أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - سيلفي بريبان * ودومينيك فيدال - بين الانكماش والذوبان يهود فرنسا يبحثون عن هوية















المزيد.....



بين الانكماش والذوبان يهود فرنسا يبحثون عن هوية


سيلفي بريبان * ودومينيك فيدال

الحوار المتمدن-العدد: 209 - 2002 / 8 / 4 - 04:49
المحور: القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
    


 


SYLVIE BRAIBANT et DOMINIQUE VIDAL

يوم اوقع الطيران الاسرائيلي 15 قتيلا فلسطينيا بينهم 9 اطفال في عمليات القصف التي شنها في 23 تموز/يوليو على منزل صلاح شحاده، المسؤول العسكري في حماس، كانت هذه الحركة تدعو مع منظمة الحهاد الاسلامي والتنظيم الى وقف لاطلاق النار. فيبدو ان السيد آريل شارون قد قرر عن سابق تصور وتصميم تصعيد المواجهات التي اوقعت خلال 22 شهرا 1649 قتيلا بين الفلسطينيين و577 بين الاسرائيليين. وكان لهذه المأساة صداها في فرنسا. وهي تنمي بين الفرنسيين من الديانة اوالتقاليد اليهودية حالة كبيرة من القلق الذي ولّد شيئا من الانكفاء على الذات، تارة، وطوراً شيئاً من العدائية. وقد تغذت هذه الحالة  من التطورات الدامية التي شهدها النزاع العربي ــ الاسرائيلي ومن تضاعف العمليات الانتحارية في اسرائيل ومن أعمال العنف التي شهدتها فرنسا ضد الأشخاص وضد أماكن العبادة اليهودية، من دون أن ننسى صعود الجبهة الوطنية. لكن هناك على الأرجح ما هو أكثر من ذلك، فبغضّ النظر عن هذه الظروف الطارئة أليس أن ما يثير مخاوف العديد من اليهود هو مستقبل اليهودية في حد ذاتها وهي تعيش ما بين الانكماش والاستيعاب؟

 

 من يقصد بـ"الجماعة اليهودية"؟ هل هم مجمل الفرنسيين من ذوي الدين أو الأصول أو التقاليد اليهودية، والذين يقدرون بحوالى 700000 نسمة؟ أم هم بالأحرى الجماعة المنظمة أي حوالى الـ100000 منهم الذين تربطهم علاقات بـ"المجمع اليهودي" أو بإحدى الجمعيات المنضوية في اطار المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا(CRIF)  ؟ علماً أنه عندما يتخذ رئيس هذا المجلس، السيد روجيه كوكيرمان موقفاً، فإن واحداً من سبعة على الأكثر من اليهود يلتزم به [2] ...

  بكل صراحة يقول جان إيف كامو، أحد المشاركين في إعداد مجلة "المحليات اليهودية" (Actualité juive) ومن المتدينين الممارسين: "نحن فعلاً إزاء مركزي استقطاب، فهناك من جهة اليهود المتمسكون بهويتهم كما في أي وقت مضى، ومن جهة أخرى أولئك الذين يذوبون ويتلاشون في المجتمع"، ويتابع أن هذه حقائق من الصعب التأكد منها لأن "الأرقام عندنا هي من المحرمات، فالتوراة كما الجمهورية تحرم إحصاء اليهود".

  فلنكتفِ إذاً ببعض الأرقام التقريبية. في المجمع اليهودي في باريس يؤكد جان فرنسوا ستروف أن هناك حركة ارتياد للكنائس (مفردها كنيس) تزيد في أيام السبت على ربع ما تشهده في عيد الفصح الكبير [3] ، وأن هناك تراجعاً في عدد الزواجات "خارج الطائفة" (واحد من إثنين)، وأنه يتمّ تسجيل ما يقارب ربع الاولاد في مدرسة يهودية دينية أو علمانية. وإذا كان بيع اللحم "الحلال" (كاشر) قد تراجع فإنما السبب هو في ازمة جنون البقر، وفي العام 2001 كان معدل استهلاك الفرد اليهودي من هذا اللحم أكثر من عشرين كيلوغراماً... [4]

  ويلاحظ جان إيف كامو أنه "في بعض الأحياء تتكاثر الكنائس والمدارس اليهودية كما المخازن والمطاعم "الحلال" الى درجة أنه يمكن القول بـ"نشأة ذاتية للغيتو"، وبعكس "اسرائيليي" الزمن الماضي الذين كانوا يحرصون على عدم الانكشاف كثيراً، فإن المتشددين اليوم يظهرون أنفسهم وهذا أمر جيد. لكن البعض يعرضون انفسهم بهذه الوقاحة ذات الطابع الاسرائيلي القح، وبكل بساطة يتهمون كل من يعترض مشاريعهم بالعداء للسامية، فيما البعض الآخر وبالرغم من أنهم ولدوا في هذه البلاد يسمّون غير اليهود عندما يتكلمون عنهم بـ"الفرنسيين"...

