوربية الأسبوع الفائت , ثبت لي وبما لا يدع مجالاً للشك بأن الديمقراطية هي القانون الذي سوف يحكم العالم .
فسورية مثلاً لا يمكن لها إلا أن تكون ذات مستقبل ديمقراطي بحكم منطق التطور التاريخي , ولا يمكن أن تبقى هكذا جزيرة عائمة منعزلة عن التفاعلات الإنسانية والحضارية المختلفة , ولا يصح أن تبقى تحت وطأة الفكر الثوري الجامد الذي لا يؤمن إلا بشرعية الثورة , ولا يقبل بالتحول الى شرعية أسمها الشرعية الدستورية .
لماذا الديمقراطية , وكيف لها أن تحيا وتبقى وتسود .
أسئلة نجيب عليها نحن الجميع نجيب عليها لكي نؤكد على رغبة وطنية تاريخية في الدخول بجوهر العلاقات الاجتماعية من جديد بحيث يمكننا أن نقبل التحول المجتمعي على أسس سياسية – اقتصادية دون أن تمس ثقافتنا الوطنية أو أن يخدش حيائها .
عندما أعلنا عن ليبراليتنا الوطنية أو ليبرالية حزب النهضة الوطني الديمقراطي في سورية , أوضحنا من خلال ميثاقنا الفكري بأننا ليبراليين وطنيين , أي أننا تناولنا الليبرالية بخصوصية وطنية محضة , وفوجئنا نحن جميعاً بأن الدعوات التي واجهناها كاتهامات تارة , وانتقادات تارة أخرى تنصب جميعها في بوتقة تسليط الضوء على المعنى الحرفي ( التعريفي ) وترك الربط الجدلي للمدلولات الحقيقية المعمول بها وفقاً لآلية الضرورة والاستجابة الحتمية .
وعندما أكدنا لأكثر من مرة أننا نقرأ الواقع اليوم بعيداً عن جدلية الإسقاط السياسي للمعنى , ينزع الغير لصب الزيت على النار في تحليلهم السطحي , واستنباطهم للمعاني الكبرى في سياق المنحى التاريخي الذي شكل ثورة لمعاني الليبرالية بأطوارها المختلفة , من زاوية التعريض والتشكيك والهمز السياسي , وكان منا أن أوضحنا وعلى مدى أكثر من ثلاثة أشهر نظريتنا الليبرالية بعد مراجعة وافية للإشكالية الرؤيوية التي أصيب بها المجتمع السوري وخصوصاً النخب منه لأكثر من أربعة عقود , أختلط فيها الحابل بالنابل .
فكانت نظريتنا الليبرالية معنونة بشكل واضح تتسم بالبعدية في تقصي الحلول فكانت الليبرالية بين الضرورة التاريخية والاستجابة الوطنية هي المعيار النظري الوحيد الذي استندنا عليه في نسج مكونات الليبرالية الوطنية بمفاهيمها الفكرية , وأبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية التي تتبوصل مؤشراتها لتحقيق كل ما يمكن تحقيقه لقبول منهج تحليلي تقوم عليه حياة سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية متوازنة .
وفهمنا للديمقراطية لا يستقر بحالة من الأحوال إلا بالشكل الذي يضع النقاط فوق الحروف بمعنى أننا وفي أكثر الأوقات نراهن على فشل مصير الديمقراطية السياسية ما لم تتماهى مع مبادئ الديمقراطية الاجتماعية , وما لم تتساوق مع معطياتها و مؤشراتها العامة .
فالديمقراطية السياسية هي الفعل القائم على أساس فهم حقيقي لديمقراطية الاجتماع أو الديمقراطية المجتمعية التي ترتكز على الأصول في تقبل المفاهيم الطبيعية لحقيقة الديمقراطية ما بين النظرية والممارسة .
إذا ان تحقيق الفهم الاجتماعي المتصل عادة بالسلوك الإنساني مرهون بتحقيق المعادل الموضوعي لحقيقة قبول العمل الديمقراطي كحل أساسي لإشكالية معقدة ابتدأت من الالتباس التاريخي لمدلول ومعنى الليبرالية وانتهت في اتهام الليبراليين في الكثير من المحافل الداخلية الرسمية والغير رسمية في سورية بأنهم يزيفون الهوية التاريخية والوطنية للمجتمع .
كان مصدر الربط يخضع لشروط العلاقات الاجتماعية الوليدة بعد ثورة آذار في الداخل السوري , مروراً بتحول العلاقات الاجتماعية الى علاقات مصالح تديرها وتوجهها السياسة العامة للدولة والحزب وانتهاءً بجملة (( التطورات )) الصورية في قبول المجتمع الاشتراكي الجديد لفكر فقهي أيديولوجي وعلى تدرج غير مرتبط أساساً في فهم أصول عملية التحول الاجتماعي الجديد , خصوصاً عندما أتاحت الفرصة للبعثيين الإطلاع على تجارب الدول الاشتراكية في العالم .
الأمر ذاته كانت تدفع القوى السياسية في المجتمع السوري باتجاهه عندما سقطت أدوات العمل السياسي الشرعي وانحصرت الممارسة السياسية بحزب البعث كقائد للدولة والمجتمع , دون التنبه الى خطورة مبدأ قيادة المجتمع من خلال قوة سياسية ثورية , لم يشأ لها الحظ أن تفاعلت مع أطراف المعادلة السياسية القائمة آنذاك لتقرير ما يمكن تقريره في الأوضاع الحياتية المختلفة , عندها انطوت مسألة التحول الاجتماعي على محورين أساسيين في تنظيم آلية قيادة المجتمع : الأول من خلال ضخ فائض هائل من الفكر الإيديولوجي على حساب المصالح الاجتماعية ( الوطنية العليا ) , والآخر تقليص امتيازات التنظيم الاجتماعي لحساب التنظيم السياسي بحيث يصبح الشكل الحقيقي للمجتمع بهياكله ومنظوماته المختلفة أمراً لا يمكن له أن يتوجه من خلال سنن تطور حياتية طبيعية (( ديمقراطية )) إلا عن طريق القرار الحزبي – السياسي , دون تدخل نظام الدولة الحقيقي في آلية سير المجتمع بشكل اعتيادي نحو مقدارته العامة .
