جهاد علاونه
الحوار المتمدن-العدد: 3220 - 2010 / 12 / 19 - 18:41
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أستمعُ إلى الناس وأنا اضحك وأبتسم وأكون معجبا جدا في تعبيرهم وهم يتحدثون عن أبنائهم وولعهم مثلا باللعب على الكمبيوتر أو وهم مستمتعون بلعب الفطبول أو كُرة السلة فأسمعهم يقولون (روح الولد من روح الفطبول) أو (روح البنت من روح الرسم أو الجلوس على الإنترنت) وأحيانا يقولون : روح فلان من الناس في الخمر أو في شرب الخمر واللهو, وفي الحقيقة أبتسم جدا وأسرح بخيالي مع تلك التصريحات فأنا أعرف بأنهم يتحدثون عن روح اللاعب نفسه أو روح الفنان, فلاعب كرة القدم يترك لنا روحه في الكرة ومحترف السباحة والغطس يترك لنا روحه في البحار والأنهار وبرك السباحة , والرسام يترك لنا روحه في أعماله ورسوماته ومنحوتاته, وأنا أترك روحي في مقالاتي كنسخة عن شخصيتي وطبيعتي.
روح الفنان تسكن فيما حولنا من فنون, ومعظم الفنانين تركوا لنا أرواحهم وغادروا عن حياتنا فقط بأجسادهم, لذلك أنا أراهم أحياء حولنا, وأنا أصدق كل شيء ولا أصدق بأن الفنان يموت,فروح الفنان هنا على الطاولة في شكلها وطريقة صنعها, وروح الفنان ملابسنا التي ممها لنا المبدعون والرسامون وعشاق الجمال, وروح الفنان في كل شيء موجوده ويقول الناس بأن العفاريت يسكنون في المراحيض والحمامات والزوايا النجسة والمتسخة, وأنا أقول بأن روح الفنان تسكن في كل شيء جميل مصنوع من الجمادات فتجعله يستحيلُ إلى روح تتحرك حين ينحت الفنان من الصخرة تمثالا جميلا كتمثال (بجماليون) أو(ربة الينبوع الشرقية) , ولكن الروح التي في تلك الجمادات ليست خدعة ولا كذبة وليست فنا تصويرا ولا رسوما كرتونية ولكنها روح الفنان المبدع وكثيرا ما أتخيل الفنان الكاتب أو الرسام يتحرك أمامي بروحه وبشحمه وبلحمه ومن فنه قبل 1000عام أتخيل كافة تفاصيل حياته أمامي وكأنها فيلما تلفزيونيا, فأنا حين أقرأ لبعض الكتاب أو حين أشاهد أعمالاً فنية أتخيلهم_الفنانين- ماثلين أمامي والذي يجعلني أتخيلهم هو فنهم وإبداعاتهم التي ترك فيها الفنان روحه كما ترك أبو الأنبياء فأسه مغروسة في رأس أحد التماثيل, فأعطانا أو أعطاني أبو الأنبياء أنا شخصيا انطباعا عاما وصورة سوداوية عن الروح القتالية عند البدو التي تكره الفن والنحت والروح الفنية التي تسكن الأعمال الفنية.
وأنا شخصيا أستطيع أن أكشف على روح الفنان ونفسيته وعواطفه من خلال ما تقع عليه عيني وحواسي من إبداعات قد تركها الفنان لنا مسجية في القصائد والمنحوتات والمسرحيات مثل المواد الغذائية التي تحفظها لنا البرودة من التلف, فحفظت هذه الأعمال الأدبية روح المبدع التي ترك روحها فيها ومضى تحت الأرض بجسده متحديا الطبيعة الأم التي تلد كل شيء ومن بعد ذلك تسترده كما قال هوميروس في إلياذته.