  هذه الرغبة في العيش "بين الأهل" يمكن تلمسها في مدرسة "أليانس" الاسرائيلية في بافيون سو بوا في منطقة سين سان دوني، (وهي تضم 620 طالباً مقابل 50 لدى تأسيسها منذ 38 سنة). إنه محيط متأنق مزهر وهادئ، هو عالم من أوساط البورجوازيين الصغار، لا يكاد يبعد عنه قطار الضواحي السريع ( RER) خطوتين، فيما الحراسة حول المدرسة تبقى سرية ومع ذلك زادت أجواء الحذر منذ بات بعض الطلاب من معتمري القلنسوة اليهودية يتلقون الشتائم يومياً تقريباً. وأجواء التوتر هذه والتي يمكن ملاحظتها أيضاً في الأسواق، أدت بحسب مديرة المدرسة راشيل كوهين الى تدفق طلبات التسجيل، "وذلك طلباً للنجاح الدراسي وإنما أيضاً سعياً وراء الهوية وأملاً في الأمن، فعندنا يتوافر الأمان ولا يشار الى أحد بأنه من "الأشرار". فحتى بعض مدراء المدارس الرسمية يطلبون اليّ قبول الطلاب!"

  وفي ما يعتبر صدى لهذا الكلام تساءلت فتاة مشرقة الوجه ستبدأ دراسة الطب في السنة المقبلة، كيف ستغادر هذه الشرنقة التي تحميها منذ دراستها الابتدائية، "فأنا أتوجس خيفة من العالم الخارجي، من الحياة العلمانية". وتزيد فتاة أخرى التحقت بالمدرسة منذ الصف الأول الثانوي فقط: "أردت أن أجد نفسي مع أناس أشاطرهم الشعور نفسه وطريقة العيش نفسها حول الدين والطعام الحلال". ويصر فتى دخل المدرسة في الصف الثالث بعدما عانى حياة صعبة في مدرسة رسمي، على "قيم اليهودية ومنها الاحترام والتسامح".

  أما الحاخام المتشدد دانيال غوتليب، المسؤول منذ أربعين سنة عن كنيس شارع مونتيفيديو في الدائرة السادسة عشرة من باريس فيبدو أكثر احترازاً: "الجلي أن العودة الى اليهودية لا تطاول الا أقلية. فإذا كان 90 في المئة من اليهود يشاركون في احتفالات الفصح، فقلة منهم تحضر أيام السبت. وهناك 80 في المئة يتخذون أزواجاً من غير اليهود، فيما المدارس اليهودية لا تستقبل الا واحداً من أربعة من أولادهم، وما تحققه من نجاح لا يمكن فصله عما يتحقق في المدارس الخاصة في شكل عام. أما بالنسبة الى اللحم الحلال فلا تنسَ ان العديد من المسلمين يشترونه" [5] .

  لكن حتى وإن اعتمدت تقديرات أكثر دقة فإن ظاهرة "تجدد التهود" في العقود الأخيرة تبقى أمراً لا ريب فيه. فلنلقِ نظرة على ما كان بعد الحرب فوراً، فما بين العامين 1942 و1944، جرى نقل 79500 يهودي من أصل 330000 كانوا مقيمين في فرنسا، وقد ظل 2500 منهم على قيد الحياة، وكان ثلثا الضحايا من الأجانب. وفي صدمة من هذا النوع يمكن إيجاد تفسير لكون عدد من الذين نجوا من الابادة لم يكونوا يعلمون بعد عملية التحرير ما كان المقصود باليهودي. وعلى غرار ايلي فيسيل تساءل البعض "أين كان الله في أوشفيتز؟" [6] . لكن المحرقة لم تصدم سوى الايمان...

  ويوضح السيد هنري هايدنبرغ الذي "أسس" حركة التجدد اليهودي في العام 1973، قبل أن يتولى رئاسة المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية من العام 1995 الى العام 2001 أنها كانت "مرحلة مضطربة" حيث فرضت نفسها إزاء "الهوية المهزوزة إعادة البناء الشخصية والعائلية". وفي هذه المهمة الصعبة اتكل الكثيرون على "الالتزام الشيوعي أو الاشتراكي الذي تجاوز اليهودية". فيما راح آخرون يناضلون في اطار الصهيونية.

