|
قراءة (2) في مقال ((الماركسية والتنوير المزيف)) لوليد مهدي
عبد القادر أنيس
الحوار المتمدن-العدد: 3235 - 2011 / 1 / 3 - 14:51
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
توقفت في قراءتي السابقة عند دعوة السيد وليد مهدي التي وجهها لمن أسماهم ((المتنورين الجدد))، في مقاله موضوع قراءتي السابقة والحالية: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=239765 قال في هذه الدعوة: ((هي دعوة يمكنُ ببساطة ٍ إيجازها بالآتي: • اتركوا قيود الإسلام ِ وكونوا أحراراً عقلانيين لا دينيين، فإن لم تقدروا فالمسيحية ُ أولى.. • إن كان ولا بد من دين ٍ فكونوا مسيحيين.. • الإسلام دينٌ وحشي ٌ همجي ٌ بربري بدويٌ كمحمد.. اتركوه.. • المسيحية ُ هي "أكثرُ" ديانة مسالمة موائمة للعصرنة قابلة للتعايش مع العلمانية.. ليكلمني متعقلٌ قارئ لعموم نتاج السيدة وفاء والسيد كامل من كتاب الحوار المتمدن حول الموضوع، أليست هي دعوة تخير عقول القراء بين اللادين والمسيحية؟)) انتهى. وهي في نظري دعوة مرفوضة لأسباب كثيرة منها: - أنه ليس من السهل التخلص من قيود الإسلام، (اتركوا قيود الإسلام ِ وكونوا أحراراً عقلانيين لا دينيين) ولو كان الأمر بهذه السهولة لما احتجنا إلى هذا الحوار. هذا بالنسبة لأمثالي من العلمانيين (المسلمين) مواطني البلاد الإسلامية والقاطنين بها. لعل هذا كان ممكنا بالنسبة لمن اختاروا الهجرة أو اضطروا إليها، لكن الإسلام لاحق حتى المهاجرين ونغّص عليهم حياتهم خاصة العقلاء منهم الذين تمكنوا من الاندماج في الحياة الغربية بسهولة وبنوا مستقبلهم هناك. همجية تصرفات المتطرفين الإسلاميين والتأييد الأعمى الذي وجدوه في أوساط الجاليات المسلمة ساهمت في تعكير صفو الحياة للكثيرين وصارت حتى الأسماء العربية مثارا للشك والريب. بل وتسبب هذا التطرف الإسلامي وإرهابه في تعكير صفو الحياة حتى بالنسبة للغربيين خاصة كثرة المنغصات التي تسببت فيها الإجراءات الأمنية في كل مكان حتى بلغت حد تعرية المسافرين أمام السكانير وعرض الأماكن الحميمة من أجسامهم. - كون العلمانيين المسلمين وحتى المسيحيين وغيرهم من المؤمنين وغير المؤمنين في هذا الشرق العربي الإسلامي هم جزء لا يتجزأ من هذه الأوطان ومن حقهم أن يتمتعوا بمواطنة كاملة غير منقوصة وهو ما يعطيهم الحق في المشاركة في تقرير مصير هذه الأوطان وإبداء رأيهم في طرق إداراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ولا يعقل أن يمنعوا من نقد الإسلام مادام دينا ودولة وثقافة وسياسة تتدخل في حياة الجميع: مسلمين ومسيحيين وغيرهم ومادامت الدساتير تنص على أن الإسلام دين الدولة وأن شريعته هي المصدر الوحيد للتشريع ومادام رئيس الدولة لا بد أن يكون مسلما، وكأن غير المسلم يعاني من عجز مزمن للكفاءة بسبب دينه أو علمانيته سواء كان مؤمنا أو ملحدا، ومادامت مناهج التعليم غير محايدة، وكون دولنا تمارس