ميسون البياتي
الحوار المتمدن-العدد: 3223 - 2010 / 12 / 22 - 22:51
المحور:
حقوق الانسان
توقفت عن الكتابه خلال الأشهر الماضيه بسبب نكسة صحية ألمت بي ومنعتني عن مزاولة نشاطات حياتي اليوميه جميعاً وليس الكتابة فقط .
منذ غادرت العراق عام 1997 إثر مشكلة مستفحلة دكتني دكاً مع الحكومة العراقية السابقه لا لذنب جنيته ولكن لكوني بنت أخ الشاعر العراقي الراحل عبد الوهاب البياتي , منذ ذلك التاريخ ولحد اليوم أعاني من إرتفاع ضغط الدم . آخذ العلاج بإنتظام ... لكن العلاج لا يجدي في بعض الأحيان .
شهر نيسان من عام 2009 دخلت المستشفى بسبب نوبة حاده في إرتفاع الضغط وصلت الى 210 على 120 وبقيت في المستشفى الى أن تمت السيطرة عليها لكي يسمح لي بالمغادره , ومن يومها لم يعد ضغطي الى وضعه الطبيعي .
شهر تموز الماضي هذا العام وبعد نوبة مدمرة في إرتفاع الضغط .. إكتشف الأطباء وجود جلطة كان ينبغي دخولي المستشفى للخضوع لعملية جراحية لإزالتها . بعد أسبوع واحد من تلك العمليه بدأت عندي آلام غريبه ورهيبه في أطرافي السفلى , آلام تشبه الكسر والحرق والتقطيع في آن واحد معاًً , هناك تسمية علمية للمرض .... لكني لا أعرف له تسمية شائعه , ويعلله الأطباء أن الجلطة حين سدت مجرى الدم فإنها أعاقت وصوله الى أطرافي السفلى مما أحدث تلفاً في كامل أنسجتهما وأضعف مناعتي ولهذا ظهر عندي بعد زوالها إلتهاب العظم والعصب والعضلات والجلد في وقت واحد . ألم العظم والعصب كان يمنعني من النوم والحركه , أما ألم الجلد فقد سبب حكة رهيبه جامحه مجنونه أدت الى إنسلاخ جلدي .
ليس معي في نيوزيلند غير إبني الوحيد وهو في السادسة عشرة من العمر , تحمل في تلك الفتره مسؤلية جميع شؤوننا .. إضافة الى قيامه بتمريضي . ومرات عديده حين لازمتني النوبه كنت أحس بدنو الأجل ... وذات مره سألت نفسي : اذا متُّ اليوم أو غداً فكيف سيبقى إبني وحيداً تماماً في هذا البلد الغريب البعيد جداً ليس عن الأهل وحدهم .. ولكن عن كل العالم ؟؟
ساعات طويله قضيتها في السرير , أفكر في قضية العودة .. من أجل إبني وليس من أجل أي شيء آخر ... وفي تلك اللحظات تذكرت قصة السيده فوزيه زوجة الأستاذ محمد عايش عضو القياده في حزب البعث الذي تم إعدامه عام 1979 , و قصه هذه السيده رحمها الله .. خرافية المعنى والمغزى والظلم والألم وسأحكيها لكم الآن :
لم تكن تربطني معرفة شخصيه بالسيده فوزيه ( أم سحر ) لكني خلال السنوات ما بين 1975 وحتى 1979 كنت أراها في الحفلات التي تقيمها مؤسسة الإذاعه والتلفزيون في نادي الصيد أو قاعة الخلد , كواحده من كبار المدعوات بحكم كونها زوجة ( للرفيق ) محمد عايش .
آخر مره رأيتها فيها كانت شهر مايس في حفلة يوم عيد العمال 1979 في نادي الصيد بصحبة زوجها , في تموز تم إعدام زوجها ... وإختفت آثارها , وفي تلك الظروف وللأمانه .. لا أحد يجرؤ على أن يسأل .
