كاتب وباحث إسلامي عراقي
تغيير بعض القضايا غير المركزية، أو تعديلها في الفكر الشيوعي يعتبر مرونة في العمل السياسي عند الشيوعيين الجدد ، لتحقيق الأهداف والمبادئ الإشتراكية الخرافية التي أكل عليها الدهر وشرب. وقد اصطلحت (النظرية الاشتراكية) على هذا الاتجاه بـ(التاكتيك في العمل الثوري)، واصطلحت عليه الأحزاب اليسارية أيضاً بـ(المرونة في العمل الثوري).
بلحاظ أن (لينين) عندما أدرك خطأ (المفاهيم الماركسية)، وخطأ التوجه السياسي العام (للحزب الشيوعي)، لم يجد أمامه غير طريق (المرونة)، التي أسماها:
بـ(التاكتيكات) للحفاظ على (مبادئ ماركس) وإن كانت خاطئة، لأنه لو اعترف بخطأ هذه المبادئ سينسف (النظرية الاشتراكية) من الأساس.
لهذا دعا (لينين) إلى تبني (حركات التحرر)، الذي يعد خرقاً لقانون (التطور الرأسمالي الاشتراكي) . وقد اعترف ( لينين ) أن هذا الخرق لم يكن إلا وسيلة من الوسائل لتحقيق الهدف نفسه، الذي تسعى (الثورة الاشتراكية) إلى تحقيقه.
وفي النهاية توصل (لينين) إلى وضع نظريته المعروفة بـ(الديالكتيك في المجتمع المتخلف الفلاحي)، ثم قال بعد ذلك عن هذا (الديالكتيك) بأنه:
- (يؤدي إلى حركة تحرر شعبية، وهذه تتطور إلى أن تصل إلى المستوى التقدمي والعلمي للاشتراكية الشيوعية)!!
واعتراف (لينين) بحق تقرير المصير للشعوب المضطهدة جاء أيضاً ليخدم مبدأ (مصالح الصراع الطبقي للبروليتاريا)، لأنه أدرك عبثية تطبيق (النظرية الاشتراكية) في مجتمعات الشرق، فدعا إلى عدم (التطبيق الميكانيكي لأفكار الثورة الاشتراكية والمقترحات الستراتيجية التي تصاغ في الغرب على بلدان الشرق، أو تنشر التجربة السوفياتية إلى هذه البلدان دون تمييز)، ثم وجه تعليماته (لتطبيق روح وجوهر ودروس تجربة روسيا السوفياتية) ، وهذا ماجاء في رسالته إلى (الرفاق الشيوعيين في أذربيجان وجورجيا وأرمينيا وداغستان والجمهورية الجبلية) ـ (المؤلفات الكاملة): ص318.
وتطبيق روح وجوهر (التجربة السوفياتية) يعني عند الماركسيين الجدد عدم التخلي عن الأفكار الرئيسة للنظرية الإشتراكية ، المعادية للدين والتراث والأعراف والقيم النبيلة .
ويعتقد البعض أن (لينين) خالف (ماركس، وأنجلز)، ولكن الحقيقة غير ذلك، لأن (ماركس، وأنجلز) عندما وضعا (حقوق البروليتاريا) فوق كل اعتبار، اهتمّا أيضاً بالدول المستعمرَة كالهند، حيث نظرا إليها بعين العطف، وكانا يعتقدان أنها ستحقق الاستقلال قبل أن تحدث الثورة الاشتراكية في بريطانيا!! الأمر الذي جعلهما يؤمنان بأن: (المجتمعات المتخلفة يمكن أن تتخطى الرأسمالية إلى الاشتراكية أو توقف المرحلة الرأسمالية من تسلسل التطور التقدمي).
وقد تركت هذه الفكرة جانباً في (التفكير الماركسي) إلى أن جاء (لينين)، ووجد فيها المخرج من الأخطاء القاتلة الموجهة (للنظرية الاشتراكية)، فكتب استناداً إليها نظريته (التطور اللارأسمالي وحق تقرير المصير)!! فقال موجّهاً كلامه لشيوعيي الشرق:
- (إن أغلب شعوب الشرق ليسوا عمالاً مروراً بمدرسة المصانع الرأسمالية، وإنما ممثلون نموذجيون للجماهير الفلاحية... إنكم تواجهون في هذا الصدد مهمة لم تواجه شيوعيي العالم من قبل، يتعين عليكم استناداً إلى النظرية العامة وتطبيق الشيوعية أن تُكيّفوا أنفسكم إلى الأوضاع الملموسة التي لا نظير لها في البلدان الأوروبية، عليكم أن تكونوا قادرين على تطبيق تلك النظرية وذلك التطبيق في أوضاع غالبية السكان فيه من الفلاحين) . حسب ماجاء في ( المؤلفات الكاملة ) - ص 161 .
ويعلق (أوليانوفسكي) على ذلك بقوله في كتابه ( الكومنترن والشرق – الإستراتيجي والتاكتيكات ) – ص 15 :
- (طرحت تلك مطالب خاصة على الحركة الشيوعية في الشرق، تمثلت في ترجمة الماركسية إلى لغة البلدان المتخلفة، وتكييف الأحزاب الشيوعية، تكوينها ومهماتها الخاصة، إلى مستوى بلدان الشرق المستعمر) .
وأعتقد أن عدم الفهم الواقعي للمجتمعات الشرقية، إضافةً إلى خطأ (المفاهيم الماركسية العامة)، جعلت (النظرية الاشتراكية) تعاني من فشل دائم وذريع في الشرق، لأنها لم تتلاءم مع تطلعات شعوب المنطقة، ولا مع طبيعة المجتمعات الشرقية ، فظلت الأحزاب الشيوعية معزولة بسبب عدائها للإسلاميين وللوطنيين وللأحرار الذين لم يتنازلوا عن تراثهم ومبادئهم المغروسة في أعماق هذه الأرض التي يقفون عليها .
