|
في أدلوجات العودة إلى تقديس الطواطم
ماجد الشيخ
الحوار المتمدن-العدد: 3216 - 2010 / 12 / 15 - 17:49
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
هناك محاولات دائبة للعودة بالمجتمعات العربية إلى ما يُزعم أنه "أصولها" القبلية والعشائرية، بفرض أنماط أيديولوجية مطلقة، عمادها "هوية أحادية" جزئية أو فرعية، مقطوعة الصلة والجذور بما قبل، والأهم ما يجري التأسيس له لما بعد، والوقوف عند لحظة دينية إسلاموية، يراد تأبيدها، وجعلها أصلا مقدسا، طوطما تتعبّد عنده كل فرق "الهوية الأحادية" الهاربة من لحظة في التاريخ، لا لتقارب معطيات التحضّر، أو معاصرة تنوير يجدّد مقارباته في المنعطفات التاريخية، المصنوعة والمسبوكة من لدن بشر، يواكبون كل لحظة ما تستدعيه من تحولات متواصلة، ورؤى متناسلة، وأفعالا تتناسب وحيوية إنسانية لا تؤبّد أصلا موهوما لتقف عنده، داعية في كل المنعطفات واللحظات للعودة إليه، والتعاطي معه كطوطم أو كصنم أو كوثن مقدس.
ولئن لم يوجد في بلادنا حركات نهضوية تنويرية، ذات طابع شعبي أو حتى شعبوي، جذرية ومتبلورة، فإن هذا لا يمنع من القول اننا شهدنا أشتات أفكار إصلاحية، إنحصر تداولها وانحسر في نخب ثقافية – فكرية لم تستطع ان تحوّلها إلى تيارات فاعلة داخل المجتمع نفسه، أيام كان المجتمع أكثر ليبرالية، وبالتالي عجزت عن صرفها وتحويلها وتداولها كمشروعات تربوية تثقيفية، وسط مشاعات المواقف الأيديولوجية التي ناقضت، بل وناهضت فكر وثقافة الحداثة المعرفية، ولا زالت تعيق حتى الآن التأسيس لأبعاد نظرية وعملية، تضئ على مناطق الفكر التاريخي العربي بشكل عام، وسلسلة المعارف العربية خصوصاً في تواصلها، كما في تفاصلها، وذلك كمحصلة للجهود المعرفية في بناء الأفكار ومعايير حداثتها، وما يرتبط بها من مفاهيم حداثية، تؤسس لتيار معرفي ثقافي فكري يتجاوز نخبويته، ويشق مجرى عميقاً في بحر الكينونة العربية، في مواجهة النظم التسلطيّة والثقافة التقليدية الانتقائية والتبجيلية والنقلية القديمة ذاتها، تلك التي ما فتئت تفعل فعلها، وفي اتجاهات نكوصية أعلى من السابق، في ظل هذا التذرّر والتشظّي المجتمعي والسياسي، والإثني، والطائفي، والمذهبي، الذي أضحى أكثر إنبثاثاً في بنية الحياة العربية الراهنة بشكل عام.
وإذ تحيل العودة إلى الماضي القروسطي، والاستجارة به لأجل إيجاد حلول لمشكلات الحاضر، إلى إبراز تشكيلة من محن العقل وإخفاقاته، فإن مثل هذه العودة إلى يوتوبيا الماضي تلك، تحمل في مضمرها الراهن، إستبعاداً للواقع وهروباً منه إلى يوتوبيا أخرى، تتحدّد في بوتقة نرجسيّة، تذهب في أدلجتها لذاتها ولمعارفها حدود نفي الواقع وحوامله الحقيقية، بعيداً من أي رؤية إستشرافية، أو رؤى نقدية عقلانية تنفتح على الراهن؛ خروجا من منغلقاتها على أدلوجاتها الخاصة. فالاختلافات البيّنة بين إشكاليات واقعنا العربي قديماً.. وإشكاليات الحاضر، وتفارقها البنيوي تاريخياً، أضحت تستوجب خلق مستحثّات الضرورة الأكثر إلحاحا، لإبداع معايير وآليات للرؤى الأكثر واقعية والأكثر حداثية؛ إنطلاقاً من الواقع العربي الراهن نفسه، وليس من أي تصورات ذهنية مجردة، ذات دوافع أيديولوجية في طابعها، ويوتوبية في آمالها وأحلامها وتطلعاتها.
لقد انحكمت الشروط التاريخية لعرب الأمس، كما ولعرب اليوم، خضوعا دائما لأيديولوجيا لم تتعاصر يوما والواقع، إنّما دائما كانت مفوّتة، وفي واقع مفوّت بالأساس، لم يستطع وعلى امتداد تاريخه القديم والحديث أن يتجاوز شروط ومكبلات فواته التاريخي، الذي كان بمثابة النتيجة المنطقية لمسببات انحدار ونكوص دائمين، نحو الماضي القروسطي الذي يطلقون عليه زورا مفهوم "الأصل"، حيث يحلو للأصوليين بتهافتهم الدعوة الدائمة للعودة إليه.
