ربما يعتقد الناس الذين لم يولوا اهتماما كبيرا الجدل الدائر حول البيوتكنولوجيا البشرية، أن القضية الرئيسية هي الاجهاض، ما دام خصوم الاستنساخ هم أولئك الدعاة الصريحون الى حق الحياة حتى الآن، والذين يعارضون تدمير الاجنة. ولكن هناك مبررات تفرض ان يكون الاستنساخ والوسائل التكنولوجية التي تنتج عنه مثار اهتمام جميع الناس، المتدينون منهم والعلمانيون، وقبل كل شيء أولئك الذين يهتمون بحماية البيئة الطبيعية. ذلك ان محاولة التغلب على الطبيعة البشرية عبر البيوتكنولوجيا ستكون أكثر شأنا وخطرا من مساعي المجتمعات الصناعية نحو قهر الطبيعة غير البشرية عبر اجيال سابقة من التكنولوجيا.
واذا كان هناك شيء ما علمته ايانا حركة البيئة في الجيلين الماضيين فهو أن الطبيعة كلٌ معقد. فالأجزاء المختلفة من النظام البيئي معتمدة على بعضها بطرق غالباً ما نخفق في فهمها. وأن المحاولات البشرية لمعالجة واستثمار اجزاء معينة منها ستؤدي الى مجموعة من العواقب غير المقصودة التي تعود الى الاستحواذ علينا.
ان مشاهدة أحد أفلام سنوات ثلاثينات القرن الماضي حول بناء سد هوفر أو هيئة وادي تينيسي تعتبر اليوم تجربة غريبة. فهذه الافلام هي، في الوقت ذاته، ساذجة وستالينية على نحو مبهم، وتحتفي بقهر الانسان للطبيعة، وتتباهى باستبدال الفضاءات الطبيعية بالفولاذ والكونكريت والكهرباء. وكان هذا الانتصار على الطبيعة قصير العمر. ففي الجيل السابق لم ينفذ اي بلد متطور مشروعا جديدا كبيرا للطاقة الكهرومائية، ويعود السبب، بالتحديد، الى اننا ندرك، الآن، العواقب البيئية والاجتماعية المدمرة التي يخلقها مثل هذا التنفيذ. والحق ان حركة البيئة كانت فعالة في محاولة اقناع الصين بالكف عن محاولة اقامة سد ثري جورجز، الذي يسبب اضرارا هائلة.
واذا كانت مشكلة النتائج غير المقصودة خطيرة في حالة النظام البيئي غير البشري، فإنها ستكون اسوأ بكثير في حقل الجينات البشرية. فخارطة الجينات البشرية تشبه، في الواقع، نظاما بيئيا بالطريقة المعقدة، حيث الجينات تتفاعل وتؤثر على بعضها بعضا، ويقدر الآن، ان هناك حوالي 30 ألف جينة فقط في خارطة الجينات البشرية، وهو أقل بكثير من الـ 100 ألف جينة التي كان يعتقد بوجودها حتى وقت قريب. وهذا ليس أكبر بكثير من الـ 14 ألف جينة في ذبابة الفاكهة أو الـ 19 ألف جينة في الدودة الخيطية، ويشير الى ان الكثير من القابليات والتسلكات البشرية الارفع يجري التحكم بها عبر تداخل معقد في عمل الجينات المضاعفة. إن جينة واحدة ستكون لها تأثيرات متعددة، بينما في حالات أخرى تحتاج جينات عدة الى العمل معا من أجل خلق تأثير واحد، على امتداد سببية سيكون من العسير تماما ان نمسك بها ونحلها.