  ومن مقاطعتها الريفية تحتفظ مديرة مؤسسة اليهودية الفرنسية نيللي هانسون بذكرى "عملية التخلي النسبية عن اليهودية. لكن معارضة رجال الدين على الطريقة الفرنسية، ضد الحاخامات كما ضد الكهنة، لم تمنع الاصحاب من الالتقاء في الكنيس مع أنهم يأكلون لحم الخنزير". وحين سئل والدها المفكر الحر حول هذا الموضوع ذكّر بضرورة حضور عشرة رجال للصلاة يسمى مجلسهم "منيان minyan, ": "فحتى وإن لم يكن هناك إيمان يجب السماح للمؤمنين بالصلاة...".

  "لقد وضعتكم إزاء الموت والحياة، فاختاروا الحياة". هذا التعليم من موسى يذكّر به السيد تيو كلاين كعنصر هداية للنهضة، الفردية بنوع خاص، التي شهدتها اليهودية الفرنسية في ما بعد الحرب. فهو نفسه "اليهودي "الى أقصى الحدود" في شبابه والملتزم بالمقاومة اليهودية بدون ان يكون "شيوعياً ولا صهيونياً" قد ارتقى جميع درجات "التراتبية" من رئاسة اتحاد الطلاب اليهود الى رئاسة المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا من العام 1983 الى العام 1989. لكنه يحترم جميع الذين فضّلوا تناسي عمليات الاعتقال لزمن طويل، والتخلي عن الكنيس والاقتران بغير اليهود ... وهو يلحظ أن "تجدد التهود قد تم من خلال الغريزة"، غريزة السيفاراد، أو لمزيد من الدقة اليهود العرب [7] . ويذكّر السيد تيو كلاين أن "توافد اليهود من تونس والمغرب وخصوصاً من الجزائر قد قلب أوضاع الجماعة اليهودية في فرنسا، إذ زعزع موقع الاشكيناز الذين كانوا الاكثرية حتى ذلك الوقت" [8] . وذلك كمياً ونوعياً إذ إن المغاربة قد حملوا معهم "ديانة شعبية" كانوا يمارسونها كل اسبوع وحتى كل يوم. وبشيء من الاعجاب يقول الحاخام دانيال فاري، إمام الحركة اليهودية الليبيرالية [9] : "لقد أحيوا اليهودية الفرنسية" قبل أن يحاول إعطاءهم الحجم الطبيعي: "لقد امتلكوا الايمان والطقوس لكن ليس الشيء الكثير على المستوى الثقافي. وتوافدهم قد رسّخ المجمع اليهودي". ويستكمل الصورة جان إيف كامو: "وقد كانت لهم حسابات أرادوا تصفيتها مع فرنسا التي كانت قد نقضت مرسوم "كريميو" منذ تموز/يوليو عام 1940، و"استسلمت" أمام جبهة التحرير الوطنية الجزائرية في العام 1962، ثم لم تحسن استقبال أولئك الذين "خانتهم". ويضيف مائير وانتريتر، رئيس تحرير مجلة "لارش" الشهرية: "من هنا كان شعور "الانتقام" الذي أحسوه خلال حرب الأيام الستة" وهو يرى "أن العام 1967 يشكل رمزياً عملية نشوء اليهودية الفرنسية الحديثة". ويؤكد السيد هادنبرغ: "كانت المرة الأولى التي ينزل فيها اليهود الى الشارع بهذه الصفة".

  لكن عالمة الاجتماع مارتين كوهين تلطف من حدة هذه العلاقات فتقول: "إن التجديد داخل العالم اليهودي قد حدث بعد مضي عقد على وصول اليهود من افريقيا الشمالية. فأولاً تميزت أواخر الستينات والنصف الأول من السبعينات بتطور ثقافي وجماعي لم يكن البعد الديني فيه ذا شأن يذكر، وقد رافق ذلك عملية انخراط اجتماعي فردي في أوساط يهود افريقيا الشمالية". [10]

  غير ان نيللي هانسون تحذّر من جهتها من أي رؤية لاتاريخية: "فالأبناء والأحفاد لهؤلاء السيفاراد المتدينين جداً لن يكونوا مثلهم، وهو سيتغيرون كما تغير في ما مضى المتحدرون من الاشكيناز. فهم سيتحولون "فرنسيين" الا اذا ادت النزعة الطائفية العامة الى انغلاقهم في إطار هوية طائفية".

