|
النقد اخلاص وأمانة
صلاح الدين محسن
كاتب مصري - كندي
(Salah El Din Mohssein)
الحوار المتمدن-العدد: 3231 - 2010 / 12 / 30 - 07:53
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
النقد كعلم – وبأنواعه - ، هو مثله مثل كل العلوم .. مأخوذة من الحياة . نمارسها أو نشاهدها ، أو نعيشها في حياتنا ، أو تحيط بنا فوقنا أو تحتنا أو حولنا . ودور العلم هو مجرد : وضع الحدود ورسم الملامح ورصد ، و تسجيل القواعد . ليمكننا الاحتكام اليها عند الاختلاف . دفعا لاختلاط الأمور ، ولترشيد التعامل معها ، والاستفادة بها .. وتطويرها .
فمثلا .. علم المسرح . موجود في حياتنا اليومية .. سواء وجدت له معاهد علمية تدرسه ، أم لم توجد .. وهذا ما عبر عنه المسرحي الرائد الراحل " يوسف وهبي " بما كان يردده : ما الدنيا الا مسرح كبير ....
كذلك النقد . بأنواعه . موجود في الحياة من قبل ومن بعد دخوله المعاهد العلمية لتدريسه بها . و ليس كل من درس النقد . هو علي درجة كافية بالضرورة من موهبة الحس النقدي .. فقد يكون مجرد دارس ، حافظ .. كمن يحفظ كتابا دينيا .. كببغاء بأكثر مما هو فاهم واعي .. فان أضيف الحقد .. الي ببغاويته .. فانه يعتمد علي حفظه . ليسخر من الناس ويعقد أمورهم وحياتهم !! وتكون فرصته الوحيدة ليظهر ويختلق له مكانة بين مجتمعه . كفقي – فقيه – حافظ حفيظ . أكثر منه فهيم نابه .. فيحط من مقدار آخرين . هم علي موهبة أفضل منه وأعلي قدرا ، بزعم أن ما يقولونه ليس نقدا ، وانه هو الدارس الفاهم للنقد .. وقد ينجح في هز صورهم . أمام من يصدقونه ، ويأخذون بكلامه مخدوعين فيه.. ..! .
توفيق الحكيم . قابل في طريقه الابداعي من دارسي المسرح . من حقدوا عليه . فوصفوا مسرحياته بأنها ليست مسرحا .. واستندوا في أحكامهم علي كونهم أكاديميين ، وعلي قوالب أكاديمية جامدة كما النصوص المقدسة الصلدة .. وقد لا يملك أحدهم حجة سوي القول : أنا أستاذ المسرح ، وأقول ان ما يكتبه " توفيق الحكيم " ليس مسرحا . – ولكنه أستاذ دارس ومدرس .. وليس فنانا مبدعا في المسرح وربما لن يكون مبدعا في يوم من الأيام .. وكلام أمثال ذاك . الذي لا يكون صحيحا .. عن " توفيق الحكيم " .انما يهدف لمصلحة ما – رغبة في اببتزازه ماديا أو أدبيا ، أو لاحراز شهرة ومكانة شخصية عند محبي المسرح والمسرحيين الذين يخدعهم كلامه ..
وأمام هؤلاء الذين نفوا عن كتابات " الحكيم " صفة المسرح . اضطر – أي الحكيم - لأن يكتب في بداية طبعات بعض مسرحياته أن مسرحه ليس للتمثيل علي المسرح بالضرورة ، وانما هو عمل ذهني .... ومع ذلك ظهرت مسرحياته فوق خشبات المسارح .. هذا حدث لتوفيق الحكيم . ممن يحملون من الحقد أكثر مما لديهم من النقد البريء المخلص .
المسرح قد يكون موجودا بداخل قصيدة شعرية . ولو بدون قصد من الشاعر . روح المسرح – المسرحة – . لو فهم هؤلاء ..