إن الاهداف الأولى للعلاج الجيني ستكون الاضطرابات الجينية المفردة، البسيطة نسبيا، مثل مرض هنتنغتون أو مرض تاي ساكس. ويعتقد كثير من علماء الجينات ان السببية الجينية للتسلكات والخصائص ذات النظام الارفع مثل الشخصية أو الذكاء أو حتى الطول هي من التعقيد بحيث اننا لن نكون قادرين على معالجتها واستثمارها. غير ان هذا هو، على وجه الدقة، الموضع الذي يكمن فيه الخطر: فنحن سنتعرض الى اغراء متواصل على الاعتقاد باننا نفهم هذه السببية على نحو أفضل مما نفعل في الواقع، وسنواجه مفاجآت أكثر خطرا وتعقيدا من تلك التي واجهناها عندما حاولنا التغلب على البيئة الطبيعية غير البشرية. وفي هذه الحالة لن يكون ضحية تجربة فاشلة هو نظام بيئي، وانما طفلة بشرية سيثقلها والداها، الساعيان الى منحها ذكاء أكبر، بميل طبيعي أكبر تجاه السرطان، أو ضعف مزمن في الشيخوخة، أو نوع معين من تأثير جانبي غير متوقع تماما قد لا يظهر الا بعد ان تكون التجارب قد تحولت عن المشهد.
إن الاصغاء الى العاملين في صناعة البيوتكنولوجيا وهم يتحدثون عن الفرص التي تتاح عند اكتمال سياق خارطة الجينات البشرية يشبه، على نحو قريب، مشاهدة تلك الافلام الدعائية حول سد هوفر. فهناك ثقة مغرورة من ان البيوتكنولوجيا والبراعة العلمية ستعالج عيوب الطبيعة البشرية، وتزيل الامراض، بل وربما توفر للكائنات البشرية ان تحقق حلم الخلود يوما ما. وسنبرز في النهاية الأخرى كجنس بشري متفوق لاننا ندرك نقص طبيعتنا ومحدوديتها.
واعتقد ان الكائنات البشرية هي، الى حد أكبر من الانظمة البيئية، وحدات طبيعية كلية معقدة ومترابطة منطقيا، لم نبدأ حتى فهم اصلها الارتقائي. وبالاضافة الى ذلك فنحن نمتلك حقوقا انسانية بسبب تلك الطبيعة البشرية على وجه التحديد. وكما قال توماس جيفرسون في نهاية حياته، فإن الاميركيين يتمتعون بحقوق سياسية لأن الطبيعة لم تتخذ الاستعدادات الضرورية لميلاد كائنات بشرية معينة بسروج على ظهورها، واستعداد لأن تمتطيها كائنات أفضل. ان البيوتكنولوجيا التي تسعى الى استثمار الطبيعة البشرية لا تخاطر فقط بعواقب لا يمكن التنبؤ بها، وانما يمكن ان تقوض الاساس ذاته للحقوق الديمقراطية المتساوية ايضا. اذن كيف ندافع عن الطبيعة البشرية؟ الوسائل في الجوهر هي ذاتها كما في حالة حماية الطبيعة غير البشرية. فنحن نحاول ان نصوغ قواعد ومعايير عبر النقاش والحوار، ونستخدم سلطة الدولة، ووضع ضوابط للطريقة التي يجري بها تطوير ونشر التكنولوجيا على يد القطاع الخاص وأوساط البحث العلمي. فالطب الاحيائي يخضع، بالطبع، الى ضوابط كثيرة في الوقت الحالي، غير ان هناك فجوات هائلة في السلطات القضائية للمؤسسات الفيدرالية التي تتمتع بسلطة على البيوتكنولوجيا. فإدارة الاغذية والادوية الاميركية لا تستطيع سوى تنظيم وتنفيذ الضوابط المتعلقة بالاغذية والادوية والمنتجات الطبية على اساس السلامة والكفاءة. ويحظر عليها اتخاذ قرارات على اساس الاعتبارات الاخلاقية، وتظل ضعيفة بسبب عدم وجود سلطات قضائية في ما يتعلق بالاجراءات الطبية مثل الاستنساخ، والتشخيص الجيني ما قبل الزراعة (حيث يجري تصوير الاجنة لمعرفة الخصائص الجينية قبل زراعتها في الرحم)، وهندسة تناسل الخلايا الجرثومية (حيث تعالج جينات جنين معين بطرق بحيث ترثها أجيال لاحقة). وقد اعدت المؤسسات القومية للصحة العديد من القواعد التي تغطي اجراء التجارب البشرية والنواحي الاخرى للبحث العلمي، ولكن سلطتها لا تتجاوز البحث الممول فيدراليا، تاركة صناعة البيوتكنولوجيا الخاصة دون ضوابط، وتنفق هذه الاخيرة، في شركات البيوتكنولوجيا الاميركية وحدها، ما يزيد على 10 مليارات دولار سنويا على البحث، وتستخدم ما يقرب من 150 ألف موظف.