نهاية عام 1989 في الخريف , رن الهاتف في بيتي وكانت المتكلمه جارتي ( أم آلاء ) قالت لي : دكتوره محتاجه استشاره ممكن نلتقي الآن لمدة خمس دقائق ؟ فخبرتها تعالي .
جاءت أم آلاء وقالت لي : حبيبتي ميسونه الموضوع ما يتحمل الكلام في التلفون .. اليوم العصر تكون عندي ضيفه أريد أرحب بها ترحيب خاص لأن المسكينه عانت من ظلم فاحش وتحتاج الى رد إعتبار .. وأنا أعرفك طيبة مجلس وحلوة معشر , لهذا فضلت أن تكونين إنت بالذات معي في إستقبالها .
سألتها من هي هذه السيده ؟ فقالت : أم سحر زوجة محمد عايش , خرجت من السجن قبل أشهر وهي صديقتي منذ سنوات طويله .. زرتها في بيتها عدة مرات بعد خروجها من السجن , وأصررت على دعوتها عندي وهي قادمه كأخت وصديقه .
حين كنت أرى السيده أم سحر في السابق كنت أرى إنسانه جميله مشرقه مليئه بالحيويه .. أما السيده التي دخلت علينا عند العصر حيث كنا ننتظر قدومها .. فقد كانت شبح تلك السيده .
رحبنا بها بموده , وذكرتها بنفسي , ثم ذكرتها ببعض الفنانين والمطربين العرب الذين كانوا في الحفلات التي حضرتها هي , وحكيت لها ذكرياتي عنها وأنا ذاكرتي قويه وتحضر في بالي تفاصيل قد يعتقد البعض أن لا أحد قد إلتفت إليها أبداً ... ثم تحول الكلام بكل تلقائيه الى فترة دخولها السجن فقالت إنها كانت في البيت ولا علم لها بأي شيء حين جاء أشخاص من دائرة المخابرات وبكل أدب طلبوا منها مصاحبتهم وكانت تظن أنها مطلوبه لواجب ما .
لم يقابلها أحد .. ولم يسألوها عن أي شيء .. وضعوها في غرفة صغيره وأقفلوا عليها الباب وبعد ذلك إكتشفت المسكينه أن هذه هي زنزانتها الإنفراديه .
قالت بأنها لم تكن تعرف الليل من النهار ولا الصيف من الشتاء ولا كم مر من الوقت .. وأنواع من الهذيانات والبكاء والعويل والضحك الهستيري كانت تعتريها ولا تدري ماذا في الخارج !! اذا كانت متهمه بشيء فلماذا لا يحاكموها أو يحققون معها ؟ واذا كانت بريئه وهي زوجة عضو في القياده .. فمن يجرؤ على وضعها في هذا المكان ؟ ولماذ زوجها ساكت ولا يبحث عنها ؟ إبنتها الصغيره سحر .. أين هي الآن ومن يعتني بها ؟ ولماذا يحرمون سحر من أمها ؟
وقالت بأنها كانت تتوسل بالذين يضعون لها الطعام من تحت عقب الباب أن يقولوا لها صباح الخير أو مساء الخير فقط لأنها بدأت تنسى الصوت البشري .. وكانت طول الوقت تكلم نفسها بصوت عالي لتسمع صوت نفسها هي ,, وبعد نوبات من التشنجات والصراخ والعويل طلبت من سجانيها مصحفاً فوضعوه لها من تحت عقب الباب أيضا ً.
قالت : سلمت أمري الى الله .. بدأت أقرأ القرأن طول الوقت .. وأصلي طول الوقت .. وفرغت ذهني من أي تفكير حتى لا أصاب بالجنون .
وأنا الآن سأكمل القصة نيابة عنها لأنها لا تدري عن أي شيء في الخارج . حين دخلت الى زنزانتها كان رئيس جهاز المخابرات في ذلك الوقت هو برزان إبراهيم الحسن شقيق الرئيس العراقي الراحل صدام حسين .