وقد يكون المسرح موجودا أيضا بداخل قصة أو رواية – روح المسرح – لو فهم هؤلاء .. لذلك . فان المخرجين الذين يتمتعون بالاحساس ، بالوعي ، والفهم . كثيرا ما يخرجون مسرحيات بالغة الروعة من قصة .. ، أو من قصيدة ، أو من رواية .. بقراءتهم لها . يحسون بقوة ، بالروح المسرحية المنسابة بداخلها. فيكلفوا كاتبا باعدادها للتمثيل علي خشبة المسرح ... ولذلك نقرأ أحيانا علي تترات واعلانات بعض المسرحيات : عن قصة الكاتب : فلان ، أعدها للمسرح : فلان .. وتحقق المسرحية نجاحا كبيرا . في حين ان المسرحيين الأكادميين جامدي العقول قرأوها من قبل كقصة ، أو رواية أو قصيدة . ولكنهم لم يشعروا بأي شيء مسرحي بداخلها ! . فقط وجدوها حسب اسمها علي الغلاف . – قصة أو رواية أو ديوان شعري . . بدون احساس بروح المسرح السارية بداخلها .. ولم تزد عن ذلك في عيونهم ..
وبالطبع ما هكذا كل الأكاديميين بل منهم عباقرة وأساتذة بحق . موهوبون فنانون مبدعون، مجددون ، مطورون .. يتمتعون بعقول وبرؤي غير مقولبة .. ويشهدون بمواهب غيرهم ويفرحون بها ولا ينقصونها حقها ولا يقللون من قدرها .. والرائد المسرحي الراحل " زكي طليمات " كان واحدا من هؤلاء . فنانا بحق . ممثلا ومخرجا . في نفس الوقت الذي كان فيه أستاذا أكاديميا . – أول عميد لمعهد الفنون المسرحية في أوائل الأربعينيات من القرن الماضي . .
من رواد المسرح "علي الكسار " صاحب واحدة من اشهر وانجح الفرق المسرحية في زمانه . لم يكن يعرف القراءة أو الكتابة .. (!) .
وكذلك اسماعيل يس . الذي ملأ حياتنا فنا . ثمثيلا ومنولوجا ، ومرحا وبهجة .. وكان صاحب فرقة مسرحية . تحمل اسمه . لم يتلق تعليما ..
ومحمود شكوكو . الذي لقبوه ب " شارلي شابلن الشرق " لم يتلق تعليما.. أما الرائد المسرحي والفنان " زكي طليمات " فقد التحق بمعهد التربية ثم أوفد في بعثة إلى فرنسا لدراسة فن التمثيل في باريس في مسرح الكوميدى فرانسيز والأوديون وعاد حاملاً دبلوماً في الإلقاء والأداء وشهادة الإخراج .
وروز اليوسف . أسست المجلة السياسة الشهيرة . المعروفة للآن . . وعمل عندها في حياتها وبالمجلة بعد رحيلها . من صاروا فيما بعد عمالقة الصحافة والأدب والكاريكاتير والشعر .. ، وهي نفسها الممثلة التي سميت في عصرها " سارة برنارد الشرق " ..لم تتلق تعليما .. ويقال انها لم تكن تعرف القراءة أو الكتابة ...وتزوجت زكي طليمات . ولها منه ابنة . وشاركها في التمثيل . وحصلا معا علي الجوائز . وقد سمعته – طليمات- في حديث اذاعي يشيد بدور موهبة روز اليوسف - الممثلة – عندما مثل أمامها علي المسرح . فبحضورها المسرحي الكاسح اشعلت حرارة آدائه . مما ساعده في الحصول علي جائزة مثلها في نفس العمل . ! انها عبقرية روز اليوسف الموهوبة التي لم تدرس التمثيل ، وأفادت وألهمت الرجل الذي درس التمثيل والاخراج ، وعاد يحمل الشهادة من فرنسا .. وانها أيضا لعظمة " زكي طليمات " الأكاديمي . الذي أقر بالفضل الفني عليه . لممثلة لم تتلق تعليما !!.