بعدها بدأ العجز في التنظيم الاجتماعي يأخذ منحىً كارثياً جديداً في ظل منطق الاحتكار الكامل للوسائل المؤسسية في المجتمع , وكما يقول الفكر الاجتماعي الحديث بأن (( المجتمع يحيا برئتين )) ولوحظ بأن عهد الثورة ما بعد القوانين الاستثنائية المطلقة على الدولة والمجتمع أخذت الشكل الوصائي – الإقصائي ظناً منهم أن بهذه العملية ربما تستطع الثورة أن تحقق ذاتها الشرعية الدستورية وتقلص تراكمات الامتيازات التاريخية للقوى البرجوازية المختلفة .
لم تستطيع الثورة في بداية عهودها أن تشكل حالة تفاعل حقيقي ما بين السياسة – والاجتماع , فجمهور السياسة الذين تربوا في مدرسة الفكر الاشتراكي البعثي كانوا ( سياسويين )) أكثر منهم سياسيين , لذا لم يتمكنوا من الفصل بين آلية التطور الطبيعي والاستجابة التاريخية وما بين المعطى الثابت , والمتحول الذي يرتبط دوماً بحركة التاريخ وليس بطبيعة سياق التحول السياسي الذي يؤثر سلباً على جميع أدوات الفعل التحديثي وينسف أي عملية للارتقاء والتطور .
عضوياً كانت مسألة البحث عن دور سياسي للثورة في مجتمع غيب عن الحدث أو أقصي عن الحدث بفعل المفاهيم الجديدة التي أقحمت على المجتمع السوري , وشكلت مخاضاً فكرياً غير مستقر بسبب النكسات الفكرية في مسألة الطرح والرؤية حول مبدأ التحول الجيد , كان موضوع البحث عن دور سياسي للثورة في مقدمة الأولويات( السيوسياسية ) التي كانت قائمة في أجندة الثورة ( العهد الجديد آنذاك) لذلك عمدت الثورة الى إضفاء طابع التكتيك المرحلي لإبقاء الصبغة الثورية على المنجزات التي أدّعوا الثوريين تحقيقها وهي ما أطلقوا عليه مكتسبات الثورة , بدأوا بضرب النسيج الاجتماعي من الداخل من خلال ما سمي بمحاربة أعداء الثورة , و القضاء على الرجعية والبرجوازية والإقطاع المتآمر من الإمبريالية . وقوضوا حالة السلم الداخلي من خلال تفتيت منظومة العلاقات الاجتماعية باسم الثورة وتحت عناوين مجتمع العدل والمساواة واليد المنتجة , وعمدوا الى استهداف أركان البناء الاجتماعي عن طريق إثارة الطبقية والحقد الطبقي بين الفئات الاجتماعية , ونسفوا مشاريع التنمية الاقتصادية باسم التأميم والتوزيع العادل للملكية الفردية والقضاء على احتكار رأس المال للسلطة والثروة , صادروا ثقافة الحوار والانفتاح على الآخر بذريعة توطيد أركان السلم الاجتماعي , وتعزيز الأمن الداخلي , وأطلقوا القوانين الاستثنائية التي اختزلت العملية السياسية بالكامل تحت سلطة وحكم وهيمنة حزب البعث وحده على مقدرات الأمور تحت مبرر حماية الثورة والوطن من أعدائها في الداخل والمرتبطين بمشاريع الخارج الإمبريالي .
واليوم ماذا بقي لحزب البعث العربي الاشتراكي من كل هذا , لماذا قول الحقيقة يعتبره إخواننا البعثيون أنه ضد أهدافهم وحزبهم وعقيدتهم , لماذا لغة الحوار أنعدمت في مناخ من الإقصاء وتغييب الآخر الموجود فعلاً وقولاً , لماذا التمسك بثوابت قيادة الدولة والمجتمع , والجمود إزاء قضايا تهدد مستقبل الوطن والمواطن بالضياع والتلاشي , لماذا الاعتقاد بأننا أعدائهم , لماذا لا يستفيقون على واقع حال قائم بكل ما فيه من معنى , ولماذا أوقفوا عقارب الساعة لحظة ميلادهم .
أليس حزب البعث العربي الاشتراكي اليوم بات له من الذاكرة الوطنية أكثر مما له من الواقع القادم والمستقبل الآتي , أليس حزب البعث العربي الاشتراكي وعلى لسان الكثيرين من مثقفيه ومنظريه أنه أصبح يتيماً في هذه الأمة العربية والوطن العربي الذي آمنوا بوحدته من المحيط الى الخليج , أليس هباءاً أن نقول أو يقولون أن حزب البعث العربي الاشتراكي لا يزال فتياً صامداً قوياً يمتلك قاعدة جماهيرية عريضة بالملايين من النفعيين والمتكسبين والانتهازيين والمتسلقين وأصحاب المصالح الخاصة على حساب مصالح العامة , لا أعرف سوى شيئاً واحداً وهو أن الليبرالية أضحت اليوم هي الحل الحقيقي كضرورة تاريخية للاستجابة الوطنية , ويبقى الكل شركاء في وطنهم العزيز .
د. فايز السايس : منسق العلاقات الدولية في حزب النهضة الوطني الديمقراطي في سوريا – واشنطن
#فايز_السايس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