  وتكفي نظرة سريعة الى الوراء لفهم الموضوع، "فتجدد التهود" الذي بدأ في اواخر الستينات استند الى ثلاث دعائم أساسية، وهي الدين والتضامن مع اسرائيل وذكرى المذبحة. لكن كل يهودي يستند الى حد ما الى هذا أو ذاك منها. وقد حذرنا الحاخام غوتليب قائلاً: "إذا ما سألتم ثلاثين يهودياً عن اليهودية فستحصلون على ثلاثين جواباً... على الأقل!".

  ويعلن يوني، ابن الخامسة عشرة وهو من ستراسبورغ من أصل جزائري: "أن تكون يهودياً هو قبل كل شيء أن تكون متديناً، أي أن تتقيد بمثال معين في الحياة". وهو الممارس أكثر من أهله، يتابع دروسه في مدرسة دينية ويتردد بانتظام الى الكنيس ويأكل ما هو "حلال". وحين يسأل عن سبب هذا "الالتزام" أو كما يسميها الواجبات التي يفرضها على نفسه؟ يجيب: "احتراماً لما عاناه أسلافنا، من محاكم التفتيش الى المحرقة، فأن نذوب في مجتمعنا يعني أننا نتنكر لهم". وهو ينوي ان يورث قواعد الحياة هذه الى الاولاد الذين سيرزق بهم من زواجه بامرأة يهودية طبعاً. وهذا لا يعني أنه يريد فرضها على أي كان: "اليهودية تفرض التساهل وذلك لجمع أكبر عدد ممكن من اليهود". لكن يوني من جهة أخرى لا يشعر بأي شيء حيال اسرائيل: "إنه بلد كغيره من البلدان، ومهما حدث أفضّل البقاء في فرنسا".

  ومثله طلاب الصف النهائي في مدرسة بافيون سو بوا، فهم لا يستطيعون الاعتقاد بيهوديتهم خارج إطار الديانة، لكن بعضهم ينوون على العكس منه الهجرة الى اسرائيل التي يعتبرونها مهددة. وهم لا يتورعون عن إعلان دعمهم شبه المطلق لها ويقبلون بالشعور المقابل المناصر للفلسطينيين في أوساط الشباب المسلم. إنه منطق الهوية الذي بات مستبطناً كما عند تلك الفتاة التي تشعر بـ"رابط شبه أمومي مع دولة اسرائيل".

  ويرى الحاخام فاري أن مسألة هذا "الانتماء المزدوج" هي في غاية الأهمية: "إنني أعيش هذا الصراع الداخلي. فأنا فخور باندماجي وثقافتي الفرنسية، وبيهوديتي وتعلقي (ليس دون شروط) بدولة اسرائيل. وترعبني فكرة اتخاذ فرنسا موقفاً متشدداً ضد هذا البلد. ولا أدري ماذا سأفعل...".

  وهناك آخرون ينظّرون لهذا التضامن غير المشروط. ففي خضم النقاش حول الأخطار الناتجة من سياسة الجنرال أرييل شارون على اسرائيل وعلى اليهود، يسرّ هذا المسؤول في الطائفة، الذي فضّل عدم ذكر اسمه أن "الكثير من الناس، حتى هنا، يعتقدون أن سياسة شارون خطرة". ولدى تذكيره بأن مقر الصندوق الاجتماعي اليهودي الموحد يقوم هنا في المبنى 39، شارع بروكا، فلماذا هم يلوذون بالصمت؟ جاء جوابه مفاجئاً: "مع النمو السكاني أصبحت اسرائيل المركز اليهودي الأهم، وهي تمنح كل يهودي فرنسي شرعيته ولذك نحن لا نستطيع انتقاد الحكومة الاسرائيلية أياً يكن السبب". لكن محدثنا سيفاجأ بدوره عندما سيشبَّه بالشيوعيين الذين تعاموا باسم التضامن مع الاتحاد السوفياتي عن تفكك "الاشتراكية الحقيقية"...

  أما مؤسسو حركة التجدد اليهودي، في أواسط السبعينات فقد سلكوا من جهتهم مسلكاً سياسياً أكثر منه كيانياً. تذكر هذه المحامية التي كانت من أنصار اليسار المتطرف في كلية تولبياك: "في تلك الفترة اكتشفت النضال الضاري المعادي للصهيونية، والذي لم يكن بعد يقوم على العداء المقنع للسامية. كان في إمكاننا أن نناقش في كل الأمور الا في هذا الموضوع، ولذلك تطلب الأمر اطلاق اليهودية السياسية في محاولة لاقامة التوازن مع سياسة فرنسا المقربة من العرب".