العباقرة ، أعمالهم العبقرية .. كثيرا ما تكون فوق المألوف وفوق المعروف ، وفوق العلم التقليدي ، وفوق المعلمين التقليديين ، وفوق النقد التقليدي ..
سمعت الرائد لكبير يوسف وهبي . في برنامج اذاعي . يسألونه عما اذا كان قد هوجم وانتقده الآخرون ؟ وماذا قال عنه أعداؤه الحاقدون . فأجاب : قالوا انني : لست فنانا .. وأنني مهرج ، وأنني لا أستحق الوقوف علي خشبة المسرح .. !!! كل هذا قيل عن رجل قدم للمسرح وللتمثيل عموما ، من صاروا عمالقة وعلامات في الفن – مسرح وسينما - .. وأنفق ميراثه عن أبيه علي فن المسرح . وكان يجوب بمسرحة وبمسرحياته بالدول وبالمحافظات وبالمدن .. .. ؟!.. فتري : من هؤلاء الذين تجاسروا وتطاولوا علي ذاك الرائد العظيم ؟ الجواب : بالطبع هم نقاد ومسرحيون ..!
من قرابة 15 : 20 عاما . في واحدة من أهم قاعات عرض لوحات الفن التشكيلي . بالقاهرة . وهي قاعة معهد جوتة – التابعة للمركز الثقافي الألماني . قرب ميدان التحرير . شاهدت من ضمن ما شاهدته . اثنين من المعارض . أحدهما معرض لفنانة تلقائية مصرية – فلاحة .. – " شلبية " ، ومعرض لفنان تلقائي مصري اسمه " الشيخ رمضان " . وهو رجل ريفي عادي بسيط ، يلبس الجلباب والعمامة والطاقية . ولكنه فنان . التقطه رجل ألماني مقيم في مصر . من احدي القري ، بعدما رأي لوحاته فأعجبته . فسعي لاقامة معرض لتلك اللوحات بقاعة معهد جوتة الألماني ..! وكل من الفنانة والفنان التلقائيين . لقيا معرضاهما احتفاءا كبيرا من الوسط الفني ، والوسط الثقافي عامة . حينذاك . ولكن .. لا يخلو الأمر دوما من ظهور ناقدين ينفثون من الحقد أكثر مما يقدمون من النقد النافع ..
في احدي الدول الناطقة بالعربية . منذ سنوات كثيرة . كنت بصحبة مجموعة من الأصدقاء من مواطني تلك الدولة . وفجأة مر رجل . فرحوا لمروره ، وقالوا لي انه شاعر شعبي محبوب . ودعوه لتناول فنجان شاي معنا . وامتاعهم بالقاء بعض أشعاره . وهمسوا لي : انه أمي لا يعرف القراءة ولا الكتابة . سعدوا جدا وسعدت معهم بالاستماع الي شعره . وبعدما انصرف الشاعر . قال أحد من كانوا يجلسون علي مقربة منا : هذا ليس شعرا .. - سألوه : كيف ؟ ولماذا ؟ فاتضح انه كان قد اصطاد بيتا من القصيدة وقال انه مكسور . ليس حسن الوزن . - وان صح ما قاله . فهذا أمر لا يمكن أن يخلو منه شعر فحول الشعراء . فأي شاعر مهما كانت مكانته . يمكن استخراج سقطات فنية من شعره ولكن هذا لا يسقطه كشاعر كبير .. الا أن أخانا ذاك . بزعم انه دارس للشعر والأوزان والبحور . أراد أن ينفي عنه تماما صفة الشاعر . لمجرد وجود بيت غير موزون بالقصيدة - ان صح ادعاؤه - . هذا ليس نقدا وانما هو هدم . حقد علي شاعر محبوب أمي موهوب ، وصاحبنا خريج كلية اللغة العربية ، لا يمتلك مثل موهبته الشعرية ، ويريد اسقاط شاعر بتجريده من صفته . لمجرد ملحوظة نقدية – لو صحت - .
