|
الاستفتاء السوداني: بين الديناميكية والسكونية !
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 3238 - 2011 / 1 / 6 - 19:39
المحور:
حقوق الانسان
يثير موضوع الاستفتاء السوداني بخصوص حق تقرير المصير للجنوب مواقف متعارضة كل منها يستند الى القانون الدولي، سواء المواقف المؤيدة أو المواقف المعارضة، فماذا يقول القانون الدولي بخصوص مبدأ حق تقرير المصير وبشأن الحالة السودانية تحديداً؟ شغل حق تقرير المصير الفقه القانوني الدولي مثلما انشغل به المجتمع الدولي لعقود من الزمان قبل تأسيس الأمم المتحدة وبعده. ولعل أبرز حدثين تناولا حق تقرير المصير قبل نهاية الحرب العالمية الأولى هما ما جاءت به ثورة اكتوبر الاشتراكية (1917) في روسيا وما تضمنه اعلان الرئيس الاميركي ويلسون في مبادئه الأربعة عشر (1918). لكن المجتمع الدولي لم يفلح حينها في إقراره كمبدأ من مبادئ القانون الدولي في عهد عصبة الأمم (1919). لكن المناقشات التمهيدية لاعلان الأمم المتحدة ولاسيما ميثاق الأطلسي وما بعده جعلته أحد مبادئ القانون الدولي المعترف بها وقاعدة قانونية رفيعة المستوى كما ذهبت الى ذلك محكمة العدل الدولية لاحقاً. إستندت محكمة العدل الدولية على حق تقرير المصير في الكثير من قراراتها وذلك لاعتباره قاعدة قانونية آمرة وملزمة Jus Cogens. وقد ورد مبدأ حق تقرير المصير مرتين في ميثاق الأمم المتحدة. الأولى في ما نصّت عليه المادة الأولى (الفقرة الثانية) المتعلقة بأهداف الأمم المتحدة حيث جاء فيها: "إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس المساواة في الحقوق، وحقها في تقرير مصيرها"، والثانية في ما نصّت عليه المادة الخامسة والخمسون حين أكّدت "الرغبة في تهيئة دواعي الاستقرار والرفاهية الضروريتين لقيام علاقات سليمة وودية بين الأمم، مؤسسة على احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب، وبأن يكون لكل منها، حق تقرير مصيرها". ولعل المناقشات الأهم حول حق تقرير المصير، كانت بعد تأسيس الأمم المتحدة، وبشكل خاص منذ العام 1950 خلال مناقشة مصير الشعوب والأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي والمشمولة بنظام الوصاية. وقد مهّد ذلك لاحقاً الى تقنين مبدأ حق تقرير المصير الذي جاء واضحاً في الإعلان العالمي لتصفية الكولونيالية (الاستعمار) رقم 1514 (الدورة الخامسة عشرة) في 14 كانون الأول العام 1960 والذي نصّ على: حق جميع الشعوب في تقرير مصيرها. واعتبر الإعلان جميع الأعمال العسكرية أو الإجراءات القمعية ضد الشعوب غير المستقلة، غير شرعية وينبغي أن تتوقف، كيما تمارس هذه الشعوب حقها وحريتها في الاستقلال الكامل وفي السلام. وإذا كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان The Universal Declaration of Human Rights الذي تبنّته الأمم المتحدة في 10 كانون الأول 1948، قد غفل أو تغافل عن أية إشارة إلى حق تقرير المصير، بسبب الصراع الايديولوجي الدولي آنذاك، فقد جرى تدارك المسألة لاحقاً سواء في اعلان تصفية الكولونيالية العام 1960 أو في العهدين الدوليين لحقوق الانسان أو بإعلان حقوق الأقليات الصادر عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة الصادر في 18 كانون الأول العام 1992 أو إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية الصادر في 13 أيلول العام 2007. ومن الجدير بالذكر أن