  وبعد مرور ثلاثين سنة على ذلك يلاحظ السيد هنري هايدنبرغ: "إن الرأي العام في أوساط يهود فرنسا هو في الغالب أكثر بعداً عن الواقعية من الرأي العام الاسرائيلي الذي يواجه الوقائع الشرق أوسطية مباشرة. وللمفارقة إن القبول بفكرة قيام دولة فلسطينية يبدو هناك أكثر سهولة منه هنا. أضف أننا نسمع عندنا أصوات المتطرفين أكثر من أصوات المعتدلين". ثم يلقي باللائمة على اليهود الذين يوقعون العرائض ضد الجنرال شارون لكن من خارج إطار الجماعة التي يتركون المكان فيها لأنصار هذا الأخير! واللوم نفسه يوجهه الى "كبار الكتّاب اليهود" الذين يضغطون من خارج وليس من داخل الجماعة. إضافة الى الكثير من الاسباب التي تجعل "الجماعة تنجرّ الى أسفل وليس الى أعلى".

  وتكفي المشاهدة المستمرة لفيلم "ليل وضباب"  Nuit et brouillard لألان رينه، وفيلم "المحرقة" Shoah لكلود لانزمان كي يتبين كم أن ذكرى الابادة وبعدها اليهودي الصرف، التي طالما اختزنتها ذاكرة الحرب العالمية الثانية، قد برزت مجدداً لتفرض نفسها على جميع الضمائر. ومما تتذكره فلبيري زيناتي الثلاثينية التي تعلّم اللغة العبرية في أحد المعاهد الباريسية: "لقد اكتشفت المحرقة عندما كنت في الثامنة من العمر، حين شاهدت مسلسل "هولوكوست". كانت صدمة فعلية بالنسبة اليّ وقد سببت لي كوابيس مرعبة، وهكذا أصبحت مجزرة الابادة "تاريخي الشخصي" وهو أمر نادر بالنسبة الى يهود افريقيا الشمالية"، بحسب ما تعترف.

  لم تكن ايستار بنباسا وجان كلود آتياس يتوقعان إثارة فضيحة عندما نشرا كتابهما "هل لليهود مستقبل؟" [11] ، فعبارة "ديانة المحرقة" كانت فعلا صادمة. وقد شرحت الأولى موقفها قائلة ان "مجزرة الابادة لا تشكل هوية للمستقبل"، ويضيف الثاني "إنها تقيم عازلاً بين اليهود وغيرهم، وتعتم على تاريخ عمره آلاف الالاف من السنين، لا يمكن اختزاله بالاعدامات". هذا إذا لم نأخذ في الاعتبار أن تماهي اليهودية مع المجزرة يقصي منها 60 في المئة من اليهود الفرنسيين الذين لم يعيشوا أهوالها في افريقيا الشمالية. وتعلن نيللي هانسون "موافقتها الكلية" على  فكرة أن "التاريخ اليهودي ليس معادلاً للمآسي، بل أنه أيضاً عملية ابداع ومساهمات فكرية وأخلاقية وتربية على التعددية".

  وإذا كان المطلوب تغذية ذاكرة المحرقة، فأي ذاكرة؟ عن هذا السؤال يجيب في أفلامهما إيعال سيفان وروني براومان، النسيبين الرهيبين المشنع عليهما من المؤسسة اليهودية. فالأول هو صاحب فيلم "إيزكور" Izkor وفيه الفيلسوف يشعياهو ليبوفيتز ينتقد بشكل جذري عملية تعبئة الشبيبة في اسرائيل. وكلاهما أخرج في العام 1999 فيلم "اختصاصي" Un Spécialiste انطلاقاً من صور من أرشيف قضية آيخمان. ويعتبر روني براومان أن "التنكر للذاكرة هو من الناحية الفكرية غباء، ولا يمكن الدفاع عنه من الناحية المعنوية، فهي حاجة لدينا مثل الرئتين، وهي التي تجعلنا بشراً". وهكذا يفترض إدراج ذكرى المذبحة كما كل الأحداث الكبيرة "في سياق تاريخ البشرية. وذلك تحاشياً للتزوير الايديولوجي ولمحاولة استخلاص الدروس من الماضي للمستقبل".