في أي مجلس أو أي منتدي . يتكلم فيه انسان كلاما معقولا جدا وعن علم . باستطاعة أي شخص قوي الشخصية . وان لم يكن عالما بما يقال ، ولا علي قدر كاف من الثقافة . أن يعقب قائلا : " هذا الكلام لا أساس له من الصحة ، من أوله لآخره " ..! .. يفولها بصوت نافذ حازم حاسم واثق ..وبدون ذكر اسباب ، - وقد يكون مثقفا سفسطائيا ، ويسفسط أسبابا .. ! وهذا يكفي لاحداث بلبلة وتشكيك كبير لدي الحاضرين ! – وسيجد من ينجرون خلفه من عامة الحضور ، وربما يؤيده البعض من العقلاء أيضا ! .. وكما يقول المثل المصري : " العيار – أي الطلق الناري - اللي ما يصيب ، يدوش – أي يثير الانزعاج والقلق - " ... ---- بظرف وببراء الأطفال . قالت الطفلة ذات الخمس سنوت من العمر . لأمها : " يا ست ماما . ألا تعرفي ان فازة الزهور . الزجاجية . سوف تعرضينها للكسر . ؟! ، لقد وضعتيها في مكان . تكثر فيه تحركاتنا . ! يمكنك أن تنقليها هنا ، أو هنا ، أو هناك – وأشارت بيدها نحو الأماكن المقترحة – . " تأملت الأم ما قالته طفلتها . ثم ابتسمت بسعادة . وهزت رأسها موافقة علي الاقتراح . = ما قالته الطفلة هو : نقد فقد أشارت الي خطأ . وبينت السبب والخطورة المتوقعة . وزادت أن اقترحت تصحيحا للخطأ ، بطرح بدائل . ماذا يكون النقد اكثر من ذلك ؟ النقد - البناء ، أو غيره - موجود بكل مكان في حياتنا . . بالبيت ، بالحقل ، بالمصنع ، بالشارع ، بالحافلة ، بالحانة ، بالمعبد ، بالنادي .. بكل مكان . يمارسه الناس جميعا . وليس حكرا علي أحد . والعبرة بالاخلاص والأمانة . ... ... ... ****************
#صلاح_الدين_محسن (هاشتاغ)
Salah_El_Din_Mohssein#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاعلامي والراقص والشيخ
-
مشكلة المرأة مع خلل التوازن العددي بين الاناث والذكور
-
الكلاسيكية في التنوير ، والفن ، والأدب
-
أكذوبة الطمع في نفط العراق
-
تصحيح التاريخ
-
العوربة والأسلمة ، غلط لحقائق التاريخ والجغرافيا
-
ابنة نجيب الريحاني
-
كلاكيت 3- لا ديموقراطية مع - ريا و سكينة -!!
-
كلاكيت 2 - من خيرات الاسلام
-
ربنا .. ربنا
-
تركيا . الديناصور العثمانلي ، يصحو ويتلمظ
-
ردود علي تعليقات مقالنا السابق - هل نفصل حرية التعبير عن حري
...
-
هل نفصل حرية التعبير عن حرية الرأي؟
-
حرية الرأي وحرية التعبير لا تنفصلان
-
رد علي تعليقات القراء علي مقالنا السابق
-
زوبعة د. طارق حجي . بالحوار المتمدن
-
المؤرخ .. مذيعا تليفزيونيا تقليديا (!) .
-
الناس والحرية -49
-
فوبيا نظرية المؤامرة ضد العرب والمسلمين
-
الصديق والعندليب ( عبد الحليم حافظ ، ومجدي العمروسي ) .
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|