تمييزا عنصريا تجاه المنتمين لمذاهب أو طوائف أقلوية بما فيها المذاهب الشيعية بين أغلبية سنية أو السنية بين أغلبية شيعية ما جعل النقد المتبادل بين هذين المذهبين أكثر ضراوة من النقد المتبادل مع غيرهم. - كون المسيحيين يعانون من تمييز متعدد الأوجه ومن صعوبات جمة سياسية ودينية وهم في أوطانهم لبناء كنائسهم وممارسة طقوسهم ويجبر العلمانيون منهم على الخضوع القسري لشرائع طوائفهم مثل العلمانيين المسلمين ضمن تقسيم إداري وفرز طائفي يتناقض مع المواطنة الحقيقية. بينما تسمح الدولة بتفريخ المساجد بشكل مهول وتسمح برفع الأذان عبر مكبرات الصوت وتصرف الملايير من أموال الشعب على وزارات دينية لا تمثل الجميع. - كون النساء مجبرات على الخضوع للشريعة في الزواج والطلاق والميراث والتعلم والعمل واللباس والأهلية والسفر والحل والترحال. من المضحكات عندنا أن تضطر المرأة العالمة والطبيبة والجامعية والمحامية والقاضية والوزيرة عند الزواج مثلا إلى الخضوع لشرط الولي الذكر قد يكون أميا وفاشلا. - أما العلمانيون فمصيبتهم أكبر كون العلمانية تقترن بالكفر في أذهان العامة الواقعة تحت تأثير الخطاب التكفيري لرجال الدين، وبالتالي فمجرد التعبير عن قناعاتهم وممارسة حرياتهم، خاصة في الفترات المتأزمة حين يصحو الدين ويجري تسييسه، يعرضهم للخطر من الدهماء ومن رجال الدين ومن أجهزة القمع الحكومية التي تسارع في تطبيق القوانين بتهمة المساس بالمقدسات وتهمة تعريض السلم العام والوئام المدني للخطر. وطبعا، لسنا في حاجة إلى التذكير بأن المتسبب الحقيقي في المساس بالمقدسات هم حكام الاستبداد ورجال الدين عندما اتخذوه مطية لمغامراتهم للوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها بلا منازع وتجارة رابحة لتخدير الشعوب حتى يسهل ركوبها واستغلالها وإقناعها بحتمية قبول بؤسها لحكمة أرادها الله وليس من حقنا التساؤل حولها. ولم تكن شعوبنا هكذا. نقرأ لطه حسين وهو يصف بسطاء الناس الذين كانوا "مستعدين أحسن الاستعداد وأقواه للاتصال بأزمنتهم وأمكنتهم.... وهم يعلمون أن الإسلام بخير وأن الصلوات ستقام وأن رمضان سيصام وأن الحج سيؤدى، لا هم بالمسرفين في التدين ولا هم بالمسرفين في العصيان والفسوق". كان هذا حال الناس العاديين قبل انتشار هذه "الصحوة" وما هي بصحوة. وعليه، فمن الظلم أن يطلب من العلماني وغير المسلم الامتناع عن إبداء رأيه في قضايا عامة تهم الشأن العام يتدخل الدين فيها وتمارس مؤسساته وأحزابه نفوذا كبير على الناس وتوجه قناعاتهم الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية كما تتحكم في طريقة معاملاتهم اليومية فيما بينهم ومع غيرهم. يحدث كل هذا ومنذ حقب زمنية طويلة دون أن يبدو في الأفق بصيص أمل للخروج من نفق التخلف. لهذا فدعوة الكاتب هي دعوة لاغتصاب حق المواطنين في أن يكون لهم رأي آخر مختلف ولو كان أقلويا في حياة أوطانهم تكفله لهم كل مواثيق حقوق الإنسان. ثم يصيح الكاتب ((أيها العقلاء العقلانيون في الحوار المتمدن: أيُ دينٍ في العالم اليوم لا يُحترم ولا يقدر غير الإسلام؟ لأنه يدافع عن "وجوده ".. وينظر للآخر على أنه عدو.. لان الآخر ممثلاً بالرأسمالية وبُرْقُعها العلماني الأقدس حقير وخبيث ودنيء وخسيس.. ومجرم محترف واكبر قاتل في التاريخ !؟ لم يضرب محمد هيروشيما بالقنابل.. ولم تجند عائشة تنظيم القاعدة في حرب الجمل ضد الشيوعية التي كان يقودها عليٌ الذي احتل أفغانستان في 1979..!)). لا نريد هنا العودة إلى التاريخ البعيد حين كانت الحروب الدينية هي الغالبة، لجأ إليها المسلمون لنشر دينهم ظاهريا استعمار أراضي الغير كما لجأ إليها غيرهم تحت مختلف الحجج الكاذبة ولا إلى التاريخ القريب، تاريخ الحقبة الاستعمارية البائدة بعد أن حققت أغلب شعوب المعمورة استقلالها. لندع التاريخ للتاريخ لأن المقام يضيق هنا. ولنهتم بحاضرنا: فماذا يعني الكاتب بأن الإسلام يدافع عن "وجوده" اليوم؟ هل يتدخل الغرب فيحول بين المسلمين وإسلامهم؟ هل يتدخل الغرب فيمنع تطبيق الشريعة في البلاد التي تطبقها؟ أو يمنع تلقين الإسلام للأجيال وإخلاء مناهج التعليم منه ووقف بناء المساجد والمدارس والمعاهد والجامعات الإسلامية. بل هل يمنع الغرب المهاجرين المسلمين من ممارسة شعائرهم الدينية بكل حرية وبناء دور العبادة في عقر داره والدعوة إلى دينهم وأسلمة غيرهم، بينما البلاد الإسلامية لا تتعامل بالمثل مع غير المسلمين. هذا الكلام دموع تماسيح يذرفها الإسلاميون وهم يتمسكنون: ((ذنبنا الوحيد أن نقول ربنا الله)). وطبعا فمثل هكذا كلام برر ولا يزال للإرهاب بل هو دعوة صريحة إليه. لعل في ذهن الكاتب وغيره ما نراه من علاقات دولية غير متكافئة فيها قدر كبير من الاستغلال. وهذا صحيح، ولكن العيب في بلداننا وحكامنا وليس في غيرنا. في العالم بلدان صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها عدة ملايين ومع ذلك فلها من التقدم ولها من استقلالية القرار ما لبلدان أخرى تعداد سكانها عشرات ومئات الملايين. من مصلحة الشركات المتعددة الجنسيات مثلا أن تتعامل مع حكومات استبدادية لا تخضع لمحاسبة الشعوب وممثليهم ولا تتحرج في تقديم الرشاوى للحصول على تسهيلات على حساب المصالح العليا للوطن. المسؤولية الكبرى تقع على عجزنا عن إقامة أنظمة سياسية ديمقراطية مسؤولية أمام شعوبها بأتم معنى الكلمة. الاستبداد محلي والشرطي محلي والجيش محلي والقمع محلي. لماذا هذا العجز المزمن؟ إسقاط المسؤولية على الأخر سذاجة. فحتى شعوبنا عندنا دعيت للانتخاب واختيار ممثليها من الأكفاء النزهاء ففشلت واختارت الأسوأ بسبب تأثير العقليات الدينية والقبلية والطائفية عليها. إن الزج بالدين، أي دين، في الفصل في المعاملات بين المختلفين لا بد أن ينتهي إلى العداوة لأن كل طرف يرفع مقدسه في وجه الآخر ويعتقد أن الله معه دون سواه حتى في مباريات كرة القدم عندنا وحتى تحول اختيار قطر لاستضافة كأس العالم انتصار للإسلام حسب القرضاوي. وهنا لا بد أن نعترف أن المفكرين الإسلاميين ورجال الدين المسلمين هم من يتشبثون بهذه العقلية. وفي الآونة الأخيرة، وبعد انتقال المد الإسلامي والإرهاب إلى الغرب بدأنا نشهد ردود فعل غربية من جنس الفعل لم تكن موجودة هناك، لكن شرها، للأسف، بدأ يهدد مصالح المسلمين بالذات. أما غزوات أمريكا هنا وهناك فلا علاقة لها لا بالإسلام ولا بالبوذية ولا بالمسيحية ولا حتى بالعلمانية ولن يفلح الجهاد القروسطي في مقاومتها مادمنا على هذا السوء من الأداء السياسي والاقتصادي والتعليمي والأخلاقي. أما قول الكاتب: ((لان الآخر ممثلاً بالرأسمالية وبُرْقُعها العلماني الأقدس حقير وخبيث و دنيء وخسيس.. ومجرم محترف واكبر قاتل في التاريخ !؟ لم يضرب محمد هيروشيما بالقنابل.. ولم تجند عائشة تنظيم القاعدة في حرب الجمل ضد الشيوعية التي كان يقودها عليٌ الذي احتل أفغانستان في 1979..!)) فهو أغاليط في أغاليط. الكاتب يغالط عندما يربط العلمانية بالرأسمالية ثم يشكك في علمانية الغرب بوصفها مجرد برقع للمكيدة، بينما العلمانية حقيقة إيجابية ثابتة في الغرب لا ينكرها إلا مكابر. العلمانية في الغرب جاءت كمطلب شعبي ديمقراطي إنساني، دون التقليل من دور البرجوازية فيه، لكنه مطلب تطلب تحقيقه وترسيخه في حياة الناس مئات السنين من النضال والتضحيات ضد رجال الكهنوت المسيحي، والعلمانية استفاد من إشاعتها المستضعفون قبل الأقوياء والعمال قبل الرأسماليين بل استفاد منها المسلمون هناك أفضل مما استفادوا من شرائع بلدانهم الإسلامية أو الهجينة والتي هي البرقع الحقيقي الذي يخفي وراءه الاستبداد والتمييز الديني والعنصري ورفض الاحتكام إلى شرائع عصرية عادلة قابلة للنقد والتعديل والإلغاء لا قداسة لها ولا عصمة للقائمين على تطبيقها. وعليه فربط الكاتب العلمانية بالرأسمالية كشف حقيقة موقفه المعادي للعلمانية، وهو هنا لا يختلف عن بقية الإسلاميين الذين ربطوا دائما الديمقراطية والاشتراكية ومختلف المذاهب الفكرية والفلسفية والفنية بالغرب الكافر حتى يسهل إقناع الناس بضرورة معاداتها. ولا ينفعه هنا التمسح بأذيال ماركس. الكاتب يغالط عندما يحصر الآخر في الرأسمالية والرأسمالية في أمريكا حتى يكون أكثر إقناعا حسب رأيه. العالم كله أصبح اليوم رأسمالية من اليابان إلى أمريكا مرورا بالصين وكوريا وروسيا وأوربا وأمريكا الجنوبية، بما فيها تلك البدلان التي تحكمها أحزاب يسارية وشيوعية باسم اقتصاد السوق ونماذج الحكم الناجحة والإنسانية والعادلة كثيرة، فلماذا لا نركز على ألمانيا أو البلاد الاسكندينافية أو اليابان أو كوريا أو الصين أو كندا جارة أمريكا ذات النظام الاجتماعي الراقي في التعليم والصحة والتقاعد وترقية المرأة مقارنة بأمريكا؟ ومع ذلك فمن المضحك أن نحكم على أمريكا من خلال سياستها الخارجية فقط والتي لا يأتي أحد بجديد عندما ينتقد تدخلاتها الخارجية. أمريكا من أفضل البلاد إنتاجا للفن والعلم والآداب وبراءات الاختراع وحملة جوائز نوبل (ما يقارب نصف العدد أمريكيون) والوقوف وراء مختلف الابتكارات العظيمة ومن السذاجة أن نعتقد أن مجتمعا كهذا هو مجتمع جاهلي يسير نحو السقوط... كل هذا يتجاهله الكاتب بجحود لا نظير له وينتصر لأفكار دينية متخلفة ولأقوام لا تساهم مثقال ذرة في خير العالم، ويطالبنا بالتوقف عن نقدها. هل يجوز المفاضلة بين الرأسمالية والأنظمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية العتيقة التي ارتبطت بالأديان وبالاسلام تحديدا؟ من يفعل ذلك مثل وليد مهدي، فهو كمن يفاضل بين الطب النبوي والحبة السوداء والزنجبيل والكي وبول الناقة وبين الطب العصري، وبين السفر على ظهور الإبل والسفر في أرقى وسائل النقل الحديثة وبين الخيمة والمنزل الحديث. كل هذا لا يعني أن الرأسمالية نهاية التاريخ وأنه يجب التوقف عن النضال من أجل مجتمع أكثر عدلا ومساواة واحتراما لحقوق الإنسان. لكن، نحن آخر من يحق له نقد الرأسمالية ونحن نعيش عالة عليها في هذه البلاد البائسة المتخلفة. يكفينا فخرا لو تمكنا من بناء مجتمعات قابلة للحياة مثل المجتمعات الديمقراطية الرأسمالية حيث الفرص متاحة للجميع للنضال الطبقي والسياسي والفكري والفني وحيث القوانين خاضعة لموازين القوى المتصارعة وليس لشريعة جامدة أو لأنماط حكم قروسطية أو استبدادية فاشية. فأين نحن من هذا؟ إنه لغرور ما بعده غرور أن نصدق أننا في صراع حضاري مع الغرب ثم نرفع في وجهه خرافات قروسطية ونحاربه بأسلحة مستوردة من عنده. وشئنا أم أبينا فإن الطبقة الوحيدة التي فجرت طاقات الإبداع والإنتاج ونقلت العالم نقلة نوعية هي البرجوازية الرأسمالية، ومعاداتها البدائية لا تحل مشاكل التنمية عندنا ولا تخدم إلا الحكم الاستبدادي وتساهم في مزيد من التخلف. ويشترك الكثير من المفكرين العرب في هذه القناعة حول دور البرجوازية بوصفها الحامل الاجتماعي للديمقراطية والعلمانية خاصة أولئك الديمقراطيين الاشتراكيين واللبراليين الذين ناضلوا بإخلاص ضدها من أجل الكادحين ولم يفيقوا إلا والأرض تتزلزل من تحتهم على وقع أقدام الجماهير الكادحة منساقة وراء الإسلاميين المعادين أصلا لكل ما هو تقدمي وعقلاني وإنساني. ويشوه الكاتب الحقيقة عندما يقول: (("اختارت" الأمة العودة للدين لتأكيد الهوية الثقافية الإسلامية، وهي كلُ ما تملكه اليوم، تاركة ً مشروع التنوير العربي باتجاهاته المختلفة، كأي امةٍ أخرى في التاريخ يمكن أن يحصل لها ما حصل هاهنا.. فتاريخ العالم المعاصر هو " تاريخ الحضارات " وليس التاريخ الكلي البشري الذي كانت تقرأه الماركسية القديمة انطلاقاً من أمميتها الكلية.. وسبق وان قلت.. )). طبعا من العار على أمة ألا يبقى لها ما تفتخر به أو تدافع به عن نفسها إلا هوية ثقافية إسلامية مهترئة، ومع ذلك فهل اختارت هذه الأمة الإسلامية هذه العودة عن بصيرة وروية وقناعة واستنارة أم كانت هذه العودة حركة نكوصية رجعية وهمية خائبة، ومن غير المعقول أن نعتبر تصرف الأمة العربية شبيها بـ ((أي أمة أخرى في التاريخ..))