  الديانة والذاكرة واسرائيل. وتؤكد مارتين كوهين أنه منذ سنوات ظهرت "ركيزة رابعة، ثقافية، تقوم على قراءة مجلة أو الاستماع الى إذاعة، أو ارتياد مركز تابع للجماعة أو متابعة دروس في التاريخ أو في اللغة".

  أما حاييم فيدال سيفيدا، وهو دعامة هذه "الركيزة الثقافية" فيعتبر نفسه "الساعة المنبهة لليهودية الاسبانية". وهو إذ كان في ما مضى أستاذ اللغات الشرقية حيث أمّن كرسياً للمادة، يرمي تعليمه في حد ذاته لهذه اللغة، وبعد عودته من معتقل اوشويتز. ويقول: "كان هناك فكرة مسبقة ترى أن اليهود الاسبان لم ينقلوا الى معسكرات الاعتقال، وهو المصير الذي تعرض له يهود حضارة الييديش فقط، وهذا خطأ!" [12] . فأتباعه مثل طلابه ينتمون في معظمهم الى عائلات مغربية الأصل، ومع ذلك إذا كان الجميع حالياً يدعون أنهم سيفاراد فهو يريد إزالة كل التباس. فيقول إن "غالبية يهود فرنسا هم من اليهود العرب، ومن مذهب سيفاراد. أما السيفاراد "الحقيقيون" فهم فقط المتحدرون من يهود اسبانيا. وبدلاً من خلط الأمور بعضها ببعض يفترض إعادة تأهيل اللغات المحكية اليهودية العربية. فاليهودية متعددة اللغات".

  وبدوره يولي ميني فيفيوركا اهتمامه لتعدد اللغات هذا في مركز ميديم (700 عضو)، وهو المحرك الرئيسي فيه. ويطالب ميثاق هذه المؤسسة بالتعلق بالييديش (التي أبيدت كلياً تقريباً في المحرقة) وبميراث البوند الثورية [13] . "لا نريد للغة الييديش أن تموت، والحال أن ما من احد عاد يتكلمها لا في اسرائيل ولا في الولايات المتحدة ولا في أوروبا، حتى أنها في اسرائيل تعتبر لغة الأموات والمهزومين والجبناء. فقط اللوبافيتش المتشددون جداً لا يزالون يستخدمونها! أما نحن فنعتبر انفسنا من حضارة عصر الأنوار".

  لكن يجب التسليم بالأمر، فللتربية حدودها. فحتى وإن أضفنا ركيزة رابعة الى الركائز المذكورة حتى الآن فإن هذا لا يلخص ــ ولم يعد يلخص ــ مفهوم عدد من محاورينا. وهكذا نجد أن الحاخام غوتليب تثور ثائرته فيقول: "إن اليهودية ليست ديانة، وعلى كل حال لا وجود لهذه الكلمة في اللغة العبرية، فكلمة "دات" قد اخترعت في سياق ترجمة اعمال مايمونيد. لا بل أن اليهودية هي نوع من العلاقة بالله وبالبشر وبالأشياء وبالقيم وبالتاريخ". ويرى السيد تيو كلاين أن اليهودية تحيل على التوراة والتلمود، وفي جوهرها تقوم على تعاليم ابراهيم، "الميشبات" (الحكم) و"الزيداكا" (العدالة). "وفي معنى آخر، فإن اليهودية هي قبل كل شيء تنظيم للمجتمع طلباً للعدالة". فما هي الخاصية اليهودية في هذا التحديد؟ "بعكس العهد الجديد فإن التوراة لا تطرح مبدأ المحبة، بل العدالة. في المجتمع المسيحي تغفر الخطيئة بالاعتراف، أما في المجتمع اليهودي فبالعكس نذكّر دائماً بمسؤولياتنا".

  أما مائير وانتراتر، المؤسساتي أكثر، فانه اسف في شكل خاص "لغياب نموذج الهوية اليهودية الفرنسية المتماسكة". وبالتأكيد أنه يرتاح للتجديد الديني والفكري والسياسي في العقود الأخيرة، والعائد الى مساهمات بعض المؤسسات مثل مدرسة الكوادر في أورسي والى الدور التوحيدي لبعض الشخصيات مثل بيون أشكينازي المعروف بمانيتو. "لكن الخطاب اليهودي الحالي، المنقسم جداً على نفسه يشبه عجينة مليئة بالبكتيريا. نحن نحتاج الحد الدنى من القواسم المشتركة، يكون مقبولاً من العلمانيين كما من المتدينين، وللأسف أن كلاً يرى هذا الحد الأدنى وفق حده الاقصى! فمتى يكون لنا مجمع فاتيكاني ثان خاص بنا؟".