وإذا كان ثمة تزوير لما يسمى "الأصل" فالتزوير الأكبر والأشمل كان من نصيب التاريخ السابق على ما افترض أنه "الأصل"، وهنا كان التواطؤ الأكبر من نصيب أمة أو أمم بأكملها، ارتضت تزوير تاريخها السابق، وأخفته عن عيون الناظرين من الأحياء والبشر الأسوياء، لمصلحة "أصل" متخيّل وموهوم، يُراد اليوم إفناء حياة ألوف مؤلفة، بل الملايين من البشر في مجتمعات وأوطان متعددة من أجله، من أجل ما لم يكن إلاّ في تهويمات بعض الناس "أصلا" لم يكن موحّدا، لا و لا عمل على أن يكون موحّدا (بكسر الحاء).
هكذا انتقل فقه التكفير من فضاء الممالك والإمارات الخليفية المزعومة والموهومة، إلى قفير الحارات وفقه التلمذة المتشدد، وقراء الزواريب الذين أحلّوا ذواتهم شيوخا، على طريقة شيوخ بعض "الطرق الانخطافية"؛ ممن فرضت وتفرض على أتباعها أنماطا معيارية؛ من تخلف وفساد الفهم والأفهام، حتى بتنا أمام أئمة في التزوير التأويلي، وأساتذة في التأويل التزويري.
وبذا بتنا أمام مشهد فاقع في وضوحه، يؤشر نحو عملية اغتيال تاريخية للتنوير، وللثقافة، ولنشهد اليوم بمشهدية أكثر وضوحا، كيف انتقلت مجتمعاتنا من لحظة حلم بتنوير لم يتأسّس، إلى واقع انتهكت الأصوليات الدينية فيه كل بشائر الحداثة. حتى بتنا في مواجهة تحوّلات من أدلجة صارمة وصادمة في ذات الوقت، حوّلت الثقافة إلى كسر وأشتات من صيغ ومفاهيم قبلية، من قبيل ما قبل السياسة، وما قبل المجتمع، وما قبل الدولة، وما قبل الحداثة وما قبل التنوير، كل هذه "الماقبليّات" ليست نتاج ثقافة دينية موحّدة أو متماسكة، لم تكن كذلك يوما لا بالأصل ولا بالتهجين، بقدر ما هي وليدة تديّن تفتيتي/فسطاطي. وهذا بالتحديد ما لم ولن ينتج ثقافة ليبرالية متجانسة في أهدافها العامة، ترنو نحو الفضاء العام، لتلجّ في فضاءات تنوير حداثية، وذلك قبل أن تُطبق "السكرة المميتة"/القاتلة لقيم العدل والحرية والنزاهة. وقبل أن تغرقنا الأعراف والتقاليد القبلية القديمة، في بحار من التأسّي والحنين للعودة إلى.. تقديس الطواطم.
#ماجد_الشيخ (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الخطوة التالية: القدس عاصمة للشعب اليهودي!
-
جنة -السلطة الأبدية-.. جنونها!
-
سيف الوقت ومواعيد -المصالحة- المُرجأة!
-
الدولة الفاشلة وتحديات التفتيت والوحدة
-
دفاعا عن أوطان بهويات متعددة
-
في أولويات التضاد بين التهويد والمفاوضات
-
من نصّب هؤلاء -وكلاء- على دمنا وحياتنا؟
-
قانون الولاء و-أسرلة- الأرض.. من تطبيقات -يهودية الدولة-
-
خطايا تبني سرديات الرواية التوراتية
-
الأصوليات.. وفتن التآويل الأخيرة!
-
يهودية الدولة.. ومهمة طرد -الغزاة الفلسطينيين-!
-
الاستيطان.. عقدة مزمنة لاتفاق مستحيل
-
في التوازن الحضاري ورهان المستقبل التنويري
-
العلمانية.. والخيارات المُرّة
-
بين دلالات الاستفتاء التركي وتقديس الاستبداد
-
الراعي الأميركي وغلبة -الإجماع الصهيوني-!
-
الحزب الشيوعي اللبناني
-
مفاوضات مباشرة مستعجلة لتسوية مؤجلة
-
مفاوضات الترتيبات الأمنية وآفاقها المغلقة
-
الأبارتهايد الإسرائيلي والدسترة البنيوية لكيان التمييز العنص
...
المزيد.....
-
مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية شرطة الاحتلال الإسرائي
...
-
أجراس كاتدرائية نوتردام بباريس ستقرع من جديد بحضور نحو 60 زع
...
-
الأوقاف الفلسطينية: الاحتلال الإسرائيلي اقتحم المسجد الأقصى
...
-
الاحتلال اقتحم الأقصى 20 مرة ومنع رفع الأذان في -الإبراهيمي-
...
-
استطلاع رأي إسرائيلي: 32% من الشباب اليهود في الخارج متعاطفو
...
-
في أولى رحلاته الدولية.. ترامب في باريس السبت للمشاركة في حف
...
-
ترامب يعلن حضوره حفل افتتاح كاتدرائية نوتردام -الرائعة والتا
...
-
فرح اولادك مع طيور الجنة.. استقبل تردد قناة طيور الجنة بيبي
...
-
استطلاع: ثلث شباب اليهود بالخارج يتعاطفون مع حماس
-
ضبط تردد قناة طيور الجنة بيبي على النايل سات لمتابعة الأغاني
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|