مازن كم الماز
الحوار المتمدن-العدد: 3222 - 2010 / 12 / 21 - 18:27
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الحقيقة أنني لا أفهم لماذا يجب على الإنسان أن يستغفر السماء أو ربه ليل نهار , خاصة ذلك الفقير المضطهد الذي خلق ليحيا سلسلة لا تنتهي من المعاناة و الكدح حتى نهاية حياته , و لا أفهم لماذا يجب اعتبار الإنسان كتلة من الأخطاء و الذنوب التي يجب أن يطالب ليل نهار بكل تذلل أن تمحى و أن تعتبر كل تلك الذنوب "مرتبكة" بحق قوة فوق إنسانية كالإله مثلا أو الوطن عند الوضعيين , و أن يمارس بعض الطقوس الغبية ليحقق ذلك مثل قراءة سورة ما عدة مرات بشكل ميكانيكي أجوف أو الوقوف مسمرا أمام علم ما أو أداء التحية بأقصى احترام و خضوع ممكنين لشخص ما يوصف بأنه و ذلك العلم رمز للوطن الذي ينتمي إليه , هذا كله لا يعني أي شيء سوى المزيد من التذلل و ترسيخ الموقف الماوزخي من الذات في مواجهة كائنات لا نراها و التي باسم هيمنتها و سيطرتها المزعومتين علينا يمارس بعض البشر هيمنتهم على سائر البشر . لعله من أخطر ما في النسخ الأخلاقية السائدة , الدينية و الوضعية على حد سواء , أنها تحول علاقة الإنسان بأخيه الإنسان إلى علاقة بين الإنسان و كائن فوق إنساني كالإله أو الدولة أو الوطن بحيث تستطيع أن تدمر التضامن الطبيعي بين البشر و تحوله إلى صراع يتوسطه ذلك الكائن فوق البشري , لا أعرف صراحة لماذا يجب أن يعتبر الإنسان في أي حال مسؤولا أمام إله أو حكومة أو قاضي و ليس أمام أخيه الإنسان بالذات , إن هذا بالذات نسف للأساس الإنساني للأخلاق و تحويلها من نتيجة و ممارسة منطقية و طبيعية للاجتماع البشري تقوم على التضامن و الحرية إلى سلطة لبعض البشر فوق غالبية البشر تقوم على القهر و الكبت و الظلم و الاستلاب . الحقيقة هي أن الآلهة , و الدول أو الأوطان , هي جميعا كائنات بكماء عاجزة و في الحقيقة ليس لها وجود واقعي , إذا لم تذهب إلى العمل فلن يأتي أي إله ليطعمك , و كذلك لن يفعل أي قائد سياسي أو وطني يزعم أنه يمثلك , إذا مرضت فلن يقدم لك أحد ثمن الدواء مجانا , مهما طلبت ذلك من الإله أو ناشدت المؤسسات الوطنية و السياسية و أقسمت أغلظ الأيمان أنك مؤمن أو تنتمي لهذا الدين أو الوطن أو العرق أو ما شئت , و لذلك فإن البشر عادة ليسوا من الغباء ليطلبوا ذلك من الدولة الأرضية أو إله السماء مهما كانت مزاعم الأخيرين , إنهم يذهبون إلى العمل و يذهبون إلى الطبيب و غير ذلك , و يدفعون مقابل طعامهم و دوائهم و غير ذلك مما يكسبون و هذا ليس منة من أحد في الواقع , إن الآلهة و رجال الدولة و السادة عموما هم كائنات عاطلة عن العمل و هي لا تستطيع أن تطعم أحدا لذلك , من يستطيع أن يأكل و يطعم الآخرين , أي أولئك الذين لا يعملون و يعتمدون على عمل الآخرين و في نفس الوقت ينصبون أنفسهم سادة عليهم بفضل علاقات الملكية و الإنتاج و السلطة السائدة , هم فقط البروليتاريون اليوم , و أسلافهم العبيد و الأقنان و المنتجين في المجتمع المشاعي الأول البدائي , أما من لا يعمل كالله و رجال الدولة فهو إما أن يكون لا يحتاج إلى الطعام كالله أو يستولي عليه من تعب الآخرين كالبرجوازية و رجال الدولة . إذن ما الذي تفعله الآلهة و الدول ؟ إنها تنسب لنفسها بكل بساطة ما تفعله الطبيعة نفسها , فالله لا يستطيع أن يقدم لك الطعام لكنه , كما تقول الكتب السماوية و رجال الأديان كافة , هو من قدم لك البصر و السمع و خلق لك الدواب و الماء و الهواء , أي أنه باختصار فعل كل ما تقدمه لك الطبيعة كحق طبيعي لا منة لأحد فيه عليك , و تقريبا هذا ما تفعله الحكومة فهي تقدم لك كما يقول منظروها الأمن و القوانين و الدساتير و السجون و تنظم كل شيء من خلالها , و إلا فإن هذا الكل شيء لن يستمر في العمل لدقيقة أخرى , و هنا يمكن أيضا أن نجادل في أن الأمان و الحرية و النظام هي نتائج منطقية "للطبيعة" الإنسانية , الاجتماعية , هذه المرة , يقابل هذا الطبيعة الفيزيائية التي استولى رجال الدين عليها و نسبوا ما تفعله لإله ما , إن الدولة أيضا تستولي على ما تنتجه بالضرورة و بالطبع الطبيعة الإنسانية الاجتماعية , إن قوانين العمل مثلا هي نتاج لسيطرة رأس المال على نتاج عمل العمال و قوننة لها في إطار فوق إنساني و ليست ناظمة لعملية الإنتاج , إنها ترسيخ لقوانين و علاقات الإنتاج و الملكية السائدة بالفعل و ليست لقوانين الاجتماع الإنساني .