   المؤرخة آنيت فيفيركا، العلمانية عن قناعة، تنظر بشكل مختلف الى سعيها الى تأكيد هويتها. وإذ شكلت أعمالها مرجعاً، فهي تدعى أكثر فأكثر بمجرد أن يتعلق الأمر بقضية المذبحة، وتقول: "إنما ادعى الى المؤتمرات والخلوات واللجان من اجل "هذا"، أي لأنني يهودية. وأنا يهودية بالفعل الا أنني أمرأة أيضاً وفرنسية وباحثة...". العالم الحديث يطلق صفة "الهويات المتعددة على ما ينصهر في الفرد من أصول ومهن وآراء ومعتقدات. وهذا الخليط يتطور من عصر الى آخر، وليست اليهودية سوى جانب من ذواتنا"، "وهي ليست حكماً الأهم"، بحسب ما يؤكد ذلك، في موافقة ضمنية، روني براومان، المقتنع بدوره أننا نعيش في زمن "عمليات إعادة تكوين الهويات".

  أما آني دايان روزنمان، الاستاذة المحاضرة في  قسم الآداب في جامعة باريس السابعة، فتشدد من جهتها على هذا الجانب اليهودي فتقول: "لا نريد ان نكون مسافرين بلا أمتعة" على طريقة "اسرائيليي" الزمن الغابر. وما الذي تضعه في حقائبها؟ "ثروة ثقافية مع بعد يهودي". وإذ هي اقتنعت بأن غالبية اليهود الفرنسيين هم علمانيون، فقد أسست مع الكاتب ألبر ميمي، منذ ما يقارب عشر سنين، الجمعية من اجل يهودية إنسانية علمانية. وتعترف: "نحن نعلم أن عملية النقل لن تتم كتلة واحدة، بل "على دفعات" ".

  وبعيداً عن القيم المؤسسة على النصوص النبوية، تعمل هذه الجامعية مثلاً "على عدد من الأدباء المتعلقين، كل على طريقته باليهودية". وهي واحدة من الطرائق التي "تساعد اليهود العلمانيين لاختيار إرثهم". وفي المناسبة فإن آني دايان روزنمان تقترح حلاً بسيطاً لـ"قضية" الزيجات المختلطة: "فليعترف الحاخامات ايضاً بحق الأبوة لغير اليهود، فيتحول ما يعيشونه من حالة نزف، رافداً جديداً!". وكانت الحركة اليهودية الليبيرالية سباقة في هذه الرغبة في الانفتاح، فيؤكد الحاخام فاري أنها اعترفت بيهودية "كل شخص من أب يهودي أو من أم يهودية وتلقى تربية وفق الأصول اليهودية. فنحن نأخذ في الاعتبار ما يعيشه الناس ونطلب الى آخرين إتمام إعدادهم".

  وكثيراً ما يكرر جان كلود آتياس: "بدلاً من تعبئة يهود فرنسا سلبياً، آن الأوان لاشراكهم إيجابياً في تحديد يهودية تليق بالقرن الحادي والعشرين، تكون كناية عن حضارة يهودية حقيقية في أوساط الشتات". وهذا الهدف الطموح يستدعي "السعي مجدداً الى التعددية داخل الجماعة المنظمة". فمن المستحيل التقدم طالما تدوم معوقات المتشددين واليمين، فالأولون يضطربون إزاء الزيجات المختلطة وفكرة النساء الحاخامات والتحولات والعلاقات الجنسية المثلية، فيما الآخرون يتهمون بالعداء للسامية كل من ينتقد السياسة الاسرائيلية. "إنه وقت تجمّع القوى الخطيرة".

  وماذا سيبقى من الهوية اليهودية بعد قرن؟ عن هذا السؤال يجيب روني براومان قائلاً: "في الحقيقة لا يهمني الأمر، فاليهودية لن تكون في منأى عن الحركة العامة لتفكك الانتماءات وإعادة تركيبها، ومن المستحيل استيعاب الحقيقة اليهودية في غيتو، فالاختلاط بين الشعوب امر حتمي، ولا أحد يعلم ماذا ستكون نتيجة ذلك...".

  ربما بكل بساطة هذه "الحقيقة البديهية المتواضعة" التي عبّر عنها جورج بيريك شعراً [14] : "صمت وغياب وسؤال ومساءلة وتأرجح وقلق ويقين مرتبك..."، او هذه الثقة المطمئنة لدى ميني فيفيركا: "بالنسبة اليّ كل من يصل ويقدّم نفسه قائلاً: "أنا يهودي" فهو يهودي".