أنا في هذه الحياة مثلاً أريد أن أعبر عن وجهت نظري وأقول للحكومات وبكل صراحة : أريد أن آخذ فرصتي في الظهور, أريد أن أنشر روحي بين الناس الحاضرين معي والغائبين وأريد أن أترك روحي حية للأجيال القادمة يدرسونها ويتأثرون بما لديها من معاني حسية وعاطفية عن الكون والحياة وأريد التعبير عن رأيي في الحياة والدين والفن والمجتمع, أنا أريد أن تكون ذكراي خالدة, وكيف ستكون ذكراي خالدة؟لا بد من أنني أتعمد كتابة مواد إبداعية فنية لكي أترك فيها للناس حسي وعواطفي وأشجاني وأريد أن أترك للأجيال القادمة حرارة يدي حين أضع فيها القلم أو حين أضعها على الكيبورد, الفنان والمبدع يترك حرارة جسده وروحه في معظم أعماله الفنية وكذلك أريد التعبير عن مدى انشغالي بقضايا العصر الذي أنا به, أي أنني أريد أن أترك روحي في أعمالي الفنية أي أنني في آخر شيء سأبدأ بالتعبير عن روحي ...وروحي أيضا حين تجدونها في هذه السطور ستستنتجون بأن روحي تلك ما هي في واقع الحال إلا تعبير عن روح العصر الذي أنتمي إليه, فروح العصر هو الملهم الأول والأخير وهو الروح الكبيرة التي تتوالد عنه الأرواح الصغيرة, وروحي اليوم تسكن في قصائدي ومقالاتي,تماماً كما ترك المصريون روحهم في الأهرامات وكما ترك ويترك لنا الملحنون أرواحهم في ألحانهم وموسيقاهم تعبيرا عن روحهم هم وعن روح العصر الذي يعيشون به و تماما كما العصافير تسكن الأشجار وتبني أعشاشها عليها.
بعض الحيوانات ما زالت تتخذ من الكهوف منازل لها وكل مخلوق يعبر لنا بأسلوب حياته عن روحه المعنوية فنجد روح الطائر في عشه وروح بعض المخلوقات في البحار وفي الكهوف وفي الصحارى وفي أعالي الجبال وروح الحراث في محراثه والفنان الحقيقي في فنه والممثل تسكن روحه في تمثيله وكل مخلوق يعبر عن زمنه وعن روحه,وغالبية المهنيين تسكن أرواحهم في أدواتهم المهنية, وحياة بعض الناس البدائية وهي تعبير عن روح العصر الذي يسكنونه لذلك نقول مثلا بأن الشريحة الاجتماعية تلك ما زالت في العصور الحجرية وتلك الشريحة الأخرى من الناس ما زالت في العصر البرونزي وتلك في العصور الوسطى وهذه في العصر الحديث جدا, وكل هذا ما هو في الحقيقة إلا تعبير عن روح الإنسان التي تسكن في الأشياء التي ننظر إليها فتحل الروح في الجمادات الفنية الحجرية وحين ننظر إليها وإلى طريقة صنعها نشعر وكأنها تخبرنا عن مدى الحضارة التي وصل إليها الصانع المبدع , إن روح الفنان تحل في الألوان والأصباغ واللوحات الجدارية وطريقة رسم (البيسون) تعبير عن روح الفنان وروح العصر الذي عاش به, وطريقة اصطياد الإنسان للحيوانات في الرسومات القديمة تعطينا انطباعا عن مدى روح الفنان التي أبدعت وعن الروح التي ألهمت وعن الروح التي أشعلت تلك الموهبة.
لم يعد الفن عملا مباشرا يؤديه محرض على ارتكاب الثورة سواء أكانت انتقامية بالسلاح أو ثورة تحريضية على ارتكاب أعمال جنسية من شأنها تغذية الروح والجسد معا, ولم يعد الفن إعلانا عن المديح أو الثناء على الأحباب أو للثناء على الملوك والقياصرة لقاء درهمٍ أو درهمين أو ألف أو ألفين , ولم يعد الفن رسالة مباشرة من عاشق إلى عشيقته أو من مواطن عادي إلى حاكم قصاب أو عادل.