، حسب تعبير الكاتب، ذلك أن أغلب أمم الأرض اليوم حسمت أمرها تجاه الحداثة والعلمانية والديمقراطية واقتصاد السوق، وهو ما يدحض زعم الكاتب بأن ((تاريخ العالم المعاصر هو " تاريخ الحضارات " وليس التاريخ الكلي البشري الذي كانت تقرأه الماركسية القديمة انطلاقاً من أمميتها الكلية))، فليس للعرب المسلمين من حيث عرقهم وحضارتهم ما يفصلهم عن تاريخ البشرية إلا في تخلفهم عن اللحاق بركب الحضارة رغم محاولات كثيرة فشلت بسبب غياب جهود تنويرية صادقة وكافية. ولا ينجو من تشويهه حتى ماركس نفسه، فيكتب عنه: ((لو كان سيدي ومولاي ماركسٌ حياً اليوم، لكان لهُ في التاريخ رأيٌ آخر مختلف..)). لبكى على أطلال قبر " محمد ٍ " في الحجاز طويلاً وهو يهمس مناجياً: (( دينُ أمتك ليس أفيوناً، بل هو " الذكرى " التي أبقتها على قيد الحياة، هذه الأرملة الحزينة التي تبكي هذه الأيام ُ دماً.. كما كنتُ اقرأ في " توراة " أجدادي عن بكاء " إسرائيل "..)). ((قرآنك هو الإرادة التي لم تفقدها وعيها فتضيع في مدلهمات الخسة والدناءة الرأسمالية، قرآنك يا محمد هو كل ما تبقى لديها تجاه الخنق والتسميم الذي تمارسه الرأسمالية المتوحشة المقيتة.. اعتذر لك يا أخي وبن " عمي "، لأنني بشر ٌ قاصر بحياتي فلم أكن انظر للدين إلا بتلك الزاوية، لم أكن اعرف الإنثروبولوجيا و السوسيولوجيا التي تعيد رسم خريطة التاريخ بشكلٍ جديد أكثر معقولية.. أتمنى أن يجمعنا الوجودُ يوماً خارج فضاءات الزمان... )). قراءة ما يكتبه وليد على ضوء ماركس تبين قدرا كبيرا من الغرور والأوهام المستبدة به. لنقرأ رأي ماركس الحقيقي في الدين: ((إن إلغاء الدين بوصفه سعادة وهمية للشعب هو شرط سعادته الحقيقية. مطالبة الشعب بالتخلي عن الأوهام اللصيقة بوضعه يعني مطالبته بالتخلي عن وضع في حاجة إلى أوهام. إن نقد الدين، هو إذن، في مبدئه، توجيه النقد لواد الدموع المتوج بالدين. نقد الدين يعني فصل الأغلال عن الزهور الوهمية التي تكسوها، ليس لكي يواصل الناس حمل الأغلال حد اليأس بل لكي يرموا تلك الأغلال ويقطفوا الأزهار الحية. نقد الدين يهدم أوهام الإنسان لكي يفكر، يعمل، يصقل واقعه كإنسان بلا أوهام وقد بلغ سن الرشد، لكي يدور حول نفسه، أي حول شمسه الحقيقية. الدين ما هو إلا الشمس الوهمية التي تدور حول الإنسان مادام الإنسان لا يدور حول نفسه)) (مقدمة في نقد فلسفة الحق عند هيجل). وسأكون شديد الامتنان لكل من يزودني بقول آخر لماركس يتنكر فيه لهذا الموقف سواء قاله في شبابه كهذا القول أم قاله في شيخوخته ونضجه. أما أن يقرر وليد أن ماركس أخطأ عندما حكم على الدين بأنه أفيون الشعوب، الذي يجعل ماركس ليس ماركسيا.