 

--------------------------------------------------------------------------------

[1]  صحافية في القناة الخامسة، باريس.

[2] رفض السيد كوكيرمان مقابلتنا لدى القيام بهذا البحث.

[3] كأن يجمع قداس الاحد بالمقارنة عدد من المؤمنين يقل باربعة اضعاف عن الذين يحضرون قداس منتصف الليل او قداس احد الشعانين.

[4] بلغ معدل استهلاك اللحم في فرنسا عام 2000، 25 كلغ للشخص الواحد.

[5] في معرض "أوروكوشي" Eurokosher الرابع، في باريس في أوائل حزيران/يونيو، قدرت نسبة المستهلكين غير اليهود للمنتجات الحلال بـ60 في المئة. (Témoignage chrétien, 13 juin 2002).

[6]  راجع:  La Nuit, Editions de Minuit, Paris, 1958

[7]  استخدمت كلمة سيفاراد في التوراة دلالة على اسبانيا.

[8]  استخدمت كلمة أشكيناز دلالة على ألمانيا.

[9]  هذا التيار، الذي يشكل غالبية في الولايات المتحدة، نقل في العام 1977 الى فرنسا حيث يبقى أقلية ومعزولاً الى حد ما من اليهودية "الرسمية".

[10]  Les Juifs de France aujourdihui. Du modèle confessionnel au modèle communautaire î Migrations-Formation n082, septembre 1990   

[11] Lattès, Paris, 2001

[12] حوالى نصف اليهود الاسبان، البالغ عددهم 375000 نسمة، والذين وزعوا في اوروبا وآسيا الصغرى لم يعودوا من المنفى بعد العام 1945..

[13]  البوند Le Bund هي "المنظمة الاشتراكية الديموقراطية للعمال اليهود"، أنشئت في روسيا سراً في العام 1897. وهي أحد الفصائل التي ساعدت في انتصار الحزب البولشفي في العام 1917.

[14] Les récits diEllis Island, POL, Paris, 1994

 

جميع الحقوق محفوظة 2001© , العالم الدبلوماسي و مفهوم
 



#سيلفي_بريبان_*_ودومينيك_فيدال (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- تفجير جسم مشبوه بالقرب من السفارة الأمريكية في لندن.. ماذا ي ...
- الرئيس الصيني يزور المغرب: خطوة جديدة لتعميق العلاقات الثنائ ...
- بين الالتزام والرفض والتردد.. كيف تفاعلت أوروبا مع مذكرة توق ...
- مأساة في لاوس: وفاة 6 سياح بعد تناول مشروبات ملوثة بالميثانو ...
- ألمانيا: ندرس قرار -الجنائية الدولية- ولا تغير في موقف تسليم ...
- إعلام إسرائيلي: دوي انفجارات في حيفا ونهاريا وانطلاق صفارات ...
- هل تنهي مذكرة توقيف الجنائية الدولية مسيرة نتنياهو السياسية ...
- مواجهة متصاعدة ومفتوحة بين إسرائيل وحزب الله.. ما مصير مفاوض ...
- ألمانيا ضد إيطاليا وفرنسا تواجه كرواتيا... مواجهات من العيار ...
- العنف ضد المرأة: -ابتزها رقميا فحاولت الانتحار-


المزيد.....

- الرغبة القومية ومطلب الأوليكارشية / نجم الدين فارس
- ايزيدية شنكال-سنجار / ممتاز حسين سليمان خلو
- في المسألة القومية: قراءة جديدة ورؤى نقدية / عبد الحسين شعبان
- موقف حزب العمال الشيوعى المصرى من قضية القومية العربية / سعيد العليمى
- كراس كوارث ومآسي أتباع الديانات والمذاهب الأخرى في العراق / كاظم حبيب
- التطبيع يسري في دمك / د. عادل سمارة
- كتاب كيف نفذ النظام الإسلاموي فصل جنوب السودان؟ / تاج السر عثمان
- كتاب الجذور التاريخية للتهميش في السودان / تاج السر عثمان
- تأثيل في تنمية الماركسية-اللينينية لمسائل القومية والوطنية و ... / المنصور جعفر
- محن وكوارث المكونات الدينية والمذهبية في ظل النظم الاستبدادي ... / كاظم حبيب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - سيلفي بريبان * ودومينيك فيدال - بين الانكماش والذوبان يهود فرنسا يبحثون عن هوية