وتسعى دول أخرى لوضع وتطبيق تشريعات بشأن ضوابط البيوتكنولوجيا البشرية. ومن بين أقدم الانظمة التشريعية انظمة بريطانيا التي أسست وكالة الاخصاب البشري وعلم الاجنة قبل عشر سنوات لتنظيم التجارب على الاجنة.
وقامت اربع وعشرون دولة بحظر الاستنساخ البشري، بينها ألمانيا وفرنسا والهند واليابان والارجنتين والبرازيل وجنوب افريقيا والمملكة المتحدة. وفي عام 1998 صادق المجلس الاوروبي على «اتفاقية اضافية» لـ «معاهدة حقوق وكرامة الانسان في ما يتعلق بالطب الاحيائي» تحظر الاستنساخ البشري، وهي وثيقة وقعتها 24 من الدول الـ 43 الأعضاء في المجلس. واقترحت المانيا وفرنسا ان تقوم الامم المتحدة باعداد مشروع معاهدة عالمية لحظر الاستنساخ البشري.
وكانت احدى المحاولات المبكرة لتنظيم تكنولوجيا جينية محددة، وهي اجراء التجارب على الحامض النووي (دي إن إيه) المعاد انتاجه، هي مؤتمر اسيلومار عام 1975 في كاليفورنيا، الذي ادى الى تأسيس «اللجنة الاستشارية لتحليل الـ «دي إن إيه» تحت اشراف المؤسسة القومية للصحة. وكان من المفترض ان تقوم تلك اللجنة بالمصادقة على جميع التجارب التي يرتبط بها افراد مختلفون مع بعضهم، وأحيانا اجناس معينة، بالاساس في البيوتكنولوجيا الزراعية، وبالتالي في مجالات مثل علاج الجينات البشرية. وتوصل مؤتمر عقد عام 2000 بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لمؤتمر اسيلومار الى اجماع عام بأنه أيا كانت مزايا تلك اللجنة الاستشارية قبل جيل، فإنها تجاوزت مبرر وجودها. ولا تتمتع هذه اللجنة الاستشارية بسلطات فرض وتنفيذ القوانين، ولا تشرف على القطاع الخاص، وليست لديها القدرة المؤسساتية حتى على مراقبة فعالة لما يجري في صناعة البيوتكنولوجيا في الولايات المتحدة، وأقل من ذلك بكثير على مستوى عالمي. ومن الواضح ان هناك ضرورة لمؤسسات ضوابط جديدة تتعامل مع الجيل المقبل من البيوتكنولوجيات الجديدة.
ان كل من يتحسس، بقوة، أهمية حماية الطبيعة غير البشرية من الاستثمار التكنولوجي، يجب ان يشعر، بالقوة ذاتها، بأهمية حماية الطبيعة البشرية ايضا. وفي أوروبا تتميز حركة حماية البيئة بمعارضة اشد رسوخا للبيوتكنولوجيا من نظيرتها في الولايات المتحدة، وقد افلحت في وقف انتشار الاغذية المعدلة وراثيا هناك. غير ان الكائنات الحية المعدلة وراثيا هي في نهاية المطاف، مجرد محاولة أولى في ثورة أطول، وهي أقل شأنا بكثير من البيوتكنولوجيات البشرية المكشوفة للعيان في الوقت الحالي، ويعتقد بعض الناس، آخذين بالحسبان عمليات النهب التي يقوم بها البشر تجاه الطبيعة البشرية، ان هذه الاخيرة تستحق حماية اكبر وأكثر حذراً.
* أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في المعهد العالي للدراسات الدولية بجامعة جونز هوبكنز، ومؤلف «نهاية التاريخ».
* خدمة «لوس أنجيليس تايمز» ـ خاص بـ «الشرق الأوسط»