النص الصريح بشأن حق تقرير المصير وارد في العهدين الدوليين، وهما اتفاقيتان دوليتان شارعتان، أي منشئتان لقواعد قانونية دولية جديدة أو مثبّتة لها يعتبران مُلزمين منذ تاريخ نفاذهما تجاه جميع الدول الموقعة عليهما، ناهيكم عمّا يتضمناه من قوة معنوية وأدبية، أخلاقية وسياسية، فضلاً عن حجيتهما القانونية بالنسبة للشعوب المطالبة بهذا الحق، على الرغم من عدم شموله الأقليات بتقرير المصير، الأمر الذي قاد إلى تساؤلات حول مدى تطبيق النص الوارد في المادة 27 من الميثاق، ارتباطاً بالمادة الأولى التي تحدثت عن حق تقرير المصير. ولعل ثمة اختلافات فقهية بخصوص النص ومدى شموليته، ناهيكم عمّا ذهبت إليه الأعمال التحضيرية والتي تفضي قراءتها وتدقيقها إلى اعتبار النص حقاً شاملاً، لاسيما تجاوز الحالة الاستعمارية الواردة في القرار 1514 الصادر في 14 كانون الاول 1960 إلى ما بعدها، أي استمرار وظيفة حق تقرير المصير حتى بعد الحقبة الاستعمارية، إذا خلا العالم من الاستعمار، وإذا كان ما ورد يفيد المستعمرات، إلاّ أن الشعوب يمكنها الاستفادة منه أيضاً، حتى بعد أفول نجم الاستعمار! ويرى بعض فقهاء القانون أن تطبيق حق تقرير المصير يقتصر على الشعوب الخاضعة والمستعمَرة فقط، أما بعضهم الآخر فيرى أنه حق شامل لجميع الشعوب بتخطّي مرحلة الاستعمار، أي عكس الفريق الأول الذي يقصره على الاستعمار، ولا يريد أن يمتد ليشمل الدول المستقلة ذات السيادة أو على قسم من الشعب أو الأمة، التي هي جوهر فكرة الوحدة الوطنية الإقليمية للدولة، وهو الرأي الذي تقول به الهند، في حين أن هولندا قالت بشمولية النص وهو ما تبنّته الأمم المتحدة لاحقاً في العام 1984 (لجنة حقوق الإنسان)، ومع ذلك فهناك أكثر من قراءة للنص تبعاً للمصالح السياسية ولتوازن القوى، لاسيما لجهة النفوذ الدولي، وخصوصاً بعد انتهاء عهد الحرب الباردة والقطبية الثنائية في العلاقات الدولية. وإذا كان ثمة تبريرات نظرية وقانونية لمثل هذه الإشكالية، فإنها تعود إلى الفروق بين ما نعنيه بالشعب والأقلية، وهل هناك إمكانية إفادة الأقلية من مبدأ حق تقرير المصير بتأسيس كيان سياسي أم لا؟ ومع أن النص جاء عاماً بخصوص العهدين الدوليين لعدم الرغبة في تناول موضوع "الأقليات"، إلاّ أن المطالبة بالحق، وهو حق سياسي ودستوري، يمكن الاستدلال عليه من منطوق المادة الأولى، في حين أن المادة 27 تناولت حقوقاً ثقافية عامة، بينما يرتبط حق تقرير المصير بقضية كيان سياسي واقتصادي واجتماعي، وهو ما تريده بعض الأقليات في دولة متعددة القومية حين يصبح العيش المشترك مستحيلاً، لاسيما مع غياب تمثيل حقيقي للتنوّع الثقافي، الذي أجده أكثر تعبيراً عن الهوية. فالتنوّع والتعددية، تتضمنان مبدأ المساواة بين مكوّنات مختلفة ومتمايزة، لكنها متساوية، لا فرق بين غالبية وأقلية، على الرغم من استخدام الأمم المتحدة مصطلح "الأقليات". بعد هذه الاستعادة التاريخية لتاريخانية القرار 1514 بخصوص تصفية الكولونيالية، فإضافة إلى أهميته القانونية والسياسية، فقد أصبح منطلقاً أساسياً لقرارات وإعلانات أممية لاحقة، فبعد يوم واحد فقط، أي في يوم 15 كانون الأول 1960 صدر القرار رقم 1541 الذي تمّ بموجبه تحديد لائحة محددة من المبادئ لمعرفة إلزامية تقديم المعلومات طبقاً للمادة 73 من الميثاق التي تتناول تبعات إدارة الأقاليم التي لم تنل شعوبها قسطاً كاملاً من الحكم الذاتي، لاسيما