إن الفن اليوم روح تسكن في الجدران وفي الأواني المصنوعة بروح فنية والفن اليوم هو تعبير عن روح الفنان الذي تسكن مادته الإبداعية سواء أكانت قصة شعرية أو شاعرية أو رواية بوليسية أو عاطفية أو عملا من أعمال الرسم على الزجاج ولم يعد الفن اليوم مباشرا يقول لك ما يريده الفنان وجها لوجه بل أن الفن اليوم يقول لك ما يريده ووجهه مخبأ عنك أو يقول ما يريده ووجهه في الناحية الأخرى وهو روح عظيمة تتجسد هذه الروح في اللوحات الفنية والرقصات الاستعراضية والأعمال المسرحية سواء أكانت اتراجيديا أو كوميديا ساخرة سوداء, ولم يعد الفن حلقت وصل بين الإنسان وبين حاجيات المجتمع من كماليات غير ضرورية أو ضروريات لازمة بل الفن حالة من الوعي الكاملة تعبر عن روح المبدع وعن روح الفنان الذي تسكن روحه أعماله, فروح بيكاسيو سكنت في معظم لوحاته وألوانه الزيتية..وروح شكسبير سكنت في معظم أعماله الأدبية وكان كابوسا في أجساد أبطاله المتوترين نفسا وعاطفيا..وروح هوميروس سكنت في إلياذته الفنية وملحمته الرائعة وروح الفنان القديمة سكنت في الأواني الفخارية التي عثرنا عليها من العصر الحجري الأعلى في الجرار الخاصة بدفن الموتى إلى الأختام الأسطوانية في سومر وبابل وأكد , ونجد من خلال تأملنا في تلك الأعمال الفنية بأن روح الفنان المبدع كانت تسكن في تلك الآنية الفخارية ووجدنا روح الفنان المُلهم تسكن في تلك التحفة الأدبية المصنوعة من الحروف ومن الكلمات , ونجد أيضا أن روح الفنان سكنت الشوارع التي نظمها بفنه وبحسه, وكانت وما زالت روح الفنان تعبيرا خالصا عن روح العصر الذي ولد وعاش به الفنان المبدع.
وأعمالنا اليوم في الصحف وفي ما نبدعه من مقالات هي تعبير للدارس في المستقبل عن روح العصر الذي نعيش به اليوم, إن روح العصر تتجلى في أعظم من نبدعه من كتابات ومن قصص ومن رسومات ومن إعلانات ومن قضايا شائكة في مقالاتنا النقدية, إن أرواحنا تسكن اليوم كافة أعمالنا وهذا المقال الذي بين أيديكم هو تعبير رمزي وحركي عن روحي أنا ومدى اتساع روحي ومدى هيمان روحي بالفن وبالثقافة وبالأدب, إن الروح الفنية اليوم تسكن في أعمالنا جميعا من الألف إلى الياء فهذه السيارة تعبر عن روح العصر ومتطلباته جسدتها أيادي فنية رسمتها على الورق من خلال تأملات الروح ومن ثم ترجمت تلك اليد فنها إلى قطعة مرسومة أمامنا ونستعملها ونتقبلها وعدم تقبلنا لها هو دليل على أن روحنا ترفض السكن فيها فروحنا اليوم مثلا ترفض السكن والعيش في البيوتات القديمة المصنوعة من القش ومن الطين وتفضل أن تسكن المكعبات الإسمنتية أو الصناديق الإسمنتية وهذا دليل أو تعبير عن روح العصر الذي نحن به, أما قديما فقد كانت روح العصر تسكن في البيوت المصنوعة من القش ومن الطين.
حتى أن أعمال الشعر التي كانت كلها مديح في الملوك والقياصرة نجدها تعبيرا عن روح العصر الذي عاشت به أما اليوم فإن الناس يحتقرون مثل تلك الأعمال الفنية ويعتبرونها هابطة دون المستوى المطلوب لذلك روح العصر اليوم لا تستطيع أن تتقبل الأعمال الفنية القديمة لأنها ستموت فورا ولا تعتبر تعبيرا عن روح العصر الحاضر.
والفن اليوم ليس من أجل التعليم أو من أجل الهدف الثوري بل هو من أجل الفن نفسه أي أن الفن للفن والفن من أجل الفن نفسه, وروح الفنان تسكن في القيطار الذي يصممه المهندس ويبدعه الآخرون والفن اليوم ليس فرديا بل هو جماعي يعبر عن روح الجماعة إذا كان صناعيا من أجل خدمة الإنسان أما إذا كان الفن عملا فرديا فإنه تعبير عن تلك الروح وخلاياها وتجسداتها, روح الفنان اليوم تسكن أعمال الفنان الإبداعية والرمزية والعنفوانية روح الفنان اليوم تعبير عن هواجس الإنسان وتخيلاته وشطحاته وحريته التي يتأملها كيف ستكون ومتى ستكون.
#جهاد_علاونه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