عادل عوض
الحوار المتمدن-العدد: 210 - 2002 / 8 / 5 - 01:35
المحور:
اخر الاخبار, المقالات والبيانات
بدأت المشكلة عندما اصدر صدام حسين قراره الرئاسي في سنه 1994 الذي أمر فيه بقطع أُذن العسكري العراقي الذي يهرب أو يتخلف عن الخدمة الإجبارية. ومن سوء حظي أنني كنت قد بدأتُ لتوي ما يُسمى بالإقامة الدورية كطبيب حديث التخرج في كلية الطب. لم أكن أتصور في حياتي أن يأتي يوم على الطبيب العراقي يُجبر فيه على إجراء عمليات تشويهية, بالصورة التي أرادها صدام لفئة من أفراد الشعب العراقي المظلوم. ولكن, على من يعيش في بلد مثل العراق أن يتوقع الأسوأ دائماً. وهذا ما حدث فعلاً, فقد حدث الأسوأ بالنسبة الى الطبيب العراقي. فقد جاء اليوم الذي اصبح الطبيب العراقي العسكري يخاف من الانتقام وهو يمشي في شوارع المدينة التي يمارس فيها مهنته. كيف لا وقد أُجبر بعضهم بفعل قرار صدام على قطع آذان جنود وضباط في الجيش العراقي.
بعد قليل من سماعنا القرار المشؤوم بدأنا نشاهد مناظر لم نعهدها من قبل داخل المستشفى. ففي إحدى الليالي القمرية, كنا, نحن الأطباء المقيمين الدوريين, نجلس في قاعة الطعام, نأكل ونتسامر, ونشاهد التلفزيون العراقي الممل, إلى ان وصلنا أمر منع الخروج من بناية إقامتنا حتى إشعار آخر. وبما ان هكذا انواع من الاوامر العسكرية لم تصدر من قبل, بدأنا نستشعر ان في الأمر سراً خطيراً.
دفعتني روحي المغامرة الى ان أقترب من النافذة المطلة على صالة العمليات, وصُدمت بعد ان رأيت مركبة عسكرية من الطراز الذي يستعمله الانضباط العسكري, محملة ببضعة جنود, وأيديهم مربوطة من الخلف, وعيونهم قد وُضعت عليها قطع بالية من القماش لتمنعهم من رؤية الليل الأسود الذي ستُقطع فيه آذانهم. يُجرَّون جراً إلى صالة العمليات الجراحية, كما تُجّر الخراف إلى مقصلة النحر, وقف على كل باب من أبواب المستشفى عنصر من عناصر الانضباط العسكري للتأكد من عدم خروج منتسبي المستشفى ومنعهم من الاطلاع على ما يحدث خارج وداخل صالة العمليات الجراحية والتي بدورها كانت محاطة بعناصر أخرى من الانضباط العسكري. كان الى جانبي طبيب آخر, كنا ننظر الى بعضنا البعض وفي عيوننا أسئلة كثيرة لم نجد لها أجوبة. ماذا يحدث? هل بدأت فعلاً عمليات التمثيل بآذان الجنود والضباط العراقيين? هل ستنجح (...) في تشويه صورة الطبيب العراقي فتجبره على ان يستخدم مهاراته الطبية لأغراض إجرامية رسمت خطوطها? بعد اقل من ساعة رأيت أولئك الجنود المساكين محمولين بواسطة نقالات إلى المركبة العسكرية نفسها التي كانت تنتظرهم في الخارج. الغريب ان أولئك الجنود, خرجوا فاقدي الوعي, ورؤوسهم مربوطة بلفافات طبية. قام الجلاوزة برميهم إلى خلف المركبة العسكرية من دون رفق أو تأن وكأنهم يتعاملون مع قطعة حديد متصدئة أو خشبة قديمة. لم يزرني النوم في تلك الليلة, بقيت أفكر في ما حدث. وبعدما هدني التفكير, اظنني نمت قليلاً, والدليل أنني رأيتُ كابوساً مقيتاً أفزعني فزعاً لم يفارق اغلب لياليّ اللاحقة.
في صباح اليوم التالي, وصلتنا الأخبار متسارعة إذ نقل لي أحد الأطباء ان مدير المستشفى طلب من الجراحين المتخصصين أن يحضروا إلى صالة العمليات, بعدها حصل خلاف بينهم, كلٌ يحاول ان ينأى بنفسه بعيداً عن اداء هذه الجريمة, حتى ان أحدهم قال ان هذا ليس عدلاً, لمَ تكون مثل هكذا عمليات محصورة بالأطباء الجراحين, مع العلم ان اغلب الاطباء غير الجراحين قادرون على ان يقوموا بها ايضاً? وفعلا كان هذا المنطق مقبولاً لدى آمر المستشفى, فما كان منــــه الا ان أمر بطلب كل المتخصصين بالحضور الى صالة العمليات, مستثنياً الاطباء الدوريــــين (غير المتخصصين). وقيل لي ان ما حـــدث هـــو انه أجبر اغلب الأطباء المتخصصين بالمشاركة بإجراء تلك العمليات التشويهية. بدا لي حينها ان الغرض هو ان تتوزع المسؤولية على كل الأطباء الاختصاصين من دون استثناء, للتقليل من إمكانية ان يشي بعضهم بالآخر, وفي الوقت نفسه تخفيف وطأة الجريمة على كاهل من يرتكبها.