الالتزام بالعمل على تنمية رفاهية أهل هذه الأقاليم الى أقصى حد مستطاع في نطاق السلم والأمن الدوليين اللذين رسمهما الميثاق. وكان القرار 1541 قد تحدث بالصراحة ذاتها ضد الاستعمار محدداً اثني عشر مبدأً تعرّف الأقاليم الواقعة تحت الاستعمار وتطورها في اتجاه الحكم الذاتي لبلوغ الاستقلال. وعلى الرغم من احترام مبدأ حق تقرير المصير ومنح الاستقلال في القرار 1514 والقرار الذي تلاه، الاّ أن الاتجاه العام كان يميل إلى استبعاد "الأقليات" من التمتع بهذا الحق، في نظرة تقييدية، لأنه ينطبق على الشعب، وليس على الأقليات التي قد لا تكوّن شعباً. أي أن حق الاستقلال وتكوين دولة مستقلة حسب القانون الدولي أعطي للشعب وليس للأقلية، بل لكامل الشعب في الاقليم Territory والشعب هو الذي يمارس هذا الحق. وظلّ هذا الأمر محطّ جدل كبير في الأمم المتحدة وخارجها لمدة عشر سنوات تقريباً حتى صدر القرار رقم 2625 في 24 تشرين الثاني1970 تحت عنوان "إعلان مبادئ القانون الدولي المتعلق بعلاقات الصداقة والتعاون بين الدول وفقاً لميثاق الأمم المتحدة" والذي عُرف بإعلان التعايش السلمي متضمناً سبعة مبادئ أساسية، تشكل جوهر مبادئ القانون الدولي. لقد تطوّر مبدأ حق تقرير المصير لتتعدى ساحته مسألة إنهاء الاستعمار واستقلال الدولة التابعة والمستعمَرة، فأخذ يشمل الجانب الداخلي من تقرير المصير، الذي تطمح إليه الشعوب لجهة حقوقها وحرياتها وعلاقاتها بالسلطة. وأشرف مجلس الأمن على عدد من الانتخابات والاستفتاءات الشعبية التي مارست فيها الشعوب حقها في تقرير المصير، وهكذا تمتد فكرة حق تقرير المصير من الإقليم الى الهوية، التي يمكن التعبير عنها بكيان سياسي خاص، وهو الأمر المطروح أمام الاستفتاء السوداني حول حق تقرير المصير للجنوب. أما محكمة العدل الدولية فقد اتخذت عدداً من القرارات بشأن حق تقرير المصير لعل آخرها القرار المؤرخ في 24 تموز 2010 بخصوص كوسوفو يوم أعطت رأياً استشارياً مفاده : أن الاستقلال (الانفصال من طرف واحد) لا ينتهك القانون الدولي، وذلك بناءً على طلب من الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وهو الأمر الذي قد يصبح واقعاً بعد الاستفتاء في جنوب السودان. إن قرار محكمة لاهاي سيكون سابقة قانونية وقضائية يمكن الاستناد إليها دولياً لإعلان الاستقلال من طرف واحد في دولة متعددة القومية في ما إذا كانت الظروف الموضوعية والذاتية تستجيب لذلك، حيث تصبح الوحدة دون رضا جزء من السكان، أي شعب، أو مكوّن ثقافي، مفروضة وقد تحتاج الى فك ارتباط! الأمر الذي يحتاج إلى وقفة جدية، ونحن نستعيد ذكرى القرار 1514 ودلالاته الفكرية والسياسية والقانونية وانعكاساته على صعيد الدول المتعددة القومية خصوصاً لبلدان المنطقة، حيث تبرز القضية الكردية منذ عقود من الزمان، لاسيما بعد وصول الوحدة الاقليمية الى تعثرات واختلافات وتباعدات، بسبب سياسات الاقصاء والتهميش والتنكّر للحقوق المشروعة. ولعل ذلك قد يمهد لحلول "دولية" تدخل الامم المتحدة طرفاً فيها، لاسيما بعد تجربة الفيديرالية الكردية في العراق، وهو الأمر الذي يحتاج الى دراسة متعمقة لآفاق تطور حل المسألة القومية في بلداننا على أساس حق تقرير المصير، سواء بالاتحاد الطوعي- الاختياري، أو باحتمالات الاستقلال وتكوين كيانات مستقلة ومنفصلة عن الدول الأصلية ولا شك في أن التجربة السودانية ستكون بالصميم من ذلك!