عام 1984 حدثت للرئيس صدام مشكله مع أشقائه بسبب عدم موافقتهم على تزويج إبنته رغد من حسين كامل , تمخضت المشكله عن طرده لأشقائه من وظائفهم ووضعهم تحت الإقامة الجبريه . في هذه الفتره تم تعيين الدكتور فاضل البراك رئيساً لجهاز المخابرات إضافة الى كونه رئيساً لجهاز الأمن .. لكن لا أحد نظر في قضية أم سحر وبقيت المسكينة نسياً منسيا ً .
عام 1988 إنتهت الحرب العراقيه الإيرانيه .. كبار قادة الجيش الذين كانت لهم مكانتهم إثناء الحرب لا يجوز أن يلفهم النسيان بعد نهايتها .. لأنهم عندها يتحولون الى مصدر إزعاج للدوله ولهذا تم تعيين المرحوم الفريق أول الركن هشام صباح الفخري رئيساً لجهاز المخابرات .
العسكري النظامي المحترف .. ليس مثل العسكري الذي تمنح له الرتبة جزافاً , ولهذا فإن الرجل حالما تسنم هذا المنصب طلب جرداً بكل صغيرة وكبيره .. شارده أو وارده , موجودة تحت إمرته فتسلم إسم السيده أم سحر ضمن ما تسلم .
حين درس قضيتها وهي لا تدري ... وجدها محجوزه منذ عشر سنوات , دون تهمه , دون ذنب , دون قضيه , حجز إعتباطي والسلام .
في أول مقابله له مع الرئيس كلمه بموضوعها .. فتقرر إطلاق سرحها . وهنا ستعود أم سحر لإكمال بقية قصتها بنفسها , قالت :
كنت أصلي حين فتح عقب الباب .. سمعت صوتاً يقول : مبروك أم سحر اليوم ترجعين لبيتك , وهذه ملابس جديده .. إستحمي وإلبسيها حتى تغادرين .
قالت : لأول وهله لم أصدق الكلام وظننت أنها هلوسات , لكني حين نظرت الى الباب ووجدت الثياب تحتها .. وكنت في حالة قيام في صلاتي .. سقطت على الأرض فوراً . المهم بعد ساعه جاء شخص وفتح الباب الذي لم يفتح منذ عشر سنوات وقال إنه سيأخذني الى المدير .
وقالت : دخلت على المدير وأنا لا أعرف من هو فحياني بنفسه وطلب مني الجلوس .. إذن صحيح سأخرج .. فبادرته بالسؤال : معقوله يا أستاذ هل ممكن يكون أبو سحر بكل هذه القساوه وأنا لم أفعل شيء ؟ حتى لو تزوج عليَّ .. أو حب يطلقني .. على الأقل يتذكر أنا أم إبنته سحر ولخاطر البنت لا يعاملني بهذه الطريقه .
وقالت : الرجل جاوبني وقال أختي عن أي موضوع تتكلمين ؟ في اللحظه التي دخلت أنت الى هذا المكان زوجك كان قد تم إعدامه . حافظي على هدوئك وتقبلي كل شيء بصبر وشجاعه .. ومع السلامه ترجعين لبيتك .
قلت لها وانا أبكي : الحمد لله على سلامتك أم سحر
فقالت : أنا إنسانه بريئه ولا علاقة لي بأي شيء .. تعرضت الى كل هذا الظلم ثم أطلق سراحي , صدقيني لا قيمة للحريه دون رد إعتبار , في السجن كنت مخذوله والآن أنا أكثر خذلان وليت الله لم يستجب لدعائي ويمنحني الحريه حين كنت أرجوها منه فقط .
لم ألتق هذه السيدة مرة أخرى .. وسمعت أن الله سبحانه وتعالى رزقها بنعمة الموت بعد ذلك بسنوات , لكن قصتها المدمره كانت واحده من العوامل التي شكلت شخصيتي أنا .. ولهذا تذكرتها وأنا أهم بإطلاق سراح نفسي من زنزانة الغربه بالعودة الى الوطن . ولكن دون رد إعتباري في إسمي وشخصيتي .. فلا أشرب كاسك يا وطن , وسأفضل الخذلان في الغربه على الخذلان فيك .
#ميسون_البياتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