في الأيام القليلة التالية كنت جالساً في غرفة الطوارئ وقد دخل أحد المرضى, وكنت سألته ممّ يشكو فلم ينبس ببنت شفة, كان ينظر إلى الأرض كطفلٍ صغيرٍ يتقدم لأبيه بطقوس الخضوع والذل, فعلامات المهانة كانت مرتسمة على جبهته بوضوح. لم يتكلم بعد. سألته مرة ثانية: ماذا بك? مم تشكو? بدأت أرى الدموع تتساقط كالسيل من عينيه, ولكن من دون ان ينظر إلى وجهي.رفع بيده اليمنى بعض الشعر الذي كان يغطي جانب رأسه الأيسر, وأدار برأسه نحو اليمين مصراً ان لا ترى عيناه وجهي. تمكنت من رؤية أذنه اليسرى فبدت لي كما لو ان قطة أو كلباً قد التهم جزءاً منها, ولكن سرعان ما فهمت إصراره على ان لا يرى وجهي, كان لا يحب ان ينظر الى القطة او الى الكلب الذي التهم جزءاً من أذنه. على رغم أنني لم اكن تلك القطة او الكلب, الا ان ألم القضم لم يجعله يميز بين القطة التي التهمت اذنه وبين القطط الأخرى, خصوصاً ان عينيه كانتا مغطاتين بقطعة قماش. بعد ان فحصت أذنه الجريحة شخصت حالته بأن قد نال جرحه التهاب جرثومي, لكنني أدركت ان جرحه هذا سيشفى, لكن جرح نفسه سيبقى الى ما شاء الله.
استمرت الأيام التي كنت أرى فيها أمثال ذلك الجندي المسكين وضباطاً برتب متوسطة ايضاً. واستمرت القصص التي كانت تصعد لنا من الطابق السفلي حيث سكنى الأطباء الاختصاصيين حتى الأيام الأخيرة من إقامتي في تلك المستشفى في سنة 1996. وقد نُقل لي انه من ضمن أولئك الذين تم قطع جزء من آذانهم كان ضابط برتبة رائد, وكان الانضباط العسكري الذي أحضره الى المستشفى متساهلاً معه نسبياً, وقيل انه كان يبدي عدم اهتمام بما سيحل به من تشويه, وكان يضحك ويتلاطف مع الأطباء أثناء تناوله الطعام معهم قبل ان تُجرى عملية قطع اذنه.
لم اكن ممن يحسنون التعامل مع المفاجآت, لذا كنت دوماً اسأل نفسي: ماذا ستفعل إذا ما صدّر لك آمر المستشفى أمراً بأن تقوم بمثل تلك العملية التشويهية لجندي مسكين آخر? (...) وعاهدت نفسي ان ارفض الانصياع لمثل هذا الأمر مهما تكن النتائج, والتي بالتأكيد ستكون وخيمة وربما مميتة. ولحسن حظي لم أتعرض لمثل ذلك الأمر أبداً.
لم تفارقني صورة دموع ذلك الجندي الذي لم يعد يطيق صورة الطبيب أمام ناظريه. كما هي الحـال مع من تكـــره أن تـــرى مغتصبهــا.
لم يكن قرار قطع آذان عسكريين عراقييين عقوبة موجهة لمن يخالف الاوامر فحسب, بل كانت ايضاً عبارة عن محاولة آثمه لتلطيخ سمعة شريحة مهمه من المجتمع العراقي, فشريحة الأطباء العراقيين كغيرها من الشرائح ذات التعليم العالي لم تنل احترام الذي تمرد على العلم و التعلم (...).
وهكذا اصبح بعض الأطباء العراقيين يُنظر إليهم كمجرمين شاركوا في إلحاق الأذى بالجندي وبالضابط العراقي, وهم في الحقيقة ضحايا لمن أصدر ذلك القرار الاجرامي. وهكذا اصبح بعضهم يخاف ان يمشي من دون أن يرمي بنظراته الى أعلى كتفيه, كالهارب من القصاص والثأر, ولا ادري اذا كان سيشمل أولئك الأطباء غفران من قُطعت آذانهم, ولكن, ما يهمني اكثر كطبيب هو ان تشفى نفوس الضحايا من الجنود والضباط الذين طاولتهم شفرة القطع تلك, لكي يتمكن ذلك الجندي المسكين من ان يرفع رأسه الى الأعلى وهو ينظر الى الطبيب العراقي مرة أخرى.
طبيب عراقي عمل في مستشفى عراقي أجريت فيها عمليات قطع آذان جنود وضباط عراقيين, وهرب خوفاً من ان يجبر على اجراء هكذا نوع من العمليات.
الحياة (4/8/2002 )
#عادل_عوض (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