أما أن يقول الكاتب: ((الجماهير رغم انتكاسها وتضايق أقطار الأرض عليها، ستنهض بعد أن ينهار صنم الرأسمالية الكبير، أمريكا، التي أوشك أن يلعنها التاريخ..!))، فسيتوجب على جماهيرنا أن تنتظر طويلا، بل سيتوجب عليها أن تشبع استبدادا وتخلفا وموتا قبل أن تتحقق هذه النبوءة. هذا ما يراد لجماهيرنا، بينما الجماهير الأخرى في أغلب بقاع العالم لم تنتظر المهدي المنتظر ليأتي فيسقط الرأسمالية ويملأ الأرض عدلا بعد أن امتلأت جورا. أغلب أمم الأرض انطلقت تتعلم بتواضع وتبني وتتواصل مع غيرها، بعد أن تخفَّفَت من أثقال الماضي والحاضر وفهمت أن الإنسانية واحدة وما يصلح لأمة يصلح لغيرها. خلاصة القول، إن نقد الدين ورجاله ومؤسساته لا علاقة له بأي مسعى ماكر للإساءة إلى معتنقيه. نقد الدين صار ضرورة عندنا بعد أن استغُل طويلا لعرقلة كل الإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تهدد أنماط الحكم التقليدية المرتكزة على الحق الإلهي أو الديني أو العرقي أو القبلي. كل تشكيك، كل معارضة في هذا الأمر الواقع يتصدى لها رجال الدين بوصفها مروقا على الدين الصحيح وتتصدى لها الحكومات بتهمة العمل على زعزعة السلم الاجتماعي. كل محاولة للتفتح على التجارب العالمية الناجحة قوبلت بالرفض بدعوى التشبه بالكفار، بدأت باكرا برفض المطبعة ثم اللباس العصري ثم تعليم المرأة ثم عملها ثم.. ثم.. ولم تنته برفض الديمقراطية والعلمانية وما يرافقها من حريات التعبير والاعتقاد والإعلام والتنظيم والتظاهر والتعددية الحزبية والنقابية وتوسعت لتشمل مختلف ميادين الحياة حتى أحلوا العلوم الإسلامية محل العلوم الحديثة واكتشفوا في القرآن والحديث علوم الطب والفيزياء والفلك وعلم النفس والاجتماع وغيرها وحولوا مدارسنا وجامعاتنا إلى أوكار تقدم للمتعلمين أي شيء عدا العلم. لم تنجح معهم محاولات عقلنة الدين وإصلاحه عبر تأويل آياته وأحاديثه والتعامل معه بانتقائية مثل حكاية (لا إكراه في الدين) أو حكاية (لكم دينكم ولي ديني) التي لم تقو على الصمود عندما أخرج الإسلاميون ما ينسخها نسخا تاما بـ (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) ولم تستفد المجتمعات الإسلامية منذ بدايات النهضة قبل قرنين من كل هذه البهلوانيات إلا مزيدا من التشظي والتناحر بين البلدان والمذاهب. يجب أن ينزل الدين من عليائه بوصفه تعاليم ربانية معصومة من خلال البرهنة العلمية والعقلية والفلسفية على بشريته ومحدودية تعاليمه و(علومه) المزعومة وضرورة تحييده في ممارسات خاصة حرة، ولو نجحنا في هذا المشروع، على الأقل، مع المتعلمين والنخب المؤهلة لتأطير مسيرة شعوبنا فسنكون قد خطونا الخطوة الأولى في طريق الحداثة الإنسانية الواعدة من أجل الخروج من هذا الانسداد المزمن.
#عبد_القادر_أنيس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة في مقال ((الماركسية ُ والتنويرُ المزيفُ)) لوليد مهدي
-
قراءة في مقال -الحزب الديمقراطي الاشتراكي الإسلامي هو الحل-
...
-
قراءة في مانيفستو المسلم المعاصر لجمال البنا (تابع)
-
قراءة في -مانيفستو المسلم المعاصر- لجمال البنا.
-
هل تصح المقارنة بين الشريعة الإسلامية وتجارب البشر؟
-
هل طبقت الشريعة الإسلامية في حياة المسلمين ماضيا وحاضرا؟
-
حول صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان
-
حوار الطرشان بين الفيلسوف ورجل الدين
-
تطبيق الشريعة يعني مزيدا من الاستبداد والتخلف؟
-
مفاضلة بين أخلاق العلمانية وأخلاق الإسلام
-
حوار مع القرضاوي 16: العلمانية والعبادة
-
حوار مع القرضاوي15: العلمانية والعقدية (تتمة)
-
حوار مع القرضاوي 15: العلمانية والعقيدة
-
حوار مع القرضاوي 14: العلمانية والإسلام: هل الرفض متبادل؟
-
حوار مع القرضاوي 13: العلمانية مبدأ مستورد !
-
حوار مع القرضاوي 12: هل العلمانية مضادة ومناقضة لمصلحة الوطن
...
-
حوار مع القرضاوي 11: هل العلمانية ضد إرادة الشعب؟
-
الطاهر وطار 2
-
الطاهر وطار: الوجه الآخر
-
رد على مقالة الدكتور طارق حجي
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|