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بعد 50 عاماً مصير -حق- تقرير المصير
-
العمل العربي المشترك: أي دور للمجتمع المدني؟
-
استفتاء أم استثناء؟
-
الحداثة وما بعدها !
-
رمزية القرار 1514 و«متحفية» الكولونيالية!
-
ما وراء تسريبات -ويكيليكس-؟
-
المواطنة.. من دولة الحماية إلى دولة الرعاية
-
بُعيد تسريبات «ويكيليكس» وعشية الذكرى الثانية للعدوان على غز
...
-
ما أشبه اليوم بالبارحة
-
المواطنة في الإسلام .. إرهاصات الدولة الحديثة وكوابح الواقع
-
من مالك بن نبي إلى المهاتما غاندي
-
سُليمى مولوي الخطيب: إمرأة حالمة ومسكونة بالقلق الانساني الب
...
-
العدوان الإسرائيلي على غزة في ضوء قواعد القانون الدولي الإنس
...
-
لحظة الهند .. البحث عن الشراكة والتعاون.. لا تريد أن تكون قو
...
-
الطائفية وتشكيلات ما قبل الدولة
-
الاستفتاء السوداني والفيدرالية الكردية
-
تحديات التنمية.. التربية والمواطنة
-
حرب العملات!
-
بوش وفنتازيا -نقاط حاسمة-
-
الوطن والمواطنة: أية علاقة؟
المزيد.....
-
عضو بالكنيست الإسرائيلي: مذكرات الاعتقال ضد نتنياهو وجالانت
...
-
إسرائيل تدرس الاستئناف على قرار المحكمة الجنائية الدولية الص
...
-
وزير الخارجية الأردني: أوامر اعتقال نتنياهو وجالانت رسالة لو
...
-
هيومن رايتس ووتش: مذكرات المحكمة الجنائية الدولية تفند التصو
...
-
الاتحاد الأوروبي والأردن يُعلنان موقفهما من مذكرتي الاعتقال
...
-
العفو الدولية:لا احد فوق القانون الدولي سواء كان مسؤولا منتخ
...
-
المفوضية الاممية لحقوق الانسان: نحترم استقلالية المحكمة الجن
...
-
المفوضية الاممية لحقوق الانسان: ندعم عمل الجنائية الدولية من
...
-
مفوضية حقوق الانسان: على الدول الاعضاء ان تحترم وتنفذ قرارات
...
-
أول تعليق من -إدارة ترامب- على مذكرة اعتقال نتانياهو
المزيد.....
-
مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي
/ عبد الحسين شعبان
-
حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة
/ زهير الخويلدي
-
المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا
...
/ يسار محمد سلمان حسن
-
الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نطاق الشامل لحقوق الانسان
/ أشرف المجدول
-
تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية
/ نزيهة التركى
-
الكمائن الرمادية
/ مركز اريج لحقوق الانسان
-
على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
المزيد.....
|