وقد اعترفت (السكرتارية التنفيذية للكومنترن) بذلك وقالت بصراحة:
- (إن الأحزاب الشيوعية في تلك البلدان ظلت لفترة طويلة مجموعات معزولة بعيدة عن الجماهير، انعزالية للغاية في تاكتيكاتها).
ومن الجدير ذكره أن (قيادات الحزب الشيوعي) الروسي عارضوا (لينين) في طروحاته، حيث قالت المفكرة (روزا لوكسمبرغ) عام 1918م بأن:
- (هذه الأفكار تقود إلى تفسخ الدولة، وأن هذا التقويم مضلل، ولا ينضوي على أي معنى) .
وهي بذلك تشير إلى وضع (الجمهوريات السوفيتية وحق تقرير مصيرها)، لكنها بعد أن فهمت ما يريده (لينين)، وأنه جمّد (حق تقرير المصير) عن هذه الجمهوريات، رجعت عن انتقادها ومعارضتها، خصوصاً بعد أن أوضح (لينين) موقفه قائلاً:
- إن (الحد الذي تناضل فيه برجوازية أمة مضطهدة ضد أمة مضطهدة، فإنّ على البروليتاريا أن تساندها، أما إذا كانت برجوازية أمة مضطهدة تدافع عن قوميتها البرجوازية الخاصة، كان على البروليتاريا أن تعارضها).
ثم شرح بالتفصيل في كتابه (الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية) كيفية الاستفادة من الصراع بين (البرجوازية والإمبريالية) لخدمة (الثورة الاشتراكية العالمية)!!
وقد مارس (الماركسيون) سياسة مضللة تحت شعار (حق تقرير المصير)، فهذا الشعار كان مخادعاً ومصلحياً، حيث أخضعت الجمهوريات الإسلامية قسراً وضمت بالقوة إلى هيكلية (الاتحاد السوفيتي) السابق، فيما قتل (ستالين) الآلاف لأنهم فكروا فقط بالانفصال، خصوصاً في الشيشان، في الوقت الذي كان (الإعلام السوفيتي) يمارس نوعاً من التضليل، ويركّز على (حق الأمم في تقرير مصيرها) ويعتبره مهماً في (توحيد شعوب الدولة السوفيتية)!!
وهو تضليل مقصود مارسه (لينين) أيضاً بحيث أوقع نفسه بأخطاء جديدة تضاف إلى أخطاء (النظرية الماركسية)، فإيمانه المطلق بـ(الديالكتيك) قاده إلى تصورات خرافية حول: (التناقضات في المجتمع الشرقي الفلاحي، وتطورها من القومية والبرجوازية إلى الاشتراكية العلمية)!! وهذا يعني تعميم (قانون السببية)، كما فعل (ماركس) من قبل، على الظواهر الاجتماعية المتناقضة.
بلحاظ أن هناك قوانين علمية لم يفهمها (لينين) لها تأثير كبير على التحولات الاجتماعية، لذلك فإن الاتجاه الحديث في (علم الاجتماع) يدعو إلى دراسة (الظواهر والأحداث) بكل تفاصيلها وملابساتها الحقيقية للوصول إلى أسبابها الواقعية.
وبعد ظهور تناقضات قاتلة في (الفكر الاشتراكي)، كتب (لينين) كتابه (ما العمل...؟!) محاولاً دون جدوى التوفيق بين النظرية والتطبيق. وأعتقد أن هذه التناقضات الفكرية أدت إلى انهيار (الاتحاد السوفيتي)، وانسحابه من لعبة (التوازنات الدولية).
لقد قاد التحليل غير الناهض (المفكرين الماركسيين) إلى تعميم (قوانين جاهزة) على أحداث تاريخية مهمة، وتفسير كل شيء على ضوء (الديالكتيك)!! فالبروفسور الروسي (أوليانوفسكي)، مثلاً، جعل الثورة الإسلامية في إيران نموذجاً حياً لتصورات (لينين) حول التحول من مرحلة الثورة إلى (الاشتراكية العلمية)!! مع أنه يعترف في كتابه ( التاكتيكات ) – ص 20 :
- أن أساس هذه الثورة (شعبي وسياسي) ويضيف: (لقد اندلعت الثورة تحت شعارات إحياء المبادئ القديمة للإسلام مؤكدة على العدالة والمساواة كما يفهمها الإسلام) .
وهكذا نعرف أن المرونة عند الماركسيين والشيوعيين الجدد تتعلق في القضايا غير الجوهرية ، لتحقيق الأهداف العامة، ومحاربة الإسلام ، فهم إلى اليوم لم يتنازلوا عن أولوياتهم وحقدهم على المبادئ الإسلامية في كتبهم ومقالاتهم .
وهم يدركون أن (المرونة السياسية) اليوم أفضل طريق للوصول إلى (مصلحة استراتيجية) في عراق الغد ، خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وشطبه من الخارطة السياسية ، وانهيار الفكر الشيوعي الهش من الجذور .
وعلى الإسلاميين أن لا ينخدعوا بألاعيب حفنة من المضللين باعت ضميرها وإسلامها وقيمها من أجل نظرية مخرفة سقطت في مزابل التاريخ . ولذا فإني أشد على يد العلامة الشيخ الآصفي في تنويهه الأخير حول هذه الإشكالية التي نرجو أن ينتبه لها بعض الاخوة في تحركهم الإسلامي .