إن الآلهة غائبة عن حياتنا في الواقع طالما كنا بعيدين عما لا تستطيع فعله , حتى تأتي تلك اللحظات المأساوية الضرورية في حياة أي كائن بشري , عندها فقط تظهر الحاجة للآلهة , في مواجهة الصدفة العمياء للمرض و الموت و الآلام و المعاناة فقط يحتاج الإنسان للآلهة , و لذلك طالما كنت أستغرب من إصرار رجال الدين على جعل أساس العلاقة بين العبد الذي هو الإنسان و الإله تقوم على التزلف و التذلل المخزيين للاثنين معا , و ربما أكثر بكثير للإله , إذا قبلنا بما يقوله رجال الدين من أنه كائن كلي القدرة يملك كل شيء و يسيطر , فعلا , على كل شيء , فهذا الكائن يتصرف إذا صح ما يقوله رجال دينه كطفل صغير أو كمعتوه مجنون بالسلطة و بإذلال البشر , و هو لا يقبل بهذا التزلف المصطنع لأنه مفروض على البشر بل و يحبه و يعاقب البشر على عدم اللجوء إليه , في نفس الوقت يشير ما يسمى بفقه الدعاء إلى شروط لتنفيذ هذه المطالب البشرية من قبل الإله , و أكثر هذه الشروط تتعلق بعدم الاستعجال مثلا , و شروط أخرى تلعب دور تبرير مسبق لعدم تحقق المطالب الإنسانية في كثير من الأحيان من الله , هنا الذي يعمل فقط هو الطبيعة نفسها مرة أخرى , الآلهة تعرف ذلك , و هم يعيرون بعضهم البعض بعجزهم هذا , و يصفون بعضهم بعضا بالعجز و أنهم لا يضرون و لا ينفعون , في الحقيقة لولا أن إبراهيم قام بتهديم الأصنام لما تهدمت لوحدها و توجد اليوم آلاف الأصنام التي لا يمكن لأي إله سماوي تهديمها لولا بعض البشر المفترض أنهم عبيد فقراء إلى الله لا العكس و لولا ذلك الأصولي الذي قتل فرج فودة لما مات فودة إلا بالجلطة القلبية أو الدماغية أو السرطان و غير ذلك مما ينسبه أيضا رجال الدين لآلهتهم رغم أنها جميعا ظواهر طبيعية يومية أو أنه في أحسن الأحوال إله يعمل بواسطة الطبيعة ما دام أن كل ما يجري في هذه الطبيعة خاضع لقوانينها التي أخذنا نكتشفها واحدا تلو الآخر دون أن يساعدنا في ذلك بالطبع أي رجل دين , لقد تساءل ابن الراوندي عن فاعلية الملائكة في معركة بدر و من المؤكد أنه لم يكونوا مسلحين بأسلحة نارية اخترعها الإنسان نفسه فيما بعد كانت كفيلة بإنهاء المعركة في دقائق كما سيفعل فيما بعد الإسبان و من بعدهم سائر الأوروبيين و هم يذبحون شعوب أمريكا الأصليين , و رغم ما يقال عن أن كل شيء موجود في كتبهم فإن رجال الدين لم يقدموا لنا أي قانون طبيعي منذ ظهرت تلك الكتب أو حتى وصفة لمضاد حيوي جديد أو دواء ما أو وصف لفيروس أو جرثومة أو تفسير طبيعي لنمو الأورام الخبيثة مثلا , كل هذا اكتشفه البشر من خلال علاقتهم بالطبيعة ذاتها , هذه الطبيعة التي هي خيرة و شريرة بمعنى من المعاني , إنها قاسية , و حنونة أيضا , إنها في حقيقة الأمر السيد الوحيد الذي يجدر بنا احترامه و الإذعان له , و في الحقيقة ما تفعله الآلهة في نهاية المطاف بعد الدعاء و الاستغفار و إصرارها ( أو إصرار رجال دينها ) على التزلف و التذلل المخزيين هو لا شيء أي أن تدع الطبيعة تنجز عملها كالعادة , أي تترك كل شيء بالفعل للصدفة العمياء حتى اليوم , إنهم لا يفعلون أكثر من هذا و لا يستطيعون فعل ما هو أكثر من ذلك , و لذلك فإن الإنسان هو الذي يغير حياته و علاقته بالطبيعة , و خلافا لما تفعله البرجوازية النهمة للربح فلا وجود للإنسان من دون الطبيعة , الفيزيائية و الاجتماعية على حد سواء , و إن تدميرها للاثنين على عكس ما يقوله المبشرون بنهاية التاريخ لا يعني لا نهاية الإيديولوجيا و لا الثورة بل نهاية الإنسان نفسه .
مازن كم الماز
الكثير من الأفكار هنا أدين بها لكتاب ميخائيل باكونين الله و الدولة الذي أرجو أن أنتهي من ترجمته قريبا
#مازن_كم_الماز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